→ باب بيان كثرة طرق الخير | رياض الصالحين باب الاقتصاد في العبادة المؤلف: يحيى النووي |
باب المحافظة على الأعمال ← |
باب الاقتصاد في العبادة
قال اللَّه تعالى (طه 1، 2): {طه، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى} .
وقال تعالى (البقرة 185): {يريد اللَّه بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} .
142- وعن عائشة رَضِيِ اللَّهُ عَنْها أن النبي ﷺ دخل عليها وعندها امرأة. قال: (من هذه) قالت: هذه فلانة تذكر من صلاتها. قال: (مه عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل اللَّه حتى تملوا) وكان أحب الدين إليه ما داوم صاحبه عليه. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
و (مه): كلمة نهي وزجر.
ومعنى (لا يمل الله): لا يقطع ثوابه عنكم وجزاء أعمالكم ويعاملكم معاملة المالّ (حتى تملوا) فتتركوا. فينبغي لكم أن تأخذوا ما تطيقون الدوام عليه ليدوم ثوابه لكم وفضله عليكم.
143- وعن أنس رَضِيِ اللَّهُ عَنْهُ قال: (جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي ﷺ يسألون عن عبادة النبي ﷺ فلما أخبروا كأنهم تقالوها وقالوا: أين نحن من النبي ﷺ وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً. وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً. فجاء رَسُول اللَّهِ ﷺ إليهم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني!) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
144- وعن ابن مسعود رَضِيِ اللَّهُ عَنْهُ أن النبي ﷺ قال: (هلك المتنطعون!) قالها ثلاثاً. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
(المتنطعون): المتعمقون المشددون في غير موضع التشديد.
145- وعن أبي هريرة رَضِيِ اللَّهُ عَنْهُ عن النبي ﷺ قال: (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وفي رواية له: (سددوا، وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيء من الدلجة؛ القصد القصد تبلغوا)
قوله (الدين) هو مرفوع على ما لم يسم فاعله. وروي منصوباً. وروي (لن يشاد الدين أحد).
وقوله ﷺ : (إلا غلبه) : أي غلبه الدين وعجز ذلك المشاد عن مقاومة الدين لكثرة طرقه.
و (الغدوة): سير أول النهار.
و (الروحة) آخر النهار.
و (الدلجة) آخر الليل. وهذا استعارة وتمثيل. ومعناه: استعينوا على طاعة اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بالأعمال في وقت نشاطكم وفراغ قلوبكم بحيث تستلذون العبادة ولا تسأمون وتبلغون مقصودكم، كما أن المسافر الحاذق يسير في هذه الأوقات ويستريح هو ودابته في غيرها فيصل المقصود بغير تعب، والله أعلم.
146- وعن أنس رَضِيِ اللَّهُ عَنْهُ قال: دخل النبي ﷺ المسجد فإذا حبل ممدود بين الساريتين، فقال: (ما هذا الحبل ) قالوا: هذا حبل لزينب فإذا فترت تعلقت به. فقال النبي ﷺ : (حلوه، ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليرقد) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
147- وعن عائشة رَضِيِ اللَّهُ عَنْها أن رَسُول اللَّهِ ﷺ قال: (إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم؛ فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدري لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
148- وعن أبي عبد اللَّه جابر بن سمرة رَضِيِ اللَّهُ عَنْهُ قال: كنت أصلي مع النبي ﷺ الصلوات فكانت صلاته قصداً، وخطبته قصداً رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
قوله (قصدا): أي بين الطول والقصر.
149- وعن أبي جحيفة وهب بن عبد اللَّه رَضِيِ اللَّهُ عَنْهُ قال: آخى النبي ﷺ بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة فقال لها: ما شأنك قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا. فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاماً فقال له: كل فإني صائم. قال: ما أنا بآكل حتى نأكل. فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم فقال: نم. فنام، ثم ذهب يقوم فقال له: نم. فلما كان آخر الليل قال سلمان: قم الآن. فصليا جميعا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقاً، وإن لنفسك عليك حقاً، لأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه. فأتى النبي ﷺ فذكر ذلك له، فقال النبي ﷺ: (صدق سلمان) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
150- وعن أبي محمد عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رَضِيِ اللَّهُ عَنْهُ قال: أخبر النبي ﷺ أني أقول: والله لأصومن النهار ولأقومن الليل ما عشت. فقال رَسُول اللَّهِ ﷺ : (أنت الذي تقول ذلك ) فقلت له: قد قلته بأبي أنت وأمي يا رَسُول اللَّهِ. قال: (فإنك لا تستطيع ذلك؛ فصم وأفطر ونم وقم، وصم من الشهر ثلاثة أيام فإن الحسنة بعشر أمثالها وذلك مثل صيام الدهر) قلت: فإني أطيق أفضل من ذلك. قال: (فصم يوماً وأفطر يومين) قلت: فإني أطيق أفضل من ذلك. قال: (فصم يوماً وأفطر يوماً فذلك صيام داود عليه السلام وهو أعدل الصيام) وفي رواية: (هو أفضل الصيام) فقلت: فإني أطيق أفضل من ذلك. فقال رَسُول اللَّهِ ﷺ : (لا أفضل من ذلك) ولأن أكون قبلت الثلاثة الأيام التي قال رَسُول اللَّهِ ﷺ أحب إلي من أهلي ومالي.
وفي رواية (ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل ) قلت: بلى يا رَسُول اللَّهِ. قال ﷺ : (فلا تفعل؛ صم وأفطر ونم وقم؛ فإن لجسدك عليك حقاً، وإن لعينيك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لزورك عليك حقاً، وإن بحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها فإن ذلك صيام الدهر) فشدّدْت فشُدِّدَ علي. قلت: يا رَسُول اللَّهِ إني أجد قوة. قال: (صم صيام نبي اللَّه داود ولا تزد عليه) قلت: وما كان صيام داود قال: (نصف الدهر) فكان عبد اللَّه يقول بعد ما كبر: يا ليتني قبلت رخصة رَسُول اللَّهِ ﷺ !
وفي رواية: (ألم أخبر أنك تصوم الدهر، وتقرأ القرآن كل ليلة) فقلت: بلى يا رَسُول اللَّهِ ولم أرد بذلك إلا الخير. قال: (فصم صوم نبي اللَّه داود فإنه كان أعبد الناس، واقرأ القرآن في كل شهر) قلت: يا نبي اللَّه إني أطيق أفضل من ذلك قال: (فاقرأه في كل عشرين) قلت: يا نبي اللَّه إني أطيق أفضل من ذلك قال: (فاقرأه في كل عشر) قلت: يا نبي اللَّه إني أطيق أفضل من ذلك قال: (فاقرأه في كل سبع ولا تزد على ذلك) فشَدَّدْتُ فشُدِّدَ علي، وقال لي النبي ﷺ : (إنك لا تدري لعلك يطول بك عمر) قال: فصرت إلى الذي قال لي النبي ﷺ فلما كبرت وددت أني كنت قبلت رخصة نبي اللَّه ﷺ .
وفي رواية: (وإن لولدك عليك حقا)
وفي رواية: (لا صام من صام الأبد) ثلاثاً.
وفي رواية: (أحب الصيام إلى اللَّه صيام داود، وأحب الصلاة إلى اللَّه صلاة داود: كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً، ولا يفر إذا لاقى)
وفي رواية قال: أنكحني أبي امرأة ذات حسب، وكان يتعاهد كنته: أي امرأة ولده، فيسألها عن بعلها فتقول له: نعم الرجل من رجل لم يطأ لنا فراشاً، ولم يفتش لنا كنفاً منذ أتيناه! فلما طال ذلك عليه ذكر ذلك للنبي ﷺ فقال: (القني به) فلقيته بعد فقال: (كيف تصوم ) قلت: كل يوم. قال: (وكيف تختم ) قلت: كل ليلة. وذكر نحو ما سبق. وكان يقرأ على بعض أهله السبع الذي يقرؤه يعرضه من النهار ليكون أخف عليه بالليل، وإذا أراد أن يتقوى أفطر أياماً وأحصى وصام مثلهن كراهية أن يترك شيئاً فارق عليه النبي ﷺ . كل هذه الروايات صحيحة معظمها في الصحيحين وقليل منها في أحدهما.
151- وعن أبي ربعي حنظلة بن الربيع الأسيدي الكاتب أحد كتاب رَسُول اللَّهِ ﷺ قال: لقيني أبو بكر رَضِيِ اللَّهُ عَنْهُ فقال: كيف أنت يا حنظلة قلت: نافق حنظلة! قال: سبحان اللَّه! ما تقول قلت: نكون عند رَسُول اللَّهِ ﷺ يذكرنا بالجنة والنار كأنا رأي عين فإذا خرجنا من عند رَسُول اللَّهِ ﷺ عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً. قال أبو بكر رَضِيِ اللَّهُ عَنْهُ: فوالله إنا لنلقى مثل هذا. فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رَسُول اللَّهِ ﷺ فقلت: نافق حنظلة يا رَسُول اللَّهِ! فقال رَسُول اللَّهِ ﷺ : (وما ذاك) قلت: يا رَسُول اللَّهِ نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كأنا رأي عين فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً. فقال رَسُول اللَّهِ ﷺ : (والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة في فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة) ثلاث مرات. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
قوله: (ربعي) بكسر الراء.
(والأسيدي) بضم الهمزة وفتح السين وبعدها ياء مكسورة مشددة
وقوله (عافسنا) هو بالعين والسين المهملتين،: أي عالجنا ولاعبنا.
و (الضيعات): المعايش.
152- وعن ابن عباس رَضِيِ اللَّهُ عَنْهُ قال: بينما النبي ﷺ يخطب إذا هو برجل قائم فسأل عنه، فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم. فقال النبي ﷺ : (مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.