→ سنة عشرين من الهجرة | البداية والنهاية – الجزء السابع صفة فتح مصر عن ابن إسحاق وسيف ابن كثير |
قصة نيل مصر ← |
قالوا: لما استكمل عمر والمسلمون فتح الشام بعث عمرو بن العاص إلى مصر.
وزعم سيف: أنه بعثه بعد فتح بيت المقدس، وأردفه بالزبير بن العوام وفي صحبته بشر بن أرطاة وخارجة بن حذافة، وعمير بن وهب الجمحي. فاجتمعا على باب مصر فلقيهم أبو مريم جاثليق مصر ومعه الأسقف أبو مريام في أهل الثبات، بعثه المقوقس صاحب إسكندرية لمنع بلادهم، فلما تصافوا قال عمرو بن العاص: لا تعجلوا حتى نعذر، ليبرز إلى بومريم وأبو مريام راهبا هذه البلاد، فبرزا إليه.
فقال لهما عمرو بن العاص: أنتما راهبا هذه البلاد فاسمعا إن الله بعث محمدا ﷺ بالحق، وأمره به وأمرنا به محمد ﷺ، وأدى إلينا كل الذي أمر به، ثم مضى وتركنا على الواضحة، وكان مما أمرنا به الأعذار إلى الناس، فنحن ندعوكم إلى الإسلام، فمن أجابنا إليه فمثلنا، ومن لم يجبنا عرضنا عليه الجزية، وبذلنا له المنعة، وقد أعلمنا أنا مفتتحوكم، وأوصانا بكم حفاظا لرحمنا منكم، وإن لكم إن أجبتمونا بذلك ذمة إلى ذمة.
ومما عهد إلينا أميرنا استوصوا بالقبطيين خيرا، فإن رسول الله ﷺ أوصانا بالقبطيين خيرا، لأن له رحما وذمة.
فقالوا: قرابة بعيدة لا يصل مثلها إلا الأنبياء معروفة شريفة، كانت ابنة ملكنا وكانت من أهل منف، والملك فيهم فأديل عليهم أهل عين شمس فقتلوهم وسلبوهم ملكهم واغتربوا فلذلك صارت إلى إبراهيم عليه السلام مرحبا به وأهلا.
أمَّنَا حتى نرجع إليك، فقال عمرو: إن مثلي لا يخدع، ولكني أؤجلكما ثلاثا لتنظروا ولتناظرا قومكما، وإلا ناجزتكم.
قالا: زدنا، فزادهم يوما.
فقالا: زدنا، فزادهم يوما. فرجعا إلى المقوقس فأبى أرطبون أن يجيبهما وأمر بمناهدتهم.
فقالا لأهل مصر: إما نحن فسنجتهد أن ندفع عنكم، ولا نرجع إليهم، وقد بقيت أربعة أيام قاتلوا، وأشار عليهم بأن يبيتوا المسلمين.
فقال الملأ منهم: ما تقاتلون من قوم قتلوا كسرى وقيصر، وغلبوهم على بلادهم.
فألح الأرطبون في أن يبيتوا للمسلمين، ففعلوا فلم يظفروا بشيء، بل قتل منهم طائفة منهم الأرطبون، وحاصر المسلمون عين شمس من مصر في اليوم الرابع. وارتقى الزبير عليهم سور البلد، فلما أحسوا بذلك خرجوا إلى عمرو من الباب الآخر فصالحوه، واخترق الزبير البلد حتى خرج من الباب الذي عليه عمرو، فأمضوا الصلح، وكتب لهم عمرو كتاب أمان:
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبهم وبرهم وبحرهم، لا يدخل عليهم شيء من ذلك ولا ينتقص ولا يساكنهم النوبة.
وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية إذا اجتمعوا على هذا الصلح، وانتهت زيادة نهرهم خمسين ألف ألف وعليهم ما حق لصونهم، فإن أبى أحد منهم أن يجيب رفع عنهم من الجزاء بقدرهم، وذمتنا ممن أبي بريئة.
وإن نقص نهرهم من غايته رفع عنهم بقدر ذلك.
ومن دخل في صلحهم من الروم والنوبة فله مثل ما لهم وعليه مثل ما عليهم، ومن أبى واختار الذهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه، أو يخرج من سلطاننا، عليهم ما عليهم أثلاثا ي كل ثلث جباية ثلث ما عليهم.
على ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله، وذمة الخليفة أمير المؤمنين وذمم المؤمنين، وعلى النوبة الذين استجابوا أن يعينوا بكذا وكذا رأسا، وكذا وكذا فرسا على أن لا يغزوا ولا يمنعوا من تجارة صادرة ولا واردة.
شهد الزبير وعبد الله ومحمد ابناه وكتب وردان وحضر فدخل في ذلك أهل مصر كلهم وقبلوا الصلح، واجتمعت الخيول بمصر وعمروا الفسطاط، وظهر أبو مريم، وأبو مريام، فكلما عمرا في السبايا التي أصيبت بعد المعركة فأبى عمرو أن يردها عليهما، وأمر بطردهما وإخراجهما من بين يديه، فلما بلغ ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، أمر أن كل سبي أخذ في الخمسة أيام التي أمنوها فيها أن يرد عليهم، وكل سبي أخذ ممن لم يقاتل، وكذلك من قاتل فلا يرد عليه سباياه.
وقيل: إنه أمره أن يخيروا من في أيديهم من السبي بين الإسلام وبين أن يرجع إلى أهله، فمن اختار الإسلام فلا يردوه إليهم، ومن اختارهم ردوه عليهم، وأخذوا منه الجزية.
وأما ما تفرق من سبيهم في البلاد ووصل إلى الحرمين وغيرهما، فإنه لا يقدر على ردهم، ولا ينبغي أن يصالحهم على ما يتعذر الوفاء به.
ففعل عمرو ما أمر به أمير المؤمنين، وجمع السبايا وعرضوهم وخيروهم فمنهم من اختار الإسلام، ومنهم من عاد إلى دينه، وانعقد الصلح بينهم.
ثم أرسل عمرو جيشا إلى إسكندرية - وكان المقوقس صاحب إسكندرية قبل ذلك يؤدي خراج بلده وبلد مصر إلى ملك الروم - فلما حاصره عمرو بن العاص جمع أساقفتة وأكابر دولته وقال لهم: إن هؤلاء العرب غلبوا كسرى وقيصر وأزالوهم عن ملكهم ولا طاقة لنا بهم، والرأي عندي: أن نؤدي الجزية إليهم.
ثم بعث إلى عمرو بن العاص يقول: إني كنت أؤدي الخراج إلى من هو أبغض إلي منكم - فارس والروم - ثم صالحه على أداء الجزية، وبعث عمرو بالفتح والأخماس إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وذكر سيف: أن عمرو بن العاص لما التقى مع المقوقس جعل كثير من المسلمين يفر من الزحف فجعل عمر يزمرهم ويحثهم على الثبات.
فقال له رجل من أهل اليمن: إنا لم نخلق من حجارة ولا حديد.
فقال عمرو: اسكت، فإنما أنت كلب.
فقال له الرجل: فأنت إذا أمير الكلاب. فأعرض عنه عمرو، ونادى يطلب أصحاب رسول الله ﷺ، فلما اجتمع إليه من هناك من الصحابة قال لهم عمرو: تقدموا فبكم ينصر الله المسلمين.
فنهدوا إلى القوم ففتح الله عليهم وظفروا أتم الظفر.
قال سيف: ففتحت مصر في ربيع الأول من سنة ست عشرة، وقام فيها ملك الإسلام ولله الحمد والمنة.
وقال غيره: فتحت مصر في سنة عشرين، وفتحت إسكندرية في سنة خمسٍ وعشرين، بعد محاصرة ثلاثة أشهر عنوة، وقيل: صلحا على ثنتي عشر ألف دينار.
وقد ذكر أن المقوقس سأل من عمرو أن يهادنه أولا، فلم يقبل عمرو وقال له: قد علمتم ما فعلنا بملككم الأكبر هرقل.
فقال المقوقس لأصحابه: صدق فنحن أحق بالإذعان. ثم صالح على ما تقدم.
وذكر غيره: أن عمرا والزبير سارا إلى عين شمس فحاصراها، وأن عمرا بعث إلى الفرما أبرهة بن الصباح، وبعث عوف بن مالك إلى الإسكندرية.
فقال كل منهما لأهل بلده: إن نزلتم فلكم الأمان، فتربصوا ماذا يكون من أهل عين شمس، فلما صالحوا صالح الباقون.
وقد قال عوف بن مالك لأهل إسكندرية: ما أحسن بلدكم؟.
فقالوا: إن إسكندر لما بناها قال: لأبنين مدينة فقيرة إلى الله غنية عن الناس فبقيت بهجتها.
وقال أبرهة لأهل الفرما: ما أقبح مدينتكم؟.
فقالوا: إن الفرما - وهو أخو الإسكندر - لما بناها قال: لأبنين مدينة غنية عن الله فقيرة إلى الناس، فهي لا يزال ساقطا بناؤها فشوهت بذلك.
وذكر سيف: أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح لما ولي مصر بعد ذلك زاد في الخراج عليهم رءوسا من الرقيق يهدونها إلى المسلمين في كل سنة، ويعوضهم المسلمون بطعام مسمىً وكسوة.
وأقر ذلك عثمان بن عفان وولاة الأمور بعده، حتى كان عمر بن عبد العزيز فأمضاه أيضا نظرا لهم، وإبقاءً لعهدهم.
قلت: وإنما سميت ديرا مصر بالفسطاط، نسبة إلى فسطاط عمرو بن العاص، وذلك أنه نصب خيمته وهي الفسطاط موضع مصر اليوم، وبنى الناس حوله وتركت مصر القديمة من زمان عمرو بن العاص وإلى اليوم، ثم رفع الفسطاط وبنى موضعه جامعا وهو المنسوب إليه اليوم.
وقد غزا المسلمون بعد فتح مصر النوبة فنالهم جراحات كثيرة، وأصيبت أعين كثيرة لجودة رمي النوبة فسموهم جند الحدق، ثم فتحها الله بعد ذلك وله الحمد والمنة.
وقد اختلف في بلاد مصر، فقيل: فتحت صلحا إلا الإسكندرية، وهو قول يزيد بن أبي حبيب.
وقيل: كلها عنوة، وهو قول ابن عمر وجماعة.
وعن عمرو بن العاص: أنه خطب الناس فقال: ما قعدت مقعدي هذا، ولأحد من القبط عندي عهد إن شئت.
قلت: وإن شئت بعت، وإن شئت خمست إلا لأهل الطابلس فإن لهم عهدا نوفي به.