الرئيسيةبحث

الروضة الندية شرح الدرر البهية/كتاب الخصومة


كتاب الخصومة


على المدعي البينة لقوله (ﷺ) شاهداك أو يمينه كما في الصحيحين من حديث الأشعث بن قيس وأخرج مسلم من حديث وائل بن حجر أن النبي (ﷺ) قال للكندي : ألك بينة ؟ قال : لا . قال : فلك يمينه .

وعلى المنكر اليمين لحديث ابن عباس في الصحيحين أن النبي (ﷺ) قضى باليمين على المدعى عليه وأخرجه البيهقي بإسناد صحيح بلفظ البينة على المدعي واليمين على من أنكر وأخرج ابن حبان من حديث ابن عمر نحوه . وأخرج الترمذي من حديث عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده نحوه ، وقد ذهب إلى ذلك الجمهور . وروي عن مالك أنه لا يتوجه اليمين إلا على من يبنه وبين المدعي اختلاط لئلا يبتذل أهل السفه أهل الفضل وهو رد للرواية بمحض الرأي .

ويحكم الحاكم بالإقرار وليس في ذلك خلاف ، ودلالة الكتاب العزيز على لزوم حكم الإقرار للمقر وفيه من ذلك الكثير الطيب ، فإن الله سبحانه رتب في كتابه العزيز أحكاماً وعقوبات على حصول أمور هي إقرارات وإن لم يذكر فيها لفظ الإقرار ، وهو أقوى مستندات الحكم إذا لم يكن معلوم البطلان ولزوم المقر لما أقر به ، وجواز الحكم للحاكم بإقراره لا يحتاج إلى ايراد الأدلة عليه ، فقد كان النبي (ﷺ) يسفك به الدماء ويقيم الحدود ويقطع الأموال بل اكتفى به في أعظم الأمور وهو الرجم كما وقع من المقر عند رسول الله (ﷺ) كما في حديث واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها وهو في الصحيح كما سيأتي . فكيف بالإقرار فيما هو أخف من الرجم .

و الحكم بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين لنص القرآن الكريم . وليس في ذلك خلاف إذا كان الشهود مرضيين كما قال تعالى ممن ترضون من الشهداء .

أو رجل ويمين المدعي لحديث ابن عباس عند مسلم وغيره أن رسول الله صلى الله وسلم عليه قضى بيمين وشاهد وأخرج أحمد وابن ماجة والترمذي والبيهقي من حديث جابر أن النبي صلى الله وسلم عليه قضى باليمين مع الشاهد وهو من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر وقد روي من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن علي أن النبي صلى الله وسلم عليه قضى بشهادة شاهد واحد ويمين صاحب الحق أخرجه أحمد والدارقطني ، وقد صحح حديث جابر أبو عوانة وابن خزيمة . وأخرجه أبو داود وأبن ماجه والترمذي من حديث أبي هريرة قال : قضى رسول الله صلى الله وسلم عليه باليمين مع الشاهد الواحد ، ورجال إسناده ثقات وصححه أبو حاتم وأبو زرعة وأخرجه ابن ماجة وأحمد من حديث سرق ورجاله رجال الصحيح الا الراوي له عن سرق فإنه مجهول . وقد ذكر ابن الجوزي في التحقيق عدد من روى هذا الحديث يعني حكمه صلى الله وسلم عليه بالشاهد واليمين من الصحابة فزاد على عشرين صحابياً وإليه ذهب الجمهور من الصحابة فمن بعدهم ، ويروى عن زيد بن علي والزهري والنخعي وابن شبرمة والحنفية أنه لا يجوز الحكم بشاهد ويمين ، وأحاديث هذا الباب ترد عليهم . قلت : قال مالك في الموطأ مضت السنة في القضاء باليمين مع الشاهد الواحد يحلف صاحب الحق مع شاهدة ويستحق حقه فإن نكل أو أبى أن يحلف أحلف المطلوب فإن حلف سقط عنه ذلك الحق وإن أبى أن يحلف ثبت عليه الحق لصاحبه . قال مالك : وإنما يكون ذلك في الأموال خاصة ولا يقع ذلك في شئ من الحدود ولا في نكاح ولا في طلاق ولا في عتاقة ولا في سرقة ولا في فرية . قال مالك : ومن الناس من يقول لا يكون اليمين مع الشاهد الواحد ويحتج بقول الله تبارك وتعالى فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء يقول : فإن لم يأت برجل وامرأتين فلا شئ له ولا يحلف مع شاهده . قال مالك : فمن الحجة على من قال ذلك القول أن يقال له أرأيت لو أن رجلاً ادعى على رجل مالاً أليس يحلف المطلوب ما ذلك الحق عليه فان حلف بطل ذلك عنه وإن نكل عن اليمين حلف صاحب الحق أن حقه لحق وثبت حقه على صاحبه فهذا مالا اختلاف فيه عند أحد من الناس ولا ببلد من البلدان فبأي شئ أخذ هذا وفي أي كتاب الله وجده فإذا أقر بهذا فليقر باليمين مع الشاهد وإن لم يكن ذلك في كتاب الله وإنه ليكفي ذلك ما مضى من السنة ولكن المرء قد يحب أن يعرف وجه الصواب وموقع الحجة ففي هذا يجيء بيان إن شاء الله تعالى . قال في المسوى : وعلى هذا أهل العلم إلا مسألة القضاء بالشاهد الواحد مع يمين المدعي في الأموال خاصة . قال الشافعي  : يجوز ذلك .

وقال أبو حنيفة : لا يجوز وقد قال تعالى في حد القذف : فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون وقال في الطلاق : وأشهدوا ذوي عدل منكم وقال في الدين : واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى وقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب وهو عامل على الكوفة أن اقض باليمين مع الشاهد . وأن أبا سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار سئلا هل يقضى باليمين مع الشاهد فقالا نعم .

والحاصل أن شهود الزنا أربعة ، وشهود سائر الحقوق اثنان ، وشهود الأموال رجلان أو رجل وامرأتان ، فإن لم يتيسر قضى بيمين المدعي مع الشاهد الواحد .

أقول : الحق ان الحكم بالشاهد العدل واليمين واجب وقد ثبت ذلك في السنة ثبوتاً لا ينكره إلا من لا يعرف السنة وجملة من رواه من الصحابة زيادة على عشرين رجلاً وللمانعين من ذلك أجوبة خارجة عن الإنصاف وأشف ما تمسكوا به أن الله تعالى أمر بإشهاد رجلين . وقال (ﷺ) شاهداك أو يمينه ولا يخفاك أنه ليس في ذلك ما يفيد الحصر بل غاية ما فيه أن مفهومه يدل على عدم قبول الشاهد الواحد مع اليمين ، ولا حكم لهذا المفهوم مع وجود المنطوق وهو القضاء بالشاهد واليمين مع أن هذا المفهوم هو مفهوم لقب وهو مما لا يعمل به نحارير الأصول كما ذلك معروف . وقد استوفى الماتن حجج الجميع في شرح المنتقى فليرجع إليه .

و يجوز الحكم بيمين المنكر لما قدمنا من أن اليمين على المنكر وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث وائل بن حجر أن النبي (ﷺ) قال للكندي : ألك بينة قال : لا . قال : فلك يمينه . فقال : يا رسول الله الرجل فاجر لا يبالى على ما حلف عليه ، وليس يتورع من شئ فقال ليس لك منه إلا ذلك .

و يجوز الحكم بيمين الرد لأن من عليه الحق قد رضي بها سواء قلنا انها تجب على المدعي عند ردها من المنكر أم لا . وقد استدل من لم يجعلها مستنداً بمفهوم الحصر في قوله صلى الله وسلم عليه : ولكن اليمين على المدعي عليه كما في بعض ألفاظ حديث ابن عباس عند مسلم وغيره ولقوله في حديث وائل : ليس لك منه إلا ذلك ولكن هذا إنما يفيد أنها لا تجب على المدعي إذا ردها المنكر وأما أنه يفيد عدم جواز الحكم بيمين الرد إذا طلبها المنكر ورضي بها وقبل ذلك المدعي فحلف فلا . وأما ما رواه الدارقطني والحاكم والبيهقي من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله وسلم عليه رد اليمين على طالب الحق فلو صح لكان صالحاً لتخصيص ما تقدم ولكن في إسناده محمد بن مسروق وهو غير معروف وفي إسناده أيضاً اسحق بن الفرات وفيه مقال . وقد أشار القرآن الكريم إلى رد اليمين بقوله : أن ترد أيمان بعد أيمانهم ولكن فيه احتمال إذ يمكن أن يكون المراد برد اليمين عدم قبولها . وأما النكول فلا يجوز الحكم به لأن غاية ما فيه أن من عليه اليمين بحكم الشرع لم يقبلها ويفعلها وعدم فعله لها ليس بإقرار بالحق بل ترك لما جعله الشارع عليه بقوله ولكن اليمين على المدعي عليه فعلى القاضي أن يلزمه بعد النكول عن اليمين بأحد الأمرين : أما اليمين التي نكل عنها أو الإقرار بما ادعاه المدعي وأيهما وقع كان صالحاً للحكم به كما مر .

و يجوز الحكم بعلمه لأن ذلك من العدل والحق اللذين أمر الله بالحكم بهما ، وليس في الأدلة ما يدل على المنع من ذلك وحديث شاهداك أو يمينه لا حصر فيه ومما يؤيده جواز الحكم بعلم الحاكم ما ثبت من قوله صلى الله وسلم عليه للمدعي ألك بينة فإن البينة ما يتبين به الأمر وليس بعد العلم بيان بل هو أعلى أنواع البيان فإنه لا يحصل من سائر المستندات للحكم به إلا مجرد الظن بأن المقر صادق في إقراره والحالف بار في يمينه والشاهد صادق في شهادته ، وإذا جاز الحكم بمستند لا يفيد إلا الظن فكيف لا يجوز الحكم بالعلم واليقين وفي هذه المسألة مذاهب مختلفة . وقد احتج أهل كل مذهب بحجج لا تصلح ولا تنطبق على محل النزاع وأقربها ما أخرجه أحمد والنسائي والحاكم من حديث أبي هريرة قال : جاء رجلان يختصمان إلى رسول الله صلى الله وسلم عليه فقال للمدعي : أقم البينة فلم يقمها فقال للآخر : احلف فحلف بالله الذي لا إله إلا هو ماله عنده شئ فقال رسول الله صلى الله وسلم عليه : قد فعلت ولكن غفر لك بإخلاص لا إله إلا الله وفي رواية الحاكم بل هو عندك إدفع إليه حقه وأما أقوال الصحابة فلا تقوم بها الحجة إلا إذا أجمعوا على ذلك عند من يقول بحجية الإجماع .

أقول : حكم القاضي بعلمه هذا هو الحق ، ومن منع من ذلك لم يأت بحجة واضحة ، وليس في الأدلة المقتضية لوجوب الشاهدين أو اليمين أو ما يقوم مقام أحدهما دليل يدل على انحصار مستند الحكم فيها ، ولا ريب أن الحاصل عن مثل الشهادة من عدلين أو يمين من ثقة أو نكول أو إقرار هو مجرد الظن للحاكم فقط ، لأن من الجائز أن يكذب الشاهدان ويفجر الحالف في يمينه ويكذب المقر في إقراره . وأما العلم فلا يكون إلا عن مشاهدة أو ما يقوم مقامها وهو أولى من الظن بلا نزاع . وقد تقرر في الأصول أن فحوى الخطاب معمول به عند جميع المحققين وهذا منه ، فإن العلم أولى من الظن عقلاً وشرعاً ووجداناً ، والأدلة العامة شاملة له كالآيات التي ذكروها ، وتخصيص الحدود بقول عمر مما لا يرتضيه الإنصاف ، لأن المقام من مجالات الإجتهاد واجتهاده ليس بحجة علىغيره. ودعوى الإجماع هي من تلك الدعاوي التي قد عرفناك بها غير مرة . وقد حقق الماتن هذا البحث في شرح المنتقى بما لم أجده لغيره .

ولا تقبل شهادة من ليس بعدل لقوله تعالى : وأشهدوا ذوي عدل منكم وقوله تعالى : ممن ترضون من الشهداء وقوله تعالى : إن جاءكم فاسق بنبإ الآية : وقد حكي في البحر الاجماع على أنها لا تصح شهادة فاسق . قلت : شرط الشاهد كونه مسلماً حراً مكلفاً أي عاقلاً بالغاً ضابطاً ناطقاً عدلاً ذا مروءة ليست به تهمة وعليه أكثر أهل العلم في الجملة . غير أنهم اختلفوا في بعض التفاصيل فشهادة الذمي لا تقبل عند الشافعي على الإطلاق . وقال أبو حنيفة : شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض جائزة وإن اختلفت مللهم . وشهادة الصبيان لا تقبل عند الأكثرين إلا عند مالك في الجراح فيما بينهم خاصة مالم يصلوا إلى أهل بيتهم . وأثر عبد الله بن الزبير أنه كان يقضي بشهادة الصبيان فيما بينهم من الجراح معارض بقول ابن عباس أنها لا تجوز لأن الله تعالى يقول : ممن ترضون من الشهداء وحد العدالة أن يكون محترزاً عن الكبائر غير مصر على الصغائر . والمروءة هي ما تتصل بآداب النفس مما يعلم أن تاركه قليل الحياء ، وهي حسن الهيئة والسيرة والعشرة والصناعة ، فإذا كان الرجل يظهر من نفسه شيئاً مما يستحيي أمثاله من اظهاره في الأغلب يعلم به قلة مروءته وترد شهادته وإن كان ذلك مباحاً .

ولا تقبل شهادة الخائن ولا ذي العداوة وإن كان مقبول الشهادة على غيره لأنه متهم في حق عدوه ، ولا يؤمن أن تحمله عداوته على إلحاق ضرر به ، فإن شهد لعدوه تقبل إذا لم يظهر في عداوته فسق .

والمتهم والقانع لأهل البيت لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن أحمد وأبو داود والبيهقي قال : قال رسول الله صلى الله وسلم عليه : لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر على أخيه ولا تجوز شهادة القانع لأهل البيت والقانع الذي ينفق عليه أهل البيت . ولأبو داود في رواية ولا زان ولا زانية قال ابن حجر في التلخيص : وسنده قوي . والغمر بكسر المعجمة وسكون الميم بعدها راء مهملة الحقد ، أي لا تقبل شهادة العدو على العدو . وأخرج الترمذي والدارقطني والبيهقي من حديث عائشة مرفوعاً بلفظ لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر لأخيه ولا ظنين ولا قرابة وفي إسناده يزيد بن زياد الشافعي وهو ضعيف . وقد أخرج الدارقطني والبيهقي من حديث ابن عمر نحوه ، وفي إسناده عبد الأعلى وشيخه يحيى بن سعيد الفارسي وهما ضعيفان . وأخرج أبو داود في المراسيل من حديث طلحة بن عبد الله بن عوف أن رسول الله (ﷺ) بعث منادياً أنها لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين ورواه البيهقي من طريق الأعرج مرسلاً أن رسول الله صلى الله وسلم عليه قال : لا تجوز شهادة ذي الظنة والحنة يعني الذي بينك وبينه عداوة ورواه الحاكم من حديث العلاء عن أبيه عن أبي هريرة يرفعه مثله . قال ابن حجر : وفي إسناده نظر . والمراد بالمتهم هو من يظن به أنه يشهد زوراً لمن يحابيه كالقانع والعبد لسيده . وقد حكي في البحر الإجماع على عدم قبول شهادة العبد لسيده . قال في المسوى : ولا تجوز شهادة الوالد لولده ولا الولد لوالده ويجوز عليهما . وكذا لا تقبل شهادة من جر إلى نفسه نفعاً كمن شهد لرجل بشراء دار وهو شفيعها أو شهد للمفلس واحد من غرمائه بدين على رجل أو شهد على رجل أنه قتل مورثه فهذه كلها مواضع التهمة . واتفقوا على قبول شهادة الأخ للأخ وسائر الأقارب ، واختلفوا في شهادة أحد الزوجين لصاحبه فلم يجزها أبو حنيفة وأجازها الشافعي .

أقول : الحق أن القرابة بمجردها ليست بمانعة سواء كانت قريبة أو بعيدة إنما المانع التهمة ، فإذا كان القريب ممن تأخذه حمية الجاهلية ولا يردعه عن العصبية دين ولا حياء فشهادته غير مقبولة ، وإن كان على العكس من ذلك فشهادته مقبولة . والأصل في المنع من قبول شهادة المتهم حديث لا تقبل شهادة ذي الظنة والحنة والظنة هي التهمة ولم يرد ما يدل على منع شهادة القريب لأجل القرابة .

والقاذف لقوله تعالى : ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً بعد قوله : والذين يرمون المحصنات وقد وقع الخلاف في كتب التفسير والأصول في حكم التوبة المذكورة في آخر الآية . قالمالك : الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا أن الذي يجلد الجلد ثم تاب وأصلح تجوز شهادته وهو أحب ما سمعت إلي في ذلك قلت : وعليه الشافعي . وذهب أبو حنيفة إلى أن شهادة القاذف لا ترد بالقذف فإذا حد فيه ردت شهادته على التأبيد وإن تاب . وأصل المسألة أن الإستثناء يعود إلى الفسق فقط في قول أهل العراق ، وإلى الفسق وعدم قبول الشهادة جميعاً في قول أهل الحجاز ، وقال الشافعي  : هو قبل أن يحد شر منه حين يحد ، لأن الحدود كفارات ، فكيف ترودنها في أحسن حاليه وتقبلونها في شر حاليه ، وإذا قبلتم توبة الكافر والقاتل عمداً كيف لاتقبلون توبة القاذف وهو أيسر ذنباً . قيل : معنى قول أبي حنيفة أن القاذف ما لم يحد يحتمل أن يكون صادقاً وأن يكون معه شهود تشهد بالزنا ، فإذا لم يأت بالشهداء وأقيم عليه الحد صار مكذباً بحكم الشرع لقوله تعالى : فأولئك عند الله هم الكاذبون فوجب رد شهادته ، ثم رد شهادة المحدود في القذف تأبيدي عنده لقوله تعالى : ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا والتأبيد ينافي التعليق فلا يجري فيه القياس . وقال الواحدي : أبد كل إنسان مقدار مدته فيما يتصل بقصته يقال : الكافر لا يقبل منه شئ أبداً معناه ما دام كافراً . كذلك القاذف لا تقبل شهادته أبداً ما دام قاذفاً فإذا زال عنه الكفر أبده ، وإذا زال عنه الفسق زال أبده لا فرق بينهما في ذلك .

ولا تقبل شهادة بدوي على صاحب قرية لحديث أبي هريرة أنه سمع رسول الله (ﷺ) يقول : لاتجوز شهادة بدوي على صاحب قرية أخرجه أبو داود وابن ماجة والبيهقي . قال المنذري : رجال إسناده احتج بهم مسلم في صحيحه. قال في النهاية : إنما كره شهادة البدوي لما فيه من الخفاء في الدين والجهالة بأحكام الشرع ولأنهم في الغالب لا يضبطون الشهادة على وجهها ، وبنحو هذا قال الخطابي . وروى نحوه عن أحمد بن حنبل ، وذهب إلى ذلك جماعة من أصحاب أحمد ، وبه قال مالك وأبو عبيد ، وذهب الأكثر إلى القبول . قال ابن رسلان : وحملوا هذا الحديث على من لم تعرف عدالته من أهل البدو والغالب أنهم لا تعرف عدالتهم انتهى . وهذا توجيه قوي ومحمل سوي .

وتجوز شهادة من يشهد على تقرير فعله أو قوله إذا انتفت التهمة لأنه لم يرد ما يمنع من ذلك حتى يخصصه من عموم الأدلة ، وأيضاً حديث قبول خبر المرضعة وقوله (ﷺ) بعد خبرها كيف وقد قيل ورتب على خبرها التحريم وقد تقدم في الرضاع ، وهي شهدت على تقرير فعلها كما لا يخفى ، ولم يستدل المانع إلا على أن الشاهد إذا شهد على تقرير قوله أو فعله لم يخل من تهمة ، وقد قيدنا ذلك بانتفاء التهمة وأما تحليف الشهود عند الريبة فالظاهر أنه من جملة التثبيت المأمور به ولا سيما مع فساد الزمان وتواثب كثير من الناس على شهادة الزور . وكثيراً ما يتحرج بعض المتساهلين في الشهادة عن اليمين الفاجرة والبعض بالعكس من ذلك . ولم يرد ذلك على المنع من تحليف الشهود. وأما الإستدلال بقوله تعالى فيقسمان بالله ففي انطباقه على محل النزاع خلاف ، وأما تفريق الشهود فهو من أعظم ما يستعان به على الفرق بين صدقة الشهادة وكذبها ، ولا سيما إذا سألهم الحاكم عن بعض الأحوال التي تجوز تواطؤهم عليها . قال الماتن رحمه الله في حاشية الشفاء : ولقد انتفعت بتفريق الشهود وتنويع سؤالهم وقل ما تصح شهادة بعد ذلك ، والحاكم لا يحل له التساهل بل يجب عليه إكمال البحث عن كل ما يتوصل به إلى كشف الحقيقة وهذا منه .

وشهادة الزور من أكبر الكبائر لحديث أنس في الصحيحين وغيرهما قال : ذكر رسول الله (ﷺ) الكبائر أو سئل عن الكبائر فقال : الشرك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين وقال : ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قول الزور أو قال شهادة الزور وفي الصحيحين أيضاً من حديث أبي بكرة قال : قال رسول الله (ﷺ) : ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قلنا بلى يارسول قال : الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئاً فجلس وقال : ألا وقول الزور وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت ثم أقول : المراد بالشهادة الإخبار بما يعلمه الشاهد عند التحاكم بأي لفظ كان وعلى أي صفة وقع ، ولا يعتبر إلا أن يأتي بكلام مفهوم يفهمه سامعه ، فإذا قال مثلاً رأيت كذا وكذا أو سمعت كذا وكذا فهذه شهادة شرعية . وقد أحسن المحقق ابن القيم رحمه الله حيث قال في فوائده : ليس مع من اشترط لفظ الشهادة فيها دليل لا من كتاب ولا من سنة ولا اجماع ولا قياس صحيح انتهى . وقد تقرر في محله أن اشتراط الألفاظ إنما هو صنيع من لم يمعن النظر في حقائق الأشياء ولا وصل إلى أن يعقل أن الألفاظ غير مرادة لذاتها وإنما هي قوالب للمعاني تؤدى بها ، فإذا قد حصلت التأدية للمعنى المراد ، فاشتراط زيادة على ذلك لم تدل عليه رواية ولا دراية .

وإذا تعارض البينتان ولم يوجد وجه ترجيح قسم المدعى لحديث أبي موسى عند أبو داود والحاكم والبيهقي أن رجلين ادعيا بعيراً على عهد رسول الله (ﷺ) فبعث كل واحد منهما بشاهدين فقسمه النبي (ﷺ) بينهما نصفين وقد أخرج نحوه ابن حبان من حديث أبي هريرة وصححه وأخرجه ابن أبي شيبه من حديث تميم بن طرفة ، ووصله الطبراني عن جابر بن سمرة . وقد ثبت عنه (ﷺ) قسمة المدعى إذا لم يكن للخمصين بينة ، فأخرج أحمد وابن ماجة والنسائي من حديث أبي موسى أن رجلين اختصما إلى رسول الله (ﷺ) في دابة ليس لواحد منهما بينة فجعلها بينهما نصفين وثبتت قسمة المدعى عنه (ﷺ) في حديث أبي موسى المذكور أولاً بزيادة ذكرها النسائي فقال : ادعيا دابة وجداها عند رجل فأقام كل منهما شاهدين فلما أقام كل واحد منهما شاهدين نزعت من يد الثالث أو دفعت إليهما .

وإذا لم يكن للمدعي بينة فليس له إلا يمين صاحبه ولو كان فاجراً لحديث الأشعت بن قيس في الصحيحين وغيرهما قال : كان بيني وبين رجل خصومة في بئر فاختصمنا إلى رسول الله (ﷺ) فقال شاهداك أو يمينه فقلت : أنه إذن يحلف ولا يبالي فقال : من حلف على يمين يقتطع بها مال أمريء مسلم لقي الله وهو عليه غضبان وأخرج مسلم وغيره من حديث وائل بن حجر أن النبي (ﷺ) قال للكندي : ألك بينة قال : لا . قال : فلك يمينه فقال يارسول الله : الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه وليس يتورع من شئ فقال : ليس لك منه إلا ذلك .

ولا تقبل البينة بعد اليمين لما يفيده قوله (ﷺ) شاهداك أو يمينه فاليمين إذا كانت تطلب من المدعي فهي مستند للحكم صحيح ، ولا يقبل المستند المخالف لها بعد فعلها لأنه لا يحصل بكل واحد منهما إلا مجرد ظن ولا ينقض الظن بالظن ، وقد ذهب إلى هذا بعض أهل العلم والخلاف معروف .

ومن أقر بشئ عاقلاً بالغاً غير هازل ولا بمحال عقلاً أو عادة لزمه ما أقر به كائناً ما كان لما تقدم ، وأما تقييده بكون المقر عاقلاً بالغاً فلأن المجنون والصبي ليسا بمكلفين فلا حكم لإقرارهما . وأما تقييده بكونه غير هازل فلكون إقرار الهازل ليس هو القرار الذي يجوز أخذه به ، وهكذا إذا أقر بما يحيله العقل أو العادة لأن كذبه معلوم ولا يجوز الحكم بالكذب .

ويكفي مرة واحدة من غير فرق بين موجبات الحدود وغيرها كما سيأتي لكون المقر بالشئ على نفسه قد لزمه إقراره وإعتبار التكرار في الحدود سيأتي أنه لم يثبت عليه يوجب المصير إليه .