إنما يصح قضاء من كان مجتهداً لما في الكتاب العزيز من الأمر بالقضاء بالعدل والقسط وبما أراه الله ، ولا يعرف العدل إلا من كان عارفاً بما في الكتاب والسنة من الأحكام ، ولا يعرف ذلك إلا المجتهد لأن المقلد إنما يعرف قوله إمامه دون حجته وهكذا لا يحكم بما أراه الله إلا من كان مجتهداً لا من كان مقلداً فما أراه الله شيئاً بل أراه أمامه ما يختاره لنفسه ومما يدل على اعتبار الإجتهاد حديث بريدة عن النبي (ﷺ) قال القضاة ثلاثة واحد في الجنة وإثنان في النار فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به ورجل عرف الحق وجار في الحكم فهو في النار ، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار أخرجه ابن ماجة وأبو داود والنسائي والترمذي والحاكم وصححه ، وقد جمع ابن حجر طرقه في جزء مفرد ، ووجه الدلالة منه أنه لا يعرف الحق إلا من كان مجتهداً ، وأما المقلد فهو يحكم بما قال إمامه ولا يدري أحق هو أم باطل فهو القاضي للناس على جهل وهو أحد قاضيي النار ، ومن الأدلة على اشتراط الإجتهاد قوله تعالى : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون و الظالمون و الفاسقون ولا يحكم بما أنزل الله إلا من يعرف التنزيل والتأويل ، ومما يدل على ذلك حديث معاذ لما بعثه (ﷺ) إلى اليمن فقال له : بما تقضي قال : بكتاب الله قال : فإن لم تجد قال : فبسنة رسول الله قال : فإن لم تجد قال فبرأيي قال الماتن : وهو حديث مشهور قد بينت طرقه ومن خرجه في بحث مستقل ومعلوم أن المقلد لا يعرف كتاباً ولا سنة ولا رأي له بل لا يدري بأن الحكم موجود في الكتاب أو السنة فيقضي به ، أو ليس بموجود فيجتهد برأيه . فإذا ادعى المقلد أن حكم برأيه فهو يعلم أنه يكذب على نفسه لاعترافه بأنه لايعرف كتاباً ولاسنة ، فإذا زعم أنه حكم برأيه فقد أقر على نفسه أنه حكم بالطاغوت . وللسيد العلامة محمد بن إسمعيل الأمير رسالة مستقلة في تيسير الإجتهاد سماها إرشاد النقاد فليرجع إليها . أقول الحاصل أن المقلد ليس ممن يعقل حجج الله إذا جاءته فضلاً عن أن يعرف الحق من الباطل والصواب من الخطأ والراجح من المرجوح لا ينبغي أن ينسب المقلد إلى العلم مطلقاً ولهذا نقل عضد الدين الإجماع على أنه لا يسم المقلد عالماً ، وأما ما صار يستروح إليه من جوز قضاء المقلد من قلة المجتهدين في الأزمنة الأخيرة وأنه لو لم يل القضاء إلا من كان مجتهداً لتعطلت الأحكام فكلام في غاية السقوط ، فالمجتهدون في كل قطر ولكنهم في زمان غربة ، فمنهم من يخفي إجتهاده مخافة صولة المقصرين ، ومنهم من يحتقره المقلدون عن أن يكون مجتهداً لضيق إعطائهم وحقارة عرفانهم وتبلد أذهانهم وجمود قرائحهم وخمود أفكارهم ولا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا أهله .
ولقد عرفت مشايخي الذين أخذت عنهم العلم فأكثرهم مجتهدون . وفي مدينة صنعاء من المجتهدين من يستغني به عن القضاة المقلدين في جميع الأقطار اليمنية مع أنه لا يسلم لهم الإجتهاد إلا من كان مثلهم أو مقارباً لهم ، وأما إسراء التقليد فهيهات أن يذعن واحد واحد منهم لأحد بالإجتهاد مع أن العلوم المعتبرة في الإجتهاد عند هؤلاء المقلدين هي العلوم الخمسة المذكورة في كتب أصول الفقه وهي بالنسبة إلى ما يحفظ من وصفناه من المجتهدين شيء يسير . قال الماتن رحمه الله : ومن غريب ما أحكيه لك أنه لما كثر الخلط من قضاة حضرة الخلافة استأذنت الخليفة حفظه الله في جمعهم لقصد ترغيبهم في العدل وترهيبهم عن الجور ، فاجتمع منهم نحو أربعين قاضياً فسألتهم عن شئ مما يتعلق بشروط القضاء المدونة في كتب الفروع فلم يهتد أحد منهم إلى الجواب على وجه الصواب بل اعترفوا جمعياً بالقصور عن فهم دقائق التقليد فضلاً عن معرفة علوم الإجتهاد أو بعضها . وليت أنهم إذا قصروا لم يقصروا في الورع فإن الورع يردع صاحبه عن المجازفة ويرشده إلى أن شفاء العي السؤال ويكفه عن التسلق لأموال المسلمين ويرده عن التسرع إليها بأدنى شبهة . ولعمري أن القاضي إذا جمع بين الجهل وعدم الورع أشد على عباد الله من الشيطان لأنه يقضي بين الناس بالطاغوت موهماً لهم أنه إنما يقضي بينهم بالشريعة المطهرة ثم ينصب الجبائل لاقتناص أموالهم ويأكلها بالباطل ولا سيما أموال اليتامى والنساء . اللهم أصلح عبادك وتداركهم من كل ما لا يرضيك انتهى . فإن قلت حديث أن النبي (ﷺ) بعث علياً إلى اليمن قاضياً فقال يا رسول الله : بعثتني بينهم وأنا شاب لا أدري ما القضاء قال : فضرب رسول الله (ﷺ) في صدري وقال : اللهم اهده وثبت لسانه قال علي فوالذي فلق الحبة ما شككت في قضاء بين اثنين أخرجه أهل السنن وغيرهم . هل يدل على جواز قضاء من ليس بمجتهد لقوله أنا شاب ولا أدي ما القضاء قلت من تمسك بهذا فليأتنا برجل يدعو للقاضي الذي لا علم له بالقضاء بمثل هذه الدعوة النبوية حتى لا يشك بعدها كما لم يشك علي كرم الله وجهه بعد تلك الدعوة ، فإذا فعل هذا لنحن لا نخالفه ، والكلام على هذه المسألة يحتمل البسط وقد قضينا عنها الوطر في كتابنا ظفر اللاضي بما يجب في القضاء على القاضي فليراجع ، فإن فيه ما يشفي العليل ويهد إلى سواء السبيل .
متورعاً عن أموال الناس عادلاً في القضية حاكماً بالسوية لكون من لم يتورع عن أموال الناس لا يتورع عن الرشوة وهي تحول بينه وبين الحق كما سيأتي . وهكذا من لم يكن عادلاً لجرأة فيه أن مداهنة أو محاباة ، فهو يترك الحق وهو يعلم به فهو أحد قضاة النار لأنه عرف الحق وجار في الحكم . قال في الحجة البالغة : أقول لا يستوجب القضاء إلا من كان عدلاً بريئاً من الجور والميل وقد عرف منه ذلك ، وعالماً يعرف الحق لا سيما في مسائل القضاء والسر في ذلك واضح فإنه لا يتصور وجود المصلحة المقصودة إلا بها .
أقول : وأما توليه القضاء من جهة الظلمة فالسلطان الذي أوجب الله طاعته في كتابه العزيز وتوافرت الأحاديث الصحيحة بذلك هو من كان مسلماً لم يفعل ما يوجب كفراً بواحاً وكان مقيماً لأعظم أركان الاسلام وأجل شعائره . وهو الصلاة فهذا هو السلطان الذي تجب على الناس طاعته وامتثال أوامره ويحرم عليهم أن ينزعوا أيديهم في طاعته ولكن بشرط أن لا يكون ما يأمر به معصية لما ثبت أن لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وأن الطاعة في المعروف ، فإذا أمر بما هو من الطاعة وجب الإمتثال وأمره للعالم بأن يكون قاضياً هو أمر بطاعة يجب امتثاله بنص الكتاب والسنة ولا يقدح في ذلك كونه مرتكباً لشئ مما لا يحل له أو يظلم الرعية في بعض ما لا يحل له فإن ذلك أمر آخر لا يوجب سقوط طاعته ، ونعم القدوة السلف الصالح ، فقد كانوا يعملون لسلاطين بني أمية الأعمال ويلون لهم القضاء مع كونهم في العلم والعمل بمكان لا يجهله أحد ، وسلاطين تلك الأزمنة فيهم من يستحل الدماء بغير حقها ، والأموال بدون حلها . نعم القضاء قد ورد فيه ما يدل على الترغيب تارة والترهيب أخرى . بل ورد في الإمارة التي هي أعمل من القضاء ما يشعر بأن تجنبها أولى . والجمع بين الأحاديث فيما يظهر لي يرجع إلى الأشخاص ، فمن علم من نفسه القيام بالحق والصدع به وعدم الضعف في الأمر وقوة الصلابة في القضاء والعفة . عن الأموال والتسوية بين القوي والضعيف فالدخول في القضاء أولى له إن لم يكن واجباً عليه بشرط أن يكون في العلم على الصفة التي قدمنا ذكرها ومن كان يضعف عن هذه الأوصاف فالترك أولى به وقد يجب عليه الترك ، ومما يرشد إلى هذا قوله (ﷺ) لأبي ذر إني أراك ضعيفاً ثم أرشده إلى عدم الدخول في الإمارة كما ثبت ذلك في الحديث المشهور. وقد أوضحت المقام في رسالتي في القضاء وبسطت المقال على مسائل الإمامة في كتابي إكليل الكرامة في تبيان مقاصد الإمامة وهما هما في هذين البابين والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وهو المستعان وبه التوفيق .
ويحرم عليه الحرص على القضاء وطلبه لحديث عبد الرحمن بن سمرة في الصحيحين وغيرهما قال : قال رسول الله (ﷺ) : يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وأخرج أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي وحسنه من حديث أنس قال : قال رسول الله (ﷺ) : من سأل القضاء وكل إلى نفسه ومن جبر عليه ينزل عليه ملك يسدده وأخرج البخاري وغيره من حديث أبي هريرة عن النبي (ﷺ) قال : إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة فنعم المرضعة وبئست الفاطمة ولا ينافي هذه الأحاديث ما أخرجه أبو داود بإسناد لا مطعن فيه من حديث أبي هريرة عن النبي (ﷺ) قال : من طلب قضاء المسلمين حتى يناله ثم غلب عدله جوره فله الجنة ومن غلب جوره عدله فله النار لأن إثم الطلب قد لزمه بالطلب وحصل له الثواب بعد ذلك بالعدل الغالب على الجور . قال الماتن في نيل الأوطار : وقد كثر التتابع من الجهلة في هذا المنصب الشريف واشتروه بالأموال ممن هو أجهل منهم حتى عمت البلوى بهم جميع الأقطار اليمنية ا هـ . قلت : ومثل ذلك وقع في الحرمين الشريفين من جهة الترك فإنا لله وإنا إليه راجعون .
ولا يحل للإمام تولية من كان كذلك أي حريصاً على القضاء أو طالباً له لحديث أبي موسى في الصحيحين قال : دخلت على النبي (ﷺ) أنا ورجلان من بني عمي فقال : أحدهما يارسول الله أمرنا على بعض ما ولاك الله عز وجل وقال الآخر مثل ذلك فقال : إنا والله لا نولي هذا العمل أحداً يسأله أو أحداً يحرص عليه والسر فيه أن الطالب لا يخلو غالباً من داعية نفسانية من مال أو جاه أو التمكن من انتقام عدو ونحو ذلك . فلا يتحقق منه خلوص النية الذي هو سبب نزول البركات .
أقول : وأما أخذ الرزق على القضاء فمال الله موضوع لمصالح المسلمين ولهذا قيل له بيت مال المسلمين . ومن أعظم مصالح دينهم ودنياهم القاضي العادل في أحكامه العارف من الشريعة المطهرة بما يحتاج إليه في حله وإبرامه . بل ذلك هو المصلحة التي لا توازنها مصلحة لأنه يرشدهم إلى مناهج الشرع ويفصل خصوماتهم بأحكام الله ، فهو المحتمل لأعباء الدين المترجم عنه لمن يحتاج إليه من المسلمين فرزقه من بيت المال من أهم الأمور ولا سيما إذا استغرق أوقاته في فصل خصوماتهم فقد كان رسول الله (ﷺ) والخلفاء الراشدون ومن بعدهم من السلف الصالح يقسمون أموال الله بين المسلمين ويجعلون للعلماء نصيباً موفراً . فالقاضي إذا كان متورعاً عن أموال العباد قائماً بمصالح الحاضر منهم والباد فقد استحق ما يكفيه من بيت المال من جهات . منها كونه من المسلمين ، ومنها كونه عالماً ، ومنها كونه قاضياً . وأما ما اعتاده جماعة من القضاة من أخذ الأجرة من الخصوم على الرقوم فمن كان مكفياً من بيت مال المسلمين لا يحل له ذلك لأنه قد قبض أجرته من بيت المال وإن أظهر من يأتيه أن نفسه طيبة به فالذي أوجب طيبها كونه قاضياً وكون الأعراف قد جرت بمثل ذلك وإلا فهو لا يسمح له بماله لو لم يكن كذلك وهذا مما لا شك فيه ولا شبهة ، وأما إذا لم يكن مكفياً من بيت المال فشرط الحل أن يأخذ مقدار أجرته بطيبة من نفس من يقصده ويكون كالأجير له حكمه لكونه غير مؤجر من بيت مال المسلمين .
ومن كان متأهلاً للقضاء فهو على خطر عظيم لحديث أبي هريرة عند أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي والحاكم والبيهقي والدارقطني وحسنه الترمذي وصححه ابن خزيمة وابن حبان قال : قال رسول الله (ﷺ) : من جعل قاضياً بين الناس فقد ذبح بغير سكين قال في الحجة البالغة : هذا بيان أن القضاء حمل ثقيل وأن الإقدام عليه مظنة للهلاك إلا أن يشاء الله انتهى . وأخرج أحمد وابن ماجة والبيهقي من حديث ابن مسعود عن النبي (ﷺ) ما من حكم يحكم بين الناس إلا حبس يوم القيام وملك آخذ بقفاه حتى يقف به على جهنم ثم يرفع رأسه إلى الله عز وجل فإن قال القه ألقاه في مهوى فهوى أربعين خريفاً وفي إسناده عثمان بن محمد الأخنسي وفيه مقال وأخرج ابن ماجة والترمذي وحسنه والحاكم في المستدرك وابن حبان من حديث عبد الله بن أبي أوفى قال : قال رسول الله (ﷺ) أن الله مع القاضي ما لم يجر فإذا جار وكله إلى نفسه وفي لفظ الترمذي : فإذا جار تخلى عنه ولزمه الشيطان وفي الباب آحاديث مشتملة على الترهيب وأحاديث مشتملة على الترغيب وقد استوفاها الماتن في شرح المنتقى .
وله مع الإصابة أجران ومع الخطأ أجر إن لم يأل جهداً في البحث يعني بذل طاقته في اتباع الدليل ، وذلك لأن التكليف بقدر الوسع وإنما وسع الإنسان أن يجتهد وليس في وسعه أن يصيب الحق البتة ، ودليله حديث عمرو بن العاصي الثابت في الصحيحين وغيرهما عنه (ﷺ) إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن اجتهد فأخطأ فله أجر وقد ورد في روايات أنه إذا أصاب فله عشرة أجور .
وتحرم عليه الرشوة وفي الأنوار في تفسير الرشوة وجهان : الأول أن الرشوة هي التي يشترط على قابها الحكم بغير الحق أو الإمتناع عن الحكم بالحق . والثاني بذل المال لأحد ليتوسل بجاهه إلى أغراضه إذا كان جاهه بالقضاء والعمل فذلك هو الرشوة ويحرم على الرعية إعطاء الرشوة للحكام ليتوسلوا بذلك إلى ظلم ويحرم على الحكام أخذها قال الله تعالى : ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون كذا في المسوى وروى مالك بإسناده أن عبد الله بن رواحة قال : ليهود خيبر : فأما ما عرضتم من الرشوة فإنما هي سحت وإنا لا نأكلها .
والهدية التي أهديت إليه لأجل كونه قاضياً لحديث أبي هريرة عند أحمد والترمذي وحسنه وابن حبان وصححه قال : قال رسول الله (ﷺ) : لعنة الله على الراشي والمرتشي في الحكم وأخرج أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي وصححه وابن حبان والطبراني والدارقطني من حديث عبد الله بن عمرو كحديث أبي هريرة . وأخرج أحمد والحاكم من حديث ثوبان قال : لعن رسول الله (ﷺ) الراشي والمرتشي والرائش يعني الذي يمشي بينهما ، وفي إسناد ليث بن أبي سليم . قال البزار : أنه تفرد به . وفي إسناده أيضاً أبو الخطاب . قيل : وهو مجهول وفي الباب عن عبد الرحمن بن عوف عند الحاكم وعن عائشة وأم سلمة أشار إليهما الترمذي . وقد أجمع أهل العلم على تحريم الرشوة وقد استدل على تحريم الرشوة بقوله تعالى : أكالون للسحت كما روي عن الحسن وسعيد بن جبير أنهما فسرا الآية بذلك ، وحكي عن مسروق عن ابن مسعود أنه لما سئل عن السحت أهو الرشوة فقال : لا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون و الظالمون و الفاسقون ولكن السحت أن يستعينك الرجل على مظلمته فيهدي لك فإن أهدي لك فلا تقبل وقد سبق حديث في هذا المعنى في كتاب الهدايا . ويدل على تحريم الهدية التي أهديت للقاضي لأجل كونه قاضياً حديث هدايا الأمراء غلول أخرجه البيهقي وابن عدي من حديث ابن حميد . قال ابن حجر : وإسناده ضعيف ، ولعل وجه الضعف أنه من رواية اسمعيل بن عياش عن أهل الحجاز ، وأخرجه الطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة قال ابن حجر : وإسناده أشد ضعفاً ، وأخرجه سنيد بن داود في تفسيره من حديث جابر ، وفي إسناده إسماعيل بن مسلم وهو ضعيف . وأخرجه الخطيب في تلخيص المتشابه من حديث أنس بلفظ هدايا العمال سحت وأخرج أبو داود من حديث بريدة عن النبي (ﷺ) بلفظ من استعملناه على عمل فرزقناه رزقاً فما أخذه بعد ذلك فهو غلول وقد بوب البخاري في أبواب القضاء باب هدايا العمال وذكر فيه حديث ابن اللتبية المشهور ومما يؤيد ذلك أن الهدية للقاضي لأجل كونه قاضياً نوع من الرشوة عاجلاً أو آجلاً . قال ابن القيم : أما الهدية للقاضي ففيها تفصيل فإن كانت بغير سبب الفتوى كم عادته يهاديه أو من لا يعرف أنه مفت فلا بأس بقبولها والأولى أن يكافىء عليها . وأن كانت بسبب الفتوى فإن كانت سبباً إلى أن يفتيه بما لا يفتي به غيره ممن لا يهدي له لم يجز له قبول هديته لأنها تشبه المعاوضة على الإفتاء . وأما أخذ الرزق من بيت المال فإن كان محتاجاً إليه جاز له ذلك . وإن كان غنياً عنه ففيه وجهان : وهذا فرع متردد بين عامل الزكاة وعامل اليتيم ، فمن ألحقه بعامل الزكاة قال النفع فيه عام فله الأخذ . ومن ألحقه بعامل اليتيم منعه من الأخذ . وحكم القاضي في ذلك حكم المفتي ، بل القاضي أولى بالمنع . وأما أخذ الأجرة فلا يجوز لأن الفتيا منصب تبليغ عن الله ورسوله فلا تجوز المعارضة عليه . كما لو قال : لا أعلمك الإسلام والوضوء والصلاة إلا بأجرة أو سئل عن حلال أو حرام فقال للسائل : لا أجيبك عنه إلا بأجرة فهذا حرام قطعاً ويلزمه رد العوض ولا يملكه انتهي .
ولا يجوز له الحكم حال الغضب لحديث أبي بكرة في الصحيحين وغيرهما قال : سمعت رسول الله (ﷺ) يقول : لا يقضين حاكم بين اثنين وهو غضبان ولا يعارض هذا حديث عبد الله بن الزبير عن أبيه في الصحيحين وغيرهما أنه اختصم هو وأنصاري فقال النبي (ﷺ) للزبير اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى أخيك فغضب الأنصاري ثم قال : يا رسول الله أن كان ابن عمتك فتلون وجه رسول الله (ﷺ) ثم قال : اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر لأن النبي (ﷺ) معصوم في غضبه ورضائه بخلاف غيره . فإن الغضب يحول بينه وبين الحق ويختلط حال الغضب ويتشوش خاطره ويتكدر ذهنه ويذهل عن الصواب ، فلا يصلح الإستدلال بقضائه (ﷺ) حال غضبه لهذا الفرق . فالحق أن حكم الحاكم حال الغضب حرام . وأما كونه يصح أو لا يصح فينبغي النظر في نفس الحكم ، فإن كان واقعاً على الصواب فالاعتبار بذلك ومجرد صدوره حال الغضب لا يوجب بطلانه وهو صواب . وإن كان واقعاً على خلاف الصواب فهو باطل وإذا التبس الأمر هل هو صواب أو خطأ كما يحصل الإشتباه في كثير من مسائل الخلاف ، فالإعتبار بما رآه الحاكم صواباً لأنه متعبد باجتهاده فإن وجد حكمه الواقع حال الغضب بعد سكون غضبه صحيحاً موافقاً لما يعتقده حقاً فهو صحيح لازم للمحكوم عليه ، وأن كان آثماً بإيقاع الحكم حال الغضب كما تقدم فلا ملازمة بين الإثم وبطلان الحكم ، ثم ظاهر النهي التحريم . وقد ذهب الجمهور إلى أنه يصح حكم الغضبان أن وافق الحق قال ابن القيم : ليس للمفتي الفتوى في حال غضب شديد أو جوع مفرط أو هم مقلق أو خوف مزعج أو نعاس غالب أو شغل قلب مستول عليه أو حال مدافعة الأخبثين بل متى أحس منه نفسه شيئاً من ذلك يخرجه عن حال اعتداله وكمال نيته وبنيته أمسك عن الفتوى ، فإن أفتى في هذه الحال بالصواب صحت فتياه ، ولو حكم في هذه الحال فهل ينفذ حكمه أولا ينفذ فيه ثلاثة أقوال : النفوذ وعدمه والفرق بين أن يعرض له الغضب بعد فهم الحكومة فينفذ ، وبين أن يكون سابقاً على فهم الحكومة فلا ينفذ في مذهب الإمام أحمد .
وعليه التسوية بين الخصمين إلا إذا كان أحدهما كافراً لحديث علي عند أبي أحمد الحاكم في الكنى أنه جلس بجنب شريح في خصومه له مع يهودي فقال : لو كان خصمي مسلماً جلست معه بين يديك ولكني سمعت رسول الله (ﷺ) يقول : لا تساووهم في المجالس وقد قال أبو أحمد الحاكم بعد إخراجه أنه منكر وأورده ابن الجوزي في العلل من هذا الوجه ، وقال : لا يصح . ورواه البيهقي من وجه آخر من طريق جابر الجعفي عن الشعبي قال : خرج علي إلى السوق فإذا هو بنصراني يبيع درعاً فعرف علي الدرع وذكر الحديث ، وفي إسناده عمرو بن سمرة عن جابر الجعفي وهما ضعيفان . وأخرج أحمد وأبو داود والبيهقي والحاكم وصححه من حديث عبد الله بن الزبير قال : قضى رسول الله (ﷺ) أن الخصمين يقعدان بين يدي الحاكم وفي إسناده مصعب بن ثابت عن عبد الله بن الزبير وهو ضعيف .
والسماع منهما قبل القضاء لحديث علي عند أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن حبان وصححه أن رسول الله (ﷺ) قال : يا علي إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض بينهما حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء وللحديث طرق .
و يجب عليه تسهيل الحجاب لحديث عمرو بن مرة عند أحمد والترمذي والحاكم والبزار قال : سمعت رسول الله (ﷺ) يقول : ما من إمام أو وال يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلة والمسكنة إلا غلق الله باب السماء دون خلته وحاجته ومسكنته وأخرج أبو داود والترمذي من حديث أبي مريم الأزدي مرفوعاً بلفظ من تولى شيئاً من أمر المسلمين فاحتجب عن حاجتهم وفقرهم احتجب الله عنه دون حاجته قال ابن حجر في الفتح : أن سنده جيد . وأخرج الطبراني من حديث ابن عباس بلفظ أيما أمير احتجب عن الناس فأهمهم احتجب الله عنه يوم القيامة قال ابن أبي حاتم هو حديث منكر .
بحسب الإمكان لأنه لنفسه عليه حقاً ولأهله عليه حقاً ، فلا يلزمه استيعاب كل أوقاته فإن ذلك يكدر ذهنه ويشوش فهمه ، ولا يحتجب كل أوقاته فإن ذلك ظلم لأهل الخصومات . وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي موسى أنه كان بواباً للنبي (ﷺ) لما جلس على قف البئر وثبت في الصحيح أيضاً في قصة حلفه أن لا يدخل على نسائه شهراً أن عمر استأذن له الأسود لما قال له يا رباح استأذن لي وقد ثبت في الصحيح أيضاً أنه كان لعمر حاجب يقال له يرفأ .
ويجوز له اتخاذ الأعوان مع الحاجة لما ثبت في البخاري من حديث أنس أن قيس بن سعد كان يكون بين يدي رسول الله (ﷺ) بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير وقد يجب عليه ذلك إذا كان لا يمكنه إنفاذ الحق ودفع الباطل إلا بهم .
و يجوز للحاكم الشفاعة والاستيضاع والإرشاد إلى الصلح لحديث كعب بن مالك في الصحيحين وغيرهما أنه تقاضى ابن أبي حدرد ديناً كان له عليه في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله (ﷺ) وهو في بيته فخرج إليهما حتى كشف سجف حجرته فنادى يا كعب فقال : لبيك يارسول الله . قال : ضع من دينك هذا وأومأ إليه أي الشطر . قال : قد فعلت يا رسول الله . قال : قم فاقضه وهذا الحديث فيه دليل على ما ذكرناه من الشفاعة والإستيضاع والإرشاد إلى الصلح لأنه شفاعة بمن عليه الدين باستيضاع من له الدين بعضه ، وفيه إرشاد إلى الصلح أيضاً ، وقد سبق في كتاب الصلح ما يدل على مشروعيته من الكتاب والسنة ، والقاضي داخل في عموم الأدلة .
وحكمه ينفذ ظاهراً فقط لحديث أم سلمة في الصحيحين وغيرهما أن النبي (ﷺ) قال : إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي بنحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذ فإنما أقطع له قطعة من النار وقد حكى الشافعي الإجماع على أن حكم الحاكم لا يحلل الحرام . قال النووي : والقول أن حكم الحاكم يحلل ظاهراً وباطناً مخالف لهذا الحديث الصحيح وللإجماع المذكور . وبالجملة فلا وجه لما ذهبت إليه الحنفية من أن حكم الحاكم ينفذ ظاهراً وباطناً ويحلل الحرام وقد جاؤا في هذا المقام بما لا يتفق على من له في العلم قدم . وتفصيل ذلك في نيل الأوطار ومسك الختام ، واللحن مفتوحة الحاء الفطنة يقال : لحنت للشئ بكسر الحاء ألحن له لحناً أي فطنت ، وأما اللحن بسكون الحاء فهو الخطأ . قال في المسوى : اتفق أهل العلم على أن القضاء في الدماء والأملاك المطلقة لا ينفذ إلا ظاهراً واختلفوا في العقود والفسوخ ، فذهب أبو حنيفة إلى أنه ينفذ القضاء فيها ظاهراً وباطناً حتى لو شهد شاهدان زوراً أن فلاناً طلق امرأته فقضى به القاضي وقعت الفرقة بينهما بقضائه ويجوز لكل من الشاهدين أن ينكحها وقال الشافعي لا ينفذ باطناً . وأما المسائل المختلف فيها مثل أن يقضي حنفي بشعفة الجار لرجل لا يعتقد ثبوتها ، أو مات رجل عن جد وأخ فقضى القاضي بالميراث للجد على مذهب الصديق رضي الله تعالى عنه والمحكوم له يرى رأي زيد ، أو مات رجل عن خال لا يرى توريث ذوي الأرحام فقضى له القاضي بالمال . فأكثر أصحاب الشافعي على أنه ينفذ ظاهراً وباطناً لأنه أمر مجتهد فيه لا يتصور ظهور الخطأ فيه يقيناً في الدنيا . وفي الحديث دليل على أن كل مجتهد ليس بمصيب إنما الإصابة لواحد . وإثم الخطأ موضوع عن الآخر لكونه معذوراً فيه وعليه أكثر أهل العلم . وفي الحديث دليل على أن بينة المدعي مسموعة بعد يمين المدعي عليه وعليه الشافعي انتهى .
فمن قضي له بشئ فلا يحل له إلا إذا كان الحكم مطابقاً للواقع لما تقرر أن حكم الحاكم ظني سواء تعلق بمحكوم فيه قطعي أو ظني في إيقاع أو وقوع ، فلا ينفذ إلا ظاهراً لا باطناً ، فلا يحل به الحرام ، ولا يحرم به الحلال للمحكوم له والمحكوم عليه ، ولكنه يجب إمتثاله بحكم الشرع . ويجبر من امتنع منه ، فإن كان المحكوم له يعلم بأن الحكم له بباطل لم يحلل له قبوله ولا يجوز له استحلاله بمجرد حكم الحاكم من غير فرق ومن قال ينفذ حكم الحاكم ظاهراً وباطناً فمقالته باطلة وشبهتها داحضة وقد دفعها الله عز وجل في كتابه العزيز بقوله ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون ودفعها رسول الله (ﷺ) بقوله : فمن قضيت له بشئ من مال أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار هذا على تقرير أنهم يعممون المسألة في الأموال وغيرهها ، والذي في كتبهم تخصيص ذلك بما عدا الأموال ، ولا يختلف في هذا من يقول بأن كل مجتهد مصيب ومن لا يقول بذلك ، لأن القائل بالتصويب لا يريد بذلك أن المجتهد قد أصاب ما في نفس الأمر وما هو الحكم عند الله عز وجل وإنما يريد أن حكمه في المسألة هو الذي كلف به وإن كان خطأ في الواقع ، ولهذا يقول النبي (ﷺ) في الحديث الصحيح إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإن اجتهد فأصاب فله أجران فجعله مصيباً تارة ومخطئاً أخرى ولو كان مصيباً دائماً لم يصح هذا التقسيم النبوي . وبهذا نعرف أن المراد بقول من قال: كل مجتهد مصيب أنه أراد من الصواب الذي لا ينافي الخطأ لا من الإصابة التي تنافيه والله أعلم