→ كتاب المواريث | الروضة الندية شرح الدرر البهية كتاب الجهاد والسير صديق حسن خان القنوجي |
صفحة صديق حسن خان القنوجي ← |
☰ جدول المحتويات
كتاب الجهاد والسير
فضل الجهاد
"الجهاد" قد ورد في فضله والترغيب فيه من الكتاب والسنة ما هو معروف وقد أفرد ذلك بالتأليف جماعة من أهل العلم وحررت فيه كتاب العبرة بما جاء في الغزو والشهادة والهجرة وهو أجمع ما جمع في ذلك في هذا القطر والعصر وقد أمر الله بالجهاد بالأنفس والأموال وأوجب على عباده أن ينفروا إليه وحرم عليهم التثاقل عنه وصح عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه قال: "لغدوة [1] أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها " وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس وثبت عنه ﷺ أنه قال: "إن الجنة تحت ظلال السيوف" كما في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي موسى وابن أبي أوفى
وثبت في صحيح البخاري وغيره أن النبي ﷺ قال: "من أغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار" وثبت عنه ﷺ قال: "رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها" كما في الصحيحين من حديث سهل بن سعد
وأخرج أهل السنن وصححه الترمذي من حديث معاذ بن جبل "أن النبي ﷺ قال " من قاتل في سبيل الله [2] فواق ناقة وجبت له الجنة" فناهيك بعمل يوجب الله لصاحبه الجنة ويحرمه على النار ويكون مجرد الغدو إليه أو الرواح منه خيرا من الدنيا وما فيها "فرض كفاية" لما أخرجه أبو داود عن ابن عباس قال: "{إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} و {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ} إلى قوله {يَعْمَلُونَ} نسختها الآية التي تليها {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ} وقد حسنه ابن حجر
قال الطبري يجوز أن يكون {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} خاصا والمراد به من استنفره النبي ﷺ فامتنع قال ابن حجر: والذي يظهر لي أنها مخصوصة وليست بمنسوخة وقد وافق ابن عباس على دعوى النسخ عكرمة والحسن البصري كما روى ذلك الطبري عنهما
ومن الأدلة الدالة على أنه فرض كفاية أنه كان ﷺ يغزو تارة بنفسه وتارة يرسل غيره ويكتفي ببعض المسلمين وقد كانت سراياه وبعوثه متعاقبة والمسلمون بعضهم في الغزو وبعضهم في أهله وإلى كونه فرض كفاية ذهب الجمهور وقال الماوردي إنه كان فرض عين على المهاجرين دون غيرهم
وقال السهيلي كان عينا على الأنصار وقال ابن المسيب: أنه فرض عين وقال قوم إنه كان فرض عين في زمن الصحابة أقول: الأدلة الواردة في فرضية الجهاد كتابا وسنة أكثر من أن تكتب ههنا ولكن لا يجب ذلك إلا على الكفاية فإذا قام به البعض سقط عن الباقين وقبل أن يقوم به البعض هو فرض عين على كل مكلف وهكذا يجب على من استنفره الإمام أن ينفر ويتعين ذلك عليه ولهذا توعد الله سبحانه من لم ينفر مع رسول الله ﷺ ويدل على عدم وجوب الجهاد على الجميع قوله عز وجل: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} فتحمل هذه الآية على أنه قد قام بالجهاد من المسلمين من يكفي وأن الإمام لم يستنفر غير من قد خرج للجهاد
وبهذا تعرف أن الجمع بين هذه الآيات ممكن فلا يصار إلى القول بالترجيح أو النسخ وأما غزو الكفار ومناجزة أهل الكفر وحملهم على الإسلام أو تسليم الجزية أو القتل فهو معلوم من الضرورة الدينية ولأجله بعث الله تعالى رسله وأنزل كتبه وما زال رسول الله ﷺ منذ بعثه الله سبحانه إلى أن قبضه إليه جاعلا هذا الأمر من أعظم مقاصده ومن أهم شؤنه وأدلة الكتاب والسنة في هذا لا يتسع لها المقام ولا لبعضها وما ورد في موادعتهم أو في تركهم إذا تركوا المقاتلة فذلك منسوخ باتفاق المسلمين بما ورد من ايجاب المقاتلة لهم على كل حال مع ظهور القدرة عليهم والتمكن من حربهم وقصدهم إلى ديارهم وأما غزو البغاة إلى ديارهم فإن كان ضررهم يتعدى إلى أحد من أهل الإسلام إذا ترك المسلمون غزوهم إلى ديارهم فذلك واجب دفعا لضررهم وإن كان ضررهم لا يتعدى فقد أخلوا بواجب الطاعة للإمام والدخول فيما دخل فيه سائر المسلمين ولا شك أن لك معصية عظيمة لكن إذا كانوا مع هذا مسلمين للواجبات غير ممتنعين من تأدية ما يجب تأديته عليهم تركوا وشأنهم مع تكرير الموعظة لهم وإقامة الحجة عليهم وأما إذا امتنعوا من ذلك فقد تظاهروا بالبغي وجاهروا بالمعصية وقد قال الله عز وجل: {إِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}
وقد أجمع الصحابة على العزيمة التي عزمها أبو بكر الصديق رضي الله عنه من المقاتلة لمن فرق بين الصلاة والزكاة وسيأتي الكلام على صفة مقاتلة البغاة في الفصل الذي عقده الماتن لذلك "مع كل بر وفاجر" لأن الأدلة الدالة على وجوب الجهاد من الكتاب والسنة وعلى فضيلته والترغيب فيه وردت غير مقيدة بكون السلطان أو أمير الجيش عادلا بل هذه فريضة من فرائض الدين أوجبها الله تعالى على عباده المسلمين من غير تقييد بزمن أو مكان أو شخص أو عدل أو جور فتخصيص وجوب الجهاد بكون السلطان عادلا ليس عليه أثارة من علم وقد يبلي الرجل الفاجر في الجهاد ما لا يبليه البار العادل وقد وجد بهذا الشرع كما هو معروف وأخرج أحمد في المسند من رواية ابنه عبد الله [3] وأبو داود وسعيد بن منصور من حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "ثلاث من أصل الإيمان: الكف عمن قال لا إله إلا الله لا تكفره بذنب ولا تخرجه عن الإسلام بعمل والجهاد ماض مذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل"
ولا يعتبر في الجهاد إلا أن يقصد المجاهد بجهاده أن تكون كلمة الله هي العليا كما ثبت في حديث أبي موسى في الصحيحين وغيرهما قال: "سئل رسول الله ﷺ عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية يقاتل رياء فأي ذلك في سبيل الله فقال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" "إذا أذن الأبوان" لحديث عبد الله بن عمرو قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فاستأذنه في الجهاد فقال: "أحي والدك ؟ قال نعم قال: ففيهما فجاهد"
وفي رواية لأحمد وأبي داود وابن ماجة "قال يا رسول الله إني جئت أريد الجهاد معك ولقد أتيت وإن والدي يبكيان قال: "فارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما" وقد أخرج هذا الحديث مسلم من وجه آخر وأخرج أبو داود من حديث أبي سعيد "أن رجلا هاجر إلى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من اليمن فقال: "هل لك أحد باليمن؟" فقال أبواي فقال: "أذنا لك؟" فقال: لا فقال: "ارجع إليهما واستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما" وصححه ابن حبان وأخرج أحمد والنسائي والبيهقي من حديث معاوية بن جاهمة السلمي "أن جاهمة أتى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فقال يا رسول الله أردت الغرو وجئتك أستشيرك فقال: "هل لك من أم" قال نعم فقال: "الزمها فإن الجنة عند رجليها" وقد اختلف في إسناده اختلافا كثيرا وقد ذهب الجمهور إلى أنه يجب استئذان الأبوين في الجهاد ويحرم إذا لم يأذنا أو أحدهما لأن برهما فرض عين والجهاد فرض كفاية قالوا: وإذا تعين الجهاد فلا إذن ويدل على ذلك ما أخرجه ابن حبان من حديث عبد الله بن عمر قال: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فسأله عن أفضل الأعمال قال: "الصلاة" قال ثم مه قال: "الجهاد" قال فإن لي والدين قال: "آمرك بوالديك خيرا" فقال: والذي بعثك نبيا لأجاهدن ولأتركنهما قال: "فأنت أعلم" قالوا: وهو محمول على جهاد فرض العين أي حيث يتعين على من له أبوان أو إحداهما توفيقا بين الحديثين [4]
وهو مع إخلاص النية يكفر الخطايا إلا الدين" لحديث أبي قتادة عند مسلم وغيره "أن رجلا قال: يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله يكفر عني خطاياي ؟ فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "نعم وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر إلا الدين فإن جبرائيل عليه السلام قال لي ذلك" وأخرج مثله أحمد والنسائي من حديث أبي هريرة وأخرج مسلم وغيره من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال : "يغفر الله للشهيد كل ذنب إلا الدين فإن جبرائيل عليه السلام قال لي ذلك" وأخرج الترمذي وحسنه من حديث أنس نحوه "ويلحق به" أي بالدين كل "حقوق الآدميين" من غير فرق بين دم أو عرض أو مال إذ لا فرق بينها "ولا يستعان فيه" أي في الجهاد "بالمشركين إلا لضرورة" لقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لمن أراد الجهاد معه من المشركين: "ارجع فلن أستعين بمشرك" فلما أسلم استعان به وهو في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة وأخرج أحمد والشافعي والبيهقي والطبراني نحوه من حديث حبيب بن عبد الرحمن عن أبيه عن جده ورجال إسناده ثقات وأخرج أحمد والنسائي من حديث أنس قال: قال رسول الله ﷺ : "لا تستضيئوا بنار المشركين" وفي إسناده أزهر بن راشد وهو ضعيف وبقية إسناده ثقات
وقد أخرج الشافعي من حديث ابن عباس "أن النبي ﷺ استعان بناس من اليهود يوم خيبر" وأخرجه أبو داود في مراسيله من حديث الزهري وأخرجه أيضا الترمذي مرسلا وقد أخرج أحمد وأبو داود وابن ماجة من حديث ذي مخبر [5] قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "ستصالحون الروم صلحا وتغزون أنتم وهم عدوا من ورائكم" وقد ذهب جماعة من العلماء إلى عدم جواز الإستعانة بالمشركين وذهب آخرون إلى جوازها وقد استعان النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بالمنافقين في يوم أحد وانخزل [6] عنه عبد الله بن أبي بأصحابه وكذلك استعان بجماعة منهم في يوم حنين وقد ثبت في السير أن رجلا يقال له قزمان خرج مع النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يوم أحد وهو مشرك فقتل ثلاثة من بني عبد الدار حملة لواء المشركين حتى قال ﷺ : "أن الله ليأزر [7] هذا الدين بالرجل الفاجر" وخرجت خزاعة مع النبي ﷺ على قريش عام الفتح وهم مشركون فيجمع بين الأحاديث بأن الإستعانة بالمشركين لا تجوز إلا لضرورة لا إذا لم تكن ثم ضرورة
وتجب على الجيش طاعة أميرهم إلا في معصية الله" لحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما أن النبي ﷺ قال : "من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني" وعن ابن عباس في قوله تعالي: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} قال: "نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي بعثه رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في سرية" أخرجه أحمد وأبو داود وهو في الصحيحين وفيهما أيضا من حديث على قال: "بعث رسول الله ﷺ سرية واستعمل عليهم رجلا من الأنصار وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا فعصوه في شئ فقال: اجمعوا لي حطبا فجمعوا ثم قال: أوقدوا نارا فأوقدوا ثم قال ألم يأمركم رسول الله ﷺ أن تسمعوا وتطيعوا فقالوا: بلى قال: فادخلوها فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: إنما فررنا إلى رسول الله ﷺ من النار فكانوا كذلك حتى سكن غضبه وطفئت النار فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله ﷺ فقال: "لو دخلوها لم يخرجوا منها أبدا" وقال: "لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف"
والأحاديث في هذا الباب كثيرة وفيها التصريح بأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وإنما تجب طاعة الأمراء ما لم يأمروا بمعصية الله "وعليه" أي على الأمير "مشاورتهم والرفق بهم وكفهم عن الحرام" لدخول ذلك تحت قوله {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} وقد كان رسول الله ﷺ يشاور الغزاة معه في كل ما ينو به ووقع منه ذلك في غير موطن وأخرج مسلم وغيره من حديث أنس "أن النبي ﷺ شاور أصحابه حين بلغه إقبال أبي سفيان" والقصة مشهورة وأجاب عليه سعد بن عبادة بقوله: "والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها
وأخرج أحمد والشافعي من حديث أبي هريرة قال: "ما رأيت أحدا قط كان أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله ﷺ وأخرج مسلم وغيره من حديث عائشة قالت: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "اللهم من ولي من أمر أمتى شيئا فرفق بهم فارفق به"
وأخرج مسلم أيضا من حديث معقل بن يسار عن النبي ﷺ قال: "ما من أمير يلي أمور المسلمين ثم لا يجتهد لهم ولا ينصح لهم إلا لم يدخل الجنة" وأخرج أبو داود من حديث جابر قال: "كان رسول الله ﷺ يتخلف في المسير فيرجي الضعيف ويردف ويدعو لهم"
وأخرج أحمد وأبو داود من حديث سهل بن معاذ عن أبيه قال "غزونا مع رسول الله ﷺ غزوة كذا وكذا فضيق الناس الطريق فبعث رسول الله ﷺ فنادى من ضيق منزلا أو قطع طريقا فلا جهاد له" وفي إسناده إسمعيل بن عياش وسهل بن معاذ ضعيف وقد جاءت الأدلة المفيدة للقطع بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأحق الناس بذلك الأمير "ويشرع للإمام إذا أراد غزوا أن يوري بغير ما يريده" لحديث كعب بن مالك عن النبي ﷺ "أنه كان إذا أراد غزوة ورى بغيرها" وهو في الصحيحين وغيرهما "و" يشرع له أن "يذكي العيون ويستطلع الأخبار" لحديث جابر في الصحيحين وغيرهما "أن النبي ﷺ قال يوم الأحزاب: "من يأتيني بخبر القوم قال الزبير أنا" الحديث وثبت في صحيح مسلم وغيره "أن النبي ﷺ بعث عينا ينظر عير أبي سفيان
"وثبت" أنه بعث من يأتيه بمقدار جيش المشركين يوم بدر وغيره" وكان يأمر من يستطلع أخبار العدو ويقف في المواضع التي بينه وبينهم وذلك مدون في الكتب الموضوعة في السيرة والغزوات "و" يشرع له أن "يرتب الجيوش ويتخذ الرايات والألوية" وقد وقع منه ﷺ من ترتيب جيوشه عند ملاقاته للعدو ما هو مشهور وكان يأمر بعضا يقف في هذا المكان وآخرين في المكان الآخر وقال للرماة يوم أحد أنهم يقفون حيث عينه لهم ولا يفارقوا ذلك المكان ولو تخطفه هو ومن معه الطير وقد كانت له رايات كما في حديث ابن عباس عند الترمذي وأبي داود قال: "كانت راية رسول الله ﷺ سوداء ولواؤه أبيض"
وأخرج أبو داود من حديث سماك بن حرب عن رجل من قومه عن آخر منهم قال: "رأيت راية رسول الله ﷺ صفراء" وفي إسناده مجهول وأخرج أهل السنن والحاكم وابن حبان من حديث جابر "أن النبي ﷺ دخل مكة ولواؤه أبيض" وفي حديث الحرث بن حسان "أنه رأى في مسجد رسول الله ﷺ رايات سودا" أخرجه الترمذي وابن ماجة ورجاله رجال الصحيح
وفي الباب أحاديث "وتجب الدعوة قبل القتال إلى إحدى ثلاث خصال إما الإسلام أو الجزية أو السيف" لحديث سليمان بن بريدة عن أبيه عند مسلم وغيره قال: "كان رسول الله ﷺ إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال: "أغزوا بسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله أغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم أدعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم الذي يجري على المسلمين ولا يكون لهم في الفئ والغنيمة شئ إلا أن يجاهدوا مع المسلمين فإن هم أبوا فاسألهم الجزية فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم وإن أبوا فاستعن بالله عليهم وقاتلهم" الحديث
وفي الباب أحاديث وقد ذهب الجمهور إلى وجوب الدعوة لمن لم تبغلهم الدعوة ولا تجب لمن قد بلغتهم وذهب قوم إلى الوجوب مطلقا وقوم إلى عدم الوجوب مطلقا "ويحرم قتل النساء والأطفال والشيوخ إلا" أن يقاتلوا فيدفعوا بالقتل "لضرورة" لحديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما قال: "وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي النبي ﷺ فنهى رسول الله ﷺ عن قتل النساء والصبيان"
وأخرج أبو داود من حديث أنس "أن رسول الله قال: "لا تقتلوا شيخا فانيا ولا صغيرا ولا امرأة" وفي إسناده خالد بن الفرز [8] وفيه مقال وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن حبان والحاكم والبيهقي من حديث رباح [9] بن ربيع أنه قال ﷺ : "لا تقتلوا ذرية ولا عسيفا" والعسيف الأجير وأخرج أحمد من حديث ابن عباس "أن النبي ﷺ قال: "لا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع" وفي إسناده إبراهيم بن إسمعيل بن أبي حبيبة وهو ضعيف وقد وثقه أحمد وأخرج أحمد أيضا والإسماعيلي في مستخرجه من حديث كعب [10] بن مالك عن عمه "أن النبي ﷺ حين بعث إلى ابن أبي الحقيق بخيبر نهى عن قتل النساء والصبيان" ورجاله رجال الصحيح وأخرج أحمد والترمذي وصححه من حديث سمرة مرفوعا بلفظ "اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم [11] "
وقد قيل: إنه وقع الإتفاق على المنع عن قتل النساء والصبيان إلا إذا كان ذلك لضرورة كأن يتترس بهم لمقاتلة أو يقاتلون وقد أخرج أبو داود في المراسيل عن عكرمة "أن النبي ﷺ مر بامرأة مقتولة يوم حنين فقال: "من قتل هذه ؟ فقال رجل: أنا يا رسول الله غنمتها وإردفتها خلفي فلما رأت الهزيمة فينا أهوت إلى قائم سيفي لتقتلني فقتلتها" فلم ينكر عليه رسول الله ﷺ " ووصله الطبراني في الكبير قلت: قال الشافعي: النهي عن قتل نسائهم وصبيانهم إنما هو في حال التميز والتفرد وأما البيات فيجوز وإن كان فيه إصابة ذراريهم ونسائهم "والمثلة" لما تقدم قريبا في حديث سليمان بن بريدة عن أبيه عن جده وفيه "ولا تمثلوا "
وأخرج نحو ذلك أحمد وابن ماجة من حديث صفوان بن عسال وأحاديث النهي عن المثلة كثيرة "والإحراق بالنار" لحديث أبي هريرة عند البخاري وغيره قال:"بعثنا رسول الله ﷺ في بعث فقال: "إن وجدتم فلانا وفلانا لرجلين فاحرقوهما بالنار" ثم قال حين أردنا الخروج: " إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا وإن النار لا يعذب بها إلا الله فإن وجدتوهما فاقتلوهما" وأما تحريق الشجر والأصنام والمتاع فقد ثبت الإذن بذلك عن الشارع إذا كان فيه مصلحة "و" يحرم "الفرار من الزحف إلا إلى فئة" وقد نطق بذلك القرآن الكريم قال الله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ}
وثبت في الصحيحين وغيرهما أن الفرار من الزحف هو من السبع الموبقات ولا خلاف في ذلك وفي الجملة وإن اختلفوا في مسوغات الفرار وقد جوز الله تعالى الفرار إلى الفئة وأما التحرف للقتال فهو وإن كان فيه تولية الدبر لكنه ليس بفرار على الحقيقة قال في المسوى: قوله {إلَّا مُتَحَرِّفاً} هو أن ينصرف من ضيق إلى سعة أو من سفل إلى علو أو من مكان منكشف إلى مستتر ونحو ذلك مما هو أمكن له في القتال قوله: {أوْ مُتَحَيِّزاً} أي يصير إلى حيز فئة من المسلمين يستنجدهم ويقاتل معهم وبالجملة يجب ثبات المسلمين يوم الزحف في مقابلة زحفهم من الكفار والفرار حينئذ كبيرة "ويجوز تبييت الكفار" لحديث الصعب ابن جثامة في الصحيحين وغيرهما "أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم سئل عن أهل الدار من المشركين يبيتون فيصاب من نسائهم وذراريهم ثم قال: "هم منهم"
وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة من حديث سلمة بن الأكوع قال: بيتنا هوازن مع أبي بكر الصديق وكان أمره علينا رسول الله ﷺ والبيات هو الغارة بالليل قال الترمذي: وقد رخص قوم من أهل العلم في الغارة بالليل وأن يبيتوا وكرهه بعضهم قال أحمد وإسحق: لا بأس به أن يبيت العدو ليلا "والكذب في الحرب" لما ثبت عند مسلم وغيره من حديث جابر "أن رسول الله ﷺ لما بعث محمد بن مسلمة لقتل كعب بن الأشرف قال يا رسول الله: فأذن لي فأقول قال: " قد فعلت" يعني يأذن له بأن يخدعه بمقال ولو كان كذبا كما وقع منه في هذه القصة وهي أيضا في البخاري وأخرج مسلم من حديث أم كلثوم بنت عقبة قالت: لم أسمع النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يرخص في شيء من الكذب مما يقول الناس إلا في الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها. وهذا الكذب المذكور هنا هو التعريض والتلويج بوجه من الوجوه ليخرج عن الكذب الصراح كما قاله جماعة من أهل العلم "والخداع" في الحرب لما في الصحيحين من حديث جابر قال: قال رسول الله ﷺ : "الحرب خدعة [12] " وفيهما من حديث "أبي هريرة قال: سمي النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم الحرب خدعة"
قال النووي: واتفقوا على جواز خداع الكفار في الحرب كيفما أمكن إلا أن يكون فيه نقض عهد.
فصل وما غنمه الجيش كان لهم أربعة أخماسه وخمسه يصرفه الإمام في مصارفه
لقوله تعالي: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} قلت: اتفق أهل العلم على أن الغنيمة تخمس فالخمس للأصناف التي ذكرت في القرآن وأربعة أخماسها للغانمين وقوله تعالي: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} ذهب عامة أهل العلم إلى أن ذكر الله تعالى للتبرك به وإضافة هذا المال إليه لشرفه ثم بعد ما أضاف جميع الخمس إلى نفسه بين مصارفها واختلفوا في سهم ذوي القربى
قال أبو حنيفة: إنما يعطون لفقرهم وقال الشافعي: لقرابتهم مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كالميراث غير أنه أعطى القريب والبعيد من ذوي القربى ولا يفضل عنده فقير على غني ويعطي الرجل سهمين والمرأة سهما ومن ذلك ما ورد في القرآن في الفئ والغنيمة وأخرج أبو داود والنسائي من حديث عمرو بن عبسة قال: "صلى بنا رسول الله ﷺ إلى بعير من المغنم فلما سلم أخذ وبرة من جنب البعير ثم قال: "ولا يحل لي من غنائمكم مثل هذا إلا الخمس والخمس مردود فيكم "
وأخرج نحوه أحمد والنسائي وابن ماجه من حديث عبادة بن الصامت وحسنه ابن حجر وأخرج نحوه أيضا أحمد وأبو داود والنسائي ومالك والشافعي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وحسنه أيضا ابن حجر
وروى نحو ذلك أيضا من حديث جبير بن مطعم والعرباض بن سارية "ويأخذ الفارس من الغنيمة ثلاثة أسهم والراجل سهما" لما ورد في ذلك من الأحاديث منها حديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما وله ألفاظ فيها التصريح بأن النبي ﷺ "أسهم للفارس وفرسه ثلاثة أسهم وللراجل سهما"
وفيهما معنى ذلك من حديث أنس ومن حديث عروة البارقي ومنها حديث الزبير بنحو ذلك عند أحمد ورجاله رجال الصحيح وحديث أبي رهم عند الدارقطني وأبي يعلى والطبراني وحديث أبي هريرة عند الترمذي والنسائي وحديث جرير عند مسلم وغيره وحديث عتبة بن عبد عند أبي داود وحديث جابر وأسماء بنت يزيد عند أحمد وفي الباب أحاديث وقد ذهب إلى ذلك الجمهور وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الفارس يأخذ له ولفرسه سهمين والراجل سهما وتمسكوا بحديث مجمع بن جارية عند أحمد وأبي داود وقال: "قسمت خيبر على أهل الحديبية فقسمها رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على ثمانية عشر سهما وكان الجيش ألفا وخمسمائة فيهم ثلثمائة فارس فأعطى الفارس سهمين والراجل سهما" وهذا الحديث في إسناده ضعف وقال أبو داود أن فيه وهما وأنه قال ثلثمائة فارس وأنهم كانوا مائتين "ويستوي في ذلك القوي والضعيف ومن قاتل ومن لم يقاتل" لحديث ابن عباس عند أبي داود والحاكم وصححه أبو الفتح في الإقتراح على شرط البخاري "أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قسم غنائم بدر بالسوي بعد وقوع الخصام بين من قاتل ومن لم يقاتل "ونزول قوله تعالي: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ}
وأخرج نحوه أحمد برجال الصحيح من حديث عبادة بن الصامت وأخرج أحمد من حديث سعد بن مالك قال: "قلت يا رسول الله: الرجل يكون حامية القوم ويكون سهمه وسهم غيره سواء قال "ثكلتك أمك ابن أم سعد وهل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم " وأخرجه البخاري أيضا والنسائي عن مصعب بن سعد قال: "رأى سعد أن له فضلا على من دونه فقال النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: " هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم "
وأخرج نحوه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه قال في الحجة البالغة: ومن بعثه الأمير لمصلحة الجيش كالبريد والطليعة والجاسوس يسهم له وإن لم يحضر الواقعة كما كان لعثمان يوم بدر "ويجوز تنفيل بعض الجيش" لما اخرجه مسلم وغيره "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أعطى سلمة بن الأكوع سهم الفارس وسهم الراجل جمعهما له "
وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وعزاه المنذري في مختصر السنن إلى مسلم "أن النبي صلى الله تعالى عليه آله وسلم نفل سعد بن أبي وقاص يوم بدر سيفا" وقد ذهب إلى ذلك الجمهور وحكى بعض أهل العلم الإجماع عليه واختلف العلماء هل هو من أصل الغنيمة أو من الخمس وقد ورد في تنفيل السرية حديث حبيب بن مسلمة عند أحمد وأبي داود وابن ماجه وصححه ابن الجارود وابن حبان والحاكم "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم نفل الربع بعد الخمس في بدأته الثلث بعد الخمس في رجعته "
وأخرج نحوه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه ابن حبان من حديث عبادة بن الصامت وأخرج أحمد وأبو داود وصححه الطحاوي من حديث معن بن يزيد قال: "سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول: " لا نفل إلا بعد الخمس" وفي الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان ينفل بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصه سوى قسم عامة الجيش والخمس في ذلك كله "وفيهما "أنه نفل بعض السرايا بعيرا بعيرا "وفي الباب أحاديث قال في الحجة البالغة: وعندي إن رأي الإمام أن يزيد لركبان الإبل أو للرماة شيئا أو يفضل العراب على البراذين لشئ دون السهم فله ذلك بعد أن يشاور أهل الرأي ويكون أمرا لا يختلف عليه لأجله وبه يجمع اختلاف سير النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأصحابه في الباب "وللإمام الصفي وسهمه كأحد الجيش" لحديث يزيد بن عبد الله بن الشخير عند أبي داود والنسائي وسكت عنه أبو داود والمنذري قال: "كنا بالمربد [13] إذ دخل رجل معه قطعة أديم فقرأناها فإذا فيها من محمد رسول الله إلى بني زهير بن أقيش [14] أنكم إن شهدتم أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وأديتم الخمس من المغنم وسهم النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وسهم الصفي فأنتم آمنون بأمان لله ورسوله فقلنا: من كتب لك هذا ؟ قال رسول الله ﷺ " قال المنذري: ورواه بعضهم عن يزيد بن عبد الله وسمي الرجل النمر بن تولب وأخرج أبو داود عن الشعبي مرسلا قال: "كان للنبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم سهم يدعى الصفي إن شاء عبدا وإن شاء أمة وإن شاء فرسا يختاره قبل الخمس" وأخرج أبو داود أيضا من حديث ابن عون مرسلا نحوه
وأخرج أحمد والترمذي وحسنه من حديث ابن عباس "أن النبي ﷺ تنفل سيفه ذا الفقار يوم بدر" وأخرج أبو داود من حديث عائشة قالت: "كانت صفية من الصفي" وأخرج أبو داود أيضا من حديث أنس نحوه ويعارضه ما في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس أيضا قال: "صارت صفية لدحية الكلبي ثم صارت لرسول الله ﷺ " وفي رواية أنه اشتراها منه بسبعة أروس "ويرضخ من الغنيمة لمن حضر" لحديث ابن عباس عند مسلم وغيره "أنه سأله سائل عن المرأة والعبد هل كان لهما سهم معلوم إذا حضر الناس فأجاب أنه لم يكن لهما سهم معلوم إلا أن يحذيا [15] من غنائم القوم "وفي لفظ "أن النبي ﷺ كان يغزو بالنساء فيدواين الجرحى ويحذين من الغنيمة وأما يسهم [16] فلم يضرب لهن"
وأخرج أبو داود وابن ماجه والترمذي وصححه من حديث عمير مولى أبي اللحم "أنه شهد خيبر مع مواليه فأمر له ﷺ بشئ من خرثي [17] المتاع"
وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي من حديث حشرج بن زياد عن جدته أم أبيه "أنها خرجت مع النبي ﷺ غزوة خيبر سادسة ست نسوه فبلغ رسول الله ﷺ فبعث إلينا فجئنا فرأينا فيه الغضب فقال: مع من خرجتن وبإذن من خرجتن فقلنا يا رسول الله: خرجنا نغزل الشعر ونعين في سبيل الله ومعنا دواء للجرحى ونناول السهم ونسقي السويق فقال قمن فانصرفن [18] حتى إذا فتح الله عليه خيبر أسهم لنا كما أسهم للرجال قال: فقلت لها يا جدة وما كان ذلك ؟ قالت: تمرا" وفي إسناده رجل مجهول وهو حشرج وقال الخطابي إسناده ضعيف لا تقوم به الحجة
وأخرج الترمذي عن الأوزاعي مرسلا قال: "أسهم النبي ﷺ للصبيان بخيبر" وحديث حشرج كما عرفت ضعيف وهذا مرسل فلا ينتهضان لمعارضة ما تقدم وحمل الإسهام هنا على الرضخ جمعا بين الأحاديث وقد اختلف أهل العلم في ذلك فذهب الجمهور إلى أنه لا يسهم للنساء والصبيان بل يرضخ لهم فقط إن رأى الإمام ذلك "ويؤثر المؤلفين إن رأى في ذلك صلاحا" لحديث أنس في البخاري وغيره "أن النبي ﷺ قسم الغنائم في أشراف قريش تأليفا لهم وترك الأنصار والمهاجرين"
وهكذا ثبت في الصحيح من حديث ابن مسعود وغيره" أن النبي ﷺ أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وأعطى عيينة مثل ذلك وأعطى أناسا من أشراف العرب" والقصة مشهورة مذكورة في كتب السير بطولها والمراد بأشراف قريش أكابر مسلمة الفتح كأبي سفيان بن حرب وسهل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى وحكيم بن حزام وصفوان بن أمية "وإذا رجع ما أخذه الكفار من المسلمين كان لمالكه" لحديث عمران بن حصين عند مسلم وغيره "أن العضباء ناقة رسول الله ﷺ أصيبت فركبتها امرأة من المسلمين ورجعت إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وقد كانت نذرت أن تنحرها إن نجاها الله عليها فقال النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك العبد"
وأخرج البخاري وغيره عن ابن عمر "أنه ذهب فرس له فأخذه العدو فظهر عليهم المسلمون فرد عليه في زمن رسول الله ﷺ وأبق عبد له فلحق بأرض الروم وظهر عليه المسلمون فرده عليه خالد بن الوليد بعد النبي ﷺ " وفي رواية لأبي داود "أن غلاما لابن عمر أبق إلى العدو فظهر عليه المسلمون فرده رسول الله ﷺ إلى ابن عمر ولم يقسم" وقد ذهب الشافعي وجماعة من أهل العلم إلى أن أهل الحرب لا يملكون بالغلبة شيئا من أموال المسلمين ولصاحبه أخذه قبل الغنيمة وبعدها وروي عن علي والزهري وعمرو بن دينار والحسن أنه لا يرد أصلا ويختص به أهل المغانم وروي عن عمر وسليمان بن ربيعة وعطاء والليث ومالك وأحمد وآخرين إن وجده صاحبه قبل القسمة فهو أحق به وإن وجده بعد القسمة فلا يأخذه إلا بالقيمة وقد روي عن ابن عباس الدارقطني مثل هذا التفصيل مرفوعا وإسناده ضعيف جدا وروي عن الفقهاء السبعة قال في المسوى: وعليه أكثر أهل العلم في الجملة ولهم في التفاصيل اختلاف "ويحرم الإنتفاع بشئ من الغنيمة قبل القسمة إلا الطعام والعلف" لحديث رويفع ابن ثابت عند أحمد وأبي داود والدارمي والطحاوي وابن حبان "أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "لا يحل لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتناول مغنما حتى يقسم ولا يلبس ثوبا من فئ المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه ولا أن يركب دابة من فئ المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه" وفي إسناده محمد بن إسحق وفيه مقال معروف
وقال ابن حجر: إن رجال إسناده ثقات وقال أيضا: إن إسناده حسن وأخرج البخاري من حديث ابن عمر قال: "كنا نصيب في مغازينا العسل والعنب فنأكله ولا نرفعه" زاد أبو داود "فلم يؤخذ منهما الخمس" وصحح هذه الزيادة ابن حبان وأخرج أبو داود والبيهقي وصححه من حديث ابن عمر أيضا "أن جيشا غنموا في زمن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم طعاما وعسلا فلم يأخذوا منهم الخمس" وأخرج مسلم وغيره من حديث عبد الله ابن مغفل قال: أصبت جرابا من شحم يوم خيبر فالتزمته فقلت: لا أعطي اليوم أحدا من هذا شيئا فالتفت فإذا رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم متبسما وأخرج أبو داود والحاكم والبيهقي من حديث ابن أبي أوفى قال: "أصبنا طعاما يوم خيبر وكان الرجل يجيء فيأخذ منه مقدار ما يكفيه ثم ينطلق"
وأخرج أبو داود من حديث القاسم مولى عبد الرحمن عن بعض أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "كنا نأكل الجزر في الغزو ولا نقسمه حتى إن كنا لنرجع إلى رحالنا وأخرجتنا مملوءة منه" وقد تكلم في القاسم غير واحد وقد ذهب إلى جواز الانتفاع بالطعام والعلف للدواب بغير قسمة الجمهور سواء أذن الإمام أو لم يأذن وقال الزهري: لا يأخذ شيئا من الطعام ولا غيره وقال سليمان بن موسى يأخذ إلا أن ينهى الإمام قال مالك في الموطأ: لا أرى بأسا أن يأكل المسلمون إذا دخلوا أرض العدو من طعامهم ما وجدوا من ذلك كله قبل أن تقع في المقاسم وقال أيضا: أنا أرى الإبل والبقر والغنم بمنزلة الطعام يأكل منه المسلمون إذا دخلوا أرض العدو كما يأكلون من الطعام وقال: ولو أن ذلك لا يؤكل حتى يحضر الناس المقاسم ويقسم بينهم أضر ذلك بالجيوش قال: فلا أرى بأسا بما أكل من ذلك كله على وجه المعروف والحاجة إليه ولا أرى أن يدخر ذلك شيئا يرجع به إلى أهله قلت: وعليه أهل العلم "ويحرم الغلول" لحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما في قصة العبد الذي أصابه سهم فقال الصحابة: هنيئا له الشهادة يا رسول الله فقال: "كلا والذي نفس محمد بيده إن الشعلة لتلتهب عليه نارا أخذها من الغنائم يوم خيبر لم تصبها المقاسم قال: ففزع الناس فجاء رجل بشراك أو شراكين فقال يا رسول الله: أصبت هذا يوم خيبر فقال رسول الله ﷺ : "شراك من نار أو شراكان من نار"
وأخرج مسلم من حديث عمر بن الخطاب قال: "لما كان يوم خيبر قتل نفر من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فقالوا: فلان شهيد وفلان شهيد وفلان شهيد حتى مروا على رجل فقالوا: فلان شهيد فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "كلا إني رأيته في النار في بردة غلها أو عباءة" وأخرج البخاري وغيره من حديث ابن عمر قال: "كان على ثقل النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم رجل يقال له كركرة [19] فمات فقال رسول الله ﷺ : " هو في النار فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلها" وقد قال الله سبحانه {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}
وثبت في البخاري وغيره من حديث أبي هريرة "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "لا ألفين أحدكم يوم القيامة على رقبته فرس على رقبته شاة" الحديث وقد نقل النووي الإجماع على أنه من الكبائر وقد ورد في تحريق متاع الغال ما أخرجه أبو داود والحاكم والبيهقي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأبا بكر وعمر حرقوا متاع الغال وضربوه" وفي إسناده زهير بن محمد الخرساني [20]
وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم والبيقهي من حديث عمر بن الخطاب عن النبي ﷺ قال: "إذا وجدتم الغال قد غل فأحرقوا متاعه واضربوه" وفي إسناده صالح بن محمد بن زائدة تكلم فيه غير واحد [21] "ومن جملة الغنيمة الأسرى" ولا خلاف في ذلك "ويجوز القتل أو الفداء أو المن" لقوله تعالي: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} وقوله تعالي: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً}
وقد ثبت عن رسول الله ﷺ القتل للأسرى وأخذ الفداء منهم والمن عليهم ثبوتا متواترا في وقائع ففي يوم بدر قتل بعضهم وأخذ الفداء من غالبهم وأخرج البخاري من حديث جبير بن مطعم "أن النبي ﷺ قال في أسارى بدر: "لو كان مطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له" وفي مسلم من حديث أنس "أنه ﷺ أخذ الثمانين النفر الذي هبطوا عليه وأصحابه من جبال التنعيم عند صلاة الفجر ليقتلوهم ثم أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أعتقهم فأنزل الله عز وجل {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} الآية" وقد ذهب الجمهور إلى أن الإمام يفعل ما هو الأحوط للإسلام والمسلمين في الأسارى فيقتل أو يأخذ الفداء أو يمن وقال الزهري ومجاهد وطائفة لا يجوز أخذ الفداء من أسرى الكفار أصلا وعن الحسن وعطاء لا يقتل الأسير بل يتخير بين المن والفداء وعن مالك لا يجوز المن بغير فداء وعن الحنفية لا يجوز المن أصلا لا بفداء ولا بغيره.
فصل ويجوز استرقاق العرب
لأن الأدلة الصحيحة قد دلت على جواز استرقاق الكفار من غير فرق بين عربي وعجمي وذكر وأنثى ولم يقم دليل يصلح للتمسك قط في تخصيص أسر العرب بعدم جواز استرقاقهم بل الأدلة قائمة متكاثرة على أن حكمهم حكم سائر المشركين منها حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما "أنها كانت عند عائشة سبية من بني تميم فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: أعتقيها فإنها من ولد إسمعيل"
وأخرج البخاري وغيره "أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: حين جاء وفد هوازن مسلمين فسألوه أن يرد عليهم أموالهم وسبيهم فقال لهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "أحب الحديث إلي أصدقه فاختاروا إحدى الطائفتين إما السبي وإما المال" الحديث وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر "أن جويرية بنت الحرث من سبي بني المصطلق كاتبت عن نفسها ثم تزوجها رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على أن يقضي كتابتها فلما تزوجها قال الناس أصهار رسول الله ﷺ فأرسلوا ما بأيديهم من السبي"
وأخرجه أحمد من حديث عائشة وقد ذهب إلى جواز استرقاق العرب الجمهور وحكي في البحر عن الحنفية أنه لا يقبل من مشركي العرب إلا الإسلام أو السيف واستدل بقوله تعالي: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} الآية ولا يخفى أنه لا دليل في الآية على المطلوب ولو سلم ذلك كان ما وقع منه ﷺ مخصصا لذلك وقد صرح القرآن الكريم بالتخيير بين المن والفداء فقال: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} ولم يفرق بين عربي وعجمي واستدلوا أيضا بما أخرجه الشافعي والبيهقي "أن النبي ﷺ قال يوم حنين لو كان الإسترقاق جائزا على العرب لكان اليوم إنما هو أسرى "وفي إسناده الواقدي وهو ضعيف جدا ورواه الطبراني من طريق أخرى فيها يزيد بن عياض وهو أشد ضعفا من الواقدي وقد أخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم الفدية من ذكور العرب في بدر وهو فرع الإسترقاق أقول: قد سبى ﷺ جماعة من بني تميم وأمر عائشة أن تعتق منهم كما تقدم وبالغ ﷺ فقال: من فعل كذا فكأنما أعتق رقبة من ولد إسمعيل وقال لأهل مكة: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"
والحاصل: أن الواجب الوقوف على ما دلت عليه الأدلة الكثيرة الصحيحة من التخيير في كل مشرك بين القتل والمن والفداء والاسترقاق فمن ادعى تخصيص نوع منهم أو فرد من أفرادهم فهو مطالب بالدليل وأما أسر نساء العرب فالأمر أظهر من أن يذكر والوقائع في ذلك ثابتة في كتب الحديث الصحيحين وغيرهما وفي كتب السير جميعها "وقتل الجاسوس" لحديث سلمة بن الأكوع عند البخاري وغيره قال: "أتى النبي ﷺ عين وهو في سفر فجلس عند بعض أصحابه يتحدث ثم انسل فقال النبي ﷺ : "اطلبوه فاقتلوه" فسبقتهم إليه فقتلته فنفلني سلبه.
وهو متفق على قتل الجاسوس الحربي وأما المعاهد والذمي فقال مالك والأوزاعي: ينتقض عهده بذلك وأخرج أحمد وأبو داود عن فرات بن حيان أن النبي ﷺ أمر بقتله وكان عينا لأبي سفيان وحليفا لرجل من الأنصار فمر بحلقة من الأنصار فقال: إني مسلم فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله إنه يقول إنه مسلم فقال رسول الله ﷺ : "إن منكم رجالا نكلهم إلى إيمانهم منهم فرات بن حيان" وفي إسناده أبو همام الدلال محمد بن محبب ولا يحتج بحديثه [22] وهو يرويه عن سفيان ولكنه قد روى الحديث المذكور عن سفيان بشر بن السري البصري وهو ممن اتفق على الاحتجاج به البخاري ومسلم [23]
ورواه عن الثوري أيضا عباد بن موسى الأزرق العباداني وهو ثقة "وإذا أسلم الحربي قبل القدرة عليه أحرز أمواله" لحديث صخر بن عيلة "أن النبي ﷺ قال: "إذا أسلم الرجل فهو أحق بأرضه وماله" أخرجه أحمد وأبو داود ورجاله ثقات وفي لفظ "أن القوم إذا أسلموا أحرزوا أموالهم ودماءهم "وأخرج أبو يعلى من حديث أبي هريرة مرفوعا "من أسلم على شئ فهو له"
وضعفه ابن عدي بياسين الزيات الراوي له عن أبي هريرة قال البيهقي: وإنما يروى عن ابن أبي مليكة وعن عروة مرسلا وقد أخرجه عن عروة مرسلا سعيد بن منصور برجال ثقات "أن النبي ﷺ حاصر بني قريظة فأسلم ثعلبة وأسيد ابن سعية [24] فأحرز لهما إسلامهما أموالهما وأولادهما الصغار "ومما يدل على ذلك الحديث الصحيح الثابت من طرق أنه ﷺ قال: "فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها "
وقد ذهب الجمهور إلى أن الحربي إذا أسلم طوعا كانت جميع أمواله في ملكه ولا فرق بين من أسلم في دار الحرب أو دار الإسلام "وإذا أسلم عبد الكافر صار حرا" لحديث ابن عباس عند أحمد وابن أبي شيبة قال: "أعتق رسول الله ﷺ يوم الطائف من خرج إليه من عبيد المشركين" وأخرجه أيضا سعيد بن منصور مرسلا قصة أبي بكرة في تدليه من حصن الطائف مذكورة في صحيح البخاري ورواها أبو داود عن الشعبي عن رجل من ثقيف قال: سألنا رسول الله ﷺ أن يرد إلينا أبا بكرة وكان مملوكنا فأسلم قبلنا فقال: "لا هو طليق الله ثم طليق رسوله"
وأخرج أبو داود والترمذي وصححه من حديث علي قال: "خرج عبدان إلى رسول الله ﷺ يعني يوم الحديبية قبل الصلح فكتب إليه مواليهم فقالوا: ولله يا محمد ما خرجوا إليك رغبة في دينك وإنما خرجوا هربا من الرق فقال ناس: صدقوا يا رسول الله ردهم إليهم فغضب رسول الله ﷺ وقال: "ما أراكم تنتهون يا معشر قريش حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا وأبى أن يردهم وقال: هم عتقاء الله عز وجل"
وأخرج أحمد عن أبي سعيد الأعشم قال: "قضى رسول الله ﷺ في العبد إذا جاء فأسلم ثم جاء مولاه فأسلم أنه حر وإذا جاء المولى ثم جاء العبد بعد ما أسلم مولاه فهو أحق به" وهو مرسل
والأرض المغنومة أمرها إلى الإمام فيفعل الأصلح من قسمتها أو تركها مشتركة بين الغانمين أو بين جميع المسلمين لأن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قسم أرض قريظة والنضير بين الغانمين وقسم نصف أرض خيبر بين المسلمين وجعل النصف الآخر لمن ينزل به من الوفود والأمور ونوائب الناس كما أخرجه أحمد وأبو داود من حديث بشير ابن يسار عن رجال من الصحابة وأخرج نحوه أيضا أبو داود من حديث سهل بن أبي حثمة وقد ترك الصحابة ما غنموه من الأراضي مشتركة بين جميع المسلمين يقسمون خراجها بينهم
وقد ذهب إلى ما ذكرناه جمهور الصحابة ومن بعدهم وعمل عليه الخلفاء الراشدون وأخرج مسلم وغيره من حديث أبي هريرة "أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "أيما قرية أتيتموها فأقمتم فيها فسهمكم فيها وأيما قرية عصت الله ورسوله فإن خمسها لله ورسوله ثم هي لكم" أقول: قسمة الأموال المجتمعة للمسلمين من خراج ومعاملة وجزية وصلح وغير ذلك ينبغي تفويض قسمتها إلى الإمام العادل الذي يمحض النصح لرعيته ويبذل جهده في مصالحهم فيقسم بينهم ما يقوم بكفايتهم ويدخر لحوادثهم ما يقوم بدفعها ولا يلزمه في ذلك سلوك طريق معينة سلكها السلف الصالح فإن الأحوال تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة فإن رأى الصلاح في تقسيم ما حصل في بيت المال في كل عام فعل وإن رأى الصلاح في تقسيمه في الشهر أو الأسبوع أو اليوم فعل ثم إذا فاض من بيت مال المسلمين على ما يقوم بكفايتهم وما يدخر لدفع ما ينوبهم جعل ذلك في مناجزة الكفرة وفتح ديارهم وتكثير جهات المسلمين وفي تكثير الجيوش والخيل والسلاح فإن تقوية جيوش المسلمين هي الأصل الأصيل في دفع المفاسد والخيل والسلاح وجلب المصالح ومن أعظم موجبات تكثير بيت المال وتوسيع دائرته العدل في الرعية وعدم الجور عليهم والقبول من محسنهم والتجاوز عن مسيئهم هذا معلوم بالإستقراء في جميع دول الإسلام والكفر فما عدل ملك في رعيته إلا ونال بعدله أضعاف أضعاف ما يناله الجائر يحوره مع ما في العدل من السلامة من انتقام الرب عز وجل في هذه الدار أو في دار الآخرة فإنها جرت عادة الله سبحانه بمحق نظام الظلم وخراب بنيانه وهدم أساسه حتى صارت دول الظلمة من أعظم العبر للمعتبرين فإنه لا بد أن يحل بهم من نكال الله وسخطه ما يعرفه من له فطنة واعتبار وتفكر ومن نظر في تواريخ الدول رأى من هذا ما يقضي منه العجب.
فالحاصل: أن الظالم ممن خسر الدنيا والآخرة أما خسران الآخرة فواضح معلوم من هذه الشريعة بالضرورة وأما خسران الدنيا فهو وإن تم له منها نصيب نزر فهو على كدر وتخوف ونغص وتحيل ووحشة من رعيته فلا يزال متوقعا لزوال ملكه في كل وقت بسبب ما قد فعله بهم وهم مع ذلك على بغضه وهو منطو على بغضهم وينضم إلى ذلك كله تناقص الأمر وخراب البلاد وهلاك الرعية وفقر أغنيائهم ففي كل عام هو في نقص مع ما جرت به عادة الله عز وجل من قصم الظلمة وهلاكهم في أيسر مدة فأقل الملوك مدة أشدهم بطشا وأكثرهم ظلما وهذا هو الغالب وما خالفه فنادر فأين حال هؤلاء الظلمة في الدين والدنيا من حال الملوك العادلين بالرعية المحبوبين عندهم الممتعين بلذة العدل مع لذة العيش الصافي عن كدر المخاوف التي لا يأمن الظلمة هجومها عليهم في كل وقت ولو لم يكن من ذلك كله إلا الأمن من عقاب الله وانتقامه بل الرجاء في ثوابه وجزيل إفضاله وما وعد به العادلين في الآخرة مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر لكان مغنيا "ومن أمنه أحد المسلمين صار آمنا" لحديث علي عند أحمد وأبي داود والنسائي والحاكم عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم"
وأخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا بلفظ "يد المسلمين على من سواهم تتكافأ دماؤهم ويجير عليهم أدناهم ويرد عليهم أقصاهم وهم يد على من سواهم" وأخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث ابن عمر مطولا وأخرجه ابن ماجه من حديث معقل بن يسار مختصرا بلفظ "المسلمون يد على من سواهم تتكافأ دماؤهم"
وأخرجه الحاكم من حديث أبي هريرة مختصرا أيضا وأخرجه مسلم من حديث أبي هريرة أيضا بلفظ "أن ذمة المسلمين واحدة فمن أحقر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" وهو في الصحيحين من حديث علي وأخرجه البخاري من حديث أنس وفي الباب أحاديث
وقد أجمع أهل العلم على أن من أمنه أحد المسلمين صار آمنا قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على جواز أمان المرأة انتهى وأما العبد فأجاز أمانه الجمهور وأما الصبي فقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن أمان الصبي غير جائز انتهى وأما المجنون فلا يصح أمانه بلا خلاف قلت: إنما يصح الأمان من آحاد المسلمين إذا أمن واحد أو اثنين فأما عقد الأمان لأهل ناحية على العموم فلا يصح إلا من الإمام على سبيل الاجتهاد وتحري المصلحة كعقد الذمة ولو جعل ذلك آحاد الناس صار ذريعة إلى إبطال الجهاد "والرسول كالمؤمن لحديث ابن مسعود عند أحمد وأبي داود والنسائي والحاكم "أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال لرسولي مسلمة: "لو كنت قاتلا رسولا لقتلتكما"
وأخرج أحمد وأبو داود من حديث نعيم بن مسعود الأشجعي "أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال لهما: "والله لو لا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما" وقد أخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان وصححه "أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال لأبي رافع لما بعثه قريش إليه فقال: يا رسول الله لا أرجع إليهم فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "إني لا أخيس بالعهد ولا أحبس البرد ولكن ارجع إليهم فإن كان في قلبك الذي فيه الآن يعني الإسلام فارجع " "وتجوز مهادنة الكفار" وملوكهم وقبائلهم إذا اجتهد الإمام وذوو الرأي من المسلمين فعرفوا نفع المسلمين في ذلك ولم يخافوا من الكفار مكيدة "ولو بشرط وإلى أجل أكثره عشر سنين" لحديث أنس عند مسلم وغيره "أن قريشا صالحوا النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فاشترطوا عليه أن من جاء منكم لا نرده عليكم ومن جاء منا رددتموه علينا فقالوا يا رسول الله: أنكتب [25] هذا ؟ قال: "نعم أنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله ومن جاء منهم سيجعل الله له فرجا ومخرجا"
وهو في البخاري وغيره من حديث المسور بن مخرمة ومروان مطولا وفيه أن مدة الصلح بينه ﷺ وبين قريش عشر سنين وقد اختلف أهل العلم في جواز مصالحة الكفار على رد من جاء منهم مسلما وفعله ﷺ قد دل على جواز ذلك ولم يثبت ما يقتضي نسخه وأما قدر مدة الصلح فذهب الجمهور إلى أنه لا يجوز أن يكون أكثر من عشر سنين لأن الله سبحانه قد أمرنا بمقاتلة الكفار في كتابه العزيز فلا يجوز مصالحتهم بدون شئ من جزية أو نحوها ولكنه لما وقع ذلك من النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كان دليلا على الجواز إلى المدة التي وقع الصلح عليها ولا تجوز الزيادة عليها رجوعا إلى الأصل وهو وجوب مقاتلة الكفار ومناجزتهم الحرب وقد قيل أنها لا تجوز مجاوزة أربع سنين وقيل ثلاث سنين وقيل لا تجوز مجاوزة سنتين
ويجوز تأييد المهادنة بالجزية لما تقدم من أمره صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بدعاء الكفار إلى إحدى ثلاث خصال منها الجزية وحديث عمرو بن عوف الأنصاري في الصحيحين وغيرهما "أن رسول الله ﷺ بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم هو صالح أهل البحرين وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي"
وأخرج أبو عبيد عن الزهري مرسلا قال: "قبل رسول الله ﷺ الجزية من أهل البحرين وكانوا مجوسا" وأخرج أبو داود من حديث أنس "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بعث خالدا إلى أكيد ردومة فأخذوه فأتوا به فحقن دمه وصالحه على الجزية"
وأخرج أبو عبيد في كتاب الأموال عن الزهري "أن أول من أعطى الجزية أهل نجران وكانوا نصارى" وقد جعل النبي ﷺ على أهل اليمن على كل حالم دينارا كل سنة أو قيمته من المعافري يعني أهل الذمة منهم رواه الشافعي في مسنده عن عمر بن عبد العزيز وهو ثابت في حديث معاذ المشهور عند أبي داود وأخرج البخاري وغيره من حديث المغيرة بن شعبة" أنه قال لعامل كسرى أمرنا رسول الله ﷺ أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية"
وأخرج البخاري عن ابن أبي نجيح قال: قلت لمجاهد ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير وأهل اليمن عليهم دينار ؟ قال جعل ذلك من قبيل اليسار وقد وقع الإتفاق على أنها تقبل الجزية من كفار العجم من اليهود والنصارى والمجوس قال مالك والأوزاعي وفقهاء الشام: إنها تقبل من جميع الكفار من العرب وغيرهم
وقال الشافعي: إن الجزية تقبل من أهل الكتاب عربا كانوا أو عجما ويلحق بهم المجوس في ذلك وقد استدل من لم يجوز أخذها إلا من العجم فقط بما وقع في حديث ابن عباس عند أحمد والترمذي وحسنه "أن النبي ﷺ قال لقريش: "إنه يريد منهم كلمة تدين لهم بها العرب ويؤدي إليهم بها العجم الجزية" يعني كلمة الشهادة وليس هذا مما ينفي أخذ الجزية من العرب ولا سيما مع قوله ﷺ في حديث سليمان بن بريدة المتقدم "وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال" وفيها الجزية قال في المسوى في باب أخذ الجزية من أهل الكتاب: قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}
قلت: عليه أهل العلم في الجملة وقال الشافعي: الجزية على الأديان لا على الأنساب فتؤخذ من أهل الكتاب عربا كانوا أو عجما ولا تؤخذ من أهل الأوثان والمجوس لهم شبهة كتاب وقال أبو حنيفة: لا يقبل من العرب إلا الإسلام أو السيف وفي حديث ابن شهاب "أن رسول الله ﷺ أخذ الجزية من مجوس البحرين وأن عمر بن الخطاب أخذها من البربر"
وفي حديث جعفر بن علي بن محمد بن أبيه "أن عمر بن الخطاب ذكر المجوس فقال ما أدرى كيف أصنع في أمرهم ؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت رسول الله ﷺ يقول لهم: سنوا بهم سنة أهل الكتاب" قلت: وعليه أهل العلم قال مالك: مضت السنة أن لا جزية على نساء أهل الكتاب ولا على صبيانهم وأن الجزية لا تؤخذ إلا من الرجال الذين قد بلغوا الحلم قلت وعليه أهل العلم وأما قدرها فضرب عمر بن الخطاب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير وعلى أهل الورق أربعين درهما مع ذلك أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام قلت: قد صح من حديث معاذ "بعثه النبي ﷺ إلى اليمن فأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله معافريا" فاختلفوا في الجمع بينه وبين حديث عمر
فقال الشافعي: أقل الجزية دينار على كل بالغ في كل سنة ويستحب للإمام المماكسة ليزداد ولا يجوز أن ينقص من دينار وأن الدينار مقبول من الغني والمتوسط والفقير
وتأول أبو حنيفة حديث عمر على الموسرين وحديث معاذ على الفقراء لأن أهل اليمن أكثرهم فقراء فقال: على موسر أربعة دنانير وعلى كل متوسط ديناران وعلى كل فقير دينار وعن عمر بن عبد العزيز من مر بك من أهل الذمة فخذ بما يديرون به من التجارات من كل عشرين دينارا فما نقص فبحساب ذلك حتى يبلغ عشرة دنانير فإن نقصت ثلث دينار فدعها ولا تأخذ منها شيئا واكتب لهم بما تأخذ منهم كتابا إلى مثله من الحول قلت: عليه أبو حنيفة وقال الشافعي: الذي يلزم اليهود والنصارى من العشور هو ما صولحوا وقت عقد الذمة وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله أن يضعوا الجزية عمن أسلم من أهل الجزية حين يسلمون قلت عليه أبو حنيفة
وقال الشافعي: لا تسقط بالإسلام ولا بالموت لأنه دين حل عليه كسائر الديون انتهى "ويمنع المشركون وأهل الذمة من السكون من [26] جزيرة العرب" لحديث ابن عباس في الصحيحين وغيرهما "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أوصى عند موته بثلاث: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم ونسيت الثالثة" والشك من سليمان الأحول
وأخرج مسلم وغيره من حديث عمر "أنه سمع رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول: "لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلما"
وأخرج أحمد من حديث عائشة "أن آخر ما عهد رسول الله ﷺ أن قال: " لا يترك بجزيرة العرب دينان" وهو من رواية ابن إسحق قال: حدثني صالح بن كيسان عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عنها والأدلة هذه قد دلت على إخراج كل مشرك من جزيرة العرب سواء كان ذميا أو غير ذمي وقيل إنما يمنعون من الحجاز فقط استدلالا بما أخرجه أحمد والبيهقي من حديث أبي عبيدة بن الجراح قال: "آخر ما تكلم به النبي ﷺ أخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب"
وهذا لا يصلح لتخصيص العام لما تقرر في الأصول من أن التخصيص بموافق العام لا يصح وقد حكى ابن حجر في فتح الباري عن الجمهور أن الذي تمنع منه المشركون من جزيرة العرب هو الحجاز خاصة قال: وهو مكة والمدينة واليمامة وما والاها لا فيما سوى ذلك مما يطلق عليه اسم الجزيرة وعن الحنفية يجوز مطلقا إلا المسجد الحرام وعن مالك يجوز دخولهم الحرم للتجارة
وقال الشافعي: لا يدخلون الحرم أصلا إلا بإذن الإمام أقول: الأحاديث مصرحة بإخراج اليهود من جزيرة العرب وذكر الحجاز هو من التنصيص على بعض أفراد العام لا من تخصيصه لأنه قد تقرر في الأصول أن مفاهيم اللقب لا يجوز العمل بها إجماعا إلا عند الدقاق ولفظ الحجاز يدل على أن غيره من موضع الجزيرة يخالفه بمفهوم لقبه هذا هو الصواب الذي ينبغي التعويل عليه وقد جمع المغربي مؤلف شرح بلوغ المرام رسالة رجح فيها التخصيص وقد دفعها الماتن رحمه الله بأبحاث ليس هذا موضع ذكرها قال في المسوى في باب لا يدخل المسجد الحرام كافر: قال الله تعالى: {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} قلت: قوله {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ}
معناه المسجد الحرام وما حوله من الحرم يدل عليه قوله تعالي: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} وعليه أهل العلم قالوا لا يجوز لكافر أن يدخل الحرم بحال سواء كان ذميا أو لم يكن وإذا جاء رسول من دار الكفر إلى الإمام وهو في الحرم فلا يأذن في دخوله بل يخرج الإمام إليه أو يبعث من يسمع رسالته قلت: قد صح في غير حديث أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أدخل الكفار في مسجده من ذلك ربط ثمامة بن أثال بسارية من سواري المسجد فقال الشافعي: لا يدخلون المسجد إلا بإذن مسلم
وقال آخرون يجوز له الدخول ولو بغير إذن وتأويل الآية على قولهم إنهم أخيفوا بالجزية أقول: لا ريب أن مواطن العبادة المعدة للمسلمين ينبغي تنزيهها من أدران المشركين فهم الذين لا يتطهرون من جنابة ولا يغتسلون من نجاسة فإن كان تلويثهم لمساجد المسلمين بالنجاسات أو استهزاؤهم بالعبادة مظنونا فذلك مفسدة وكل مفسدة ممنوعة ما لم يعارضها مظنة إسلام من دخل منهم المسجد لما يسمعه ويراه من المسلمين فإن تلك المفسدة مغتفرة بجنب هذه المصلحة التي لا يقادر قدرها وأما إذا كان تلويثهم المسجد غير مظنون فلا وجه للمنع ولا سيما قد تقرر أنه ﷺ كان ينزل كثيرا من وفود المشركين مسجده الشريف وهو أفضل من غيره من المساجد غير المسجد الحرام ثم قال في المسوى: قال مالك قال ابن شهاب: "أن رسول الله ﷺ أجلى يهود خيبر" قال مالك: وقد أجلى عمر بن الخطاب يهود نجران وفدك
فأما يهود خيبر فخرجوا منها ليس لهم من الثمر ولا من الأرض شئ وأما يهود فدك فكان لهم نصف الثمر ونصف الأرض لأن رسول الله ﷺ كان صالحهم على نصف الثمر ونصف الأرض فأقام لهم عمر بن الخطاب نصف الثمر ونصف الأرض قيمته من ذهب وورق وإبل وحبال وأقتاب ثم أعطاهم القيمة وأجلاهم منها قلت: عليه أهل العلم قالوا الحجاز يجوز للكافر دخولها بالإذن ولا يقيم بها أكثر من مقام السفر فإن عمر رضي الله تعالى عنه لما أجلاهم أجل لمن يقدم منهم تاجرا ثلاثا انتهى.
فصل ويجب قتال البغاة حتى يرجعوا إلى الحق
لقوله تعالي: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} فأوجب الله سبحانه قتال الطائفة الباغية حتى ترجع إلى أمر الله ولا فرق بين أن يكون البغي من بعض المسلمين على إمامهم أو على طائفة منهم قال في المسوى: قال الواحدي والبغوي وغيرهما: نزلت هذه الآية في ضرب كان بينهم بالجريد والأيدي والنعال فأصلح النبي ﷺ بينهم والظاهر أنها في قتال ومضاربة يكون في الغضب بين المسلمين حيث يكون حكم الله تعالى معلوما لقوله تعالي: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} وليست في البغاة وهم الذين لهم منعة وشبهة فنصبوا رئيسا وخرجوا على الإمام العدل إذ ليس هناك قاطع يطلب منهم الفيء إليه بل كل فرقة منهما تدعي أن ما ذهبت إليه هو الحق الموافق لكتاب الله وإنما يستفاد حكم البغاة من آثار علي رضي الله تعالى عنه حين قاتل أهل البصرة وأهل الشام وأهل النهروان وهذا أحسن ما فهمت في هذه الآية والعلم عند الله تعالى انتهى أقول: اعلم أن هذا الفصل مستفاد من اجتهادات الصحابة رضي الله عنهم وأكثر من روي عنه في ذلك علي كرم الله وجهه ولم يثبت في ذلك عن النبي ﷺ شئ إلا حديث ابن مسعود الآتي وقد ضعفه جماعة من المسلمين
وقد أجمع المسلمون على بعض الأحكام كعدم جواز سبي البغاة. والحاصل: أن أصل دم المسلم وماله العصمة ولم يأذن الله عز وجل بسوى قتال الطائفة الباغية حتى تفيء فيجب الإقتصار على هذا ويكون الجائز قتال من لم يحصل منه الفيء وإن كان جريحا أو منهزما من غير فرق بين من له فئة ومن لا فئة له ما دام مصرا على بغيه وأما المال فلا يجوز أخذ شئ منه هذا ما عندي في ذلك فإن ثبت ما يخالفه فالثابت شرعا أولى بالاتباع "ولا يقتل أسيرهم ولا يتبع مدبرهم ولا يجاز على جريحهم ولا تغنم أموالهم" لما أخرجه الحاكم والبيهقي عن ابن عمر "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال لابن مسعود: " يا ابن أم عبد ما حكم من بغى من أمتي قال: الله ورسوله أعلم فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: لا يتبع مدبرهم ولا يجهز على جريحهم ولا يقتل أسيرهم" وفي لفظ "ولا يذفف على جريحهم ولا يغنم منهم" سكت عنه الحاكم
وقال ابن عدي: هذا الحديث غير محفوظ وقال البيهقي: ضعيف وقال صاحب بلوغ المرام أن الحاكم صححه فوهم لأن في إسناده كوثر بن حكيم وهو متروك [27] وصح عن علي من طرق نحوه موقوفا والصحيح أنه نادى بذلك منادي على يوم صفين ولم يثبت الرفع وأخرج ابن أبي شيبة والحاكم والبيهقي من طريق عبد خير عن علي بلفظ "نادى منادي على يوم الجمل ألا لا يتبع مدبرهم ولا يذفف على جريحهم" وأخرج سعيد بن منصور عن مروان بن الحكم قال: "صرخ صارخ لعلي يوم الجمل لا يقتلن مدبر ولا يذفف على جريح ومن أغلق بابه فهو آمن ومن ألقى السلاح فهو آمن"
وأخرج أحمد في رواية الأثرم واحتج به عن الزهري قال: "هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله ﷺ متوافرون فأجمعوا أن لا يقاد أحد ولا يؤخذ مال على تأويل القرآن إلا ما وجد بعينه"
وأخرج البيهقي عن أبي أمامة قال:" شهدت صفين فكانوا لا يجيزون على جريح ولا يقتلون موليا ولا يسلبون قتيلا" وأخرج البيهقي عن علي أنه قال يوم الجمل: "إن ظفرتم على القوم فلا تطلبوا مدبرا ولا تجيزوا على جريح وانظروا إلى ما حضروا به الحرب من آلة فاقبضوه وما سوى ذلك فهو لورثتهم"
قال البيهقي: هذا منقطع والصحيح أنه لم يأخذ شيئا ولم يسلب قتيلا ويؤيد جميع هذه الآثار أن الأصل في دماء المسلمين وأموالهم الحرمة فلا يحل شئ منها إلا بدليل شرعي والمراد بالإجازة على الجريح والإجهاز والتذفيف أن يتمم قتله ويسرع فيه
وما حكاه الزهري من الإجماع على عدم القود يدل على أنه لا قصاص في أيام الفتنة وقد أخرج هذا الأثر عن الزهري البيهقي بلفظ "هاجت الفتنة الأولى فأدركت يعني الفتنة رجالا ذوي عدد من أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ممن شهد معه بدرا وبلغنا أنهم يرون أن هذا أمر الفتنة لا يقام فيها على رجل قاتل في تأويل القرآن قصاص فيمن قتل ولا حد في سبي امرأة سبيت ولا يرى عليها حد ولا بينهما وبين زوجها ملاعنة ولا يرى أن يقذفها أحد إلا جلد الحد ويرى أن ترد إلى زوجها الأول بعد أن تعتد عدتها من زوجها الآخر ويرى أن يرثها زوجها الأول" انتهى
قال في البحر: ولا يجوز سبيهم ولا اغتنام ما لم يجلبوا به إجماعا لبقائهم على الملة وحكى عن النفس الزاكية والحنفية والشافعية أنه لا يغنم منهم شئ أقول: وأما الكلام فيمن حارب عليا كرم الله وجهه فلا شك ولا شبهة أن الحق بيده في جميع مواطنه أما طلحة والزبير ومن معهم فلأنهم قد كانوا بايعوه فنكثوا بيعته بغيا عليه وخرجوا في جيوش من المسلمين فوجب عليه قتالهم وأما قتاله للخوراج فلا ريب في ذلك والأحاديث المتواترة قد دلت على أنه يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية وأما أهل صفين فبغيهم ظاهر لو لم يكن في ذلك إلا قوله ﷺ لعمار: "تقتلك الفئة الباغية" لكان ذلك مفيدا للمطلوب ثم ليس معاوية ممن يصلح لمعارضة علي ولكنه أراد طلب الرياسة والدنيا بين قوم أغتام [28] لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا فخادعهم بأنه طلب بدم عثمان فنفق ذلك عليهم وبذلوا بين يديه دمائهم وأموالهم ونصحوا له حتى كان يقول علي لأهل العراق أنه يود أن يصرف العشرة منهم بواحد من أهل الشام صرف الدراهم بالدينار وليس العجب من مثل عوام الشام إنما العجب ممن له بصيرة ودين كبعض الصحابة المائلين إليه وبعض فضلاء التابعين فليت شعري أي أمر اشتبه عليهم في ذلك الأمر حتى نصروا المبطلين وخذلوا المحقين وقد سمعوا قول الله تعالى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} وسمعوا الأحاديث المتواترة في تحريم عصيان الأئمة ما لم يروا كفرا بواحا وسمعوا قول النبي ﷺ لعمار: "أنه تقتله الفئة الباغية"
ولو لا عظيم قدر الصحابة ورفيع فضل خير القرون لقلت: حب الشرف والمال قد فتن سلف هذه الأئمة كما فتن خلفها اللهم [29] غفرا ثم اعلم أنه قد جاء القرآن والسنة بتسمية من قاتل المحقين باغيا كما في الآية المتقدمة وحديث عمار بن ياسر المتقدم فالباغي مؤمن يخرج عن طاعة الإمام التي أوجبها الله تعالى على عباده ويقدح عليه في القيام بمصالح المسلمين ودفع مفاسدهم من غير بصيرة ولا على وجه المناصحة فإن انضم إلى ذلك المحاربة وله القيام في وجهه فقد تم البغي وبلغ إلى غايته وصار كل فرد من أفراد المسلمين مطالبا بمقاتلته لقوله سبحانه وتعالى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا} الآية وليس القعود عن نصرة الحق من الورع بعد قوله الله عز وجل: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي}
والحاصل: أنه إذا تبين الباغي ولم يلتبس ولا دخل في الصلح كان القعود عن مقاتلته خلاف ما أمر الله به وأما مع اللبس فلا وجوب حتى يتبين المحق من المبطل لكن يجب السعي في الصلح كما أمر الله به وليس من البغي إظهار كون الإمام سلك في اجتهاده في مسألة أو مسائل طريق مخالفة لما يقتضيه الدليل فإنه ما زال المجتهدون هكذا ولكنه ينبغي لمن ظهر له غلط الإمام أن يناصحه ولا يظهر الشناعة عليه على رؤس الأشهاد بل كما ورد في الحديث أنه يأخذ بيده ويخلو به ويبذل له النصيحة ولا يذل سلطان الله ولا يجوز الخروج على الأئمة وإن بلغوا في الظلم أي مبلغ ما أقاموا الصلاة ولم يظهر منهم الكفر البواح والأحاديث الواردة بهذا المعنى متواترة ولكن على المأموم أن يطيع الإمام في طاعة الله ويعصيه في معصية الله فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وقد ابتلي علي رضي الله عنه بقتال البغاة على اختلاف أنواعهم وإذا كانت الإمامة الإسلامية مختصة بواحد والأمور راجعة إليه مربوطة به كما كان في أيام الصحابة والتابعين وتابعيهم
فحكم الشرع في الثاني الذي جاء بعد ثبوت ولاية الأول أن يقتل إذا لم يتب عن المنازعة وأما إذا بايع كل واحد منهما جماعة في وقت واحد فليس أحدهما أولى من الآخر بل يجب على أهل الحل والعقد أن يأخذوا على أيديهما حتى يجعل الأمر في أحدهما فإن استمرا على التخالف كان على أهل الحل والعقد أن يختاروا منهما من هو أصلح للمسلمين ولا تخفي وجوه الترجيح على المتأهلين لذلك وأما بعد انتشار الإسلام واتساع رقعته وتباعد أطرافه فمعلوم أنه قد صار في كل قطر أو أقطار الولاية إلى إمام أو سلطان وفي القطر الآخر أو الأقطار كذلك ولا ينفذ لبعضهم أمر ولا نهي في غير قطره أو أقطاره التي رجعت إلى ولايته فلا بأس بتعدد الأئمة والسلاطين وتجب الطاعة لكن واحد منهم بعد البيعة على أهل القطر الذي ينفذ فيه أوامره ونواهيه وكذلك صاحب القطر الآخر فإذا قام من ينازعه في القطر الذي قد ثبت فيه ولايته وبايعه أهله كان الحكم فيه أن يقتل إذا لم يتب ولا يجب على أهل القطر الآخر طاعته ولا الدخول تحت ولايته لتباعد الأقطار فإنه قد لا يبلغ إلى ما تباعد منها خبر إمامها أو سلطانها ولا يدري من قام منهم أو مات فالتكليف بالطاعة والحال هذه تكليف بما لا يطاق وهذا معلوم لكل من له اطلاع على أحوال العباد والبلاد فإن أهل الصين والهند لا يدرون بمن له الولاية في أرض المغرب فضلا عن أن يتمكنوا من طاعته وهكذا العكس وكذلك أهل ما وراء النهر لا يدرون بمن له الولاية في اليمن وهكذا العكس فاعرف هذا فإنه المناسب للقواعد الشرعية والمطابق لما يدل عليه الأدلة ودع عنك ما يقال في مخالفته فإن الفرق بين ما كانت عليه الولاية الإسلامية في أول الإسلام وما هي عليه الآن أوضح من شمس النهار ومن أنكر هذا فهو مباهت لا يستحق أن يخاطب بالحجة لأنه لا يعقلها والله المستعان
فصل وطاعة الأئمة واجبة إلا في معصية الله
باتفاق السلف الصالح لقوله تعالي: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} وللأحاديث المتواترة في وجوب طاعة الأئمة منها: ما أخرجه البخاري من حديث أنس مرفوعا "اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله" وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عنه ﷺ "من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني" وفي الصحيحين أيضا من حديث ابن عمر عنه ﷺ "على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره إلا أن يؤمر بمعصية فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة"
والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدا "ولا يجوز الخروج" بعد ما حصل الإتفاق عليهم ما أقام الصلاة ولم يظهروا كفرا بواحا لحديث عوف بن مالك عند مسلم وغيره قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنوهم ويلعنونكم قال قلنا يا رسول الله: أفلا ننابذهم عند ذلك قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة إلا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية ولا ينزعن يدا عن طاعة"
وأخرج مسلم أيضا وغيره من حديث حذيفة بن اليمان أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهديي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيكم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنسان" قال قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك قال: "تسمع وتطيع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع"
وأخرج مسلم أيضا وغيرهم من حديث عرفجة الأشجعي قال: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول "من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه" وفي الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت قال: "بايعنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان" والبواح بالموحدة والمهملة قال الخطابي: معنى قوله بواحا يريد ظاهرا
وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة عنه ﷺ "من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة فميتته جاهلية" وأخرج نحوه أيضا عن ابن عمر وفي الصحيحين من حديث ابن عمر "من حمل علينا السلاح فليس منا" وأخرجاه أيضا من حديث أبي موسى وأخرجه مسلم من حديث أبي هريرة وسلمة بن الأكوع والأحاديث في هذا الباب لا يتسع المقام لبسطها وقد ذهب إلى ما ذكرناه جمهور أهل العلم
وذهب بعض أهل العلم إلى جواز الخروج على الظلمة أو وجوبه تمسكا بأحاديث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي أعم مطلقا من أحاديث الباب ولا تعارض بين عام وخاص ويحمل ما وقع من جماعة أفاضل السلف على اجتهاد منهم وهو أتقى لله وأطوع لسنة رسوله ﷺ ممن جاء بعدهم من أهل العلم قال في الحجة البالغة: ثم إن استولى من لم يجمع الشروط لا ينبغي أن يبادر إلى المخالفة لأن خلعه لا يتصور غالبا إلا بحروب ومضايقات وفيها من المفسدة أشد مما يرجى من المصلحة وبالجملة فإذا كفر الخليفة بإنكار ضروري من ضروريات الدين حل قتاله بل وجب وإلا لا وذلك حينئذ فاتت مصلحة نصبه بل يخاف مفسدته على القوم فكان قتاله من الجهاد في سبيل الله انتهى "ويجب الصبر على جورهم" لما تقدم من الأحاديث
وفي الصحيحين من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ : "من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات فميتته جاهلية" وفيها من حديث أبي هريرة مرفوعا "أعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم" وأخرج أحمد من حديث أبي ذر أن رسول الله ﷺ قال: "يا أبا ذر كيف بك عند ولاة يستأثرون عليكم بهذا الفيء قال والذي بعثك بالحق أضع سيفي على عاتقي وأضرب حتى ألحقك قال: أولا أدلك على ما هو خير لك من ذلك تصبر حتى تلحقني" وفي الباب أحاديث كثيرة "وبذل النصحية لهم" لما ثبت في الصحيح من أن "الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين" من حديث تميم الداري بهذا اللفظ
والأحاديث الواردة في مطلق النصيحة متواترة وأحق الناس بها الا "وعليهم" أي على الأئمة "الذب عن المسلمين وكف يد الظالم وحفظ ثغورهم وتدبيرهم بالشرع في الأبدان والأديان والأموال وتفريق أموال الله في مصارفها وعدم الإستئثار بما فوق الكفاية بالمعروف والمبالغة في إصلاح السيرة والسريرة" وذلك معلوم من أدلة الكتابة والسنة التي لا يتسع المقام لبسطها ولا خلاف في وجوبها جميعا على الإمام وهذه الأمور هي التي شرع الله تعالى نصب الأئمة لها فمن أخل من الأئمة والسلاطين بشئ منها فهو غير مجتهد لرعيته ولا ناصح لهم بل غاش خائن وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث معقل بن يسار قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلى حرم الله عليه الجنة"
وفي لفظ لمسلم "ما من أمير يلي أمور المسلمين ثم لا يجتهد لهم ولا ينصح لهم إلا لم يدخل الجنة" وأخرج مسلم وغيره من حديث عائشة قالت: سمعت رسول الله ﷺ يقول "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به" وبالجملة فعلى الإمام والسلطان أن يقتدي برسول الله ﷺ وبالخلفاء الراشدين في جميع ما يأتي ويذر فإنه إن فعل ذلك كان له ما لأئمة العدل من الترغيبات الثابتة في الكتاب والسنة وحاصلها الفوز بنعيم الدنيا والآخرة وآخر دعوانا أن الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
تم والحمد لله رب العالمين الجزء الثاني من الروضة الندية شرح الدرر البهية للصديق بن حسن بن علي الحسيني القنوجي البخاري ملك بهو بال وبه ينتهي الكتاب.
هامش
- ↑ [الغدوة المرة من الغدو وكذلك الروحة المرة من الروح]
- ↑ [بفتح الفاء وضمها ما بين الحلبتين من الراحة.]
- ↑ [الأحسن التعبير بأن يقول "وأخرج عبدالله بن أحمد في زوائد مسند أبيه" لأن احمد لم يرو عن ابنه زاد بل عبدالله روي عن أبيه المسند وروي في أثنائه بعض أحاديثه عن غير أبيه وقد كثر للشارح هذ للتعبير وهو خطأ]
- ↑ [ولعل الأحسن في التوفيق بين الحديثين أان يجعل ذلك إلي رأي الإمام والمكلف فإن كانت المصلحة تنفي بأحدهما وجب تقديمه. وقد كان المهاجرون والأنصار يجاهدون ولم نر في شئ من الروايات أنهم كانوا يلتزمون استئذان الوالدين في كل غزو]
- ↑ [بكسر الميم واسكان الخاء المعجمة وفتح الباء. ويقال بميم مفتوحة بدل الباء وهو ابن أخي الجاشي]
- ↑ [انخزل بالزاي أي انفرد.]
- ↑ [يقال أزرا وآزره إذا أعانه ابن عامر "فآزره فاستغلظ" علي فعله وقرأ الباقون "فاآزره"]
- ↑ [الفرز بكسر الفاء وفتحها وسكون الراء وآخره زاي]
- ↑ [اختلف في اسمه هل هو "رباح" بفتح الراء والباء أو رباح بكسر الراء والباء المثناة والراجح الثاني وبه جزم البخاري وابن حبان والدار قطني وابن عبدالبر وغيرهم.]
- ↑ [كذا في الأصل. وفي نيل الأوطار "ابن كعب بن مالك عن عمه" وكلاهما مشكل ولم استطيع العثور علي الحديث في مسند أحمد ولم أعرف من "ابن كعب" هذا فإنه إن كان المراد به أحد أبناء كعب بن مالك الأنصاري السلمي الشاعر – وهو أحد ثلاثة الذين تاب الله عليهم – فقد نص ابن حجر في الإصابة علي أنه ليس له أخ فلا يكون إذن لإبنه عم وإن كان غيره فلا أدري من هو والعم عبد الله.]
- ↑ [الشرخ الشاب. قال أحمد بن حنبل: "الشيخ لا يكاد يسلم والشاب أقرب إلي الإسلام". نقله ابن حجر في تلخيص "370"]
- ↑ [بفتح الخاء واسكان الدال وهي أفصح الروايات واصحها ابن الأثير]
- ↑ [بكسر الميم واسكان الراء وفتح الباء محلو بالبصرة من أشهر محالها وأطيبها.]
- ↑ [بضم الهمزة وفتح القاف واسكان الياء وآخره شين معجمة.]
- ↑ [حذاه حذور أعطاه وأحذيته من الغنيمة أحذيته أعطيته منها والحذوة بكسر الحاء وضمها مع اسكان الذال فيها العطية.]
- ↑ [في الأصل "وأما السهم" وصححناه من صحيح مسلم "5: 197" ونيل الأوطار "8: 113" وفي رواية الترمذي "1: 294" "يسهم بالياء مضارع أسهم.]
- ↑ [الخرثي بضم الخاء المعجمة واسكان الراء وكثر الثاء وتشديد الياء أردأ المتاع والغنائم وهي سقط المتاع.]
- ↑ [لفظ الحديث كله هنا هو لفظ أبي داود "3: 26" إلا قوله "فانصرفن" فإنه ليس فيه بل هو في رواية مسند احمد بن حنبل "5: 271"]
- ↑ [اختلف في ضبطه فقيل بفتح الكافين وقيل بكسرهما وقال النووي: إنما اختلف في كافة الأولي وإما الثانية فهي مكسورة اتفاقا]
- ↑ [ زهير ثقة وإنما أنكروا عليه بعض أحاديث وقد روي له الجماعة كلهم وإنما شك في هذا الحديث البيهقي فقد ظن أن زهيرا هنا غير زهير بن محمد الخراساني التميمي وزعم أنه مجهول ولكن الحديث ثابت عن الخراساني. انظر عون المعبود"3: 22"والجوهر النقي في الرد علي البيهقي ج 2ص 20]
- ↑ [وقد صححه الحاكم ووافقه الذهبي. وقال البخاري: هو باطل ليس بشئ. وقال الدار قطني أنكروا هذا الحديث علي صالح بت محمد وهذا حديث لم يتابع عليه ولا أصل لهذا الحديث عن رسول الله صلي الله عليه وسلم. انظر المستدرك "ج 2: 127" وعون المعبود "ج 3" 21".]
- ↑ [أبو همام وثقة أبو حاتم وأبو داود والحاكم والبغوي. وإنما زعم ذلك المنذري.]
- ↑ [رواية بشر رواها في مسنده عن علي بن المديني عن بشر "ج 4: 336" واسناده صحيح جدا.]
- ↑ [أسيد بفتح الهمزة وكسر السين ويروي "أسد" بالتكبير. ورواه ابن اسحاق في السيرة "أسد" بالتصغير وخطأه الذهبي في المشتبه. و"سعيه" بفتح السين واسكان العين وفتح الياء المثناة وآخره هاء. وقيل "سعنة" بالنون وهو خطأ وثعلبة أخو أسيد فصواب العبارة "فأسلم ثعلبة وأسيد ابنا سعية".]
- ↑ [بالنون كما في صحيح مسلم طبع الاستانة.]
- ↑ [سكن يتعدي بنفسه وبالباء وبفي وأما بمن فلم أره ولا أظنه صحيحا بل هو استعمال ينبو عن كلام الفصحاء.]
- ↑ [وكذلك قال الذهبي في مختصر المستدرك انظر المستدرك "ج 2ص 155".]
- ↑ [الغتمة بضم الغين المعجمة واسكان التء عجمة في المنطق. وؤجل أغتم لا يفصح شيئا]
- ↑ [دخل الشارح في مأزق لا قبل له به ولا قوة فيه فماله ومال الصحابة ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه. والحض يري مالا يري الغائب وهذه الفتن قد تنسي الحليم حلمه. والذكي عقله فلا ندري عذر من كان مع معاوية من الصحابة رضي الله عنهم وقد غلب علي الشارح ما يغلب علي الأعجام من القذف المزري بأهل الإنصاف وظهور الحجة وتمام الأدلة علي أن الحق بجانب علي لا يسيغ لنا أن نحكم بالبغي علي الصحابة الذين خالفوه فقد تكون لهم أعذار لا نعلمها ومآل الجميع إلي مولاهم يحاسبهم ويقضي بينهم يوم الفصل والله أعلم.]