وحقيقته التمسك بطبائع الأدوية الحيوانية والنباتية أو المعدنية والتصرف في الأخلاط نقصاً وزيادة والقواعد الملية تصححه إذ ليس فيه شائبة شرك ولا فساد في الدين والدنيا بل فيه نفع كثير وجمع لشمل الناس .
ويجوز التداوي لما أخرجه مسلم وغيره من حديث جابر أن النبي (ﷺ) قال : لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء بريء بإذن الله وأخرج البخاري وغيره من حديث أبي هريرة عن النبي (ﷺ) قال : ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء وأخرج أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي وصححه أيضاً ابن خزيمة والحاكم من حديث أسامة قالت الأعراب يا رسول الله : ألا نتداوى ؟ قال : نعم عباد الله تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء ، إلا داء واحداً قالوا يا رسول الله ما هو ؟ قال : الهرم وأخرج أحمد وابن ماجة والترمذي وحسنه من حديث أبي خزامة قال : قلت يارسول الله : أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئاً ؟ قال : هي من قدر الله قلت : وعلى هذا اتفق المسلمون لا يرون به بأساً .
والتفويض أفضل لمن يقدر على الصبر لحديث ابن عباس في الصحيحين وغيرهما أن النبي (ﷺ) أتته امرأة سوداء فقالت : إني أصرع وإني أنكشف فادع الله لي قال : إن شئت صبرت ولك الجنة . وإن شئت دعوت الله أن يعافيك قالت : أصبر وفي الصحيحين أيضاً من حديثه أن النبي (ﷺ) قال : يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب هم الذي لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون ولا يخالف هذا ما تقدم من الأمر بالتداوي . فالجمع ممكن بأن التفويض أفضل مع الاقتدار على الصبر كما يفيده قوله : إن شئت صبرت وأما مع عدم الصبر على المرض وصدور الحرج والحرد وضيق الصدر من المرض فالتداوي أفضل لأن فضيلة التفويض قد ذهبت بعدم الصبر .
ويحرم بالمحرمات لحديث أبو هريرة أن النبي (ﷺ) نهى عن الدواء الحبيث أخرجه ومسلم وغيره وأخرج أبو داود من حديث أبو داود من حديث أبي الدرداء قال : قال رسول الله (ﷺ) : أن الله أنزل الداء والدواء وجعل لكل داء دواء فتداووا ولا تداووا بحرام وفي إسناده إسمعيل بن عياش . وقد ثبت عنه (ﷺ) النهي عن التداوي بالخمر كما في صحيح مسلم وغيره . وفي البخاري عن ابن مسعود أنه قال : أن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم وقد ذهب إلى تحريم التداوي بالأدوية النجسة والمحرمة الجمهور . ولا يعارض هذا إذنه (ﷺ) بالتداوي بأبوال الإبل كما في الصحيح ، لأنها لم تكن نجسة ولا محرمة ، ولو سلمنا تحريمها لكان الجمع ممكناً ببناء العام على الخاص . قال في المسوى : اختلف أهل العلم في التداوي بالشئ النجس . فأباح كثير منهم التداوي به إلا الخمر . لأن النبي (ﷺ) أباح للرهط العرنيين شرب أبوال الإبل ، وأما الخمر فقال : أنها ليست بدواء ولكنها داء وقال بعضهم : لا يجوز التداوي بالنجس لنهيه (ﷺ) عن الدواء الخبيث ، والمراد به خبث النجاسة . وقال آخرون المراد به الخبيث من جهة الطعم اهـ . وفي الحجة البالغة : إلا المداواة بالخمر إذ للخمر ضراوة لاتنقطع والمداواة بالخبيث أي السم ما أمكن العلاج بغيره فإنه ربما يفضي إلى القتل، والمداواة بالكي ما أمكن بغيره لأن الحرق بالنار أحد الأسباب التي تنفر منها الملائكة اهـ . وقد استوفيت الكلام على هذه المسألة في كتابي دليل الطالب أرحج المطالب .
ويكره الإكتواء لحديث ابن عباس عند البخاري وغيره عن النبي (ﷺ) قال : الشفاء في ثلاثة : في شرطة محجم ، أو شربة عسل ، أو كية بنار ، وأنهي أمتي عن الكي وفي لفظ وما أحب أن أكتوي وأخرج أحمد وأبو داود وابن ماجة الترمذي وصححه من حديث عمران بن حصين أن رسول الله (ﷺ) نهى عن الكي فاكتوينا فما أفلحنا ولا أنجحنا . وقد ورد ما يدل على أن النهي عن الكي للتنزيه لا للتحريم كما في حديث جابر عند مسلم وغيره أن النبي (ﷺ) كوى سعد بن معاذ في أكحله مرتين وأخرج الترمذي وحسنه من حديث أنس أن النبي (ﷺ) كوى سعد بن زرارة من الشوكة ووجه الكراهة أن في ذلك تعذيباً بالنار ولا يجوز أن يعذب بالنار إلا رب النار ، وقد قيل أن وجه الكراهة غير ذلك . وقد جمع بين الأحاديث بمجموعات غير ما ذكرنا .
ولا بأس بالحجامة لحديث جابر في الصحيحين وغيرهما قال : سمعت رسول الله (ﷺ) يقول إن كان في شئ من أدويتكم خير ففي شرطة محجم أو شربة عسل أو لذعة نار توافق الداء وما أحب أن أكتوي وقد تقدم حديث ابن عباس مثله وقد ثبت من حديث أنس عند الترمذي وأبو داود بإسناد صحيح قال : كان النبي (ﷺ) يحتجم في الأخدعين والكاهل وكان يحتجم لسبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين وأخرج أبو داود من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله (ﷺ) : من احتجم لسبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين كان شفاء من كل داء ولا بأس بإسناده . وفي الباب أحاديث متضمنة لذكر الأيام التي ينبغي فيها الحجامة . وليس المراد هنا إلا الإستدلال على جوازها . قلت : وعلى هذا عمل المسلمين .
و لا بأس بالرقية وحقيقتها تمسك بكلمات لها تحقق في المثال وأثر القواعد الملية لا تدفعها ما لم يكن فيها شرك ولا سيما إذا كان من القرآن أو السنة أو ما يشبهما من التضرعات إلى الله تعالى ، وكل حديث فيه نهي عن الرقي والتمائم والتولة فمحمول على ما فيه شرك أو انهماك في التسبب بحيث يغفل عن الباري جل شأنه وفي المسوى اختلفت الأحاديث في الإسترقاء ، ووجه الجمع أن تحمل على الأحوال المتغايرة فالمنهي من الرقي ما كان فيه شرك ، أو كان يذكر فيه مردة الشياطين ، أو ما كان منها بغير لسان العرب ولا يدري ما هو ولعله يدخل فيه سحر أو كفر ، وأما ما كان بالقرآن وبذكر الله تعالى فإنه مستحب . ثم للرقية أنواع بعضها مأثور عن السلف ، فقد روي عن عائشة أنها كانت لا ترى بأساً أن يعوذ في الماء أي يقرأ التعوذ وينفث في الماء ثم يعالج به المريض . وقال مجاهد : لا بأس أن يكتب القرآن ويغسله ويسقيه المريض . وأمر ابن عباس رجلاً أن يكتب لإمرأة تعسر عليها الولادة آيتين من القرآن وكلمات ثم يغسل وتسقى . وسئل سعيد بن المسيب عن الصحف الصغار يكتب فيها القرآن تعلق على النساء والصبيان فقال : لا بأس بذلك إذا جعل في كبر من ورق أو شئ من الأديم أو يخرز عليه . وقد روي النفث في الأحاديث المرفوعة .
بما يجوز من العين وغيرها لحديث أنس عند مسلم وغيره قال رخص رسول الله (ﷺ) في الرقية من العين والحمة والنملة والمراد بالحمة السم من ذوات السموم ، وبالنملة القروح تخرج من الجنب . وأخرج مسلم وغيره من حديث عوف بن مالك قال : كنا نرقي في الجاهلية فقلنا يارسول الله كيف ترى في ذلك فقال : اعرضوا علي رقاكم لا بأس بالرقي ما لم يكن فيه شرك وفي صحيح مسلم من حديث جابر قال : نهى (ﷺ) عن الرقي فجاء آل عمرو بن حزم إلى رسول الله (ﷺ) فقالوا يارسول الله : إنه كانت عندنا رقية نرقي بها من العقرب وأنك نهيت عن الرقي قال : فعرضوها عليه . فقال : ما أرى بأساً فمن إستطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه وفي الصحيحين من حديث عائشة قالت : كان رسول الله (ﷺ) إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوذات فلما مرض مرضه الذي مات فيه جعلت أنفث عليه وأمسحه بيد نفسه لأنها أعظم بركة من يدي وما ورد من الأدلة الدالة على النهي عن الرقي وأنها من الشرك فهي محمولة على الرقية بما لا يجوز ، كالتي تكون بأسماء الشياطين والطواغيث ونحو ذلك . وكذلك يحمل على هذا ما ورد في حديث المغيرة بن شعبة عند أحمد وابن ماجة وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم عن النبي (ﷺ) أنه قال : من اكتوى أو استرقى فقد برىء من التوكل وقد ورد في الصحيحين من حديث عائشة قالت : كان رسول الله (ﷺ) يأمرني أن أسترقي من العين وأخرج أحمد والنسائي والترمذي وصححه من حديث أسماء بنت عميس أنها قالت : يا رسول الله إن بني جعفر تصيبهم العين أفنسترقي لهم ؟ قال : نعم ، فلو كان شئ سابق القدر سبقته العين وأخرج نحوه مسلم وغيره من حديث ابن عباس . وفي الباب أحاديث ، وفيها ذكر إستغسال من العين أي غسل وجه العائن وبدنه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخل إزاره في قدح ثم يصب الماء على من أصيب بالعين على رأسه وظهره من خلفه أخرج ذلك أحمد ومالك في الموطأ والنسائي وصححه ابن حبان . قال الزهري : يؤتي الرجل العائن بقدح فيدخل كفه فيه فيمضمض ثم يمجه في القدح ، ثم يغسل وجهه في القدح ، ثم يدخل يده اليسرى فيصب على كفه اليمنى في القدح ، ثم يدخل يده اليمنى فيصب على يده اليسرى ، ثم يدخل اليسرى فيصب على مرفقه الأيمن ، ثم يدخل يده اليمنى فيصب على مرفقه الأيسر ، ثم يدخل يده اليسرى فيصب على قدمه اليمنى ، ثم يدخل يده اليمنى فيصب على قدمه اليسرى ثم يدخل يده اليسرى فيصب على ركبة اليمنى ، ثم يدخل يده اليمنى فيصب على ركبة اليسرى ، ثم يدخل داخلة إزاره ولا يوضع القدح في الأرض ، ثم يصب على رأس الرجل الذي أصيب بالعين من خلفه صبة واحدة