تجب على من له ما يوصي فيه لحديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما أن رسول الله صلى الله وسلم عليه قال : ما حق امريء مسلم يبيت ليلتين وله شئ يريد أن يوشي فيه إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه وقد ذهب إلى الوجوب عطاء والزهري وأبو مجاز وطلحة بن مصرف وآخرون ، وحكاه البيهقي عن الشافعي في القديم ، وبه قال اسحق وداود وأبو عوانة وابن جرير . وذهب الجمهور إلى أن الوصية مندوبة وليست بواجبة ، ويجاب عنه بقوله تعالى : كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف ونسخ وجوبها للوالدين والأقربين لا يستلزم نسخ وجوبها في غير ذلك ، ويجاب عنه أيضاً بحديث الباب ، فإنه يفيد الوجوب . قال في المسوى : وعليه أهل العلم . قال محمد : وبهذا نأخذ هذا حسن جميل . قال النووي : قال الشافعي معنى الحديث الجزم والاحتياط وإن المستحب تعجيل الوصية وأن يكتبها في صحته .
ولا تصح ضرار لحديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله وسلم عليه قال : إن الرجل ليعمل أو المرأة بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار ، ثم قرأ أبو هريرة من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله إلى قوله : وذلك الفوز العظيم أخرجه أبو داود والترمذي . وأخرج أحمد وابن ماجة معناه وقالا : فيه سبعين سنة ، وقد حسنه الترمذي ، وفي إسناده شهر بن حوشب وفيه مقال . وقد وثقه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين . وأخرج ابن منصور موقوفاً بإسناد صحيح عن ابن عباس الأضرار في الوصية من الكبائر . وأخرجه النسائي مرفوعاً بإسناد رجاله ثقات . والآية الكريمة مغنية عن غيرها ، ففيها تقييد الوصية المأذون بها بعدم الضرار . وقد روى جماعة من الأئمة الإجماع على بطلان وصية الضرار . والحاصل : أن وصية الضرار ممنوعة بالكتاب والسنة . ومن جملة أنواع الضرار تفضيل بعض الورثة على بعض فإن النبي (ﷺ) سمى ذلك جوراً كما في حديث النعمان بن بشير الصحيح ، ومن جملتها أن تكون لإخراج المال مضارة للورثة . فإن من أوصى بماله ، أو بجزء منه لقربة من القرب مريداً بذلك إحرام الورثة جميع ميراثهم ، أو بعضه فوصيته باطلة لأنه مضار . وظاهر الأدلة أنه لا ينفذ من وصية الضرار شئ سواء كانت بالثلث ، أو بما دونه ، أو بما فوقه . بل هي رد على فاعلها . فتكون أحاديث الإذن بالثلث مقيدة بعد الضرار، وقد جمع الماتن رحمه الله في هذا رسالة مختصرة .
ولا تصح لوارث لحديث عمرو بن خارجة أنه سمع رسول الله (ﷺ) يقول : أن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث أخرجه أحمد وابن ماجة والنسائي والترمذي والدارقطني والبيقهي وصححه الترمذي . وأخرجه أيضاً أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وحسنه من حديث أبي أمامة وفي إسناده إسمعيل بن عياش وهو قوي إذا روي عن الشاميين ، وهذا الحديث من روايته عنهم لأنه رواه عن شرحبيل بن مسلم وهو شامي ثقة ، وقد حسنه الحافظ أيضاً . وأخرجه أيضاً الدارقطني من حديث ابن عباس . قال ابن حجر : رجاله ثقات . ولفظه لا تجوز وصية لوارث إلا أن تشاء الورثة وأخرج الدارقطني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي (ﷺ) قال : لا وصية لوارث إلا أن تجيز الورثة قال في التلخيص : إسناده واه ، وفي الباب عن أنس عند ابن ماجة ، وعن جابر عند الدارقطني ، وعن علي عنده أيضاً ، وقد قال الشافعي : أن هذا المتن متواتر فقال : وجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم لا يختلفون في أن النبي (ﷺ) قال عام الفتح : لا وصية لوراث ويأثرونه عمن حفظوه عنه ممن لقوه من أهل العلم ، فكان نقل كافة عن كافة . فهو أقوى من نقل واحد انتهى . فيكون هذا الحديث مقيداً لقوله تعالى : من بعد وصية يوصى بها وقد ذهب إلى ذلك الجمهور . قال مالك في الموطأ : السنة الثابتة عندنا التي لا اختلاف فيها أنه لا يجوز وصية لوارث إلا أن يجيز له ذلك ورثة الميت . قلت : وعليه أهل العلم .
ولا تصح في معصية لحديث أبي الدرداء عند أحمد والدارقطني عن النبي قال : إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في حسناتكم ليجعلها لكم زيادة في أعمالكم وأخرجه ابن ماجة والبزار والبيهقي من حديث أبي هريرة وفي إسناده ضعف . وأخرجه أيضاً الدارقطني والبيهقي من حديث أبي أمامة وإسناده ضعيف . وأخرجه العقيلي في الضعفاء من حديث أبي بكر الصديق وفيه متروك . وأخرج ابن السكن وابن قانع وأبو نعيم والطبراني من حديث خالد بن عبدالله السلمي وهو مختلف في صحبته . وهي تنتهض بمجموعها وقد دلت على أن الإذن بالوصية بالثلث إنما هو لزيادة الحسنات والوصية في المعصية معصية قد نهى الله عباده عن معاصيه في كتابه وعلى لسان رسوله (ﷺ) فلو لم يرد ما يدل على تقييد الوصية بغير المعصية لكانت الأدلة الدالة على المنع من معصية الله مفيدة للمنع من الوصية في المعصية .
وهي في القرب من الثلث لحديث ابن عباس في الصحيحين وغيرهما قال : لو أن الناس غضوا من الثلث فإن رسول الله (ﷺ) قال : الثلث والثلث كثير ومثله حديث سعد بن أبي وقاص أن النبي (ﷺ) قال له : الثلث والثلث كثير أو كبير لما قال : أتصدق بثلثي مالي قال : لا قال : فالشطر قال : لا قال : فالثلث قال : الثلث والثلث كثير أو كبير لما قال : أتصدق بثلثي مالي قال : لا قال : فالشطر قلا : لا : فالثلث قال : الثلث والثلث كثير أو كبير إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس وهو في الصحيحين وغيرهما . وقد ذهب الجمهور إلى المنع من الزيادة على الثلث ولو لم يكن للموصي وارث . وجوز الزيادة مع عدم الوارث الحنفية واسحق وشريك وأحمد في رواية ، وهو قول علي وابن مسعود واحتجوا بأن الوصية مطلقة في الآية فقيدتها السنة بمن له وارث فبقي من لا وارث له على الاطلاق . وقد أخرج أحمد وأبو داود والنسائي من حديث أبي زيد الأنصاري أن رجلاً أعتق ستة أعبد عند موته ليس له مال غيرهم فأقرع بينهم رسول الله (ﷺ) فأعتق اثنين وأرق أربعة وفي لفظ لأبي داود أنه قال (ﷺ) لو شهدته قبل أن يدفن لم يدفن في مقابر المسلمين وقد أخرج الحديث مسلم وغيره من حديث عمران بن حصين . وفي لفظ لأحمد أنه جاء ورثته من الأعراب فأخبروا رسول الله صلى اله عليه وسلم بما صنع فقال أو فعل ذلك ! لو علمنا إن شاء الله ما صلينا عليه . اعلم أن الثلث المأذون به لكل واحد باعتبار ما يفعله الميت لنفسه من القرب المقربة التي لم تكن قد وجبت عليه بإيجاب الله تعالى ، فما كان من هذا القبيل فهو من الثلث المأذون به ، وأما ما كان قد تقدم له وجوب على الميت ، سواء كان حقاً لله عز وجل كالزكارة والكفارات التي يعتقد الميت وجوبها والحج ، أو حق الآدمي كالديون ، فإنه يجب إخراجه من رأس المال قبل كل شئ . ولا وجه للتفصيل الذي ذكروه بين ما يتعلق بالمال ابتداء ، وما يتعلق به انتهاء ، فإن ذلك لا تأثير له أصلاً . فالحاصل : أن الميت إذا مات وجب إخراج ما قد وجب عليه من حقوق الله وحقوق الآدميين من رأس تركته ، ثم ينظر فيما بقي ، فإن كان الميت قد أوصى بقرب لم يتقدم لها وجوب عليه بل أراد التقرب بها ، وجب إخراجها من ثلث الباقي لأن الله سبحانه قد أذن له أن يتصرف بثلث ماله كيف شاء بشرط عدم الضرار . كتفضيل بعض الورثة على بعض ، أو إخراج المال عنه لا لمقصد ديني بل لمجرد إحرامهم . ثم ينظر في تلك القرب التي جعلها الميت لنفسه عند الموت ، فإن استغرقت ثلث الباقي من دون زيادة ولا نقصان فإنفاذها واجب ، وإن زادت لم ينفذ الزائد إلا بإذن من الورثة ، فإذا أذنوا فقد رضوا على أنفسهم بخروج جزء مما يملكونه سواء كان قليلاً أو كثيراً ، وإن نقصت عن استغراق الثلث كان الفاضل من الثلث للورثة ، فهذا هو الحق الذي لا ينبغي العدول عنه . وأما جعل بعض حقوق الله الواجبة من الثلث وبعضها من رأس المال ، فلا أصل لذلك إلى مجرد خيالات مختلة . ثم اعلم أن الظاهر عندي أنه لا فرق بين حقوق الله الواجبة ، وحقوق الآدميين في مخرجها من التركة ، وأنه لا يجب تقديم حقوق الآدمي على حقوق الله ، بل جميعها مستوية في ذلك لأنها قد اشتركت في وجوبها على الميت ، ولا فرق بين واجب وواجب . ومن زعم أن بعضها أقدم من بعض فعليه الدليل على أنه لو قال قائل : إن حقوق الله أقدم من حقوق بني آدم مستدلاً على ذلك بقوله (ﷺ) فدين الله أحق أن يقضي لم يكن بعيداً من الصواب لولا أن المراد بقوله : يقضي أي يفعله الفاعل كالقريب . يحج عن قريبه ويصوم عنه لا أن المراد أنه يدفع المال ليفعل ذلك فاعل آخر ، فإن ذلك يحتاج إلى دليل يدل على أنه يصح فضلاً عن أنه يجب .
ويجب تقدم قضاء الديون لحديث سعد الأطول عند أحمد وابن ماجه بإسناد رجاله ورجال الصحيح أن أخاه مات وترك ثلاثمائة درهم وترك عيالاً قال : فأردت أن أنفقها على عياله فقال رسول الله (ﷺ) : إن أخاك محتبس بدينه فاقض عنه فقال : يا رسول الله قد أديت عنه إلا دينارين ادعتهما امرأة وليس لها بينة قال فاعطها فإنها محقة وليس في ذلك خلاف ، وقد دل عليه قوله تعالى : من بعد وصية يوصي بها أو دين .
ومن لم يترك ما يقضي دينه قضاه السلطان من بيت المال لحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما أنه (ﷺ) قال في خطبته : من خلف مالاً أو حقاً فلورثته ومن خلف كلاً أو ديناً فكله إلي ودينه علي وأخرج نحوه أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان والدارقطني من حديث جابر . وأخرجه أيضاً البيهقي والدارقطني من حديث أبي سعيد . وأخرجه أيضاً الطبراني من حديث سليمان . وأخرجه ابن حبان في ثقاته من حديث أبي أمامة