→ ثم دخلت سنة سبع وثلاثين | البداية والنهاية – الجزء السابع رفع أهل الشام المصاحف ابن كثير |
قصة التحكيم ← |
فلما رفعت المصاحف قال أهل العراق: نجيب إلى كتاب الله وننيب إليه.
قال أبو مخنف: حدثني عبد الرحمن بن جندب الأزدي، عن أبيه أن عليا قال: عباد الله أمضوا إلى حقكم وصدقكم وقتال عدوكم، فإن معاوية، وعمرو بن العاص، وابن أبي معيط، وحبيب بن مسلمة، وابن أبي سرح، والضحاك بن قيس ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، أنا أعرف بهم منكم، صحبتهم أطفالا، وصحبتهم رجالا، فكانوا شر أطفال وشر رجال، ويحكم والله إنهم ما رفعوها إنهم يقرأونها ولا يعملون بما فيها وما رفعوها إلا خديعة ودهاء ومكيدة.
فقالوا له: ما يسعنا أن ندعى إلى كتاب الله فنأبى أن نقبله.
فقال لهم: إني إنما أقاتلهم ليدينوا بحكم الكتاب فإنهم قد عصوا الله فيما أمرهم به، وتركوا عهده، ونبذوا كتابه.
فقال له مسعر بن فدكي التميمي، وزيد بن حصين الطائي، ثم السبائي في عصابة معهما من القراء الذين صاروا بعد ذلك خوارج: يا علي أجب إلى كتاب الله إذا دعيت إليه وإلا دفعناك برمتك إلى القوم أو نفعل بك ما فعلنا بابن عفان، إنه غلبنا أن يعمل بكتاب الله فقتلناه، والله لتفعلنها أو لنفعلنها بك.
قال: فاحفظوا عني نهيي إياكم وأحفظوا مقالتكم لي، أما أنا فإن تطيعوني فقاتلوا، وإن تعصوني فاصنعوا ما بدا لكم.
قالوا: فابعث إلى الأشتر فليأتك ويكف عن القتال.
فبعث إليه علي ليكف عن القتال.
وقد ذكر الهيثم بن عدي في كتابه الذي صنفه في الخوارج فقال قال ابن عباس: فحدثني محمد بن المنتشر الهمداني عن من شهد صفين وعن ناس من رؤوس الخوارج ممن لا يتهم على كذب: أن عمار بن ياسر كره ذلك وأبى وقال في علي بعض ما أكره ذكره ثم قال: من رائح إلى الله قبل أن يبتغي غير الله حكما؟ فحمل فقاتل حتى قتل رحمة الله عليه.
وكان ممن دعا إلى ذلك سادات الشاميين: عبد الله بن عمرو بن العاص قام في أهل العراق فدعاهم إلى الموادعة والكف وترك القتال والائتمار بما في القرآن وذلك عن أمر معاوية له بذلك رضي الله عنهما.
وكان ممن أشار على علي بالقبول والدخول في ذلك: الأشعث بن قيس الكندي رضي الله عنه.
فروى أبو مخنف من وجه آخر: أن عليا لما بعث إلى الأشتر قال: قل له إنه ليس هذه ساعة ينبغي أن لا تزيلني عن موقفي فيها، إني قد رجوت أن يفتح الله علي فلا تعجلني، فرجع الرسول - وهو يزيد بن هانئ - إلى علي فأخبره عن الأشتر بما قال، وصمم الأشتر على القتال لينتهز الفرصة، فارتفع الهرج وعلت الأصوات.
فقال أولئك القوم لعلي: والله ما نراك إلا أمرته أن يقاتل.
فقال: أرأيتموني ساررته؟ ألم أبعث إليه جهر وأنتم تسمعون؟
فقالوا: فابعث إليه فليأتك وإلا والله اعتزلناك.
فقال علي ليزيد بن هانئ: ويحك!
قال له: أقبل إلي فإن الفتنة قد وقعت، فلما رجع إليه يزيد بن هانئ فأبلغه عن أمير المؤمنين أنه ينصرف عن القتال ويقبل إليه، جعل يتململ ويقول: ويحك ألا ترى إلى ما نحن فيه من النصر، ولم يبق إلا القليل؟
فقلت: أيهما أحب إليك أن تقبل أو يقتل أمير المؤمنين كما قتل عثمان؟
ثم ماذا يغني عنك نصرتك هاهنا؟
قال: فأقبل الأشتر إلى علي وترك القتال.
فقال: يا أهل العراق! يا أهل الذل والوهن، أحين علوتم القوم، وظنوا أنكم لهم قاهرون، رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها، وقد والله تركوا ما أمر الله به فيها، وسنة من أنزلت عليه، فلا تجيبوهم، أمهلوني فإني قد أحسست بالفتح.
قالوا: لا.
قال: أمهلوني عدو الفرس فإني قد طمعت في النصر.
قالوا: إذا ندخل معك في خطيئتك.
ثم أخذ الأشتر يناظر أولئك القراء الداعين إلى إجابة أهل الشام بما حاصله: إن كان أول قتالكم هؤلاء حقا فاستمروا عليه وإن كان باطلا فاشهدوا لقتلاكم بالنار.
فقالوا: دعنا منك فإنا لا نطيعك ولا صاحبك أبدا ونحن قاتلنا هؤلاء في الله وتركنا قتالهم لله.
فقال لهم الأشتر: خدعتم والله فانخدعتم ودعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم، يا أصحاب السوء كنا نظن صلاتكم زهادة في الدنيا وشوقا إلى لقاء الله، فلا أرى فراركم إلا إلى الدنيا من الموت، يا أشباه النيب الجلالة ما أنتم بربانيين بعدها، فابعدوا كما بعد القوم الظالمون.
فسبوه وسبهم فضربوا وجه دابته بسياطهم، وجرت بينهم أمور طويلة، ورغب أكثر الناس من العراقيين وأهل الشام بكمالهم إلى المصالحة والمسالمة مدة لعله يتفق أمر يكون فيه حقن لدماء المسلمين، فإن الناس تفانوا في هذه المدة، ولا سيما في هذه الثلاثة الأيام المتأخرة التي آخر أمرها ليلة الجمعة وهي ليلة الهرير.
كل من الجيشين فيه من الشجاعة والصبر ما ليس يوجد في الدنيا مثله، ولهذا لم يفر أحد عن أحد، بل صبروا حتى قتل من الفريقين فيما ذكره غير واحد سبعون ألفا خمسة وأربعون ألفا من أهل الشام، وخمسة وعشرون ألفا من أهل العراق.
قاله غير واحد منهم ابن سيرين، وسيف، وغيره.
وزاد أبو الحسن ابن البراء - وكان من أهل العراق -خمسة وعشرون بدريا قال: وكان بينهم في هذه المدة تسعون زحفا واختلفا في مدة المقام بصفين.
فقال سيف: سبعة أشهر أو تسعة أشهر.
وقال أبو الحسن بن البراء: مائة وعشرة أيام.
قلت: ومقتضى كلام أبي مخنف أنه كان من مستهل ذي الحجة في يوم الجمعة لثلاث عشرة خلت من صفر، وذلك سبعة وسبعون يوما فالله أعلم.
وقال الزهري: بلغني أنه كان يدفن في القبر الواحد خمسون نفسا هذا كله ملخص من كلام ابن جرير وابن الجوزي في المنتظم.
وقد روى البيهقي من طريق يعقوب بن سفيان، عن أبي اليمان، عن صفوان بن عمرو: كان أهل الشام ستين ألفا فقتل منهم عشرون ألفا، وكان أهل العراق مائة وعشرين ألفا، فقتل منهم أربعون ألفا.
وحمل البيهقي هذه الوقعة على الحديث الذي أخرجاه في الصحيحين من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة.
ورواه البخاري من حديث شعيب، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.
ومن حديث شعيب، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن رسول الله ﷺ أنه قال: « لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان يقتل بينهما مقتلة عظيمة ودعواهما واحدة ».
ورواه مجالد، عن أبي الحواري، عن أبي سعيد مرفوعا مثله.
ورواه الثوري، عن ابن جدعان، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله ﷺ: « لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان دعوتهما واحدة فبينما هم كذلك مرق منهما مارقة تقتلهم أولى الطائفتين بالحق ».
وقد تقدم ما رواه الإمام أحمد، عن مهدي، وإسحاق، عن سفيان، عن منصور، عن ربعي بن خراش، عن البراء بن ناجية الكاهلي، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: « إن رحى الإسلام ستزول لخمس وثلاثين أو ست وثلاثين فإن يهلكوا فسبيل من هلك، وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عاما ».
فقال عمر: يا رسول الله، أمما مضى؟ أم مما بقي؟
قال: « بل مما بقي ».
وقد رواه إبراهيم بن الحسين بن ديزيل في كتاب جمعه في سيرة علي، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن شريك، عن منصور به مثله.
وقال أيضا: حدثنا أبو نعيم، ثنا شريك بن عبد الله النخعي، عن مجالد، عن عامر الشعبي، عن مسروق، عن عبد الله قال: قال لنا رسول الله ﷺ: « إن رحى الإسلام ستزول بعد خمس وثلاثين سنة فإن يصطلحوا فيما بينهم يأكلوا الدنيا سبعين عاما رغدا، وإن يقتتلوا يركبوا سنن من كان قبلهم ».
وقال ابن ديزيل: حدثنا عبد الله بن عمر، ثنا عبد الله بن خراش الشيباني، عن العوام بن حوشب، عن إبراهيم التميمي قال: قال رسول الله ﷺ: « تدور رحى الإسلام عند قتل رجل من بني أمية » - يعني: عثمان رضي الله عنه -.
وقال أيضا: حدثنا الحكم عن نافع، عن صفوان بن عمرو، عن الأشياخ: أن رسول الله ﷺ دعي إلى جنازة رجل من الأنصار فقال - وهو قاعد ينتظرها -: « كيف أنتم إذا راعيتم حبلين كذا في الإسلام؟ ».
قال أبو بكر: أو يكون ذلك في أمة إلهها واحد ونبيها واحد؟
قال: « نعم ».
قال: أفأدرك ذلك يا رسول الله؟
قال: « لا ».
قال عمر: أفأدرك ذلك يا رسول الله؟
قال: « لا ».
قال: عثمان أفأدرك ذلك يا رسول الله؟
قال: « نعم بك يفتنون ».
وقال أيضا عمر لابن عباس: كيف يختلفون وإلههم واحد وكتابهم واحد وملتهم واحدة؟
فقال: إنه سيجيء قوم لا يفهمون القرآن كما نفهمه، فيختلفون فيه فإذا اختلفوا فيه اقتتلوا، فأقر عمر بن الخطاب بذلك.
وقال أيضا: حدثنا أبو نعيم، ثنا سعيد بن عبد الرحمن - أخو أبي حمزة - ثنا محمد بن سيرين قال: لما قتل عثمان قال عدي بن حاتم: لا ينتطح في قتله عنزان.
فلما كان يوم صفين فقئت عينه فقيل: لا ينتطح في قتله عنزان فقال: بلى وتفقأ عيون كثيرة.
وروي عن كعب الأحبار: أنه مر بصفين فرأى حجارتها فقال: لقد اقتتل في هذا الموضع بنو إسرائيل تسع مرات وإن العرب ستقتتل فيها العاشرة حتى يتقاذفوا بالحجارة التي تقاذف فيها بنو إسرائيل ويتفانوا كما تفانوا.
وقد ثبت في الحديث: أن رسول الله ﷺ قال: « سألت ربي أن لا يهلك أمتي بسنة عامة فأعطانيها وسألته أن لا يسلط عليهم عدوا من سواهم فيستبيح بيضتهم فأعطانيها وسألته أن لا يسلط بعضهم على بعض فمنعنيها ».
ذكرنا ذلك عند تفسير قوله تعالى: { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } [الأنعام: 65] .
قال رسول الله: « هذا أهون ».