→ باب فضل الزهد في الدنيا | رياض الصالحين باب فضل الجوع وخشونة العيش المؤلف: يحيى النووي |
باب القناعة والقفاف والاقتصاد ← |
باب فضل الجوع وخشونة العيش والاقتصار على القليل من المأكول والمشروب والملبوس وغيرها من حظوظ النفس وترك الشهوات
قال اللَّه تعالى (مريم 59، 60): {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً، إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً، فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئاً}.
وقال تعالى (القصص 79، 80): {فخرج على قومه في زينته، قال الذين يريدون الحياة الدنيا: يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم. وقال الذين أوتوا العلم: ويلكم! ثواب اللَّه خير لمن آمن وعمل صالحاً}.
وقال تعالى (التكاثر 8): {ثم لتسألن يومئذ عن النعيم}.
وقال تعالى (الإسراء 18): {من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد، ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً}.
والآيات في الباب كثيرة معلومة.
491- وعن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنها قالت: ما شبع آل محمد ﷺ من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية: ما شبع آل محمد ﷺ منذ قدم المدينة من طعام البر ثلاث ليال تباعاً حتى قبض.
492- وعن عروة عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنها أنها كانت تقول: والله يا ابن أختي إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال: ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقد في أبيات رَسُول اللَّهِ ﷺ نار. قلت: يا خالة فما كان يعيشكم قالت: الأسودان: التمر والماء، إلا أنه قد كان لرَسُول اللَّهِ ﷺ جيران من الأنصار وكانت لهم منائح وكانوا يرسلون إلى رَسُول اللَّهِ ﷺ من ألبانها فيسقينا. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
493- وعن سعيد المقبري عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ أنه مر بقوم بين أيديهم شاة مصلية فدعوه فأبى أن يأكل وقال: خرج رَسُول اللَّهِ ﷺ من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير. رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
(مصلية) بفتح الميم: أي مشوية.
494- وعن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال: لم يأكل النبي ﷺ على خوان حتى مات، وما أكل خبزاً مرققاً حتى مات. رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وفي رواية له: ولا رأى شاة سميطاً بعينه قط.
495- وعن النعمان بن بشير رَضِيَ اللَّهُ عَنهُما قال: لقد رأيت نبيكم ﷺ وما يجد من الدقل ما يملأ به بطنه. رَوَاهُ مُسلِمٌ.
( الدقل): تمر رديء.
496- وعن سهل بن سعد رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال: ما رأى رَسُول اللَّهِ ﷺ النقي من حين ابتعثه اللَّه تعالى حتى قبضه اللَّه. فقيل له: هل كان لكم في عهد رَسُول اللَّهِ ﷺ مناخل قال: ما رأى رَسُول اللَّهِ ﷺ منخلاً من حين ابتعثه اللَّه تعالى حتى قبضه اللَّه تعالى.
فقيل له: كيف كنتم تأكلون الشعير غير منخول قال: كنا نطحنه وننفخه فيطير ما طار وما بقي ثَرَّيْنَاه. رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
قوله: (النقي): هو بفتح النون وكسر القاف وتشديد الياء وهو الخبز الحواري، وهو الدرمك.
قوله ( ثَرَّيْنَاه) هو بثاء مثلثة، ثم راء مشددة، ثم ياء مثناة من تحت ثم نون، أي: بللناه وعجناه.
497- وعن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال: خرج رَسُول اللَّهِ ﷺ ذات يوم أو ليلة فإذا بأبي بكر وعمر رَضِيَ اللَّهُ عَنهُما فقال: (ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة ) قالا: الجوع يا رَسُول اللَّهِ. قال: (وأنا والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما! قوما) فقاما معه، فأتى رجلاً من الأنصار فإذا هو ليس في بيته. فلما رأته المرأة قالت: مرحباً وأهلاً. فقال لها رَسُول اللَّهِ ﷺ: (أين فلان ) قالت: ذهب يستعذب لنا الماء. إذ جاء الأنصاري فنظر إلى رَسُول اللَّهِ ﷺ وصاحبيه ثم قال: الحمد لله ما أحد اليوم أكرم أضيافاً مني. فانطلق فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورطب فقال: كلوا. وأخذ المدية فقال له رَسُول اللَّهِ ﷺ: (إياك والحلوب) فذبح لهم فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق وشربوا. فلما أن شبعوا ورووا قال رَسُول اللَّهِ ﷺ لأبي بكر وعمر رَضِيَ اللَّهُ عَنهُما: (والذي نفسي بيده لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة! أخرجكم من بيوتكم الجوع ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم) رَوَاهُ مُسلِمٌ. قولها (يستعذب): أي يطلب الماء العذب وهو الطيب.
و (العذق) بكسر العين وإسكان الذال المعجمة: هو الكباسة، وهي الغصن.
و (المدية) بضم الميم وكسرها هي: السكين.
و (الحلوب): ذات اللبن.
والسؤال عن هذا النعيم سؤال تعديد النعم لا سؤال توبيخ وتعذيب، والله أعلم.
وهذا الأنصاري الذي أتوه هو: أبو الهيثم بن التيهان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، كذا جاء مبيناً في رواية الترمذي وغيره.
498- وعن خالد بن عمير العدوي قال خطبنا عتبة بن غَزْوان، وكان أميراً على البصرة، فحمد اللَّه وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإن الدنيا قد آذنت بصرم، وولت حذاء، ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء يتصابُّها صاحبها، وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها، فانتقلوا بخير ما بحضرتكم فإنه قد ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفير جهنم فيهوي فيها سبعين عاماً لا يدرك لها قعراً، والله لتملأن، أفعجبتم! ولقد ذكر لنا أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين عاماً، وليأتين عليها يوم وهو كظيظ من الزحام، ولقد رأيتني سابع سبعة مع رَسُول اللَّهِ ﷺ ما لنا طعام إلا ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا، فالتقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك فاتزرت بنصفها واتزر سعد بنصفها، فما أصبح اليوم منا أحد إلا أصبح أميراً على مصر من الأمصار، وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيماً وعند اللَّه صغيراً. رَوَاهُ مُسلِمٌ.
قوله (آذنت) هو بمد الألف: أي أعلمت.
وقوله (بصرم) هو بضم الصاد: أي بانقطاعها وفنائها.
(وولت حذاء) هو بحاء مهملة مفتوحة ثم ذال معجمة مشددة ثم ألف ممدودة: أي سريعة.
و (الصبابة) يضم الصاد المهملة: وهي البقية اليسيرة.
وقوله (يتصابها) هو بتشديد الباء قبل الهاء: أي يجمعها.
و (الكظيظ): الكثير الممتلئ.
وقوله (قرحت) هو بفتح القاف وكسر الراء: أي صار فيها قروح.
499- وعن أبي موسى الأشعري رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال: أخرجت لنا عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنها كساء وإزاراً غليظاً قالت: قبض رَسُول اللَّهِ ﷺ في هذين. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
500- وعن سعد بن أبي وقاص رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال: إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل اللَّه، ولقد كنا نغزو مع رَسُول اللَّهِ ﷺ ما لنا طعام إلا ورق الحبلة وهذا السمر، حتى إن كان أحدنا ليضع كما تضع الشاة ما له خلط. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
(الحبلة) بضم الحاء المهملة وإسكان الباء الموحدة: وهي والسمر نوعان معروفان من شجر البادية.
501-وعن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال، قال رَسُول اللَّهِ ﷺ: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
قال أهل اللغة والغريب معنى (قوتا): أي ما يسد الرمق.
502- وعن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال: والله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع. ولقد قعدت يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه فمر بي النبي ﷺ فتبسم حين رآني وعرف ما في وجهي وما في نفسي، ثم قال: (أبا هر) قلت: لبيك يا رَسُول اللَّهِ. قال: (الحق) ومضى فاتبعته، فدخل فاستأذن فأذن لي. فدخلت فوجد لبناً في قدح فقال: (من أين هذا اللبن ) قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة. قال: (أبا هر) قلت: لبيك يا رَسُول اللَّهِ. قال: (الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي) قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون على أهل ولا مال ولا على أحد، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئاً، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها. فساءني ذلك فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة! كنت أحق أن أصيب من هذا اللبن شربةً أتقوى بها، فإذا جاءوا أمرني فكنت أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن، ولم يكن من طاعة اللَّه وطاعة رسوله ﷺ بد، فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا فاستأذنوا فأذن لهم وأخذوا مجالسهم من البيت. قال: (أبا هر) قلت: لبيك يا رَسُول اللَّهِ. قال: (خذ فأعطهم) قال: فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى ثم يرد علي القدح، فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى ثم يرد علي القدح فيشرب حتى يروى ثم يرد علي القدح حتى انتهيت إلى النبي ﷺ وقد روي القوم كلهم، فأخذ القدح فوضعه على يده فنظر إلي فتبسم فقال: (أبا هر) قلت: لبيك يا رَسُول اللَّهِ. قال: (بقيت أنا وأنت) قلت: صدقت يا رَسُول اللَّهِ. قال: (اقعد فاشرب) فقعدت فشربت. فقال: (اشرب) فشربت. فما زال يقول: (اشرب) حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكاً. قال: (فأرني) فأعطيته القدح فحمد اللَّه تعالى وسمى وشرب الفضلة. رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
503- وعن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال: لقد رأيتني وإني لأخر فيما بين منبر رَسُول اللَّهِ ﷺ إلى حجرة عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنها مغشياً علي فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي ويرى أني مجنون وما بي من جنون، ما بي إلا الجوع. رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
504- وعن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنها قالت: توفي رَسُول اللَّهِ ﷺ ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعاً من شعير. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
505- وعن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال: رهن النبي ﷺ درعه بشعير، ومشيت إلى النبي ﷺ بخبز شعير وإهالة سنخة. ولقد سمعته يقول: (ما أصبح لآل محمد صاع ولا أمسى) وإنهم لتسعة أبيات. رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
(الإهالة) بكسر الهمزة: الشحم الذائب.
و (السنخة) بالنون والخاء المعجمة وهي: المتغيرة.
506- وعن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال: لقد رأيت سبعين من أهل الصفة ما منهم رجل عليه رداء. إما إزار وإما كساء قد ربطوا في أعناقهم منها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته. رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
507- وعن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنها قالت: كان فراش رَسُول اللَّهِ ﷺ من أدم حشوه ليف. رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
508- وعن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال: كنا جلوساً مع رَسُول اللَّهِ ﷺ إذ جاء رجل من الأنصار فسلم عليه ثم أدبر الأنصاري. فقال رَسُول اللَّهِ ﷺ: (يا أخا الأنصار كيف أخي سعد بن عبادة ) فقال: صالح. فقال رَسُول اللَّهِ ﷺ: (من يعوده منكم ) فقام وقمنا معه ونحن بضعة عشر ما علينا نعال ولا خفاف ولا قلانس ولا قمص نمشي في تلك السباخ حتى جئناه، فاستأخر قومه من حوله حتى دنا رَسُول اللَّهِ ﷺ وأصحابه الذين معه. رَوَاهُ مُسلِمٌ.
509- وعن عمران بن الحصين رَضِيَ اللَّهُ عَنهُما عن النبي ﷺ أنه قال: (خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) قال عمران: فما أدري قال النبي ﷺ مرتين أو ثلاثاً (ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
510- وعن أبي أمامة رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال، قال رَسُول اللَّهِ ﷺ: (يا ابن آدم إنك أن تبذل الفضل خير لك، وإن تمسكه شر لك، ولا تلام على كفاف، وابدأ بمن تعول) رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صحيح.
511- وعن عبيد اللَّه بن محصن الأنصاري الخطمي رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال، قال رَسُول اللَّهِ ﷺ: (من أصبح منكم آمناً في سربه، معافىً في جسده، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.
( سربه) بكسر السين المهملة: أي نفسه. وقيل: قومه.
512- وعن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رَضِيَ اللَّهُ عَنهُما أن رَسُول اللَّهِ ﷺ قال: (قد أفلح من أسلم، وكان رزقه كفافاً، وقنعه اللَّه بما آتاه) رَوَاهُ مُسلِمٌ.
513- وعن أبي محمد فضالة بن عبيد الأنصاري رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ أنه سمع رَسُول اللَّهِ ﷺ يقول: (طوبى لمن هدي للإسلام، وكان عيشه كفافاً، وقنع) رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صحيح.
514- وعن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنهماُ قال: كان رَسُول اللَّهِ ﷺ يبيت الليالي المتتابعة طاوياً، وأهله لا يجدون عشاء، وكان أكثر خبزهم خبر الشعير. رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صحيح.
515- وعن فضالة بن عبيد رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ أن رَسُول اللَّهِ ﷺ كان إذا صلى بالناس يخر رجال من قامتهم في الصلاة من الخصاصة وهم أصحاب الصفة حتى يقول الأعراب هؤلاء مجانين. فإذا صلى رَسُول اللَّهِ ﷺ انصرف إليهم فقال: (لو تعلمون ما لكم عند اللَّه تعالى لأحببتم أن تزدادوا فاقة وحاجة) رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وقال حديث صحيح.
(الخصاصة): الفاقة والجوع الشديد.
516-وعن أبي كريمة المقداد بن معد يكرب رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال سمعت رَسُول اللَّهِ ﷺ يقول: (ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطن بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه وثلث لنفسه) رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.
(أكلات): أي لقم.
517- وعن أبي أمامة إياس بن ثعلبة الأنصاري الحارثي رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال ذكر أصحاب رَسُول اللَّهِ ﷺ يوماً عنده الدنيا فقال رَسُول اللَّهِ ﷺ: (ألا تسمعون ألا تسمعون إن البذاذة من الإيمان، إن البذاذة من الإيمان) يعني: التقحل. رواه أبو داود.
(البذاذة) بالباء الموحدة والذالين المعجمتين وهي: رثاثة الهيئة وترك فاخر اللباس.
وأما (التقحل) فبالقاف والحاء قال أهل اللغة: المتقحل هو: الرجل اليابس الجلد من خشونة العيش وترك الترفه.
518- وعن أبي عبد اللَّه جابر بن عبد اللَّه رَضِيَ اللَّهُ عَنهُما قال: بعثنا رَسُول اللَّهِ ﷺ وأَمَّرَ علينا أبا عبيدة رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ نتلقى عيراً لقريش، وزَوَّدَنَا جراباً من تمر لم يجد لنا غيره، فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة. فقيل: كيف كنتم تصنعون بها قال: نمصها كما يمص الصبي، ثم نشرب عليهم من الماء فتكفينا يومنا إلى الليل، وكنا نضرب بعصينا الخبط ثم نبله بالماء فنأكله، وانطلقنا على ساحل البحر فرفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم فأتيناه فإذا هي دابة تدعى العنبر، فقال أبو عبيدة: ميتة، ثم قال: لا بل نحن رُسُلَ رَسُول اللَّهِ ﷺ وفي سبيل اللَّه وقد اضطررتم فكلوا. فأقمنا عليه شهراً ونحن ثلاثمائة حتى سَمِنّا، ولقد رأيتنا نغترف من وَقْبِ عَيْنِهِ بالقِلالِ الدُّهْنَ، ونقطع منه الفِدَرَ كالثور أو كَقَدْرِ الثور، ولقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلاً فأقعدهم في وَقْبِ عينه، وأخذ ضلعاً من أضلاعه فأقامها ثم رحل أعظم بعير معنا فمر من تحتها، وتزودنا من لحمه وَشَائِقَ. فلما قدمنا المدينة أتينا رَسُول اللَّهِ ﷺ فذكرنا ذلك له، فقال: (هو رزق أخرجه اللَّه لكم، فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا ) فأرسلنا إلى رَسُول اللَّهِ ﷺ منه فأكله. رَوَاهُ مُسلِمٌ.
(الجراب): وعاء من جلد معروف، وهو بكسر الجيم وفتحها والكسر أفصح.
قوله (نمصها) بفتح الميم و (الخبط): ورق شجر معروف تأكله الإبل.
و (الكثيب): التل من الرمل.
و (الوقب) بفتح الواو وإسكان القاف وبعدها باء موحدة وهو: نقرة العين.
و (القلال): الجرار.
و (الفدر) بكسر الفاء وفتح الدال: القطع.
(رحل البعير) بتخفيف الحاء: أي جعل عليه الرحل.
(الوشائق) بالشين المعجمة والقاف: اللحم الذي قطع ليقدد منه، والله أعلم.
519- وعن أسماء بنت يزيد رَضِيَ اللَّهُ عَنها قالت: كان كم قميص رَسُول اللَّهِ ﷺ إلى الرُّصْغِ. رواه أبو داود والترمذي وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.
(الرصغ) بالصاد والرسغ بالسين أيضاً هو: المفصل بين الكف والساعد.
520- وعن جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال: إنا يوم الخندق نحفر فعرضت كدية شديدة، فجاءوا النبي ﷺ فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق. فقال: (أنا نازل) ثم قام وبطنه معصوب بحجر ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقاً، فأخذ النبي ﷺ المعول فضرب فعاد كثيباً أهيل أو أهيم. فقلت: يا رَسُول اللَّهِ ائذن لي إلى البيت. فقلت لامرأتي: رأيت بالنبي ﷺ شيئاً ما في ذلك صبر فعندك شيء فقالت: عندي شعير وعناق. فذبحت العناق وطحنت الشعير حتى جعلنا اللحم في البرمة، ثم جئت النبي ﷺ والعجين قد انكسر والبرمة بين الأثافي قد كادت فقلت: طُعَيْمٌ لي فقم أنت يا رَسُول اللَّهِ ورجل أو رجلان. قال: (كم هو ) فذكرت له فقال: (كثير طيب قل لها لا تنزع البرمة ولا الخبز من التنور حتى آتي) فقال: (قوموا) فقام المهاجرون والأنصار فدخلت عليها فقلت: ويحك! جاء النبي ﷺ والمهاجرون والأنصار ومن معهم. قالت: هل سألك قلت: نعم. قال: (ادخلوا ولا تضاغطوا) فجعل يكسر الخبز ويجعل عليه اللحم ويخمر البرمة والتنور إذا أخذ منه ويقرب إلى أصحابه ثم ينزع، فلم يزل يكسر ويغرف حتى شبعوا وبقي منه. فقال: (كلي هذا وأهدي فإن الناس أصابتهم مجاعة). مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية قال جابر: لما حفر الخندق رأيت بالنبي ﷺ خمصاً فانكفأت إلى امرأتي فقلت: هل عندك شيء فإني رأيت برَسُول اللَّهِ ﷺ خمصاً شديداً. فأخرجت إلي جراباً فيه صاع من شعير، ولنا بهيمة داجن فذبحتها، وطحنت ففرغت إلى فراغي وقطعتها في برمتها، ثم وليت إلى رَسُول اللَّهِ ﷺ، فقالت: لا تفضحني برَسُول اللَّهِ ﷺ ومن معه. فجئته فساررته فقلت: يا رَسُول اللَّهِ ذبحنا بهيمة لنا، وطحنت صاعاً من شعير فتعال أنت ونفر معك. فصاح النبي ﷺ فقال: (يا أهل الخندق إن جابراً قد صنع سوراً فحيهلاً بكم) فقال النبي ﷺ: (لا تنزلن برمتكم ولا تخبزن عجينكم حتى أجيء) فجئت وجاء النبي ﷺ يقدم الناس حتى جئت امرأتي، فقالت: بك وبك! فقلت: قد فعلت الذي قلت. فأخرجت عجيننا فبسق فيه وبارك، ثم عمد إلى برمتنا فبصق فيه وبارك ثم قال: (ادعي خابزة فلتخبز معك، واقدحي من برمتكم ولا تنزلوها) وهم ألف، فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا وإن برمتنا لتغط كما هي، وإن عجيننا ليخبز كما هو.
قوله (عرضت كدية) هي: قطعة غليظة صلبة من الأرض لا تعمل فيها الفأس.
و (الكثيب) أصله تل الرمل. والمراد هنا: صارت تراباً ناعماً، وهو معنى (أهيل)
و (الأثافي) الأحجار التي يكون عليها القدر.
و (تضاغطوا): تزاحموا.
و (المجاعة): الجوع وهو بفتح الميم.
و (الخمص) بفتح الخاء والميم: الجوع.
و (انكفأت): انقلبت ورجعت.
و (البهيمة) بضم الباء تصغير بهمة وهي: العناق بفتح -العين-.
و (الداجن) هي: التي ألفت البيت.
و (السور) الطعام الذي يدعى الناس إليه، وهو بالفارسية.
و (حيهلا): أي تعالوا.
وقولها (بك وبك): أي خاصمته وسبته لأنها اعتقدت أن الذي عندها لا يكفيهم فاستحيت وخفي عليها ما أكرم اللَّه سبحانه وتعالى به نبيه ﷺ من هذه المعجزة الظاهرة، والآية الباهرة.
(بسق): أي بصق. ويقال أيضاً: بزق: ثلاث لغات.
و (عمد) بفتح الميم: أي قصد.
و (اقدحي): أي اغرفي. والمقدحة: المغرفة.
و (تغط): أي لغليانها صوت، والله أعلم.
520- وعن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال، قال أبو طلحة لأم سليم: قد سمعت صوت رَسُول اللَّهِ ﷺ ضعيفاً أعرف فيه الجوع فهل عندك من شيء فقالت: نعم. فأخرجت أقراصاً من شعير ثم أخذت خماراً لها فلفت الخبز ببعضه ثم دسته تحت ثوبي وردتني ببعضه، ثم أرسلتني إلى رَسُول اللَّهِ ﷺ فذهبت به فوجدت رَسُول اللَّهِ ﷺ جالساً في المسجد ومعه الناس فقمت عليهم. فقال لي رَسُول اللَّهِ ﷺ: (أرسلك أبو طلحة ) فقلت: نعم. فقال: (ألِطَعَام) فقلت: نعم. فقال رَسُول اللَّهِ ﷺ: (قوموا) فانطلقوا وانطلقت بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة فأخبرته. فقال أبو طلحة: يا أم سليم قد جاء رَسُول اللَّهِ ﷺ بالناس وليس عندنا ما نطعمهم. فقالت: اللَّه ورسوله أعلم. فانطلق أبو طلحة حتى لقي رَسُول اللَّهِ ﷺ فأقبل رَسُول اللَّهِ ﷺ معه حتى دخلا، فقال رَسُول اللَّهِ ﷺ: (هلمي ما عندك يا أم سليم) فأتت بذلك الخبز فأمر به رَسُول اللَّهِ ﷺ ففت، وعصرت عليه أم سليم عكة فآدمته ثم قال فيه رَسُول اللَّهِ ﷺ ما شاء اللَّه أن يقول ثم قال: (ائذن لعشرة) فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا. ثم قال: (ائذن لعشرة) فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا ثم قال: ائذن لعشرة، فأذن لهم حتى أكل القوم كلهم وشبعوا والقوم سبعون رجلاً أو ثمانون. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية: فما زال يدخل عشرة ويخرج عشرة حتى لم يبق منهم أحد إلا دخل فأكل حتى شبع، ثم هيأها فإذا هي مثلها حين أكلوا منها.
وفي رواية: فأكلوا عشرة عشرة حتى فعل ذلك بثمانين رجلاً، ثم أكل النبي ﷺ بعد ذلك وأهل البيت وتركوا سوراً.
وفي رواية: ثم أفضلوا ما بلغوا جيرانهم.
وفي رواية عن أنس قال: جئت رَسُول اللَّهِ ﷺ يوماً فوجدته جالساً مع أصحابه وقد عصب بطنه بعصابة، فقلت لبعض أصحابه: لم عصب رَسُول اللَّهِ ﷺ بطنه فقالوا: من الجوع. فذهبت إلى أبي طلحة، وهو زوج أم سليم بنت ملحان فقلت: يا أبتاه قد رأيت رَسُول اللَّهِ ﷺ عصب بطنه بعصابة فسألت بعض أصحابه فقالوا من الجوع. فدخل أبو طلحة على أمي فقال: هل من شيء فقالت: نعم عندي كسر من خبز وتمرات فإن جاءنا رَسُول اللَّهِ ﷺ وحده أشبعناه، وإن جاء آخر معه قل عنهم. وذكر تمام الحديث.