الرئيسيةبحث

الروح/المسألة التاسعة عشرة/فصل1

فصل

الوجه الثالث بعد المائة: قول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «يا بلال ما دخلت الجنة إلا سمعت خشخشتك بين يدي فبم ذاك؟ قال: ما أحدثت في ليل أو نهار إلا توضأت وصليت ركعتين. قال: بهما»، ومعلوم أن الذي سمع خشخشته بين يديه وهو روح بلال، وإلا فجسده لم ينقل إلى الجنة.
الوجه الرابع بعد المائة: الأحاديث والآثار التي في زيارة القبور والسلام على أهلها ومخاطبتهم والأخبار عن معرفتهم بزوارهم وردهم عليهم السلام. وقد تقدمت الإشارة إليها.
الوجه الخامس بعد المائة: شكاية كثير من أرواح الموتى إلى أقاربهم وغيرهم أمورا مؤذية فيجدونها كما شكوه فيزيلونها.
الوجه السادس بعد المائة: لو كانت الروح عبارة عن عرض من أعراض البدن أو جوهر مجرد ليس بجسم ولا حال فيه لكان قول القائل خرجت وذهبت وقمت وجئت وقعدت وتحركت ودخلت ورجعت ونحو ذلك كله أقوالا باطلة، لأن هذه الصفات ممتنعة الثبوت في حق الأعراض والمجردات، وكل عاقل يعلم صدق قوله وقول غيره ذلك، فالقدح في ذلك قدح في أظهر المعلومات، فهو من باب السفسطة. (لا يقال) حاصل هذا الدليل التمسك بألفاظ الناس وإطلاقاتهم وهي تحتمل الحقيقة والمجاز، فلعل مرادهم دخل جسمي وخرج. لأنه إنما استدللنا بشهادة العقل والفطرة بمعاني هذه الألفاظ، فكل أحد يشهد عقله وحسه بأنه هو الذي دخل وخرج وانتقل، لا مجرد بدنه، فشهادة الحس والعقل بمعاني هذه الألفاظ وإضافتها إلى الروح أصلا وإلى البدن تبعا من أصدق الشهادات والاعتماد على ذلك لا على مجرد الإطلاق اللفظي.
الوجه السابع بعد المائة: أن البدن مركب ومحل لتصرف النفس، فكان دخول البدن وخروجه وانتقاله جاريا مجرى دخول مركبه من فرسه ودابته، فلو كانت النفس غير قابلة للدخول والخروج والانتقال والحركة والسكون لكان ذلك بمنزلة دخول مركب الإنسان إلى الدار وخروجه منها دون دخوله هو، وهذا معلوم البطلان بالضرورة، وكل أحد يعلم أن نفسه وروحه هي التي دخلت وخرجت وانتقلت وصرفت البدن وجعلته تبعا لها في الدخول والخروج، فهو لها بالأصل، وللبدن بالتبع، لكنه للبدن بالمشاهدة، والروح بالعلم والعقل.
الوجه الثامن بعد المائة: أن النفس لو كانت كما يقوله من يقول أنها عرض لكان الإنسان كل وقت قد يبدل مائة ألف نفس أو أكثر، والإنسان إنما هو إنسان بروحه ونفسه لا ببدنه، وكان الإنسان الذي هو الإنسان غير الذي هو قبله وبلحظة وبعده بلحظة، وهذا من نوع الهوس، ولو كانت الروح مجردة، وتعلقها بالبدن بالتدبير فقط لا بالمساكنة والمداخلة لم يمتنع أن ينقطع تعلقها بهذا البدن وتتعلق بغيره، كما يجوز انقطاع تدبير المدبر لبيت أو مدينة عنها، ويعلق بتدبير غيرها، وعلى هذا التدبير فنصير شاكين في أن هذه النفس التي لزيد هي النفس الأولى أو غيرها؟ وهل زيد هو ذلك الرجل أم غيره، وعاقل لا يجوز ذلك فلو كانت أو لروح عرضا أو أمرا مجردا لحصل الشك المذكور.
الوجه التاسع بعد المائة: أن كل أحد يقطع أن نفسه موصوفة بالعلم والفكر والحب والبغض والرضا والسخط وغيرها من الأحوال النفسانية، ويعلم أن الموصوف ليس بذلك عرضا من أعراض بدنه ولا جوهرا مجردا منفصلا عن بدنه غير مجاور له، ويقطع ضرورة بأن هذه إدراكات لأمر داخل في بدنه، كما يقطع بأنه إذا سمع وأبصر وشم وذاق ولمس وتحرك وسكن فتلك أمور قائمة به مضافة إلى نفسه، وإن جوهر النفس الذي هو قام به ذلك كله لم يقم بمجرد ولا بعرض، بل قام متحيز داخل العالم، منتقل من مكان إلى مكان، يتحرك ويسكن ويخرج ويدخل، وليس هذا إلا هذا البدن والجسم الساري فيه المشابك لو لاه لكان بمنزلة الجماد.
الوجه العاشر بعد المائة: أن النفس لو كانت مجردة وتعلقها بالبدن تعلق التدبير فقط كتعلق الملاح بالسفينة، والجمال بجمله لأمكنها ترك تدبير هذا البدن واشتغالها بتدبير بدن آخر، كما يمكن الملاح والجمال ذلك، وفي ذلك تجويز نقل النفوس من أبدان إلى أبدان، ولا يقال أن النفس اتحدت ببدنها فامتنع عليها الانتقال، أو أنها لها عشق طبيعي وشوق ذاتي إلى تدبير هذا البدن، فلهذا السبب امتنع انتقالها، لأنا نقول: اتحاد ما لا يتحيز بالمتحيز محال. ولأنها لو اتحدت به لبطلت ببطلانه، ولأنها بعد الاتحاد إن بقيا فهما اثنان لا واحد، وإن عدما معا وحدث ثالث فليس من الاتحاد في شي ء، وإن بقي أحدهما وعدم الآخر فليس باتحاد أيضا. وأما عشق النفس الطبيعي للبدن فالنفس إنما تعشقه لأنها تتناول اللذات بواسطته، وإذا كانت الأبدان متساوية في حصول مطلوبها كانت نسبتها إليها على السواء، فقولكم إن النفس المعينة عاشقة للبدن المعين باطل، ومثال ذلك العطشان إذا صادف آنية متساوية كل منها يحصل غرضه امتنع عليه أن يعشق واحدا بعينه دون سائرها.
الوجه الحادي عشر بعد المائة: أن نفس الإنسان لو كانت جوهرا مجردا لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصلة بالعالم ولا منفصلة عنه ولا مباينة ولا مجانبة لكان يعلم بالضرورة أنه موجود بهذه الصفة، لأن علم الإنسان بنفسه وصفاتها أظهر من كل معلوم، وأن علمه بما عداه تابع لعلمه بنفسه، ومعلوم قطعا أن ذلك باطل، فإن جماهير أهل الأرض يعلمون أن إثبات هذا المجود محال في العقول شاهدا وغائبا، فمن قال ذلك في نفسه وربه فلا نفسه عرف ولا ربه عرف.
الوجه الثاني عشر بعد المائة: أن هذا البدن المشاهد محل لجميع صفات النفس وإدراكاتها الكلية والجزئية، ومحل للقدرة على الحركات الإرادية، فوجب أن يكون الحامل لتلك الإدراكات والصفات هو البدن وما سكن فيه. أما أن يكون محلها جوهرا مجردا لا داخل العالم ولا خارجه فباطل بالضرورة.
الوجه الثالث عشر بعد المائة: أن النفس لو كانت مجردة عن الجسمية والتحيز لامتنع أن يتوقف فعلها عن مماسة محل الفعل، لأن ما لا يكون متحيزا يمتنع أن يصير مماسا للمتحيز، ولو كان الأمر كذلك لكان فعلها على سبيل الاختراع من غير حاجة إلى حصول مماسة وملاقاة بين الفاعل وبين محل الفعل، فكان الواحد منا يقدر على تحريك الأجسام من غير أن يماسها أو يماس شيئا يماسها، فإن النفس عندكم كما كانت قادرة على تحريك البدن من غير أن يكون بينها وبينه مماسة كذلك لا تمتنع قدرتها على تحريك جسم غيره من غير ممارسة له ولا لما يماسه، وذلك باطل بالضرورة، فعلم أن النفس لا تقوى على التحريك إلا بشرط أن تماس محل الحركة أو تماس ما يماسه، وكل ما كان مماسا للجسم أو لما يماسه فهو جسم.
فإن قيل: يجوز أن يكون تأثير النفس في تحريك بدنها الخاص غير مشروط بالممارسة وتأثيرها في تحريك غيره موقوف على حصول المماسة بين بدنها وبين ذلك الجسم.
فالجواب: أنه لما كان قول البدن لتصرفات النفس لا يتوقف على حصول المماسة بين النفس وبين؟؟؟ وجب أن تكون الحال كذلك في غيره من الأجسام، لأن الأجسام متساوية في قبول الحركة، ونسبة النفس إلى جميعها سواء، لأنها إذا كانت مجردة عن الحجمية وعلائق الحجمية كانت نسبة ذاتها إلى الكل بالسوية، ومتى كانت ذات الفاعل نسبتها إلى الكل بالسوية والقوابل نسبتها إلى ذلك الفاعل بالسوية كان التأثير بالنسبة إلى الكل على السواء، فإذا استغنى الفاعل عن مماسة محل الفعل في حق البعض وجب أن يستغني في حق الجميع، وإن افتقر إلى الممارسة في البعض وجب افتقاره في الجميع.
فإن قيل: النفس عاشقة لهذا البدن دون غيره فكان تأثيرها فيه أقوى من تأثيرها في غيره قبل هذا العشق الشديد، يقتضي أن يكون تعلقها بالبدن أكثر، وتصرفها فيه أقوى، فأما أن يتغير بمقتضى ذاتها بالنسبة إلى هذه الأجسام فذلك محال. وهذا دليل في غاية القوة.
الوجه الرابع عشر بعد المائة: أن العقلاء كلهم متفقون على أن الإنسان هو هذا الحي الناطق المتغذي النامي الحساس المتحرك بالإرادة، وهذه الصفات نوعان، صفات لبدنه وصفات لروح ونفسه الناطقة، فلو كانت الروح جوهرا مجردا لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصلة به ولا منفصلة عنه، لكان الإنسان لا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصلة به ولا منفصلا عنه، أو كان بعضه في العالم وبعضه لا داخل العالم ولا خارجه، وكل عاقل يعلم بالضرورة بطلان ذلك، وأن الإنسان بجملته داخل العالم بدنه وروحه، وهذا في البطلان يضاهي قول من قال إن نفسه قديمة غير مخلوقة، فجعلوا نصف الإنسان مخلوقا ونصفه غير مخلوق.
فإن قيل نحن نسلم أن الإنسان كما ذكرتم إلا أنا نثبت جوهرا مجردا يدبر الإنسان الموصوف بهذه الصفات. قلنا: فذلك الجوهر الذي أثبتموه مغاير للإنسان أو هو حقيقة الإنسان؟ ولا بدّ لكم من أحد الأمرين: فإن قلتم هو غير الإنسان رجع كلامكم إلى أنكم أثبتم للإنسان مدبرا غيره وسميتموه نفسا، وكلامنا الآن إنما هو في حقيقة الإنسان لا في مدبره، فإن مدبر الإنسان وجميع العالم العلوي والسفلي هو اللّه الواحد القهار.
الوجه الخامس عشر بعد المائة: أن كل عاقل إذا قيل له ما الإنسان؟ فإنه يشير إلى هذه البنية وما قام بها لا يخطر بباله أمر مغاير لها مجرد ليس في العالم ولا خارجه والعلم بذلك ضروري لا يقبل شكا ولا تشكيكا.
الوجه السادس عشر بعد المائة: أن عقول العالمين قاضية بأن الخطاب متوجه إلى هذه البنية وما قام بها وساكنها، وكذلك المدح والذم والثواب والعقاب والترغيب والترهيب، ولو أن رجلا قال: المأمور والمنهي والممدوح والمذموم والمخاطب والعاقل جوهر مجرد ليس في العالم ولا خارجه ولا متصل به ولا منفصل عنه لأضحك العقلاء على عقله ولأطبقوا على تكذبه، وكل ما شهدت بداهته العقول وصرائحها ببطلانه كان الاستدلال على ثبوته استدلال على صحة وجود المحال، وباللّه التوفيق.

هامش