☰ جدول المحتويات
فضائل الكتابة
قالت أبو عثمان الجاحظ: ما رأيتُ قوماً أنفذ طريقةً في الأدب من هؤلاء الكتّاب فإنهم التمسوا من الألفاظ ما لم يكن متوعِّراً وَحشيّا ولا ساقطاً سُوقيا. وقال بعضُ المهالبة لبنيه: تزيّوا بزِيّ الكُتّاب فإنهم جَمعوا أدب الملوك وتواضُع السوقة. وعَتب أبو جعفر المنصور على قوم من الكُتاب فأمر بحَبْسهم فرفعوا إليه رُقعة ليس فيها إلا هذا البيت: ونحنُ الكاتبون وقد أسأنا فَهَبْنا للكرام الكاتِبينَا فعفا عنهم وأمر بتَخْلية سبيلهم. وقال المؤيد: كُتّاب المُلوك عُيونهم الناظرة وآذانهم الواعية وألسنتُهم الناطقة. والكتابةُ أشرفُ مراتب الدُّنيا بعد المحلافة وهي صناعةٌ جليلة تَحتاج إلى آلات كثيرة. وقال سهلُ بن هَارون: الكتابة أولُ زِينة الدُنيا التي إليها يتناهَى الفضلُ وعندها تَقِف الرَّغبة.
ما يجوز في الكتابة وما لا يجوز فيها
قال إبراهيم بن محمد الشَيباني: إذا احتجت إلى مُخاطبة المُلوك والوُزراء والعُلماء والكُتّاب والخُطباء والأدباء والشُّعراء وأوساط الناس وسُوقتهم فخاطبْ كُلاً على قَدْر أبهته وجلالته وعُلوَه وارتفاعه وفِطْنته وانتباهه. واجعل طبقات الكلام على ثمانية أقسام منها: الطبقات العَلِية أربع والطبقات الآخرً وهي دونها أربع لكل طبقة منها درجة ولكلّ قَسْمها لا ينبغي للكاتب البليغ أن يقصّر بأهلها عنها ويَقْلب معناها إلى غيرها. فالحدّ الأوّل: الطبقات العُليا وغايتها القُصوى الخِلافة التي أجل الله قدرَها وأعلَى شأنها عن مُساواتها بأحد من أبناء الدُّنيا في التعظيم والتوقير والطبقة الثانية لوزرائها وكتّابها الذين يُخاطبون الخلفاء بعقُولهم وألسنتهم ويَرْتِقُون الفُتوق بآرائهم والطبقة الثالثة أمراء ثُغورهم وقُوّاد جُنودهم فإنه تجب مُخاطبة كل أحد مِنهم على قدره ومَوْضِعه وحظّه وغَنائه وإجزائه واضطلاعه بما حَمل من أعباء أمورهم وجلائل أعمالهم والرابعة القضاة فإنهم وإن كان لهم تواضع العُلماء وحِلْية الفضلاء فمعهم أبهة السَّلطنة وهَيْبة الأمراء. وأما الطبقات الأربع الآخرً فهم: الملوك الذين أوجبت نعمُهم تعظيمَهم في الكَتْب إليهم وأفضالُهم تَفضيلَهم فيها والثانية وزراؤهم وكتَّابهم وأتباعهم الذين بهم تُقرع أبوابهم وبعناياتهم تُستماح أموالهم والثالثة هم العلماء الذين يجب توقيرهم في الكَتب بشرف العِلم وعلوّ درجة أهله والطبقة الرابعة لأهل القدر والجلالة والحلاوة والطلاوة والظرف والأدب فإنهم يضطرونك بحدّة أذهانهم وشدّة تمييزهم وانتقادهم وأدبهم وتصفّحهم إلى الاستقصاء على نفسك في مُكاتبتهم. واستغنينا عن الترتيب للسّوقة والعوامّ والتجّار باستغنائهم بمهناتهم عن هذه الآلات واشتغالهم بمهماتهم عن هذه الأدوات. ولكل طبقة من هذه الطبقات معان ومذاهب يجب عليك أن ترعاها في مراسلتك إياهم في كتبك فتزن كلامك في مُخاطبتهم بميزانه وتعطيه قَسمه وتُوفّيه نصيبه فإنك متىِ أهملت ذلك وأضعتَه لم آمن عليك أن تَعدل بهم عن طريقهم وتسلك بهم غير َمسلكهم ويَجرىَ شُعاع بلاغتك في غير مجراه وتَنْظَمِ جوهر كلامك في غير سِلكه. فلا تعتدّ بالمعنى الجَزْل ما لم تُلْبسه لفظاً لاثقاً لمن كاتبته ومُلتئماً بمن راسلته فإنّ إلباسَك المَعنى وإن صَحّ وشَرُف لفظاً مُتخلّفاً عن قَدْر المكتوب إليه لم تَجْر به عاداتهم تهجينٌ للمعنى وإحلال بقَدْره وظُلم بحق المَكتوب إليه ونَقْص مما يجب له كما أن في إتباع تعارفهم وما انتشرت به عادتهم وجَرت به سُنتهم قطعاً لعُذرهم وخُروجاً من حقوقهم وبُلوغاً إلى غاية مُرادهم وإسقاطاً لحُجة أدبهم. فمن الألفاظ المَرغوب عنها والصُّدور المستوحش منها في كتب السادات والمُلوك والأمراء على اْتفاق المعاني مثل: أبقاك الله طويلًا وعَمَّرك مَلِيّا. وإن كنّا نعلم أنه لا فرق بين قولهم: أطال الله بقاك وبين قولهم: أبقاك الله طويلًا. ولكنهم جعلوا هذا أرجَح وَزْناً وأنبه قدراً في المُخاطبة. كما أنّهم جعلوا: أكرمك الله وأبقاك أحسن منزلاً في كُتب الفُضلاء والأدباء من: جُعلت فداك على اشتراك معناه واحتمال أن يكون فداءَه من الخير كما يحتمل أن يكون فداءَه من الشر ولولا أنّ رسول الله ﷺ قال لسعد بنٍ أبي وقّاص: ارْم فداك أبي وأمي، لكرِهنا أن يَكْتب بها أحد. على أن كُتّاب العَسكر وعوامّهم قد وَلعوَا بهذه اللَفظة حتى استعملوها في جميع مُحاوراتهم وعلوها هِجِّيراهم في مخاطبة الشريف والوَضيع والكبير والصغير. وذلك قال محمود الورَّاق: كُلّ مَنْ حَلّ سُرّ مَنْ نرى مِن الناس ومَن قد يُداخل الأملاكا لو رأى الكَلْب ماثلاً بطريق قال للكَلْب يا جُعِلت فِدَاكا وكذلك لم يجيزوا أن يكتبوا بمثل أبقاك الله وأمتع بك إلا في الابن والخادم المنقطع إليك وأما في كتب الإخوان فغير جائز بل مَذموم مَرغوب عنه. ولذلك كتب عبدُ الله بن طاهر إلى محمد بن عبد الملك الزيات: أحُلْتَ عما عَهدْتُ من أدبكْ أم نِلْتَ مُلْكاً فتِهْتَ في كُتبكْ أم قد تَرى أنًّ في مُلاطفة الْ إخوان نَقْصاً عليك في أدبك أكان حقّا كتابُ ذي مِقَة يكون في صَدْره: وأمْتَع بك أتعبت كفَّيك في مُكاتبتي حسبُك ما قد لقيتَ في تَعبك فكتب إليه محمد بن عبد الملك الزيات: أنكرتَ شيئاً فلستُ فاعلَه ولن تُراه يُخَطِّ في كتبك إنْ يك جهلٌ أتاك مِن قِبلي فعُد ْبفَضْلٍ عَليّ من حَسبك فاعفُ فدَتْك النُّفوس عن رجلٍ يَعيش حتى المماتِ في أدبك ولكلّ مَكْتوب إليه قدرٌ ووَزنْ يَنبغي للكاتب ألاّ يَتجاوز به عنه ولا يُقصّر به دونه. وقد رأيتهم عابُوا الأحوص حين خاطب المُلوك خطاب العوامّ في قوله: وأراك تَفعل ما تقُول وبعضًهم مَذِق الحديث يقول ما لا يَفْعلُ وهذا معنى صحيح في المدح ولكنهم أجلّوا قدر الملوك أن يُمدحوا بما تُمدح به العوامّ لأن صِدْق الحديث وإنجاز الوعد وإن كان من المدح فهو واجب على العامّة والمُلوكُ لا يُمدحون بالفرائض الواجبة إنما يَحسن مدحُهم بالنّوافل لأنّ المادح لو قال لبعض المُلوك: إنك لا تَزْني بحليلة جارك وإنك لا تخون ما استودعْت وإنك لتصدًق في وَعدك وتَفي بعهدك فكأنه قد أثنى بما يجب ولو قَصد بثنائه إلى مَقصده كان أشبهَ في الملوك. ونحن نعلم أنَّ كل أمير يتولَّى من أمر المؤمنين شيئاً فهو أميرُ المؤمنين غير أنهم لم يُطلقوا هذه اللفظة إلا على الخُلفاء خاصة. ونحنِ نعلم أن الكَيّس هو العاقل لكن لو وصفتَ رجلاً فقلت: إنه لعاقل كنت مدحته عند الناس وإن قلت: إنه لكيّس كنت قد قَصَّرْت به عن وَصْفه وصَغَّرت من قدره إلا عند أهل العلم باللغة لأنَّ العامَّة لا تلتفت إلى معنى الكلمة ولكن إلى ما جرت به العادة من استعمالها في الظاهر إذ كان استعمال العامَّة لهذه الكلمة مع الحَداثة والغِرّة وخَساسة القدر وصِغَر السن. وقد روينا عن عليّ كرم الله وجهه أنه تسمّى بالكيّس حين بَنى سِجن الكوفة فقال في ذلك: أما تُراني كَيِّساً مُكَيسَا بنيتُ بعد نافع مُخَيَّسَا حِصْناً حصيناً وأميناً كيسا وقال الشاعر: ما يَصْنع الأحمقُ المرْزوق بالكَيْس وكذلك نعلم أن الصلاة رحمة غير أنهم كرهوا الصلاة إلا على الأنبياء كذلك روينا عن ابن عباس. وسمع سعدُ بن أبي وقّاص ابن أخ له يلبّي ويقول في تَلْبيته: لَبَّيك يا ذا المعارج فقال: نحن نعلم أنه ذو المعارج ولكن ليس كذا كنَّا نلبّي على عهد رسول الله ﷺ إنما كنِّا نقول: لبَّيك اللهم لبيك. وكان أبو إبراهيم المُزني يقول في بعض ما خاطب به داود ابن خَلَف الأصبهاني: فإِن قال كذا فقد خرج عن الملّة والحمد لله. فنقض ذلك عليه داودُ وقال فيما ردّ عليه: تَحمد الله على أن تُخرج امرأ مُسلماً من الإسلام وهذا موضع استرجاع فامتثِل هذه المذاهب واجر على هذه القواعد وتحفّظ في صُدور كُتبك وفًصولها وخواتمها وضَع كل معنى في موضع يليق به وتخير لكل لفظة معنى يشاكلها وليكن ما تختم به فُصولك في موضع ذكر البَلْوى بمثل: نسأل الله دَفْعَ المَحْذور وصَرف المكروه وأشباه هذا وفي موضعِ ذكر المُصيبة: إنا لله وإنا إليه راجعون وفي موضع ذكر النِّعمة: الحمد لله خالصاَ والشكر لله واجباً. فإن هذه المواضع يجب على الكاتب أن يتفقَدها ويتحفظ فيها فإن الكاتب إنما يصير كاتباً بأن يَضع كل معنى في موضعه ويعلق كل لفظة على طبقتها من المعنى. واعلم أنه لا يجوز في الرسائل استعمالُ ما أتت به أيُ القرآن من الاقتصار والحذف ومخاطبة الخاصّ بالعام والعام بالخاصّ لأنَّ الله جل ثناؤه خاطَب بالقرآن قوماً فُصحاء فَهِموا عنه جلّ ثناؤه أمرَه ونَهيه ومُراده والرسائل إنما يُخاطب بها أقوامٌ دخلاء على اللغة لا علم لهم بلسان العرب. وكذلك ينبغي للكاتب أن يَجتنب اللفظ المشترك والمعنى المًلْتبس فإنه إذن ذهب يُكاتب على مثل معنى قول الله تعالى: " واسأل القَرْية التي كُنّا فيها والعِيَر التي أقبلنا فيها " وكقوله تعالى: " بل مكر الليل والنهار " أحتاج الكاتب أن يُبين معناه: بل مكرهم بالليل والنهار ومثل هذا كثير لا يتسع الكتاب لذكره. وكذلك لا يجوز أيضاًً في الرسائل والبلاغات المشهورة ما يجوز في الأشعار المَوزونة لأنّ الشاعر مُضطر والشِّعرَ مَقْصور مقيَّد بالوزن والقوافي فلذلك أجازوا لهم صَرْفَ ما لا ينصرف من الأسماء وحذفَ ما لا يُحذف منها واغتفروا فيه سوء النظم وأجازوا فيه التَّقديم والتأخير والإضمار في موضع الإظهار وذلك كله غير مُستساغ في الرسائل ولا جائز في البلاغات. فمما أجيز في الشعر من الحذف مثل قول الشاعر: قواطناً مَكةَ من وُرْق الحَمَى يعني الحمام وقول الآخر: صِفر الوشاحين صَموت الخَلْخل يريد: الخلخال وكقول الآخر: دار لسَلْمَى إذ مِن هَواكا يريد: إذ هي وكقول الحُطيئة: فيها الرماحُ وفيها كلُّ سابغة جَدْلاء مَسْرودة من صُنع سلّاَم يريد: سليمان. وكقول الآخرً: من نَسْج داود أبي سلاَّم والشيخ عُثمان أبي عفّان أراد: عثمان بن عفان. وكما قال الآخرً: وسائلةٍ بثَعلبةَ بنِ سَير وقد عَلِقت بثَعلبةَ العَلوقُ ولستُ بآتيه ولا أسُتطيعه ولاكِ اسقني إن كان ماؤك ذا فَضْل أراد: ولكن. وكذلك لا ينبغي في الرسائل أن يُصغَّر الاسم في موضع التَّعظيم وإن كان ذلك جائزاً مثل قولهم: دُويهية تصغير داهية. وجُذلِل تصغير جِذْل. وعُذيق تصغير عَذق. وقال الشاعر هو لَبيد: وكُل أناس سوف تَدْخل بينهم دُويهيةٌ تَصْفرّ منها الأناملُ وقال الحُباب بن المُنذر يومَ سَقيفة بني ساعدة: أنا عُذَيقها المُرجّب وجُذيلها المُحكّك. وقد شرحه أبو عبيد. ومما لا يجوز في الرّسائل وكَرهوه في الكلام أيضاً مثلُ قولهم: كلّمتُ إياك وأعني إيّاك وهو جائز في الشعر. وقال الّشاعر: وأحْسِنْ وَأَجْمِلْ في أسيرك إنّه ضعيفٌ ولم يأسِر كإياك آسرُ وقال الراجز: إياك حتى بلَغت إياك فتخَيَّر من الألفاظ أرجحَها لفظاً وأجزَلها معنى وأشرفَها جوهراً وأكرِمَها حسباً وأليقها في مكانها وأشكلها في موضعها فإن حاولت صَنعة رسالة فزِن اللَّفظة قبل أن تُخرجها بميزانِ التِّصريف إذا عَرضت وعاير الكلمة بمعيارها إذا سنَحت فإنه ربما مَرّ بك موضعٌ يكون مخرج الكلام إذا كتبتَ: أنا فاعل أحسنَ من أن تكتب: أنا أفعل وموضع آخرً يكون فيه: استفعلت أحلى من: فعلت. فأدِر الكلام على أماكنه وقلِّبه على جميع وُجوهه فأيّ لَفظة رأيتَها أخف في المكان الذي ندبتها إليه وأنزعَ إلى اٍلموضع الذي راودتًها عليه فأوْقعها فيه ولا تجعل اللَفظة قَلِقة في موضعها نافرةً عن مكانها فإنك متى فعلت هجّنت الموضع الذي حاولت تَحسينه وأفسدتَ المكان الذيِ أردت إصلاحه فإنَ وضع الألفاظ في غير أماكنها وقَصْدَك بها إلى غير مًصابها وإنما هو كتَرْقيع الثوب الذي لم تتشابه رقاعه ولم تتقارب أجزاؤه فخرج من حَدّ الجدّة وتغيّر حُسْنه كما قال الشاعر: إنّ الجديدَ إذا ما زيد في خَلَقٍ تَبَن الناسُ أنّ الثوبَ مَرْقوعُ وكذلك كلما احلولى الكلامُ وعَذُب وراق وسَهُلت مخارجه كان أسهلَ وُلوجاً في الأسماع وأشدّ اتصالاً بالقُلوب وأخفّ على الأفواه لا سيّما إذا كان المعنى البديع مُترجَما بلفظ مِونِق شريف ومُعايَراً بكلامٍ عَذْب لم يَسِمْه التكليف بميسمه ولم يُفسده التّعقيد باستغلاقه. وكتب عيسى بن لَهيعة إلى أخيه أبي الحسن وزَوَر كلامه وجاوز المِقدار في التنطّع فوقع في أسفل كتابه: أنيَّ يكون بليغاً من اسمه كان عِيْا وثالثُ الحرف منه أذًى كفيت ميسًّا قال: وبلغني أن بعض الكتَّاب عاد بعضَ الملوك فوجده يئن مَن علّة فخرج عنه ومرّ بباب الطاق فإذا بطيْر يدعى الشَفانين فاشتراه وبعث به إليه وكتب كتابَاً وتنطّع في بلاغته: وتذكرْ أنه يقال له شَفانين أرجو أن يكون شفاءً من أنين. فرفع في أسفل الكتاب: والله لو عطستَ ضَبًّا ما كنت عندنا إلا نبطيا فاقصر عن تنًطّعك وسَهِّل كلامك. قوله: لو عَطست ضبّا يريد أن الضباب من طعام الأعراب وفي بلدهم فقال: لو عَطستَ فنثرت ضباً من عُطاسك لم تُلحَق بالأعراب ولم تكن إلا نَبطيّاً. وقد جاء في بعض الحديث: إن القِطّ من نثرة عَطْسة الأسد وإن الفأر من نثرة عَطسة الْخِنزير. فقال هذا: لو أن الضبّ من نَثرتك لم تكن إلا نبطياً. وفي هذا المعنى قال مخلد الموصليّ يهجو حَبيبا: أنت عندي عربيّ ليس في ذاك كلامْ شَعْر ساقيك وفَخْذي ك خُزامَى وثُمام وضُلوع الصدر من شل وكَ نَبْع وبَشَام لو تحرّكت كذا ان جَفلت منك نَعَام وظباءٌ راتعا ت وَيرابيع عِظام وحَمام يتغنّى حبذا ذاك الْحَمام أنا ما ذنبي لأنْ كذِّبني فيك الأنام وفتًى يحلف ما إن عَرَّقتْ فيه الكرام ثمِ قالوا جاسميّ من بني الأنباط حام كَذبوا ما أنت إلا عربيّ والسّلام وقد رأيتُهم شبّهوا المعنى الخفيّ بالروح الخفي واللفظ الظاهر بالجًثمان الظاهر وإذا لم ينهضِ بالمعنى الشريف الْجَزْل لفظٌ شريف جزل لم تكن العبارة واضحة ولا النظام مُتّسقاً وتضاؤُل المعنى الحَسن تحت اللفظ القبيح كتضاؤل الْحَسناء في الأطمار الرثة. وإنما يدل على المعنِى أربعة أصناف: لفظ وإشارة وعَقد وخط. وقد ذكر له أرسطا طاليس صِنفاً خامساَ في كتاب المنطق وهو الذي يسمى النَصيبة. والنَّصيبة: الحال الدالّة التي تقوم مقام تلك الأصناف الأربعة وهي الناطقة بغير لفظ ومُشير إليك بغير يد. وذلك ظاهر في خَلْق السموات والأرض وكل صامت وناطق. وجميع هذه الأصناف الخمسة كاشفة عن أعيان المَعاني وسافرة عن وُجوهها. وأوضح هذه الدلائل وأفصح هذه الأصناف صِنْفان هما: القلم واللسان وكلاهما للقلب تَرجمان. فأما اللسان فهو الآلة التي يخرج الإنسان بها عن حدّ الاستبهام إلى حدّ الِإنسانية بالكلام ولذلك قال صاحب المنطق: حدُ الإنسان الحيّ الناطق. وقالت هشام بن عبد الملك: إن الله رفع درجة اللَّسان فانطقه بين الجوارح. وقال عليّ بن عبيده: إنما يُبين عن الإنسان اللسان وعن المودّة العينان. وقال آخرً: الرجل مخبوء تحت لسانه. وقالوا: المرء بأصغريه: قلبه ولسانه. وقال الشاعر: وما المرء إلا الأصغران لسانُه ومَعْقولُه والجسمُ خَلْق مُصَوَّرُ فإنْ طُرّة راقتْك يوماً فربما أمر مَذاقُ العُود والعُود أخضر وللخط صورة معروفة وحِلْية موصوفة وفضيلة بارعة ليست لهذه الأصناف لأنه يقوم مَقامها الإيضاح عند المَشهد ويَفْضُلها في المَغيب لأن الكتب تُقرأ في الأماكن المُتباينة والبُلدان المتفرّقة وتُدرس في كل عصر وزمان وبكل لسان والّلسان وإن كان ذَلْقا فَصيحاً لا يعدو سامعَه ولا يُجاوزه إلى غيره.
البلاغة
قال سهل بن هارون: سياسةُ البلاغة أشدُّ من البلاغة. وقيل لجعفر بن يحيى بن خالد: ما البلاغة قال: التقرُب من المَعنى البعيد والدَلالة بالقليل على الكثير. وقيل لابن المُقفَّع: ما البلاغة قال: قِلة الْحَصَر والْجُرأة على البَشر قيل له: فما العِي قال: الإطْراق من غير فِكْرة والتًنحنح من غير غلة. وقيل لآخرً: ما البلاغة قال: تَطْوِيلُ القَصِير وتَقْصير الطويل. وقيل لأعرابي: ما البلاغة فقال: حَذْف الفُضول وتَقْريب البعيد. وقيل لأرسطاطاليس: ما البلاغة فقال: حُسْن الاستعارة. قيل لجالينوس: ما البلاغة فقال: إيضاح المُعْضِل وفَك المُشكل. وقيل للخليل بن أحمد: ما البلاغة فقال: ما قَرُب طَرَفاه وبعُدَ مُنتهاه. وقيل لخالد بن صَفْوان: ما البلاغة قال: إِصابةُ المعنى والقَصْد للحُجًة. وقيل لآخرً: ما البلاعة قال: تَصْوير الحقّ في صُورة الباطل والباطل في صورة الحق. وقيل لإبراهيم الإمام: ما البلاغة فقال: الجزالة والإصابة.
تضمين الأسرار في الكتب
وأما تَضْمين الأسرار في الكُتب حتى لا يقرؤها غيرُ المكتوب إليه ففيه أدبٌ تجب معرفتُه. وقد تعلّقت العامّةُ بكتاب القُمّيّ والأصبهانيّ. وكان أبو حاتم سهل بن محمد قد وصف لي منهما أشياءَ جليلة من تبديل الحروف وذلك مُمكن لكل إنسان. غير أنّ اللطيف من ذلك: أن تأخذ لَبَنا حليبا فتكتب به في القِرْطاس فَيَذرّ المكتوبُ له عليه رَماداً سُخْنا من رَماد القراطيس فيظهرُ ما كتبتَ به إن شاء الله. وإن شئتَ كتبتَ بماء الزَّاج الأبيض فإذا وصل إلى المكتوب إليه أمر عليه شيئاً من غُبار الزَّاج وإن أحببتَ أن لا يُقرأ الكتاب بالنهار وُيقرأ بالليل فاكتُبه بمرارة السُّلحفاة
قولهم في الأقلام
قالوا: القلم أحدُ اللَسانين وهو المخاطب للعًيون بسرائر القلوب على لغات مختلفة من معان مَعْقودة بحروف مَعْلومة مؤلفة متباينات الصور مختلفات الجهات لقاحُها التفكير ونتاجها التَّدبير تَخْرس مُنفردات وتَنْطق مُزْدوجات بلا أصوات مسموعة ولا ألْسن مَحدودة ولا حركات ظاهرة خلا قلمٍ حَرف باريه قطّته ليتعلّق المِداد به وأرهف جانبيه ليُرَد ما انتشر عنه إليه وشَقَّ رأسه ليحتبس المِدادُ عليه فهنالك استمد القلم بشقّه ونثر في القرطاس بخَطه حروفاً أحكمها التفكّر وجرى على أسلته الكلام الذي سَدّاه العقل وألحمه اللسان ونَهسته اللهوات وقطّعته الأسنان ولفظته الشّفاه ووعته الأسماع عن أنحاء شتى من صفات وأسماء. وقالت الشاعر وهو أبو الحسن محمد بن عبد الملك بن صالح الهاشمي: وأسمرَ طاوِي الكَشْح أخْرَسَ ناطقٍ له ذَمَلان في بُطون المَهارِقِ إذا استعجلْته الكفُّ أمطرَ وبْلهَ بلا صوت إِرعاد ولا ضَوْء بارق إذا ما حدَا غرَّ القوافي رأيتَها مُجلية تمضي أمام السوابق كأن عليه من دجى الليل حلةً إذا ما استهلت مًزْنه بالصواعق كأنَ اللآلي والزَبَرْجدُ نُطْقَهُ ونَوْرُ الخُزامى في عُيون الحدائق وقال العلويُ في صِفة القلم: وعُرْيانَ من خِلْعةٍ مُكْتَسٍ يميس من الوَشيْ في يَلْمَقِ تَحدّرُ من رأسه ريقة تَسيل على ذِرْوة المَفْرِق فكم من أسيرٍ له مُطْلَق وكم من طَليق له مُوثَق يُقيم ويُوطن غربَ البلاد ويَنهي ويأمر بالمَشرْق قليلٌ كثيرُ ضُروب الخُطوط وأخرس مُسْتَمع المَنْطق يَسير بَركْبِ ثلاث عِجالٍ إذا ما حدا الفكرُ فِي مُهْرق لك القَلم المُطيعك غير أنَا وَجدنا رسْمه خيرَ المُطاع له ذَوْقان من أريٍ هَنِيٍ ومن شَرْيٍ وَبّي ذي امتناع أحذُ اللَفظ يُنْطق عن سِواه فيًسمع وهو ليسً بذي استماع إذا استسقى بلاغتك استهلَت عليه سماءُ فِكْرك باندفاع وبيتٍ بعَلْيَاء العَلاة بنيته بأسمرَ مَشقوق الخَياشيم يُرْعَفُ كأنَّ عليه مَلْبساً جلدَ حيّة مُقيم فما يَمضي وما يتخلف جليلُ شُؤون الخَطْب ما كان راكباً يسيرُ وإنْ أرجلتَه فمضعّف وقال حبيبُ بن أوس وهو من أحسن ما قيل فيه: لك القلمُ الأعلى الذي بشَباته يُصاب من الأَمر الكُلَى والمفاصلُ لُعاب الأفاعِي القاتلاتِ لُعابُه وأرْي الجَنَى اشتارتْه أيدٍ عواسِل له ريقةٌ طَل ولكن وَقْعَها بآثاره في الشَرق والغَرب وابل فصيح إذا استنطقته وهو راكب وأعجمُ إن خاطبتَه وهو راجل وقد رَفَدته الخِنْصران وسَدّدت ثلاِثَ نواحيه الثلاثُ الأنامل رأيتَ جليلَاً شأنهُ وهو مُرْهَفٌ ضَنَىً وسَميناً خَطْبهُ وهو ناحل ولما قال حبيب هذا الشعرَ حَسده الخَثْعميّ فقال لابن الزيّات: ما خُطبة القلم التي أنبيتُها وردت عليك لشاعر مَجدودِ وأنشد البُحتريّ لنفسه يَصف قلم الحسن بن وهْب: وإذا تألّق في النَديّ كلامُه الْ مصقول خِلْتَ لسانَه مِن عَضْبِه وإذا دَجت أقلامُه ثم انتحت بَرَقت مَصابيح الدُّجى في كُتْبه باللَفظ يَقْربُ فَهْمُه في بُعده منّا وَيبْعد نَيلُه في قُرْبِه حِكَم فسائحُها خِلالَ بَنانه مَتدفّق وقَليبُها في قَلبه وكأنها والسمعُ مَعْقُودٌ بها شَخْص الحبيب بدا لعين مُحبّه وأنشد أحمد بن أبي طاهر في بَعض الكُتَاب ويصف القلم: قَلم الكتابة في يَمينك آمِن ممّا يَعود عليه فيما يَكْتُبُ قلم به ظُفْرُ العدوِ مُقلم وهو الأمانُ لما يُخاف وُيرْهَب بكفّه ساحرُ البيان إذا أداره في صَحيفة سَحَرَا يَنْطِق في عُجمة بلَفْظته نُصَمُّ عنها وتسمع البَصرا نوادرٌ يَقْرع القُلوبَ بها إنْ تَسْتَبنها وجدتَها صُورا نظام دُرّ الكلام ضمنه سِلْكاً لخطّ الكِتاب مُسْتَطَرا إذا امتطى الخِنْصرين أذكرَ مِن سَحْبان فيما أطال واختصرا يُخاطب الغائب البعيد بما يُخاطب الشاهدَ الذي حَضرا تَرى المَقادير تَستدفّ له وتُنْفِذ الحادثاتً ما أمرا شَخْت ضئيلٌ لفِعْله خَطَر أعظِم به في مُلمة خَطرا تَمُجّ فكّاه ريقةً صَغرت وخَطْبها في القُلوب قد كَبُرا تُواقع النفسُ منه ما حَذِرت وربما جنبت به الحَذرا مُهَفهف تَزْدهي به صُحف كأنما حُلًيت به دُررا كأنما تَرتع العيونُ بها خلالٍَ رَوْض مُكلَّل زَهَرا كأن أنوف الطَّير في عَرَصاتها خراطيمُ أقلام تَخُط وتُعْجِمُ ومثلُه قول عديّ بن الرِّقاع في ولد البقرة: تُزْجى أغنَ كأن إبرة رَوْقه قلم أصاب من الدَّواة مِدادَها ومن قولنا: يَخرُجْن من فُرجات النّقع داميةً كأنّ آذانها أطرافُ أقلام ومنه قول المأمون: كأنما قابلَ القرطاسُ إذ مُشقت منها ثلاثةَ أقلام على قلم ومثله قولنا إذا أدارت بنانُه قَلماً لم تَدْر للشِّبْه أيّها القلمُ ومن قولنا في الأقلام: ومَعشر تنطق أقلامُهم بحكمة تَلقنها الأعينُ تَلفِظَها في الصكّ أفلامُهم كأنما أقلامهم ألسنُ ومن قوِلنا في الأقلام: يا كاتباً نقشت أناملُ كفّه سحرَ البيان بلا لسانٍ يَنْطِقُ فإذا تكلّم رغبةً أو رَهْبَةً في مَغرب أصغَى إليه المَشرْق يَجرى بريقةِ أريه أو شَرْيه يَبكي ويَضحك من سُراه المُهرق ولعبد اللهّ بن المعتز كلامٌ يصف فيه القلم: القلم يَخدُم الإرادةَ ولا يملّ الأستزادة يسكت واقفاً وينطق ساكتاً على أرض بياضها مظلم وسوادها مضيء. وقال سليمان بنُ وَهْب وزير المهديّ: كل قلم تطيل جِلْفته فإن الخط يخرج به أوقص. وكتب جعفر بن يحيى إلى محمد بن الليث يستوصفه الخط فكتب إليه: أما بعد فليكن قلمك بحْرياً لا سمينا ولا رقيقاً ما بين الرقّة والغِلَظ ضيّق النًقْب. فابرِه بَرْيا مُستوِيا كمِنْقار الحمامة اعطِف قطّته ورقّق شَفْرته. وليكن مدادُك صافيا خفيفاً إذا استمددت منه فانقعه ليلة ثم صفه في الدواة. وليكن قِرْطاسك رقيقاً مستوي النَسج تخرج السِّحاة مُستوية من أحد الطرفين إلى الآخر فليست تستقيم السطور إلا فمِما كان كذلك. وليكن أكثر تَمْطيطك في طرف القرطاس الذي في يَسارك وأقلًّه في الوسط ولا تمط في الطرف الآخر ولا تمطّ كلمة ثلاثة أحرف ولا أربعة ولا تترك الأخرى بغير مطّ فإنك إذا فرّقت القليل كان قبيحاً وإذا جمعتَ الكثير كان سَمِجا. ثم ابتدىء الألف برأس القلم كله وإخطُطه بعوضه واختمه بأسفله. وأكتب الباء والتاء والسين والشين والمطًّة العليا من الصاد والضاد والطاء والظاء والكاف والعين والغين ورأس كلِّ مُرسل برأس القلم. واكتُب الجيم والحاء والخاء والدال والذال والراء والمطَّة السفلى من الصاد والضاد والطاء والظاء والكاف والعين والغين بالسنّ السّفلى من القلم وامطُط بعرض القلم. والمطّ نِصف الخط ولا يقوى عليه إلا العاقل ولا أحسب العاقل يقوى عليه أيضاً إلا بالنَظر إلى اليد في استعمالها الحركة والسلام. وقال ابنُ طاهر لكاتبه: ألقِ دَوَاتك وأطل سِنّ قلمك وفَرج بين السطور وقَرْمط بين الحروف. وقال إبراهيم بن جَبلة: مَرّ بي عبدُ الحميد وأنا أخط خطا رديئاً فقال لي: أتحب أن يجود خطّك قلت: بلى. قالت: أطِل جِلْفة القلم وأسمِنها وحَرف قَطًتك وأيمنها. ففعلت فجاد خطي: وقال العتِّابي: ببُكاء القلم تبتسم الكُتب. وقال بعض الحكماء: أمرُ الدّيِن والدنيا تحت شباة السيف والقلم. وقال حبيب الطائي: لولا مُناشدةُ القربى لغادركم حَصائدَ المُرْهَفَين: السيفِ والقلم وقال أرسطاطاليس: عقول الرجال تحت سنِّ أقلامهم وقال أبو حَكِيمة: كنتُ أكتب المصاحف فمر بي علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فقال: أجلل قلمك. فقصمتُ من قلمي قُصمة. فقال: هكذا نوًره كما نَوًره الله. وكان ابن سيرين يكره أن يُكتب القرآن مَشْقا وقال: أجود الخط أبينه. وقال سليمان بن وهب: زينوا خطوطكم بإسبال ذوائبها. وقال عمرو بن مسعدة: الخط صورة ضئيلة لها معان جليلة وربما ضاق على العيون وقد ملأ أقطار الظنون. وذكر على بن عُبيدة القلم فقال: أصم يسمع النَّجوى أعيا من باقل وأبلغ من سَحبان وائل يُجهل الشاهد ويخبر الغائب ويجعل الكتب بين الإخوان ألسُنا ناطقة وأعيُنا لاحظة وربما ضَمّنها من ودائع القلوب ما لا تَبوح به الألسن عند المشاهدة. وقال أحمد بن يوسف الكاتب: ما عبراتُ الغواني في خُدودهنّ بأحسن من عبرات الأقلام في خُدود الكتب. وقال العتّابي: الأقلام مطايا الفِطن. وتَخاير غلامان في بعض الدواوين فقاما إلى أستاذهما يَعْرضان عليه خُطوطهما فكَره أن يُفضَل أحدهما على الآخرً فقال لأحدهما: أما خطُّك أنت فَوَشي مَحوك. وقال للآخرً: وأما خطّك أنت فذَهب مَسْبوك تكافيتُما في غاية وتوافيتما في نهاية. وقال آخرً: دخلتُ الديوان فنظرت إلى غلام بيده قلم كأنه قضيبُ عِقْيان وعليه مكتوب: وا بأبي وا بأبي من كفّ من يكتب بِي وقال أبو هِفّان يصف القلم: وإذا أمرّ على المَهارق كفّه بأنامل يحملن شَخْتاً مُرْهفَا ومقصِّراً ومُطولاً ومقطعاً ومُوصِّلا ومشتتا ومؤَلِّفا يهفو بها قلمٌ يمُجّ لُعابَه فيعود سيفاً صارماً ومُثففا وقال آخر في وصف الدواة: ومُسودّة الأرجاء قد خُضت حالَها وروَيت من قَعرٍ لها غير مُنْبَط خميصَ الحشي يَرْوَى على كل شرب أميناً على سرّ الأمين المُسلَط وقال بعض الكتّاب: وما رَوض الربيع وقد زهاه ندَى الأسحار يَأرَج بالغَداةِ بأضْوعَ أو بأسطعَ من نسيمٍ تؤديه الأفاوه من دواة وقال آخرً في وصف محبرة: ولُجّةِ بحرِ أجَم العبا ب بادٍ وأمواجُه تَزْخَرُ إذا غاص فيَه أخو غَوْصة سريعُ السباحة ما يَفْتر فأنفِس بذلك من غائص بديعُ الكلام له جَوهر وأكْرم ببحرٍ له لجة جواهرُها حكَمٌ تُنثر وقال ثُمامةُ بن أشرس: ما أثْرته الأقلام لم تَطمع في دَرْسه الأيام. ونظر المأمون إلى جارية من أصمُ سميع ساكنٌ متحرّك ينال جَسيمات المُنى وهو أعْجَف وقال بعض الكُتّاب: إذا ما التقينا وانتضينا صَوارما يكاد يُصمّ السامعين صَريرُها تساقطُ في القِرْطاس منها بدائع كمِثْل اللآلى نَظْمُها ونثيرُها قال بِشْر بن المُعتمر: القلب مَعدن والحِلْم جوهر واللسان مُستنبط والقلم صائغ والخطّ صيغة. وقال سهل بن هارون: القلم لسان الضَمير إذا رَعَف أعلن أسراره وأبان آثاره. وقالوا: حُسن الخط يُناضل عن صاحبه ويُوضح الحُجة وُيمكن له دَرَك البُغية. وقال آخرً: الخطّ الردىء زَمانةُ الأديب. وقال الحسن بن وهب: يحتاج الكاتب إلى خلال منها: جَوْدة بَرْي القلم وإطالة جِلْفته وتحريف قَطَّته وحُسن التأتي لإمطاء الأنامل وإرسالُ المَدّة بقدر اتساع الحروف والتحرز عند فراغها من الكسوف وتركُ الشكل على الخطأ والإعجام على التًصحيف واستواء الرسوم وحلاوة المقاطع. وقال سعيد بن حُميد: من أدب الكاتب أن يأخذ قلمَه في أحسن أجزائه وأبعد ما يتمكَّن المداد فيه ويُعطيه من القرطاس حقًه. وقال عبد الله بن عباس: كل كتاب غير مختوم فهو غُفْل. وفي تفسير قول الله تعالى: " إنِّي ألْقِي إلي كتاب كريم " قال: مختوم. ورفع إلى عبد الله بن طاهر قصة وقال أبو عبيدة: لا يقال: كأس إلا إذا كان فيها شراب وإلا فهي زجاجة ولا مائدة إلا إذا كان عليها طعام وإلا فهي خِوان ولا قلم إلا إذا بُريَ وإلا فهو قصبة. وقاك آخرً: جلوس الأدباء عند الورّاقين وجلوس المخمنين عند النخَّاسين وجلوس الطُّفيليين عند الطبَّاخين. وكتب علِىّ بن الأزهر إلى صديق له يسأله أقلاماً يبعث بها إليه: أما بعد فإنِّا على طول المُمارسة لهذه الكتابة التي غلبت على الاسم ولزمت لزوم الوَسم فحلَّت محل الأنساب وجَرت مَجْرى الألقاب وجدنا الأقلام الصُحرية أسرع في الكَواغد وأمرَّ في الجلود كما أنَّ البحرية منها أسلسَ في القراطيس وألين في المعاطف وأشدَّ لتصريف الخطّ فيها. ونحن في بلد قليل القَصب رديئه وقد أحببتُ أن تتقدّم في اختيار أقلام بَحْريّة وتتأنَّق في انتقائها قِبَلك وتَطلبها في مظانّها ومنابتها من شُطوط الأنهار وأرجاء الكروم وأن تتيمم باختيارك منها الشديدة المُحْص الصّلبة المَعضّ النقيّة الخدود القليلة الشُّحوم المكتنزة اللحوم الضيقة الأجواف الرَّزينة المَحْمَل فإنها أبقى على الكتابة وأبعدُ من الحَفاء وأن تقصد بانتقائك الرقاق القضبان المقومات المعون المُلس المعاقد الصافية القُشور الطويلة الأنابيب البعيدة ما بين الكُعوب الكريمة الجواهر المعتدلة القَوام المُستحكمة يُبساً وهي قائمة على أصولها لم تُعْجَل عن إبان يَنْعها ولم تؤخر إلى الأوقات المَخوفة عليها من خَصَر الشتاء وعَفن الأنداء فإذا استجمعَتْ عندك أمرت بقَطعها ذراعا ذراعا قَطعاً رقيقاً ثم عبأت منها حزَما فيما يصونها من الأوعية ووجهتَها مع مَن يؤدي الأمانة في حِراستها وحِفْظها وإيصالها وكتبتَ معه رقعة بعدّتها وأصنافها بغير تأخير ولا توان إن شاء الله تعالى.
قولهم في الحبر
قال بعض الكتاب: عطَروا دفاتر آدابكم بجيد الحِبْر فإن الأدب غَواني والحِبر غوالي. ونظر جعفر بن محمد إلى فتى على ثيابه أثرُ المداد وهو يستره فقال له: لا تجزعنّ من المِداد فإنه عِطْرُ الرِّجال وحِلْية الكُتابِ وأَتى وكيعَ بن الجرّاح رجلٌ يمت إليه بحُرمة فقال له: وما حُرمتك وْقال له: كنتَ تكتب من مِحبرتي عند الأعمش فوثب وكيع ودخل منزله تم أخرج له بضعة دنانير وقال له: أعذُر فما أملك غيرها. الأقلام أهدى ابنً الحَرون إلى رجل من إخوانه من الكُتّاب أقلاماً وكتب إليه: إنه لما كانت الكتابة أبقاك الله أعظمَ الأمور وقِوامَ الخلافة وعمودَ المملكة خصصتُك من آلتها بما يَخف مَحْمله وتَثْقل قيمته ويَعْظُم نَفْعه ويجل خَطَره وهي أقلام من القَصب النابت في الصُحْر الذي نَشِف في حَر الهجير ماؤه وسَتره من تلويحه غشاؤه فهي كاللالىء المَكْنونة في الصَدف والأنوار المَحجوب في السُّدَف تِبْريَّة القُشور دُرّية الظّهور فِضِّية الكًسور قد كستها الطبيعة جواهرَ
قولهم في الصحف
نعم الأنيسُ إذا خلوتَ كتابُ تَلْهو به إنْ مَلّك الأحباب! لا مُفْشِياً سرًّا إذا استودعتَه وتُفاد منه حِكْمَةٌ وصَواب وقال آخر: ولكُل صاحبِ لذةٍ متنزه أبداً ونُزْهة عالم في كُتْبِهِ وقال حبيب مدادٌ مثلُ خافيةِ الغراب وقِرطاس كرَقْراق السَّرابِ وألفاط كألفاظ المَثاني وخط مثلُ وَشم يد الكَعاب كتبتُ ولو قدرت هَوًى وشَوْقاً إليك لكنتُ سطراً في الكتاب وقال في صحيفة جاءته من عند الحسن بن وَهْب: لقد جَلى كتابك كلَّ بَثٍّ جَوٍ وأصاب شاكلَة الرًمِيِّ فضضتُ ختامَه فتبلَّجتْ لي غرائبُه عن الخَبر الجَليّ وكان أغضَّ في عيني وأندَى على كبدي من الزَّهر الجنَيّ وضمَن صدرُه ما لم تِضمَن صدورُ الغانيات من الحُليّ فكائن فيه من مَعنَى خطير وكائن فيه من لَفْظ بهي فيا ثَلَج الفًؤاد وكان رَضْفاً ويا شِبَعي بروْنقه وريِّي فكم أفصحتَ عن برٍّ جليل به ووأيتَ من وَأْيٍ سَني كتبتَ به بلا لَفْظ كريهٍ على أذن ولا خَط قَمِيّ رسالةَ من تمتّع منذ حين ومَتعنا من الأدب الرَّضيّ لئن غربتها في الأرض بِكراً لقد زُفت إلى قلب وفيّ وإنْ يكُ من هَداياك الصَفايا فربّ هديةٍ لك كالهَديّ وقال ابن أبي طاهر في ابن ثوابة: في كل يَوم صدورُ الكُتْب صادرةُ من رأيه وندَى كَفَيه عن مثُل عن خطّ أقلامه خَطٌ القَضاءُ على ال أعداء بالموت بين البِيض والأسَل لُعابها عِلَلٌ في الصَّدر تَنفثه وِربما كان فيه النَفع للعِلَل في نظام من البلاغة ما شكّ امرؤ أنَه نظامٌ فريد وبَديع كأنه الزًهَر الضا حك في رَوْنق الرَّبيع الجديد ما أعيرت منه بُطون القراطي س وما حُمِّلت ظُهورُ البريد حُجج تُخرِس الألدَّ بألفا ظٍ فُرادى كالْجَوْهر المَعْدود حُزْنَ مُستعمل الكلام اختيارا وتَجنَّبن ظُلْمة التعقيد كالعَذارى غَدَوْن في الحُلل البي ض إذا رُحْن في الخُطوط السُّود وقال عليّ بن الجهم في رقعة جاءتْه بخطّ جيّد: ما رُقعة جاءتك مَثْنيّةً كأنها خدًّ على خَدِّ نَثْر سواد في بياضٍ كما ذرّ فتيت المِسْك في الوَرْد ساهمةُ الأسْطُر مصروفة عن جهة الهَزْل إلى الجدّ يا كاتباً أسلمني عَتْبُه إليكَ حَسْبي منك ما عندي وقال محمد بن إبراهيم بن محمد الشيباني: رفع أبان بن عبد الحميد اللاحقي إلى الفضل بن يحيى بن خالد رقعة بأبيات له يصف فيها قامته وكَثافة لحيته وحلاوة شمائله وبراعة أدبه وبلاغة كاتبٌ حاسبٌ أديبٌ لبيبٌ ناصحٌ زائد على النُّصاح شاعرٌ مُفلق أخفّ من الري شة مما تكون تحت الجناح ليَ في النَّحو فِطنةٌ ونَفاذ أنا فيه قِلادة بوِشَاح لو رَمى بي الأميرُ أصلحه الله رِماحاً صدمتُ حدَّ الرماح ثم أروَى من ابن سيرين في الفِق ه بقول مُنوّر الإفصاح لستُ بالضَخم في رُوائي ولا الفَدْ م ولا بالمُجعد الدَّحْداح لحية كَثّة وأنص طويل واتقاد كشعلة المصباح وكثير الحديث من مُلح النا س بصير بخافياتٍ مِلاَح كم وكم قد خبأتُ عندي حديثاً هو عند الأمير كالتّفاح أيمنُ الناس طائراً يومَ صَيْدٍ في غُدوٍّ أو بُكرة أو رَواح أعلم الناس بالْجَوارح والصي د وبالخُرّد الحِسانِ المِلاح كلُ هذا جمعتُ والحمد لله على أنني ظريفُ المِزاح قال: فدعاه. فلما دخل عليه أتاه كتاب من إرْمِينيَة فرمى به إليه وقال له: أجِبْ. فأجاب بما في غرضه وأحسن. فأمر له بألف ألف درهم وكنا نراه أول داخل وآخر خارج وكان إذا ركب فركابه مع ركابه. قال محمد بن يزيد: فبلغ هذا الشعر أبا نواس فقال: أنت أولى بقِلّة الحظّ منّي يا مُسمَّى بالبُلبل الصدّاح قِبُلوا منه حين عزَّ لديهم أخرسَ القَول غير ذي إفصاح ثم بالريش شبه النَّفس في الخِف ه مما يكون تحت الجناح إذا الشم من شماريخِ رَضْوى خِفّة عنده نوى المِسْباح لم يكُن فيك غيرُ شيئين مما قلتَ في نَعت خَلْقك الدَّحْداح ِلحْية جَعْدة وأنفٌ طويلٌ وسِوَى ذاك ذاهبٌ في الرِّياح فيك ما يحمل الملوك على السخ فِ ويُزْرِي بالماجد الجَحْجاح بارِد الطرف مُظلم اللُب تيا ه مُعيد الحديث سَمْج المِزاح قال: فبعث إليه أبان بأن لا تُذيعها وخُذ الألفَ ألفِ دِرهم. فبعث إليه أبو نُواس: لو أعطيتَني مائةَ ألفِ ألفِ دِرْهم لم أجد بدُّا من إذاعتها. فيقال: إنً الفضل بن يحيى لما سمع شعرَ أبي نُواس قال: لا حاجةَ لي في أبان لقد رُمي بخَمس في بيتٍ لا يقبل على واحدة منهن إلا جاهل فقيل له: كذب عليه. فقال: قد قبل ذلك فأقصاه. وإنما أغرى أبا نُواس بهذا الكاتب أبانِ بن عبد الحميد اللاحقي أن الفضل بن يحيى أعطاه مالًا يُفرقه في الشعراء ويُعطى كل واحدٍ على قَدْره فبعث إلى أبي نواس بدِرْهم زائف ناقص وقال: إني أعطيتُ كل شاعر على مقدار شعره وكان هذا أوفرَ نصيبك عندي. فهجاه لذلك.