→ ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين | البداية والنهاية – الجزء السابع ثم دخلت سنة أربع وثلاثين ابن كثير |
ثم دخلت سنة خمس وثلاثين ففيها مقتل عثمان ← |
قال أبو معشر: فيها: كانت وقعة الصواري.
والصحيح في قول غيره: أنها كانت قبل ذلك كما تقدم.
وفي هذه السنة: تكاتب المنحرفون عن طاعة عثمان وكان جمهورهم من أهل الكوفة، وهم في معاملة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بحمص منفيون عن الكوفة، وثاروا على سعيد بن العاص أمير الكوفة، وتألبوا عليه، ونالوا منه ومن عثمان، وبعثوا إلى عثمان من يناظره فيما فعل وفيما اعتمد من عزل كثير من الصحابة وتولية جماعة من بني أمية من أقربائه، وأغلظوا له في القول.
وطلبوا منه أن يعزل عماله، ويستبدل أئمة غيرهم من السابقين ومن الصحابة، حتى شق ذلك عليه جدا، وبعث إلى أمراء الأجناد فأحضرهم عنده ليستشيرهم، فاجتمع إليه معاوية بن أبي سفيان أمير الشام، وعمرو بن العاص أمير مصر، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح أمير المغرب، وسعيد بن العاص أمير الكوفة، وعبد الله بن عامر أمير البصرة فاستشارهم فيما حدث من الأمر وافتراق الكلمة.
فأشار عبد الله بن عامر: أن يشغلهم بالغزو عما هم فيه من الشر، فلا يكون هم أحدهم إلا نفسه، وما هو فيه من دبر دابته وقمل فروته، فإن غوغاء الناس إذا تفرغوا وبطلوا واشتغلوا بما لا يغني، وتكلموا بما لا يرضي، وإذا تفرقوا نفعوا أنفسهم وغيرهم.
وأشار سعيد بن العاص بأن يستأصل شأفة المفسدين ويقطع دابرهم، وأشار معاوية بأن يرد عماله إلى أقاليمهم، وأن لا يلتفت إلى هؤلاء، وما تألبوا عليه من الشر فإنهم أقل وأضعف جندا.
وأشار عبد الله بن سعد بن أبي سرح بأن يتألفهم بالمال فيعطيهم منه ما يكف به شرهم، ويأمن غائلتهم، ويعطف به قلوبهم إليه.
وأما عمرو بن العاص فقام فقال: أما بعد يا عثمان، فإنك قد ركبت الناس ما يكرهون، فأما أن تعزل عنهم ما يكرهون، وإما أن تقدم فتنزل عمالك على ما هم عليه، وقال له كلاما فيه غلظة، ثم اعتذر إليه في السر بأنه إنما قال هذا ليبلغ عنه من كان حاضرا من الناس إليهم ليرضوا من عثمان بهذا، فعند ذلك قرر عثمان عماله على ما كانوا عليه، وتألف قلوب أولئك بالمال، وأمر بأن يبعثوا إلى الغزو إلى الثغور، فجمع بين المصالح كلها، ولما رجعت العمال إلى أقاليمها امتنع أهل الكوفة من أن يدخل عليهم سعيد بن العاص، ولبسوا السلاح وحلفوا أن لا يمكنوه من الدخول فيها حتى يعزله عثمان ويولي عليهم أبا موسى الأشعري، وكان اجتماعهم بمكان يقال له الجرعة - وقد قال يومئذٍ الأشتر النخعي: والله لا يدخلها علينا ما حملنا سيوفنا - وتواقف الناس بالجرعة.
وأحجم سعيد عن قتالهم، وصمموا على منعه، وقد اجتمع في مسجد الكوفة في هذا اليوم حذيفة وأبو مسعود عقبة بن عمرو، فجعل أبو مسعود يقول: والله لا يرجع سعيد بن العاص حتى يكون دماء.
فجعل حذيفة يقول: والله ليرجعن ولا يكون فيها محجمة من دم، وما أعلم اليوم شيئا إلا وقد علمته ومحمد ﷺ حي.
والمقصود: أن سعيد بن العاص كرَّ راجعا إلى المدينة وكسر الفتنة، فأعجب ذلك أهل الكوفة، وكتبوا إلى عثمان أن يولي عليهم أبا موسى الأشعري بذلك فأجابهم عثمان إلى ما سألوا إزاحة لعذرهم، وإزالة لشبههم، وقطعا لعللهم.
وذكر سيف بن عمر أن سبب تألب الأحزاب على عثمان: أن رجلا يقال له عبد الله بن سبأ كان يهوديا، فأظهر الإسلام، وصار إلى مصر، فأوحى إلى طائفة من الناس كلاما اخترعه من عند نفسه، مضمونه: أنه يقول للرجل أليس قد ثبت أن عيسى بن مريم سيعود إلى هذه الدنيا؟
فيقول الرجل: نعم!
فيقول له: فرسول الله ﷺ أفضل منه فما تنكر أن يعود إلى هذه الدنيا، وهو أشرف من عيسى بن مريم عليه السلام؟
ثم يقول: وقد كان أوصى إلى علي بن أبي طالب، فمحمد خاتم الأنبياء، وعلي خاتم الأوصياء، ثم يقول: فهو أحق بالإمرة من عثمان، وعثمان معتد في ولايته ما ليس له.
فأنكروا عليه، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فافتتن به بشر كثير من أهل مصر، وكتبوا إلى جماعات من عوام أهل الكوفة والبصرة فتمالأوا على ذلك وتكاتبوا فيه، وتواعدوا أن يجتمعوا في الإنكار على عثمان، وأرسلوا إليه من يناظره ويذكر له ما ينقمون عليه من توليته أقرباءه وذوي رحمه وعزله كبار الصحابة، فدخل هذا في قلوب كثير من الناس، فجمع عثمان بن عفان نوابه من الأمصار فاستشارهم فأشاروا عليه بما تقدم، ذكرنا له فالله أعلم.
وقال الواقدي: فيما رواه عن عبد الله بن محمد، عن أبيه قال: لما كانت سنة أربع وثلاثين أكثر الناس بالمقالة على عثمان بن عفان، ونالوا منه أقبح ما نيل من أحد، فكلم الناس علي بن أبي طالب أن يدخل على عثمان فدخل عليه، فقال له: إن الناس ورائي، وقد كلموني فيك، ووالله ما أدري ما أقول لك، وما أعرف شيئا تجهله، ولا أدلك على أمر لا تعرفه، إنك لتعلم ما نعلم، ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه، ولا خلونا بشيء فنبلغكه، وما خصصنا بأمور خفي عنك إدراكها، وقد رأيت وسمعت وصحبت رسول الله ﷺ ونلت صهره، وما ابن أبي قحافة بأولى بعمل الحق منك، ولا ابن الخطاب بأولى بشيء من الخير منك، وإنك أقرب إلى رسول الله ﷺ رحما، ولقد نلت من صهر رسول الله ﷺ ما لم ينالا، ولا سبقاك إلى شيء، فالله الله في نفسك، فإنك والله ما تبصر من عمي، ولا تعلم من جهل.
وإن الطريق لواضح بين، وإن أعلام الدين لقائمة، تعلم يا عثمان أن أفضل عباد الله عند الله إمام عادل، هدي وهدى، فأقام سنة معلومة، وأمات بدعة معلومة، فوالله إن كلا لبين، وإن السنن لقائمة لها أعلام، وإن البدع لقائمة لها أعلام، وإن شر الناس عند الله إمام جائر ضل وأضل به، فأمات سنة معلومة، وأحيا بدعة متروكة، وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: « يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر، وليس معه نصير ولا عاذر فيلقى في جهنم فيدور فيها كما تدور الرحا، ثم يرتطم في غمرة جهنم ».
وإني أحذرك الله، وأحذرك سطوته ونقمته، فإن عذابه أليم شديد، واحذر أن تكون إمام هذه الأمة المقتول، فإنه كان يقال: يقتل في هذه الأمة إمام فيفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة، وتلبس أمورها عليها، ويتركون شيعا لا يبصرون الحق من الباطل، يموجون فيها موجا، ويمرحون فيها مرحا.
فقال عثمان: قد والله علمت لتقولن الذي قلت، أما والله لو كنت مكاني ما عنفتك، ولا أسلمتك، ولا عبت عليك، ولا جئت منكرا، إني وصلت رحما، وسددت خلة، وآويت ضائعا، ووليت شبيها بمن كان عمر يولي، أنشدك الله يا علي، هل تعلم أن المغيرة بن شعبة ليس هناك؟
قال: نعم!
قال: فتعلم أن عمر ولاه؟
قال: نعم!
قال: فلم تلوموني أن وليت ابن عامر في رحمه وقرابته؟.
فقال علي: سأخبرك أن عمر كان كلما ولى أميرا فإنما يطأ على صماخيه؟ وأنه إن بلغه حرف جاء به، ثم بلغ به أقصى الغاية في العقوبة، وأنت لا تفعل ضعفت ورفقت على أقربائك.
فقال عثمان: هم أقرباؤك أيضا.
فقال علي: لعمري إن رحمهم مني لقريبة، ولكن الفضل في غيرهم.
قال عثمان: هل تعلم أن عمر ولى معاوية خلافته كلها، فقد وليته.
فقال علي: أنشدك الله، هل تعلم أن معاوية كان أخوف من عمر من يرفأ غلام عمر منه؟
قال: نعم!
قال علي: فإن معاوية يقطع الأمور دونك، وأنت تعلمها، ويقول للناس: هذا أمر عثمان، فليبلغك فلا تنكر ولا تغير على معاوية.
ثم خرج علي من عنده، وخرج عثمان على إثره فصعد المنبر فوعظ وحذر وأنذر، وتهدد وتوعد، وأبرق وأرعد، فكان فيما قال: ألا فقد والله عبتم علي بما أقررتم به لابن الخطاب، ولكنه وطئكم برجله، وضربكم بيده، وقمعكم بلسانه، فدنتم له على ما أحببتم أو كرهتم، ولنت لكم وأوطأت لكم كتفي، وكففت يدي ولساني عنكم، فاجترأتم علي.
أما والله لأنا أعز نفرا وأقرب ناصرا وأكثر عددا، وأقمن أن قلت هلم إلي، ولقد أعددت لكم أقرانكم، وأفضلت عليكم فضولا، وكشرت لكم عن نابي، فأخرجتم مني خلقا لم أكن أحسنه، ومنطقا لم أنطق به، فكفوا ألسنتكم وطعنكم، وعيبكم على ولاتكم فإني قد كففت عنكم من لو كان هو الذي يليكم لرضيتم منه دون منطقي هذا، ألا فما تفقدون من حقكم؟ فوالله ما قصرت في بلوغ ما كان يبلغ من كان قبلي.
ثم اعتذر عما كان يعطي أقرباءه بأنه من فضل ماله.
فقام مروان بن الحكم فقال: إن شئتم والله حكمنا بيننا وبينكم السيف، نحن والله وأنتم، كما قال الشاعر:
فرشنا لكم أعراضنا فنبت بكم * مغارسكم تبنون في دِمِنِ الثرى
فقال عثمان: اسكت لا سكت، دعني وأصحابي ما منطقك في هذا، ألم أتقدم إليك أن لا تنطق.
فسكت مروان ونزل عثمان رضي الله عنه.
وذكر سيف بن عمر وغيره: أن معاوية لما ودعه عثمان حين عزم على الخروج إلى الشام عرض عليه أن يرحل معه إلى الشام فإنهم قوم كثيرة طاعتهم للأمراء.
فقال: لا أختار بجوار رسول الله ﷺ سواه.
فقال: أجهز لك جيشا من الشام يكونون عندك ينصرونك؟.
فقال: إني أخشى أن أضيق بهم بلد رسول الله ﷺ على أصحابه من المهاجرين والأنصار.
قال معاوية: فوالله يا أمير المؤمنين لتغتالن - أو قال: لتغزين -.
فقال عثمان: حسبي الله ونعم الوكيل.
ثم خرج معاوية من عنده وهو متقلد السيف وقوسه في يده، فمر على ملأ من المهاجرين والأنصار فيهم علي بن أبي طالب، وطلحة، والزبير، فوقف عليهم واتكأ على قوسه، وتكلم بكلام بليغ يشتمل على الوصاة بعثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، والتحذير من إسلامه إلى أعدائه، ثم انصرف ذاهبا.
فقال الزبير: ما رأيت أهيب في عيني من يومه هذا.
وذكر ابن جرير: أن معاوية استشعر الأمر لنفسه من قدمته هذه إلى المدينة، وذلك أنه سمع حاديا يرتجز في أيام الموسم في هذا العام، وهو يقول:
قد علمت ضوامر المطي * وضمرات عوج القسي
أن الأمير بعده علي * وفي الزبير خلف رضي
وطلحة الحامي لها ولي
فلما سمعها معاوية لم يزل ذلك في نفسه، حتى كان ما كان على ما سنذكره في موضعه إن شاء الله، وبه الثقة.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة مات أبو عبس بن جبير بالمدينة وهو بدري.
ومات أيضا مسطح بن أثاثة. وغافل بن البكير.
وحج بالناس في هذه السنة عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه.