إنما يصح إذا ابتغى به وجه الله فلا بد أن يكون قربة ولا نذر في معصية الله لأنه قد ورد النهي عن النذر . كما في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر قال : نهى رسول الله (ﷺ) عن النذر وقال : أنه لا يرد شيئاً وإنما يستخرج به من مال البخيل وفيهما أيضاً من حديث أبي هريرة نحوه ثم ورد الأذن بالنذر في الطاعة ، والنهي عنه في المعصية ، كما في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة عن النبي (ﷺ) قال : من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه وعلى ذلك يحمل قوله تعالى : يوفون بالنذر وقد أخرج الطبري بسند صحيح عن قتادة في قوله تعالى : يوفون بالنذر قال : كانوا ينذرون طاعة الله من الصلاة والصيام والزكاة والحج والعمرة وما افترض عليهم فسماهم الله أبراراً . وورد بلفظ الحصر أنه لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه الله ، كما أخرجه أحمد بن حنبل و أبو داود وغيرهما من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي (ﷺ) قال : لا نذر إلا فيما ابتغى به وجه الله وأخرج مسلم وغيره من حديث ابن عباس قال : قال رسول الله (ﷺ) من نذر نذراً في معصية فكفارته كفارة يمين وأخرج أحمد بن حنبل وأهل السنن من حديث عائشة أن النبي (ﷺ) قال : لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين والأحاديث في هذا الباب كثيرة .
ومن النذر في المعصية ما فيه مخالفة للتسوية بين الأولاد لما قدمنا في كتاب الهدايا .
أو مفاضلة بين الورثة مخالفة لما شرعه الله لأن المخالفة لذلك معصية ولا نذر في معصية كما تقدم .
ومنه النذر على القبور لكون ذلك ليس من النذر في الطاعة ولا من النذر الذي يبتغى به وجه الله تعالى . بل قد يكون من النذر في المعصية إذا كان يتسبب عنه اعتقاد باطل في صاحب القبر كما يتفق ذلك كثيراً . وقد أخرج أبو داود بإسناد صالح عن سعيد بن المسيب أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال : إن عدت تسألني القسمة فكل مالي في رتاج الكعبة فقال له عمر : إن الكعبة غنية عن مالك كفر عن يمينك ولا تنذر في معصية الرب ولا في قطيعة الرحم ولا فيما لا تملك وأخرج مالك والبيهقي بسند صحيح وصححه ابن السكن عن عائشة أنها سئلت عن رجل جعل ماله في رتاج الكعبة أن كلم ذا قرابة فقالت : يكفر عن اليمين وإذا كان هذا في الكعبة فغيرها من المشاهد والقبور بالأولى . قلت : اختلف أهل العلم في النذر إذا خرج مخرج اليمين مثل : أن يقول : إن كلمت فلاناً فلله علي عتق رقبة ، أو أن دخلت الدار فلله علي أن أصوم أو أصلي ، فهذا نذر أخرج مخرج اليمين لأنه قصد به منع نفسه عن الفعل ، كالحالف يقصد بيمينه منع نفسه عن الفعل . فأصح قولي الشافعي أنه بمنزلة اليمين عليه الكفارة أن حنث والمشهور من مذهب أبي حنيفة أن عليه الوفاء بما سمى الرتاج الباب وجعل ماله في رتاج الكعبة معناه جعله لها . كنى عنها بالباب لأنه يدخل إليها منه
وعلى ما لم يأذن به الله كالنذر على المساجد لتزخرف ، أو على أهل المعاصي ليستعينوا بذلك على معاصيهم . فإن ذلك من النذر في المعصية ، وأقل الأحوال أن يكون النذر على ما لم يأذن به الله خارجاً عن النذر الذي أذن الله به ، وهو النذر في الطاعة وما ابتغي به وجه الله فيشمل هذا كل نذر على مباح أو مكروه أو محرم .
ومن أوجب على نفسه فعلاً لم يشرعه الله لم يجب عليه لحديث ابن عباس عند البخاري وغيره قال : بينا النبي (ﷺ) يخطب إذ هو برجل قائم فسأل عنه فقالوا : أبو اسرائيل نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم وأن يصوم فقال النبي (ﷺ) : مروه ليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه وأخرج أحمد بن حنبل من حديث عمر بن شعيب عن أبيه عن جده نحوه فيمن نذر أن لا يزال في الشمس حتى يفرغ النبي (ﷺ) من خطبته فقال له النبي (ﷺ) : إنما النذر فيما ابتغي به وجه الله قلت : وعلى هذا أهل العلم .
وكذلك إن كان النذر مما شرعه الله وهو لا يطيقه لم يجب عليه الوفاء به لحديث أنس في الصحيحين وغيرهما أن النبي (ﷺ) رأى شيخاً يهادي بين إبنيه فقال : ما هذا ؟ قالوا : نذر أن يمشي قال : ان الله عن تعذيب هذا نفسه لغني وأمره أن يركب زاد النسائي في رواية نذر أن يمشي إلى بيت الله وأخرج أبو داود بإسناد صحيح عن النبي (ﷺ) قال : من نذر نذراً لم يسمه فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذراً لم يطقه فكفارته كفارة يمين وأخرجه أيضاً ابن ماجه وزاد من نذر نذراً أطاقه فليف به ومن ذلك أمره (ﷺ) لمن نذر أن يمشي إلى الكعبة بالركوب كما في الصحيحين من حديث عقبة بن عامر . وفي مسند أحمد بن حنبل وسنن أبو داود من حديث ابن عباس وفي مسند أحمد بن حنبل من حديث عقبة بن عامر . قلت : ذهب أبو حنيفة و الشافعي في أصح قوليه إلى أن عليه دم شاة . وذهب بعضهم إلى أنه لا يجب إلا على وجه الإحتياط لحديث أنس في مثل هذه الصورة ولم يذكر هدياً ولا قضاء .
ومن نذر نذراً لم يسمه أو كان معصية أولا يطيقه فعليه كفارة يمين لحديث عقبة ابن عامر عند ابن ماجه و الترمذي وصححه قال: قال رسول الله (ﷺ) : كفارة النذر إذا لم يسمه كفارة يمين وهو في صحيح مسلم دون قوله : إذا لم يسمه وقد تقدم حديث ابن عباس قريباً فيمن نذر نذراً لم يسمه وأخرج مسلم من حديث ابن عباس عن النبي (ﷺ) قال : من نذر نذراً في معصية فكفارته كفارة يمين كذا نسبه صاحب المنتقى إلى مسلم وفيه نظر وهو عند أبو داود و ابن ماجه و أحمد بن حنبل . وأخرج أحمد بن حنبل وأهل السنن أن النبي (ﷺ) قال لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين وفي إسناده مقال . وأخرج أبو داود و ابن ماجه بإسناد صحيح من حديث ابن عباس أن النبي (ﷺ) : قال من نذر نذراً لم يطقه فكفارته كفارة يمين وهكذا أمر (ﷺ) المرأة التي نذرت أن تمشي وهي لا تطيق بأن تكفر كما أخرجه أحمد بن حنبل و أبو داود .
أقول : النذر بالمباح يصدق عليه مسمى النذر ، فيدخل تحت العمومات المتضمنة للأمر بالوفاء به . ويؤيد ذلك ما أخرجه أبو داود أن إمرأة قالت يا رسول الله : إني نذرت إذا انصرفت من غزوتك سالماً أن أضرب على رأسك بالدف فقال لها : أوفي بنذرك وضرب الدف إذا لم يكن مباحاً فهو إما مكروه ، أو أشد من المكروه ، ولا يكون قربة أبداً ، فإن كان مباحاً فهو دليل على وجوب الوفاء بالمباح ، وإن كان مكروهاً فالأذن بالوفاء به يدل على الوفاء بالمباح بالأولى . وكذلك إيجاب الكفارة على من نذر نذراً لم يسمه يدل على وجوب الكفارة بالأولى في المباح .
فالحاصل : أن النذر بالمباح لا يخرج عن أحد القسمين . إما وجوب الوفاء به أو وجوب الكفارة مع عدم الوفاء . ولا ينافي ذلك ما ثبت عنه (ﷺ) من الأذن لمن نذرت أن تمشي إلى بيت الله حافية غير مختمرة بأن تختمر وتركب لأنه (ﷺ) أمرها مع ذلك بصيام ثلاثة أيام . وفي رواية أنه أمرها بأن تهدي بدنة . ومثل ذلك حديث الشيخ الذي نذر أن يمشي فقال (ﷺ) إن الله لغني عن تعذيب هذا نفسه فإنه لا يعارض ما قدمنا لوجهين : الأول أن عدم التصريح بوجوب الكفارة عليه لا ينافي الأحاديث المصرحة بوجوبها . والثاني أنه رآه يضعف عن ذلك كما في الرواية أنه رآه يهادي بين إبنيه ولهذا قال : إن الله لغني عن تعذيب هذا نفسه ومحل النزاع من نذر بمباح مقدرو له من غير تعذيب لنفسه ثم تعذيب النفس إن كان من قبيل المعصية فقد ثبت أن في نذر المعصية كفارة يمين وإن كان لكونه يلحق بغير المقدور . فقد ثبت أن من نذر فيما لا يملك فعليه كفارة يمين وما ليس بمقدور للإنسان داخل فيما لا يملكه . وقد أخرج أبو داود حديثاً وفيه ومن نذر نذراً لا يطيقه فكفارته كفارة يمين .
والحاصل : أن النذر إن كان بطاعة مقدورة وجب الوفاء به سواء كانت تلك الطاعة واجبة أو مندوبة ، وإن كان بغير طاعة فهو إما من المباح أو الحرام أو المكروه ، فإن كان من المباح فقد تقدم ، وإن كان من الحرام فقد ثبت وجوب الكفارة فيه مع المنع من الوفاء به ، وإن كان مكروهاً فهو إما أن يكون لاحقاً بالحرام أو بالمباح . إن كان الأول وجبت الكفارة ولم يجز الوفاء به . وإن كان الثاني فقد تقدم . هذا خلاصة الكلام في أنواع النذر ، ولا دليل بيد من لم يوجب الوفاء ، ولا الكفارة في المندوب والمباح .
ومن نذر بقربة وهو مشرك ثم أسلم لزمه الوفاء لحديث عمر في الصحيحين وغيرهما أنه قال : قلت يارسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف في المسجد الحرام فقال أوف بنذرك وأخرج أحمد بن حنبل و ابن ماجه عن ميمونة بنت كردم أن أباها سأل النبي (ﷺ) فقال يا رسول الله : إني نذرت أن أنحر ببوانة فقال : أبها وثن أو طاغية ؟ قال لا . قال : أوف بنذرك ورجال إسناده رجال الصحيح . وأخرج أبو داود نحوه من حديث
ولا ينفذ النذر إلا من الثلث لحديث كعب بن مالك في الصحيحين أنه قال : يا رسول الله إن من توبتي أن انخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله فقال النبي (ﷺ) أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك وفي لفظ ل أبو داود أن من توبتي إلى الله أن أخرج من مالي كله إلى الله ورسوله صدقة قال : لا . قلت : فنصفه ؟ قال : لا . قلت : فثلثه ؟ قال : نعم وفي إسناده محمد بن إسحق . وفي لفظ ل أبو داود أنه قال له : يجزي عنك الثلث وأخرج أحمد بن حنبل و أبو داود من حديث أبي لبابة بن عبد المنذر لما تاب الله عليه قال : يا رسول الله إن من توبتي أن أهجر دار قومي وأساكنك ، وأن انخلع من مالي صدقة لله عز وجل ولرسوله فقال : يجزي عنك الثلث قلت : وهو قول أهل العلم في الجملة . ولو حلف الرجل بصدقة ماله أو قال : مالي في سبيل الله فقال قوم : عليه كفارة يمين وهو من نذر اللجاج وعليه الشافعي . وقال مالك : يخرج ثلث ماله لحديث أبي لبابة المذكور . وقال أبو حنيفة : ينصرف ذلك إلى كل ما يجب فيه الزكاة من عينه من المال دون ما لا زكاة فيه من العقار والدواب ونحوها .
وإذا مات الناذر بقربة ففعلها عنه ولده أجزأه ذلك لحديث ابن عباس أن سعد ابن عبادة استفتى رسول الله (ﷺ) أن أمي ماتت وعليها نذر لم تقضه فقال رسول الله (ﷺ) اقضه عنها أخرجه أبو داود و النسائي بإسناد صحيح . وأصل القصة في الصحيحين . وفي البخاري أن ابن عمر أمر امرأة جعلت أمها على نفسها صلاة بقباء ثم ماتت أن تصلي عنها وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس نحو ذلك بإسناد صحيح ، وقد روي عنهما خلاف ذلك . قلت: هو القول القديم للشافعي أن من فاته شئ من رمضان وتمكن من قضائه ثم مات ولم يقض ، وكذا النذر والكفارة تدارك عنه وليه إما بالصوم عنه أو الإطعام من تركته . قال النووي : القديم ههنا أظهر . وقال محمد : ما كان من نذر أو صدقة أو حج قضاها الولي أجزأ ذلك إن شاء الله تعالى ، وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا