يجوز لأهل الدين أن يأخذوا جميع ما يجدونه معه أي مع المفلس إلا ما كان لا يستغنى عنه وهو المنزل وستر العورة وما يقيه البرد ويسد رمقه ومن يعول لحديث أبي سعيد عند مسلم وغيره قال : أصيب رجل على عهد رسول الله (ﷺ) في ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال : تصدقوا عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه ، فقال رسول الله (ﷺ) لغرمائه : خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك وأخرج الدارقطني والبيهقي والحاكم وصححه من حديث كعب بن مالك أن النبي (ﷺ) حجر على معاذ ماله وباعه في دين كان عليه وأخرج سعيد بن منصور وأبو داود وعبد الرزاق من حديث عبد الرحمن بن كعب بن مالك مرسلاً قال : كان معاذ بن جبل شاباً سخياً وكان لا يمسك شيئاً فلم يزل يدان حتى أغرق ماله كله في الدين فأتى النبي (ﷺ) فكلمه ليكلم غرماءه فلوا تركوا لأحد لتركوا لمعاذ لأجل رسول الله (ﷺ) فباع رسول الله (ﷺ) لهم ماله حتى قام معاذ بغير شئ قال عبد الحق : المرسل أصح ، وقال ابن الطلاع في الأحكام : هو حديث ثابت ، فأفاد ما ذكرناه أن أهل الدين يأخذون جميع ما يجدونه مع المفلس لكنه لم يثبت أنهم أخذوا ثيابه التي عليه أو أخرجوه من منزله أو تركوه هو ومن يعول لا يجدون ما لا بد لهم منه ، ولهذا ذكرنا أنه يستثنى له ذلك .
ومن وجد ماله عنده بعينه فهو أحق به لأنه كان في الأصل ماله من غير مزاحمة ، ثم باعه ولم يرض في بيعه بخروجه من يده إلا بالثمن ، فكان البيع إنما هو بشرط إيفاء الثمن ، فلما لم يؤد كان له نقضه ما دام المبيع قائماً بعينه ، فإذا فات المبيع لم يمكن أن يرد البيع ، فصار دينه كسائر الديون ، ودليله حديث حسن عن سمرة عن النبي (ﷺ) قال : من وجد متاعه عند مفلس بعينه فهو أحق به أخرجه أحمد وأبو داود . وقال ابن حجر في الفتح : إسناده حسن ولكن سماع الحسن عن سمرة فيه مقال معروف . وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي (ﷺ) قال : من أدرك ماله بعينه عند رجل أفلس أو إنسان قد أفلس فهو أحق به من غيره وفي لفظ لمسلم أنه (ﷺ) قال في الرجل الذي يعدم : إذا وجد عنده المتاع ولم يفرقه أنه لصاحبه الذي باعه وفي لفظ لأحمد أيما رجل أفلس فوجد رجل عنده ماله ولم يكن اقتضى من ماله شيئاً فهو له وأخرج الشافعي وأبو داود وابن ماجة والحاكم وصححه عن أبي هريرة أنه قال في مفلس أتوه به : لأقضين فيكم بقضاء رسول الله (ﷺ) من أفلس أو مات فوجد الرجل متاعه بعينه فهو أحق به وأخرج مالك في الموطأ ، وأبو داود من حديث أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام مرسلاً أن النبي (ﷺ) قال : أيما رجل باع متاعاً فأفلس الذي ابتاعه ولم يقتض الذي باعه من ثمنه شيئاً فوجد متاعه بعينه فهو أحق به وإن مات المشتري فصاحب المتاع أسوة الغرماء وقد وصله أبو داود فقال عن أبي هريرة وفي إسناده إسمعيل بن عياش ولكنه ههنا روي عن الحرث الزبيدي وهو شامي وهو قوي في الشاميين ، وقد ذهب إلى أن البائع أولى بعين ماله الموجود عند المفلس الجمهور وخالفت في ذلك الحنفية فقالوا : لا يكون أولى به والحديث يرد عليهم . وقد ذهب الجمهور أيضاً إلى أن المشتري إذا كان قد قضى بعض الثمن لم يكن البائع أولى بما لم يسلم المشتري ثمنه بل يكون أسوة الغرماء كما أفاده ما تقدم في الرواية من قوله : ولم يكن اتقضى من ماله شيئاً وقال الشافعي : أن البائع أولى به . وهكذا إذا مات المشتري والسلعة قائمة ، فذهب مالك وأحمد إلى أنها تكون أسوة الغرماء . وقال الشافعي : البائع أولى بها .
وإذا نقص مال المفلس عن الوفاء بجميع دينه كان الموجود أسوة الغرماء لأن ذلك هو العدل ، لأن الديون اللازمة مستوية في استحقاق قضائها من مال المفلس وليس بعضها بأولى به من بعض إلا لمخصص ، ولا مخصص ههنا . وقد أشار إلى هذا ما تقدم في الرواية من قوله : فصاحب المتاع أسوة الغرماء .
وإذا تبين إفلاسه فلا يجوز حبسه لأنه خلاف حكم الله سبحانه قال تعالى : وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة .
و لمفهوم قوله (ﷺ) لي الواجد ظلم وهو حديث صحيح قد تقدم في الباب الذي قبل هذا . والمفلس ليس بواجد .
يحل عرضه وعقوبته وأما إذا لم يتبين إفلاسه ولا كونه واجداً فهذا محل اللبس والواجب البحث عن حاله بحسب الإمكان حتى يتبين كونه واجداً فيعاقب بالحبس أو نحوه . كما دل عليه حديث مطل الغني ظلم يحل عرضه وعقوبته وفي لفظ لي الواجد ظلم والكل في الصحيح ، أو تبين كونه غير واجد فينظر إلى ميسرة . وأما حبس من تبين إفلاسه فلا يحل بوجه فإنه ظلم بحت. قال في الحجة البالغة : لي الواجد يحل عرضه وعقوبته .
أقول : هو أن يغلظ له في القول ويحبس ويجيرعلى البيع إن لم يكن له مال غيره . وفي شرح السنة وهذا قول أهل العلم : أن مال المفلس يقسم بين غرمائه على قدر ديونهم ، فإن نفذ ماله وفضل الدين ينظر إلى الميسرة قال مالك : إذا كان على رجل مال وله عبد لا شئ له غيره فأعتقه لم يجز عتقه وعند الشافعي تصرف المديون نافذ ما لم يحجر عليه القاضي ، ثم بعد الحجر لا ينفذ تصرفه في ماله . وفي شرح السنة أيضاً أما المعسر فلا حبس عليه بل ينظر فإنه غير ظالم بالتأخير ، وهذا قول مالك والشافعي فإن كان له مال يخفيه حبس وعزر حتى يظهر ماله . وذهب شريح إلى أن المعسر يحبس وهو قول أهل الرأي .
ويجوز للحاكم أن يحجزه عن التصرف في ماله ويبيعه لقضاء دينه لمجرد (ﷺ) على معاذ كما تقدم ، وكذلك يبيع الحاكم مال المفلس لقضاء دينه كما فعله (ﷺ) في مال معاذ .
وكذلك يجوز له الحجر على المبذر ومن لا يحسن التصرف لقوله تعالى : ولا تؤتوا السفهاء أموالكم قال في الكشاف : السفهاء المبذرون أموالهم الذين ينفقونها فيما لا ينبغي ، ولا يد بإصلاحها وتثميرها والتصرف فيها ، والخطاب للأولياء وأضاف الأموال إليهم لأنها من جنس ما يقيم به الناس معايشهم كما قال تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم وقال : فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والدليل على أنه خطاب للأولياء في أموال اليتامى قوله وارزقوهم فيها واكسوهم ومما يدل على ذلك عدم إنكاره (ﷺ) على قرابة حبان أن يحجر عليه إن صح ذلك ، ويدل على ذلك رده (ﷺ) للبيضة التي تصدق بها من لا مال له كما أخرجه أبو داود وصححه ابن خزيمة من حديث جابر . وكذلك رده (ﷺ) صدقة الرجل الذي تصدق بأحد ثوبيه كما أخرجه أهل السنن وصححه الترمذي وابن حبان من حديث أبي سعيد . وكذلك رده (ﷺ) عتق من أعتق عبداً له عن دبر ولا مال له غيره كما أشار إلى ذلك البخاري وترجم عليه باب من رد أمر السفيه والضعيف العقل وإن لم يكن حجر عليه الإمام وأخرج الشافعي في مسنده والبيهقي عن عروة بن الزبير قال : ابتاع عبد الله بن جعفر بيعاً فقال علي رضي الله عنه لآتين عثمان فلأحجرن عليه ، فأعلم ذلك ابن جعفر الزبير فقال : أنا شريكك في بيعتك ، فآتي عثمان فقال : إحجر على هذا فقال . الزبير : أنا شريكه . فقال عثمان: إحجر على رجل شريكه الزبير ففي هذه القصة دليل على أن الحجر كان عندهم أمراً معروفاً ثابتاً في الشريعة ، لولا ذلك لأنكره بعض من اطلع على هذه القصة ، ولكان الجواب من عثمان على علي بأن هذا غير جائز ، وكذلك الزبير وعبد الله بن جعفر لو كان مثل هذا الأمر غير جائز لكان لهما عن تلك الشركة مندوحة . وقد ذهب إلى جواز الحجر على السفيه الجمهور وعليه أهل العلم . وفي الوقاية الحجر منع نفاذ تصرف قولي ، وسببه الصغر والجنون والرق فإن أتلفوا شيئاً ضمنوا . وفي المنهاج ولا يصح من المحجور عليه بسفه بيع ولا شراء ولا عتاق وهبة ونكاح بغير إذن وليه ويصح بإذن الولي نكاحه لا التصرف المالي في الأصح .
ولا يمكن اليتيم من التصرف في ماله حتى يؤنس منه الرشد لقوله تعالى فإن آنستم منهم رشداً في المنهاج حجر الصبي يرتفع ببلوغه رشيداً ، فلو بلغ غير رشيد دام الحجر . وفي الوقاية : فإن بلغ غير رشيد لم يسلم إليه ماله حتى يبلغ خمساً وعشرين سنة وصح تصرفه قبله وبعده يسلم إليه ولو بلا رشد .
ويجوز لوليه أن يأكل من ماله بالمعروف لقوله تعالى : ومن كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة أنها قالت : نزلت هذه الآية في ولي اليتيم إذا كان فقيراً أنه يأكل منه بالمعروف وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلاً أتى النبي (ﷺ) فقال : إني فقير وليس لي شئ ولي يتيم فقال : كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبادر ولا متأثل والمراد بقوله ولا مبادر ما في قوله تعالى : ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً أن يكبروا أي مسرفين ومبادرين كبر الأيتام ، فهذه الآية والحديث مخصصان لقول تعالى : إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا في شرح السنة اختلفوا في ذلك فذهب قوم إلى أنه يأكل ولا يقضي وعليه أحمد . وآخرون إلى أنه يأكل ويرد مثله إذا كبر .
أقول : اختاره محمد بن الحسن ، والولي يتجر في أموال اليتامى ويضارب ويفعل ما فيه الغبطة . قال مالك قال عمر بن الخطاب : اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة وكانت عائشة تعطي أموال اليتامى من يتجر لهم فيها . قال مالك : لا بأس بالتجارة في أموال اليتامى لهم إذا كان الولي مأموناً فلا أرى عليه ضماناً . قلت : وعليه الشافعي في المنهاج ، وله أي للولي بيع ماله بقرض ونسيئة للمصلحة ويزكي ماله وينفق عليه بالمعروف