الرئيسيةبحث

الروح/المسألة التاسعة عشرة/فصل القوى العقلية والإدراكات

القوى العقلية والإدراكات

قولكم في الرابع: أن العقلية تقوى على أفعال غير متناهية ولا شي ء هنا من القوى الجسمانية كذلك، فجوابه أنا لا نسلم أنها تقوى على أفعال غير متناهية.
و قولهم: أنها تقوى على إدراكات لا تتناهى، والإدراكات أفعال. مقدمتان كاذبتان، فإن إدراكاتها ولو بلغت ما بلغت فهي متناهية، فلو كان لها بكل نفس ألف إدراك لتناهت إدراكاتها في الإدراكات والمعارف إلى حد لا يمكنها أن تزيد عليه شيئا كما قال تعالى: ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾[12:76] إلى أن ينتهي العلم إلى من هو بكل شي ء عليم، فهو اللّه الذي لا إله إلا هو وحده، وذلك من خصائصه التي لا يشاركه فيها سواه.
فإن قلتم: لو انتهى إدراكها إلى حد لا يمكنها المزيد عليه لزم انقلاب الشي ء من الإمكان الذاتي، قلنا: فهذا بعينه لو صح دل على أن القوة الجسمانية تقوى على أفعال غير متناهية، وذلك يوجب سقوط الشبهة وبطلانها.
و أيضا فإن قوة التخيل والتفكر والتذكر تقوى على استحضار المخيلات والمذكرات إلى غير نهاية مع أنها عندكم قوة جسمانية.
فإن قلتم: لا نسلم أنها تقوى على ما لا يتناهى قيل لكم: هكذا يقول خصومكم في القوة العاقلة سواء.
و أما كذب المقدمة الثانية فإن الإدراك ليس بفعل، فلا يلزم من تناهي فعلها تناهي إدراكها، وقد صرحتم بأن الجوهر العقلي قابل لصورة المعلوم، لا أنها فاعل لها، والشي ء الواحد لا يكون فاعلا وقابلا عندكم. وقد صرحتم بأن الأجسام يمتنع عليها أفعال لا نهاية لها، ولا يمتنع عليها مجهولات وانفعالات لا تتناهى، وقد أورد ابن سيناء على هذه الشبهة سؤالا فقال: أ ليس النفس الفلكية المباشرة لتحريك الفلك قوة جسمانية مع أن الحركات الفلكية غير متناهية؟ وأجاب عنها:
بأنها وإن كانت قوة جسمانية إلا أنها تستمد الكمال من العقل المفارق، فلهذا السبب قدرت على أفعال غير متناهية.
فنقول: فإذا كان الأمر عندك كذلك فلم لا يجوز أن يقال: النفس الناطقة تستمد الكمال والقوة من فاطرها ومنشئها الذي له القوة جميعا، فلا جرم تقوى مع كونها جسمانية على ما لا يتناهى فإذا قلت بذلك وافقت الرسل والعقل ودخلت مع زمرة المسلمين وفارقت العصبة المبطلين [1].

هامش

  1. أي أهل الجدل والفلاسفة.