هو جائز بين المسلمين لقوله تعالى : لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس .
إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً لحديث عمرو ابن عوف عند أبو داود وابن ماجة والترمذي والحاكم وابن حبان أن النبي (ﷺ) قال : الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرم حلالاً أو أحل حراماً وفي إسناده كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه وهو ضعيف جداً . وقد صحح الحديث الترمذي فلم يصب . وقد اعتذر له ابن حجر فقال : كأنه اعتبر بكثرة طرقه ، وذلك لأنه رواه أبو داود والحاكم من طريق كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة . قال الحاكم : على شرطهما .وصححه ابن حبان وحسنه الترمذي وأخرجه أيضاً الحاكم من حديث أنس ، ومن حديث عائشة أخرجه الدارقطني .
ويجوز عن المعلوم والمجهول بمعلوم وبمجهول لحديث أم سلمة عند أحمد وأبو داود وابن ماجة قالت جاء رجلان إلى رسول الله (ﷺ) في مواريث بينهما قد درست ليس بينهما بينة فقال رسول الله (ﷺ) : أنكم تختصمون إلى رسول الله وإنما أنا بشر ، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض ، وإنما أقضي بينكم على نحو ما أسمع ، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها إسطاماً في عنقه يوم القيامة . فبكى الرجلان وقال كل واحد منهما : حقي لأخي فقال رسول الله (ﷺ) : إما إذا قلتما فاذهبا فاقتسما ثم توخيا الحق ثم استهما ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه وفي إسناد هذا الحديث أسامة بن زيد بن أسلم المدني وفيه مقال . ولكن أصل الحديث في الصحيحين ، وقد استدل به على جواز الصلح والإبراء من المجهول وأخرج البخاري من حديث جابر أن أباه قتل يوم أحد شهيداً وعليه دين فاشتد الغرماء في حقوقهم قال : فأتيت النبي (ﷺ) فسألهم أن يقبلوا ثمر حائطي ويحللوا أبي فأبوا فلم يعطهم النبي (ﷺ) حائطي وقال سنغدوا عليك . فغدا علينا حين أصبح فطاف في النخل ودعا في ثمرها بالبركة فجددتها فقضيتها وبقي لنا من ثمرها وفيه جواز الصلح عن معلوم بمجهول .
أقول : إسقاط الشئ فرع العلم به ، فمن جهل ما يريد إسقاطه فأما أن يعلمه بوجه من الوجوه ، أو بجهله من جميع الوجوه فإن علمه بوجه من الوجوه على صورة تتميز عنده بعض تميز بحيث يغلب في ظنه أنه من الجنس الفلاني وأن مقداره لا يجاوز كذا ، فهذا يصح إسقاطه . وإن كان مجهولاً من جميع الوجوه بحيث لا يعرف جنسه ولا مقداره كيفاً ولا كماً ، فهذا لا يصح إسقاطه ، لأنه قد يكون على صفة لو علم بها لم تطب نفسه بالإسقاط .
وعن الدم كالمال بأقل من الدية أو أكثر لكون اللازم في الدم مع عدم القصاص هو المال ، فهو صلح بمال عن مال يدخل تحت عموم قوله تعالى : أو إصلاح بين الناس وتحت قوله (ﷺ) : الصلح جائز وأخرج أحمد وابن ماجة والترمذي وحسنه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي (ﷺ) قال : من قتل متعمداً دفع إلى أولياء المقتول ، فإن شاؤا قتلوا وإن شاؤا أخذوا الدية . وهي ثلاثون حقه وثلاثون جذعة وأربعون خلفة وذلك عقل العمد ، وما صولحوا عليه فهو وذلك تشديد العقل وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان وفيه مقال .
لو عن إنكار لعموم الأدلة واندراج الصلح عن إنكار تحتها ولم يأت من منعه ببرهان ، وقد ذهب إلى جوازه الجمهور وحكي في البحر عن الشافعي وابن أبي ليلى أنه لا يصح الصلح عن إنكار ، وقد ثبت في الصحيح عن كعب في قصة المتخاصمين في المسجد في دين فأشار النبي (ﷺ) إلى صاحب الدين أن يضع شطر دينه ويتعجل الباقي ، وهو دليل على جواز الصلح مع الخصام ووضع واستيفاء البعض قال في الحجة البالغة ومنه وضع جزء من الدين كقصة ابن أبي حدرد وهذا الحديث أحد الأصول في باب المعاملات .
أقول : الظاهر أنها تجوز المصالحة عن إنكار نحو أن يدعى رجل على آخر مائة دينار فينكره في جميعها فيصالحه على النصف من ذلك المقدار لأن مناط الصلح التراضي ، والمنكر قد رضي بأن يكون عليه بعض ما أنكره وأي مقتض يمنع هذا وأن كان مثل حديث لا يحل مال امرىء مسلم إلا بطيبة من نفسه فهذا قد سلم بعضاً مما أنكره طيبة به نفسه ، وإن كان غير ذلك فما هو ؟ ثم حديث كعب المتقدم المشتمل على وقوع التنازع بين الرجلين إن كان التنازع بينهما في المقدار فهو أيضاً صلح عن إنكار، وقد جوزه الشارع . وإن كان التنازع بينهما في التعجيل والتأجيل فهو أيضاً صلح عن إنكار لأن منكر الأجل قد صولح على أن يتعجل البعض من دينه ويسقط الباقي إلى مقابل دعوى صاحبه للأجل