الرئيسيةبحث

العقد الفريد/الجزء الثالث/2

وكان آخرً كلام عمر الذي إذا تكلم به عُرف أنه فَرغ من خُطبته: اللهم لا تَدعني في غَمرة ولا تأخذني على غِرِّة ولا تَجْعلني من الغافلين. خطبة لعثمان بن عفان رضي الله عنه ولما وَلي عثمانُ بن عفّان قام خطيباً فحمِد اللهّ وأثنى عليه وتَشهَّد ثم أُرتج عليه فقال. أيها الناس إنَّ أوّل كلّ مَركب صَعْب هانْ أعِش فستأتيكم الخُطب عَلَى وَجهها وسيجعل اللهّ بعد عُسر يُسراَ. خطبة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضوان الله عليه أوّل خُطبة خَطبها بالمدينة فحَمِد الله وأَثنى عليه وصلى على نبيّه عليه الصلاةُ والسلام ثم قال: أيها الناس كتابَ الله وسُنّةَ نبيّكم ﷺ أما بعد فلا يَدَعينّ مُدّعٍ إلا على نفسه شُغِل مَن الجنّة والنار أمامَه. ساعٍ نجا وطالبٌ يرجو ومقمر في النار ثلاثة واثنان: مَلَك طار بجناحيه ونبيّ أخذ الله بيديه لا سادس. هلك مَن اقتحم وَرَدِي مَن هوى اليمينُ والشِّمال مَضَلَّة والوًسطى الجادّة. مَنهج عليه أم الكتاب والسنّة وآثارُ النبوّة. إنَّ الله داوَى هذه الأمة بدواءين: السَّوط والسيف لا هَوادة عند الإمام فيهما. استتروا ببيوتكم واصْلِحوا فيما بينكم فالموتً من ورائكم. مَن أَبدى صَفحته للحقّ هَلَك. قد كانت أمورٌ لم تكونوا فيها مَحمودين. أما إني لو أشاء أن أقول لقُلت. عفا الله عما سَلف. سَبق الرجلاًن ونام الثالث كالغُراب همته بَطنه وَيْله! لو قُصّ جناحاه وقُطع رأْسه لكان خيراً له. انظروا فإن أنكرتم فانكروا وإن عَرفتم فاعرفوا. حقّ وباطل ولكُلّ أهل ولئن كَثر الباطل لقديماً فعل ولئن قَلَّ الحق لرَّبما ولعلّ ولقلما أدبر شيء فاقبل ولئن رجعتْ إليكم أُموركم إنكم لسعداء وإني لأخشى أن تكونوا في فَتر وما علينا إلا الاجتيهاد. ورَوى فيها جعفَر بن محمد رضوان الله عليه: ألا إن الأبرار عِتْرتي وأطايب أرومتي أحلم الناس صغِاراً وأعلم الناس كباراً. ألا وإنا أهلَ البيت مَن عِلْم الله عِلْمُنا وبحُكم الله حُكمُنا ومِن قَول صادقٍ سمعنا فإن تَتبعوا آثارنا تهتدوا ببصَائرنا. معنا رايةُ الحق من يَتبعها لَحِق ومن تأخر عنها غَرِق. ألاَ وبنا تُردّ تِرَة كل مؤمن وبنا تُخلع رِبقْة الذل من أعناقكم وبنا فُتح الأمر وبنا يُختم. وخطبة له أيضاً حَمد الله وأثنى عليه ثم قال: أوصيكم عبادَ الله ونَفسي بتَقْوى الله ولُزوم طاعته وتقديم العَمَل وتَرْك الأمَل فإنه من فَرّط في عمله لمْ يَنْتفع بِشيء من أمله. أين التَّعِب بالليل والنهار واْلمقتحم لِلُجج البحارِ ومَفاوِز القِفار يَسير من ورِاء الجبال وعالج الرمال يَصل الغُدُوّ بالرَّواح والمَساء بالصَّباحِ في طلب مُحقَرات الأرباحِ هَجَمتْ عليه منيّته فعظُمت بنفسه رَزِيته فصار ما جَمع بُوراً وما اكتسب غروراً ووافَى القيامةَ مَحْسوراً. أيها اللاهي الغازُ نفسه كأنِّي بك وقد أتاك رسولُ ربك لا يَقْرع لك باباً ولا يَهاب لك حِجاباً ولا يَقْبل منك بَدِيلًا ولا يأخذ منك كَفِيلاً ولا يرْحم لك صغيراً ولا يُوقّر فيك كبيراً حتى يُؤدِّيك إلى قَعْر مُظلمة أرجاؤُها مُوحشة كفِعْله بالأمم الخالية والقُرون الماضية. أين مَن سعى واجتهد وجَمع وعدّد وبَنَى وشَيّد وزَخرف ونَجّد وبالقليل لم يَقْنع وبِالكثير لم يُمتَّع أين مَن قاد الجنود ونَشر البُنود أضحَوْا رُفاتاً تحت الثرى أمواتاً وأنتم بكأسهم شاربون ولسبيلهم سالكون. عبادَ الله فاتّقوا الله ورَاقبوه واعملوِا لِلْيوم الذي تُسيَر فيه الجبال وتَشقّق السماء بالغَمام وتَطايَرُ الكُتب عن الأيمان والشمائل. فأيّ رَجُل يومئذ تُراك أقائل: هاؤم اقَرءوا كتابيه أم: يا ليتني لم أوت كتابيَه نسأل مَن وَعَدَنا بإقامة الشرائع جَنَّته أن يَقينا سُخْطه. إنّ أحسنَ الحديث وأبلغَ الموعظة كتابُ الله الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خَلْفه تَنْزِيل من حَكِيم حَمِيد. الحمدُ لله الذي اسْتَخْلص الحمدَ لنفسه واستوجبه على جَميع خَلْقه الذي ناصيةُ كُلّ شيء بيده ومَصير كُلّ شيء إليه القَوي في سُلطانه اللَطيف في جَبَروته لا مانعَ لما أعطى ولا مُعْطِي لما مَنع خالق الخلائقِ بقًدْرته ومسخَرهم بَمشِيئته وَفي العهد صادق الوَعْد شديد العِقاب جزيل الثَواب. أحمده وأستعينه على ما أنعَم به مما لا يَعرف كنْهَه غيرُه وأتوكَل عليه توكّل المسْتسلم لقُدرته المُتبري من الحَوْل والقُوةِ إلا إليه وأشهد شهادةً لا يَشُويها شك أنه لا إله إلا هو وحدَه لا لشريك له إلهاً واحداً صَمَداً لم يَتَخذ صاحبةً ولا ولَداً ولم يكن له شريك في المُلك ولم يكن له وليّ من الذُّل وكَبِّره تَكْبيراً وهو على كل شيء قدير. قَطع ادعاء المُدعي بقوله عزّ وجلّ: وما خَلَقْتُ الجنِّ والإنْس إلاّ لِيَعبدون. وأشهدُ أن ﷺ صفوتُه من خَلْقه وأمينُه على وَحْيَه أرسله بالمَعْروف أمِراً وعن المُنكر ناهياً وإلى الحقّ داعياً على حين فَتْرة من الرُّسل وضَلالة من الناس واختلاف من الأمور وتَنازُع من الألسن حتى تَمّم به الوَحْي وانْذر به أهلَ الأرض. أوصيكم عبادَ الله بتَقْوى الله فإنها العِصْمةُ من كلّ ضَلال والسّبِيلُ إلى كل نَجاة فكأنكم بالجُثث قد زايَلَتْها أرواحُها وتَضمَّنتها أجداثُها فلن يَسْتقبِلَ معمَّر منكم يوماً من عُمره إلا بانتقاص آخرَ من أَجَله وإنما دُنياكم كَفْيء الظِّل أو زاد الراكب. وأحذِّركم دُعاء العَزيز الجبّار عبدَه يوم تعفَّى آثارُه وتًوحِشُ منه دِيارُه ويُوتَم صِغارُه ثم يصير إلى حَفِير من الأرض مُتعفِّراً خَدُّه غيرَ مُوسَد ولا مُمهّد. أسأل الذي وَعدنا على طاعته جَنْته أن يَقينا سُخْطه ويجنِّبنا نِقْمته ويهَب لنا رَحْمته إنَ وأبلغ الحديثِ كتابً الله. وخطبة له رضي الله عني أما بعد فإنّ الدنيا قد أدبرت وآذنت بوَداع وإن الآخرة قد أقبلت وأشرفت باطلا وإن المضمار اليوم والسِّباق غداً. ألا وِإنكم في أيام أمل ومِن ورائه أجل فمن أخْلَص في أيام أمله قبل حُضور أجله نفعه عملُه ولم يَضره أملُه ومن قَصر في أيام أمله قبل حُضور أجله فقد خَسِر عملُه وضَجره أمله. ألا فاعملوا الله في الرغْبة كما تَعملون له في الرَّهبة. ألا وإني لم أر كالجنَة نام طالبها ولم أر كالنَار نام هاربها. ألا وإنكم قد أمِرْتم بالظَّعْن ودُللتم على الزّاد وإن أخوفَ ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطولُ الأمل. وخطبة له أيضاً قالوا: ولما أغار سُفيان بن عَوف الأسديّ على الأنبار في خلافة في رضي الله عنه وعليها حَسّان البكْري فَقَتله وأزال تلك الخَيْل عن مَسارحها فَخرج عليّ رضي الله عنه حتى جَلس على باب السدّة فَحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإن الجهاد باب من أبواب الجَنًة فمن تَركه ألبسه. الله ثوبَ الذُّل وأشْمله البَلاء والزمه الصغار وسامَه الخَسْف ومَنعه النِّصْف. ألا وإني دعوتُكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلاَ ونهاراً وسراً وإعلاناً وقُلت لكُم: اغزُوهم قبلَ أن يَغزوكم فوللّه ما غُزى قومٌ قط في عُقر دارهم إلاّ ذلّوا. فتواكلتم وتخاذلتم وثَقُل عليكم قَوْلي فاتخدتُموه وراءَكم ظِهْريّاً حتى شنّت عليكم الغارات. هذا أخو غامِد قد بلغت خيلُه الأنبار وقَتل حَسّان البَكْريّ وأزال خَيْلَكم عن مَسارحها وقَتل منكم رجالاَ صالحين. ولقد بَلغني أنّ الرجل منهم كان يَدْخل على المَرأة المُسلمة والأخرى المُعاهَدَة فَينْزعِ حِجْلها وقُلْبها ورِعاثَها ثمٍ انصرفوا وافرِين ما كُلِم رجلٌ منهم. فلو أنّ رجلاً مُسْلماً ماتَ من بعد هذا أسَفا ما كان عندي مَلُوماً بل كان عندي جدِيراً. فواعجبا مِن جِد هؤلاء في باطلهم وفَشَلكم عن حَقّكم! فقُبحاً لكم وَتَرَحاً! حين صرتم غرضاً يُرمي يغار عليكم ولا تُغيرون تُغزَوْن ولا تَغْزُون ويُعمى الله وتَرْضون! فإذا أمرتكم بالمَسير إليهم في أيام الحَرّ قُلتم: حَمارة القَيْظ أَمهلنا حتى ينْسلخ عنَّا الحر وإذا أمرتُكم بالمسير إليهم ضُحى في الشّتاء قلتم: أمْهلنا حتى يَنسلخ عنا هذا القر. كُلّ هذا فِراراً من الحَر والقر فختم والله من السِّيف أفرّ. يا أشباهَ الرِّجال ولا رِجال! ويا أحلام أطفال وعُقولَ ربّات الحِجَال! وَدِدْتُ أن الله أخرجنيِ من بين أظْهُركم وقَبضني إلى رَحْمته مِن بينكم وأني لم أركم ولِم أعرفكمٍ معرفةٌ والله جَرّت وَهْنا وورّيتم والله صَدْري غَيْظاً وجَرّعْتموني الموت أنفاسا وأفسدتُم علّي رأي بالعِصْيان والخِذْلان حتى قالت قريش: إن ابن أبي طالب شُجاعٍ ولكنْ لا عِلْم له بالحَرب لله أبوهم! وهَلْ منهم أحد أشدً لها مِرَاساً وأطولُ تجربة منّي! لقد مارستُها وأنا ابنُ عِشْرين فها أنذا الآنَ بد نَيَّفت على الستين ولكنْ لا رأيَ لمن لا يُطاع. وخطبة له رضي الله عنه قام فيهم فقال: أيها الناس المجتمعة أبدانهم المُختلفة أهواؤهم كلامُكم يوهِي الصُم الصِّلاَب وَفِعْلكم يُطْمع فيكم عدوَكم تقولون في المجالس كَيْت وكَيْت فإذا جاء القِتال! قلتم حِيدِي حَيَادِ. ما عَزًت دعوةُ مَن دعاكم ولا استراح قلبُ من قاساكم أعاليل بأباطيل. وسألتُموني التأخير دِفاع ذي الذَين المَطول. هيهات! لا يدفع الضَّيمَ الذَّليلُ ولا يُدْرَك الحقُّ إلا بالجِدّ. أيّ دار بعد داركم تَمَنعون أم مع أَيّ إمام بَعدي تُقاتِلون المَغْرور والله من غَرر تموه ومَن فاز بكم فاز بالسَّهم الأَخْيَب. أصبحتُ والله لا أصدِّق قولَكم ولا أطمع في نُصْرَتكم فرق الله بيني وَبَينكم وأعقبني بكم مَن هو خير لي منكم. وَدِدْت والله إن لي بكلّ عشرة منكم رجلاً من بني فِرَاس ابن غَنْم صَرْفَ الدِّينار بالدِّرهم. فأقبلوا إليه مِع ابنه الحَسن رضي الله عنه فقام فيهم خَطيباً فقال: الحَمد لله ربِّ العالمين وصلّى الله على سيّدنا محمد خاتَم النبيين وآخرً المُرسلين. أما بعد فإنَّ الله بعث محمداً عليه الصلاةً والسلام إلى الثّقَلين كافَّة والناسُ في اختلاف والعرب بشرَّ المَنازل مُستضعفون لما بهم بعضهم على بعض فرَأب الله به الثَّأي ولأمَ به الصَّدْع ورَتَق به الفَتق وأمن به السبُل وحَقَن به الدِّماء وقَطع به العداوةَ الواغرة للقُلوب والضَغائن المُخَشِّنة للصُّدور ثم قَبضه الله عز وجلّ مَشكوراً سَعْيُه مَرْضيّاً عملُه مَغْفوراً ذَنْبه كريماً عند ربه. فيا لها مصيبةً عَفت المسلمين وخَضَت الأقرَبين! ووَليَ أبو بكر فسار بسِيرة رَضِيها المسلمون ثم وَلِيَ عمر فسار بِسيرة أبي بكر رضير اللَه عنهما ثمَّ وَليَ عثمان فَنال منكم وَنلتم منه حتى إذا كان من أمره ما كان اتيتموه فقَتَلتموه ثَم أتيتموني فقلتم لي: بايِعْنا فقلتُ لكم: لا أفعل وقَبضت يدي فَبسطتموها ونازعتم كَفِّي فَجَذبتموها وقلتم: لا نَرْضى إلاّ بك ولا نَجتمع إلاٌ عليك وتَدَاكَكْتم علي تَدَاكُك الإبل الهِيم على حِياضها يوم وِرْدها حتى ظننتُ أنكم قاتلِي وأنَ بعضَكم قاتلُ بعض فبايعتُموني وبايعني طلحَة والزُّبَير ثم ما لَبِثَا أن استأذناني للعمرة فسارا إلى البَصرة فقَتَلا بها المسلمين وفَعلا الأفاعيل وهما يَعْلمان والله أني لستَ بدون واحد ممن مَضى ولو أشاء أن أقول لقُلت: اللهم إنهما قَطَعا قَرَابتي ونَكثا بَيْعتي وألَّبا عليَّ عدوِّي. اللهم فلا تُحْكِم لهما ما مما حفظ عنه بالكوفة على المنبر قال نافع بن كُليب: دخلتُ الكوفة للتّسليم على أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه فإنّي لجالس تحت منبره وعليه عِمامةٌ سوداء وهو يقول: انظروا هذه الحكومة فمن دَعا إليها فاقتلوه وإن كان تحت عِمامتي هذه. فقال له عديُّ بن حاتم: قلتَ لنا أمس: من أبى عنها فاقتلوه وتقول لنا اليوم: مَن دعا إليها فاقتلوِه والله ما نَدْري ما نَصْنع بك! وقام إليه رجل أحْدب من أهْل العراق فقال: أمرت بها أمسي وتنهى عنها اليومَ! فأنت كما قال الأول: أكلكَ وأنا اعلم ما أنت. فقال عليّ: إلِي يُقال هذا أصبَحتُ أذْكُر أرحاماً واصِرةً بُدِّلت منها هُوِيَّ الريح بالقَصَب أمَا والله لو إني حين أمرتكم بما أمرتكم به ونَهيتكم عمَّا نهيتكم عنه حَملَتُكم على المَكروه الذي جعل الله عاقبتَه خيراً إذا كان فيه لكانت الوُثَقى التي لا تُفْصم وِلكن مَتى وإلى مَتى أداويكم إني والله بكم كناقِش الشوكة بالشوكة! يا لَيت لي بعض قومي وليت لي من بَعْدُ خيرَ قومي. اللهم إنَّ دِجلة والفرات نهران أعجمان أصمِّان أبكمان اللهم سَلِّط عليهما بَحْرَك وانزع منهما بَصرك وَيْ للنَزعة بأشْطان الرِّكي دُعوا إلى الإسلام فقَبلوه وقرءوا القرآن فاحْسنوه ونَطقوا بالشَعرِ فأحْكموه وهُيِّجوا إلى الجهاد فَوَلَوْا اللَقاح أولادَها وسَلَبوا الضيوف أغمادَها ضَرْباً ضَرْبَاً وزَحْفاً زَحْفاً لا يَتباشرون بالحياة ولا يُعَزَّون على القتلى: أولئك إخوانيَ الذّاهبون فَحَق البكاءُ لهم أن يَطِيبَا رُزِئتُ حَبِيباً على فاقةٍ وفارقتُ بعد حَبيبٍ حَبيبَا ثم نزل تَدْمع عيناه. فقلت: إنَّا لله وإنَا إليه راجعون على ما صِرْتَ إليه! فقال: نعم إنا لله وإنا إليه راجعون! أقوِّمهم والله غُدْوَة ويَرْجعون إليَ عشيةً مثل ظَهْر الحيَّة حتَّى متى وإلى متى حَسْبي الله ونعم الوكيل! خطبة الغراء رضي الله عنه: الحمد للهّ الأحد الصَّمد الوِاحد المُنفرد الذي لا مِن شيء كان ولا مِن شيء خُلق إلا وهو خاضع له قُدْرة بان بها من الأشياء وبَانت الأشياء منه فلست له صفة تّنال ولا حَدّ يُضرب له فيه الأمثال كلِّ دون صِفته تَحْبير اللّغات وضَلَّت هناك تَصاريف الصِّفات وحارت دونَ مَلكوته مذاهبُ التَّفْكير وانقطعت دون عِلْمه جوامعُ التَّفْسير وحالت دونَ غَيْبه حُجبٌ تاهت في أَدْنىَ دُنوّها طامحات العُقول. فتَبَارك الله الذي لا يَبْلغه بُعْدُ الهِمَم ولا يَناله غَوْصُ الفِطن وتَعالى الذي ليس له نَعْت مَوْجود ولا وَقْتٌ مَحدود. وسُبحان الذي ليس له أوَلُ مُبتدأ ولا غايةُ مُنْتهى ولا آخِرٌ يَفْنى وهو سُبحانه كما وَصف نفسه والواصفون لا يَبْلغونَ نعْته أحاط بالأشياء كُلِّها عِلْمُه وأتْقنها صُنْعه وذلّلها أمرُه وأحصاها حِفْظُه فلا يَغْرُب عنه غُيوب الهَوى ولا مَكنون ظُلَم الدُّجى ولا ما في السموات العُلى إلى الأرض السابعة السُّفلى فهو لكلّ شيء منها حافظ وَرَقيب أحاط بها. الأحد الصَّمد الذي لم تُغيره صُروف الأزمان ولم يَتكاءده صُنْع شيِء منها كان. قال لِما شاء أن يكون كُنْ فكان ابتدع ما خَلق بلا مثال سَبق ولا تعب ولا نَصَب وكلُّ عالم من بعد جهْلِ تَعلَّم والله لم يَجهل ولم يَتعلَّم أحاط بالأشياء كلِّها عِلماً ولم يَزْدَد بتجربتها خُبراً عِلْمه بها قبل كَوْنها كِعلْمه بها بعد تكوينها لم يُكَوَنها لتَسْديد سُلطان ولا خَوْفٍ من زوال ولا نُقصان ولا استعانة على ضد مُناوئ ولا نِذ مُكاثر ولكنْ خلائق مَرْبوبون وعِباد داخرون. فسُبحان الذي لم يؤده خَلْقُ ما ابتدأ ولا تَدْبير ما بَرأ خَلَق ما عَلِم وعِلم ما أراد ولا يتفكّر على حادث أصاب ولا شُبهة دَخلت عليه فيما شاء لكنْ قضاء مُتقن وعِلْم مُحْكم وأمر مُبْرَم. توحّد فيه بالربوبية وخَص نفسه بالوَحْدانية فلَبِسَ العز والكِبرياء واستخلص المَجد والسناء واستكمل الحَمْد والثناء فانفرد بالتَوحيد وتوحّد بالتمجيد فجل سبحانه وتعالى عن الأبناء وتَطَهّر وتقدّس عن مُلامسة النساء فليس له فيما خَلق نِدّ ولا فيما ملك ضِدّ هو الله الواحد الصَّمد الوارثُ للأبد الذي لا يَبيد ولا يَنْفد مَلَك السمواتِ العُلى والَأرَضين السُّفلى ثم دَنَا فَعَلاً وعَلا فَدَنَاً له المَثَل الأعلى والأسماء الحُسنى والحمدُ لله ربّ العالمين. ثم إنّ اللهّ تبارك وتَعالى سُبحانه وبحَمْدِه خَلَقَ الخلق بِعلمه ثم اختار منهم صَفْوَته لنفسه واختار من خيَار صَفْوَته أُمناء على وَحْيه وخَزنة له على أَمره إليهم تَنْتهي رسالتُه وعليهم يَنزل وَحْيه جعلهم أَصْفِياء مُصْطَفين أَنبياء مَهديِّين نُجباء. استودعهم وأقرَّهم في خير مُستقر تَناسختهم أكارمُ الأصلاب إلى مطهّرات الأمّهات كلّما مضى منهم سَلف انبعث لأمره منهم خَلف حتى انتهت نُبوَّة الله وأَفضت كرامتُه إلى محمد ﷺ فأخرجه من أَفضل المَعادن مَحْتِداً وأَكرم المَغارس منبتاً وأمنعها ذِرْوة وأَعزّها أَرُومة وأَوْصلها مَكْرمة من الشجرة التي صاغ منها أمناء وانتخب منها أنبياء شجرة طيِّبة العُود مُعتدلة العَمود باسقة الفُروع مُخضَرّة الأصول والغصون يانعة الثِّمار كريمة المُجْتنى في كرم نَبتت وفيه بَسقت وأَثْمرت وعزت فامتنعت حتى أكرمه الله بالروح الأمين والنُّور المبين فختم به النّبيين وأتمّ به عِدْة المُرسلين خليفتُه على عباده وأمِينُه في بلاده زَيّنه بالتَّقوى واثار الذِّكرى وهو إمام مَن اتقى ونَصْر من اهتدى سراجٌ لمع ضَوؤه وزَنْد بَرقَ لمعه وشِهابٌ سطع نُوره. فاستضاءت به العِباد واستنارت بهِ البلاد وطَوى به الأحساب وأزجى به السّحاب وسَخّر له البُراق حتى صافحته المَلائكة وأَذعنت له الأبالسة وهَدم به أصنام الآلهة. سِيرتُه القَصْد وسُنته الرشد وكلامه فَصْل وحُكمه عَدْل. فَصدع ﷺ بما أمره به حتى أفصح بالتّوحيد دعوتَه وأظهر في خَلْقه: لا إله إلا الله حتى أُذعن له بالرُبوبية وأُقرّ له بالعُبودية والوَحدانية. اللهم فخُص محمداً ﷺ بالذِّكر المحمود والحَوض المَوْرود. اللهم آتِ محمِداً الوَسيلة والرفعة والفَضيلة واجعل في المُصطَفين مَحِلَته وفي الأعلين درجتَه وشرِّف بُنيانه وعَظَم بُرهانه واسقنا بكأسه وأوْرِدنا حَوضَه وأحشُرنا في زُمرته غيرَ خَزايا ولا ناكِثين ولا شاكَين ولا مُرتابين ولا ضالين ولا مَفتونين ولا فبذَلين ولا حائدين ولا مضلين. اللهم أعط محمداً من كل كرامة أفضلَها ومن كُل نعيم أكملَه ومن كل عَطاء أجزلَه ومن كل قَسْم أَتمًه حتى لا يكون أحد من خَلقك أقربَ منك مَكاناً ولا أحظَى عندك منزلة ولا أدنى إليك وسيلة ولا أعظم عليك حقّاً ولا شَفاعة من محمد واجمع بيننا وبينه في ظِلّ العيش وبَرد الرَّوح وقُرة الأعين ونضرة السُّرور وبهجة النعيم فإنا نشهد أنه قد بلّغ الرِّسالة وأدّى الأمانة والنَّصيحة واجتهد للأمّة وجاهد في سَبيلك وأُوذي في جَنبك ولم يَخف لَومة لائم في دِينك وعَبدك حتى أتاه اليقين. إمام المُتقين وسيّد المُرسلين وتَمام النبيين وخاتَم المُرسلين ورسولُ ربّ العالمين. اللهمِ. ربَّ البيت الحرام ورب البلد الحرام وربَّ الركن والمَقام ورب المَشْعر الحرام بَلغ محمداً منّا السلام. اللهم صلِّ على ملائكتك المُقربين وعلى أنبيائك المُرسلين وعلى الحَفظة الكرام الكاتبين وصلّى الله عليه أهل السموات وأهل الأرضين من المُؤمنين. خطبة الزهراء الحمد اللهّ الذي هو أوّل كُلّ شيء وبَدِيّه ومُنتهى كل شيء ووليّه وكُلّ شيء خاشعٌ له وكلّ شيء قائم به وكلّ شيء ضارعٌ إليه وكل شيء مُستكين له. خَشعت له الأصوات وكَلت دونه الصِّفات وضَلت دونه الأوهام وحارت دونه الأحلام وانحسرت دونه الأبصار. لا يَقْضي في الأمور غيرُه ولا يَتمّ شيء منها دونه سُبحانه ما أجلَ شَأنَه وأعظمَ سُلْطانه! تُسبِّح له السمواتُ العُلَى ومَن في الأرض السفلى له التَّسبِيح والعَظَمة والمُلك والقُدْرة والحَوْل والقوَّة يَقْضي بِعْلم ويَعْفو بحِلْم قُوُة كل ضعيف ومَفْزع كلّ مَلْهُوف وعِزّ كل ذليل ووليُ كل نِعْمة وصاحبُ كلّ حَسَنة وكاشفُ كل كُربة المًطلع على كل خَفِيَّة المُحْصي لكل سَرِيرة يَعلم ما تُكن الصُدور وما تُرْخَى عليه الستور الرًحيم بخَلقه الرَّؤوف بعباده مَن تكلّم منهم سَمع كلامَه ومَن سكت منهم علِمَ ما في نفسه ومَن عاش منهم فعليه رِزْقُه ومَن مات منهم فإليه مَصيره أحاط بكل شيء عِلْمُه وأَحْصىَ كل شيء حِفْظُه. اللهم لك الحمد عَدَد ما تُحيي وتميت وعَدَد أنفاس خَلْقك ولَفْظهم ولحَظ أبصارهم وعَدد ما تَجري به الريحُ وتَحمله السحاب ويختلف به الليلُ والنهار ويسير به الشمسُ والقمر والنجومُ حمداً لا يَنْقضي عَدده ولا يَفني أَمدُه. اللهم أنت قبلَ كل شيء وإليك مصير كل شيء وتكون بعد هلاك كل شيء وتَبقى ويَفنى كل شيَء وأنت وارث كل شيء أحاط عِلْمك بكل شيء وليس يُعجزك شيء ولا يَتوارى عنك شيء ولا يَقْدر أحدٌ قُدْرتك ولا يَشْكرك أحذ حقّ شُكرك ولا تَهتدي العُقول لصِفَتك ولا تَبْلغ الأوهام حَدَّك. حارت الأبصار دون النَظر إليك فلم تَرك عينٌ فتُخْبر َعنك كيف أنت وكيف كُنت لا نَعلم اللهم كيف عَظمتُك غير أنّا نعلم أنك حيَّ قيّوم تأخذك سِنة ولا نَوْم لم يَنْته إليك نَظر ولم يُدركك بَصر ولا يقدر قُدرتَك مَلَك ولا بَشر أدركت الأبصار وكَتبت الآجال وأحْصَيت الأعمال وأخذت بالنَواصي والأقدام لم تَخْلُق الخلق لحاجة ولا لوَحْشة ملأت كل شيء عَظمةً فلا يُردّ ما أردت ولا يُعطى ما مَنعت ولا يَنْقصِ سُلطانك مَن عصاك ولا يَزيد في مُلْكك مَن أطاعك. كل سرّ عندك عِلْمُهُ وكلّ غيب عندك شاهدُه فلم يستتر عنك شيء ولم يَشْغلك شيء عن شيء وقُدْرتك على مَا تَقْضي كقُدرتك على ما قَضيت وقدرتك على القويّ كقُدرتك على الضَّعيف وقُدرتك على الأحياء كقُدرتك على الأموات. فإليك المُنتهى وأنت المَوْعد لا منجى إلا إليك بيدك ناصيةُ كل دابة وبإذنك تَسْقط كلّ ورقة لا يَعْزْبُ عنك مثقالُ ذَرّة أنت الحي القيومُ. سبحانك! ما أعظم ما يُرى من خَلقك! وما أعظم ما يُرى من ملكوتك! وما أقلًهما فيما غاب عنّا منه! وما أسبغ نعمتَك في الدُنيا وأحقرها في نَعيم الآخرًة! وما أشد عقوبتَك في الدُّنيا وما أيسرها في عُقوبة الآخرًة! وما الذي نَرى من خَلْقك ونَعْتبر من قُدرتك ونَصِف من سُلطانك فيما يَغيب عنَّا منه مما قَصرُت أبصارُنا عنه وكَلت عقولنا دونه وحالت الغُيوب بيننا وبينه! فمَن قَرع سنَّه وأعمل فِكْره: كيف أقمتَ عرْشك وكيف ذَرأت خلقك وكيف عَلَّقت في الهواء سَمواتِك وكيف مَددت أرضك يَرجع طرفُه حاسراً وعقْله مَبهوراً وسَمعُه والها وفِكره متحيراً. فكيف يطلْب عِلْم ما قَبْل ذلك مِن شأنك إذ أنت وحدك في الغُيوب التي لم يكن فيها غيرُك ولم يكن لها سواك لا أحد شَهِدك حين فطرت الخَلق ولا أحدَ حَضرك حينَ ذرأت النُفوس فكيف لا يَعْظم شأنُك عند مَن عرفك وهو يرى مِن خلقك ما تَرتاع به عقولُهم ويملأ قلوبهم من رَعْد تَفزع له القُلوِب وبَرْق يَخْطِف الأبصار وملائكةً خَلقتَهم وأسكنتهم سمواتِك وليست فيهم فتْرة ولا عَندهم غَفْلة ولا بهم مَعْصية. هم أعلم خَلقك بك وأخوفهم لك وأقومُهم بطاعتك ليس يَغشاهم نوم العُيون ولا سَهْو العقود لم يَسْكنُوا الأصلاب ولم تضمهم الأرحام أنشأتَهم إنشاء وأسكنتهم سمواتِك وأكرمتهم بجوارك وائتمنتهبم على وَحْيك وَجنَبتهم الأفات ووَقَيتهم السيآت وطَهّرتهم من الذنوب فلولا تقويتك لم يَقْوَوِا ولولا تَثْبيتك لم يَثْبتوا ولولا رَهْبتك لم يطيعوا ولولاك لم يكونوا. أمّا إنهم على مكانتهم منك ومنزلتهم عندك وطُول طاعتهم إياك لو يُعاينون ما يَخفىِ عليهمٍ لاحتقروا أعمالهم ولعلموا أنهم لم يَعْبدوك حقَّ عبادتك. فسُبحانك حالقاً ومعبوداً ومَحموداً بحُسن بلائك عند خَلقك! أنت خلقت ما دبَّرته مَطْعماً ومَشرباً ثم أرسلت داعياً إلينا فلا الدَّاعي أَجبنا ولا فيما رَغّبْتنا فيه رغِبنا ولا إلى ما شوَّقتنا إليه اشتقنا. أقبلنا كُلنا على جِيفة نأكل منها ولا نَشبع وقد زاد بعضُنا على بعض حرصاً لما يرى بعضُنا من بعض فافتضحنا بأكلها واصطلحنا على حُبها فأعمت أبصارَ صُلاَّحنا وفُقهائنا فهم ينظرون بأعين غير صحيحة ويسمعون بآذان غير سَميعة فحيثما زالت زالوا معها وحيثما مالت أقبلوا إليها وقد عاينوا المأخوذين على الغِرّة كيف فجأتهم الأمور ونزل بهم المحذور وجاءهم من فراق الأحبّة ما كانوا يتوقعون وقَدموا من الآخرًة إلى ما كانوا يُوعدون. فارقوا الدُّنيا وصاروا إلى القُبور وعَرفوا ما كانوا فيه من الغُرور فاجتمعت عليه حَسْرتان حَسْرة الفَوت وحَسْرة الموت فاغبرت لها وُجوههم وتَغيّرت بها ألوانهم وعَرِقت بها جباهُهم وشَخَصت أبصارهم وبَردت أطرافُهم وحِيل بينهم وبين المنطق وإنّ أحدَهمِ لَبينْ أهله يَنْظر ببصره ويسمع بأُذنه. ثم زاد الموتُ في جسده حتى خالط بَصره فذهبت من الدنيا مَعرفته وهَلكت عند ذلك حُجته وعاين هولَ أمر كان مُغطَىً عليه فأحدّ لذلك بَصره. ثم زاد الموتُ في جَسده حتىِ بلغت نَفسه الحُلقوم ثم خَرج روحه من جسده فصار جسداً مُلقى لا يُجيب داعياَ ولا يَسمع باكياً فنزعوا ثيابه وخاتَمه ثم وَضئوه وضوء الصلاة ثم غَسلوه وكَفنوه أدراجاً في أكفانه وحَنَطوه ثم حملوه إلى قبره فدلَوه في حُفرته وتركوه مُخلى بمقطعات من الأمور وتحت مسألة مُنكر ونكير مع ظُلمة وضِيق ووَحشة قبر فذاك مَثواه حتى يَبْلى جسدُه ويَصيرَ تُراباً. حتى إذا بلغ الأمر إلى مِقداره وأُلحق آخرً الخَلق بأوله وجاءه أمرٌ من خالقه أراد به تجديد خَلقه فأمر بصوت من سمواته فمارت السمواتُ مَوْراً وفَرخ مَن فيها وبقي ملائكتُها على أرجائها ثم وَصل الأمر إلى الأرضٍ - والخلق رُفات لا يَشْعرون - فأرج أرضَهم وأرجفها وزَلزلها وقَلع جبالَها ونَسفها وسيرها ورَكِبَ بعضُها بعضاً من هَيبته وجلاله وأخرج من فيها فجددهم بعد بلائهم وجَمعهم بعد تفرّقهم يُريد أن يُحصيهم ويُميزهم: فريقاً في ثوابه وفريقاً في عِقابه فخَلَد الأمرُلأبده دائماً خيْرُه وشره ثم لم يَنْس الطاعة من المُطيعِين ولا المَعصية من العاصين فأراد عز وجل أن يجازي هؤلاء ويَنتقم من هؤلاء فأثَاب أهل الطاعة بجواره وحُلول داره وعَيْش رَغَد وخُلود أَبَد ومجاورة الرّب ومُوافقة محمد ﷺ حيث لا ظَعْن ولا تَغيّر وحيث لا تُصيبهم الأحزان ولا تَعْتَرضهم الأخطار ولا تشخِصهم الأسفار. وأما أهل المعصية فخلَّدهم في النار وأَوْثق منهم الأقدام وغُلَت منهم الأيدي إلى الأعناق في لَهَب قد اشتد حرّه ونار مُطْبَقة على أهلها لا يدخل عليهم بها رَوْح همهم شديد وعَذابهم يَزيد ولا مُدَّة للدار تَنْقَضي ولا أَجَل للقوم ينتهي. اللهم إني أسألك بأن لك الفضل والرحمةَ بيدك فأنت وليّهما لا يليهما أحدٌ غيرك وأسألك باسمك المَخْزون المَكْنون الذي قال به عرْشُك وكرسيّك وسمواتُك وأرضُك وبه ابتدعت خَلْقك الصلاةَ على محمد والنَجاةَ من النار برحمتك آمين إنك وليّ كريم. وخطب أيضاًً فقال أيها الناس احفظوا عنّى خمساً فلو شَددتم إليها المَطايا حتى تُنضوها لم تَظفروا بمثلها: إلا لا يرجونِّ أحَدُكم إلا ربّه ولا يخَافن إلا ذَنبَه ولا يَسْتَحي أخدُكم إذا لم يعلم أن يتعلم وإذا سئل عمّا لا يعلم أن يقول: لا أعلم أي وإن الخامسةَ الصَبر فإن الصبرَ من الإيمان بمنزلة الرأس من الجَسَد. مَن لا صَبْر له لا إيمان له ومَن لا رأسَ له لا جَسد له. ولا خير في قراءة إلاَّ بتدبّر ولا في عبادة إلا بتفكر ولا في حِلْم إلا بعلم. ألا أنبئكم بالعاِلم كُلِّ العالم مَن لم يُزيَن لعباد الله معاصيَ الله ولم يؤمنهم مَكْرَه ولم يُؤْيسهم من رَوْحه. ولا تُنْزلوا المُطِيعين الجَنَّة ولا المُذْنبين المُوَحدين النار حتى يَقْضيَ الله فيهم بأمره. لا تأمنوا على خير هذه الأمة عذابَ اللهّ فإنه يقول: فَلاَ يَأمن مَكْر َاللهّ إلا القومُ الخاسِرُون. ولا تُقْنِطوا شر هذه الأمة من رحمة اللهّ فإنّه لا ييأس من رَوْح الله إلا القومُ الكافرون. من كلامه رضوان الله عليه: قال ابن عباس: لما فرغ علي بن أبي طالب من وقعة الجمل دعا بأجرتين فعلاهما ثم حمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أنصار المرأة وأصحابَ البهيمة رَغا فَجِئْتم وعُقِر فانهزمتم. دخلتُ شرَ بلاد أبعدها من السماء بها يَغيض كل ماء ولها شر أسماء هي البصرة والبُصَيرة والمُؤتفكة وتَدْمر أين ابن عباس فدُعيت فقال لي: مُرْ هذه المرأة فَلترجع إلى بيتها الذي أُمرت أن تَقَر فيه. وتمثل عليّ بن أبي طالب رضيِ الله عنه بعد الحَكَمين: زَلَلْت فيكم زلَةً فأعْتذِرْ سوف أكيسُ بعدها وأنشمِرْ خطب معاوية قال القَحْذَميّ: لمَّا قَدِمَ مُعاويةُ المدينة عامَ الجماعة تلقّاه رجالُ قريش فقالوا: الحمد اللهّ الذي أعزَ نَصْرَكَ وأَعْلى كَعْبك. قال: فوالله ما ردّ عليهم شيئاً حتى صَعِد المِنْبر فَحَمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإِني والله وَليتُها بمحبة علمتُها منكم ولا مَسَزَة بولايتي ولكني جالدتُكم بسيفي هذا مُجالدة ولقد رُضْتُ لكم نفسي على عمل ابن أبي قُحَافة وأردتُها على عمل عُمر فنفرتْ من ذلك نِفَاراً شديداً وأردتُها على مثل ثَنِيَّات عثمان فأبت عليَ فسلكتُ بها طريقاً لي ولكم فيه منفعةً مواكلة حَسنة ومُشاربة جميلة فإن لم تَجدوني خيركم فإني خيرٌ لكم ولايةً. والله لا أحملً السيفَ على من لا سيف له وإن لم يكن منكم إلا ما يَسْتَشفي به القائلُ بلسانه فقد جعلتُ له ذلك دَبْرَ أُذني وتحت قدمي وإن لم تجدوني أقوا بحقّكم كُلَّه فاقبلوا منّي بعضَه فإنْ أتاكم منّي خيرٌ فاقبلوه فإن السيل إذا يزاد عَنى وإذا قلّ أَغنى وإياكم والفتنةَ فإنها تُفسد المَعيشة وتكدّر النّعمة ثم نزل. خطبة أيضاًً لمعاوية حمد الله وأثنى عليه ثم صلى على النبيّ ﷺ ثم قال: أما بعد أيها الناس إنا قدِمْنا عليكم وإنما قَدِمنا على صَدِيق مُستبشر أو على عدوِّ مُستتر وناسٍ بين ذلك يَنْظرون ويَنْتظرون فإِنْ أُعْطوا منها رَضُوا وإنْ لم يُعْطَوْا منها إذا همِ يَسْخُطون. ولستُ واسعاً كُلّ الناس فإن كانت مَحْمَدة فلا بدّ من مَذمَة فلوْماَ هوناً إذا ذُكِرَ غُفِر وإياكم والتي إن أُخْفِيت أوْ بقت. وإن ذُكِرَت أوْثَقَت ثم نزل. خطبته أيضاًً لمعاوية صَعِد مِنْبر المَدينة. فحمد اللهّ وأثنى عليه ثم قال: يأهل المدينة إنّي لست أُحِب أن تكونوا خَلْقاً كَخَلْق العِراق يَعيبون الشيء وهم فيه كلّ امرىء منهم شِيعةُ نَفْسه فاقبلونا بما فينا فإن ما وراءنا شر لكم وإنَّ معروف زماننا هذا مُنكَر زمان مَضى ومُنْكَرَ زماننا معروفُ زمان لم يأت ولو قد أتى فالرَّتْق خَيْرٌ من الفَتْق وفي كلًّ بلاغ ولا مُقام على الرزيّة. خطبة لمعاوية أيضاً قال العُتْبي: خَطَب معاويةُ الجمعة في يوم صائف شديد الحرّ فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على رسوله ﷺ ثم قال: إن الله عز وجلّ خَلقكم فلم يَنْسكم ووَعظكم فلم يُهملكم فمال: يأيها الذين آمنُوا اتّقوا الله حَقّ تُقاته ولا تَمُوتُنّ إلا وأنتم مُسْلمون. قوموا إلى ذكر لعبيد الله بن زياد عند معاوية قال ابن دأب: لما قَدِمَ عبيدُ الله بن زياد على معاوية بعد هلاك زياد فوجده لاهياً عنه أنكره فجعل يَتصدى له بخَلوة لَيسْبُر من رأيه ما كُرِهَ أن يُشرك به في عمله فاستأذن عليه بعد انصداع الطُلاب وإشعال الخاصة وافتراق العامة وهو يوم معاوية الذي كان يَخْلو فيه بنفسه. ففَطِن معاوية لما أراد فَبعث إلى ابنه يزيد وإلى مْرْوَان بن الحكم وإلى سعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحكم وعمرو بن العاص. فلما أخذوا مجالسهم آذنَ له فسلم ووقف واجماً يتصفح وجُوه القوم ثم قالت: صَريح العُقوق مُكاتمة الأدْنين ولا خَيْرَ في اختصاص إن وَفر أحْمَد الله إليكم على الآلاء وأستعينه على الَلأوَاء وأسْتَهْدِيه من عَمىً مُجْهِد وأسْتَعينه على عدوٍّ مُرْصِد وأشْهدَ أن لا إله إلا الله المنقِذ بالأمين الصادق من شقاء هاوٍ ومن غَواية غاوٍ وصلواتُ الله على الزكيّ نبيِّ الرحمة وِنذير الأمَة وقائد الهُدى. أما بعد يا أميرَ المؤمنين فقد عَسَف بنا ظَنّ فرَّع وفرَع صَدَّع حتى طَمِع السحيق ويئس الرّفيق ودَث الوُشاة بموت زياد فكلُّهم مُتحفّز للعداوة وقد قَلَّص الإزْرة وشَمَّرَ عن عِطافه ليقول: مضى زِياد بما استُلْحقِ به وولّى على الدَّنية من مُسْتلحقه. فليت أمير المؤمنين لسَم في دَعَتِه وأسْلم زياداً في ضَعَته فكان تِرْبَ عامّة وواحد رعيّة فلا تَشْخصِ إليه عين ناظر ولا إصبْع مُشير ولا تذلَقُ عليه أَلْسُن. كَلَمته حيّا ونَبَشته مَيْتاً فإن تكن يا أميرَ المؤمنين حابيتَ زياداً بولاء رُفات ودَعْوة أموات فقد حاباك زِياد بجِدّ هَصُور وعزْم جَسُور حتى لانت شكائمُ الشَرِس وذلَت صَعْبة الأشوَس وبَذل لك أمير المؤمنين يمينَه ويساره تأخذ بهما المَنيع وتَقْهر بهما البزيع حتى مضى والله يَغْفِر له. فإنْ يكن زيادٌ أخذ بحقّ فأنْزِلنا مَنازلَ الأقْرِبين فإنّ لنا بعدَه ما كان له بدالة الرَّحِم وقرَابة الحَمِيم ومالنا يا أمير المؤمنين نمشي الضراء وندِبّ الخَفاء وٍ لنا من خَيْرك أكمله وعليك من حَوبنا أثقلُه وقد شَهِد القوِم وما ساءني قرْبُهم ليُقرّوا حقّاً ويردُوا باطلاً فإنَ الحق مَناراً واضحاً وسبيلاً قَصْداً فقل يا أمير المؤمنين بأيّ أمْرَيْك شِئْت فما نأْرِز إلى غير جُحرنا ولا نَسْتكثر بغير حقِّنا واستغفر الله لي ولكم. قال: فنظر مُعاوية في وجوه القوم كالمُتعجب فتصفّحهم بلحظه رجلاً رجلاً وهو مُبْتسم. ثم اتجه تِلْقاءه وعَقد حُبْوته وحسر عن يده وجعل يُومىء بها نحوَه ثم قال مُعاوية: الحمد لله على ما نحنُ فيه فكُل خير منه وأشهد أن لا إله إلا اللهّ فكُلّ شيء خاضع له وأن محمداً عبدُه ورسولُه دل على نفسه بما بان عن عَجْز الخَلْق أن يؤتوا بمثله فهو خاتم النبيّين ومُصدِّق المُرسلين وحُجَّة ربّ العالمين وصلواتُ الله عليه وسلامُه وبركاته. أما بعد فربّ خير مَستور وشرّ مَذْكور وما هو إلا السهم الأخْيَب لمن طارَ به والحَط المُرْغِب لمن فاز به فيهما التفاضُل وفيهما التغابنُ وقد صَفَقت يداي من أبيك صَفْقة ذي الجُلْبة من ضوارع الفُصْلان عامل اصطناعي له بالكُفر لما أَوْليتُه فما رَميت به إلا انتصل ولا انتضيتُه إلا غُلِّق جَفْنه وَزلَّت شفرته ولا قلتُ إلا عاندَ ولاقُمْت إلا قَعد حتِى اخترمه الموت وقد أُوقع بخَتْره ودلَّ على حِقد. وقد كنتُ رأيتُ في أَبيك رأياَ حَضَرَه الخَطَل والتبس به الزَّلل فأخذ مني بحظّ الغَفْلة وما أُبرِّىءُ نَفْسي إن النَّفس لأمِّارة بالسُّوء فما بَرِحت هناة أبيك تَحْطِبُ في حَبْل القطيعة حتى انتكث المُبْرَم وانحل عِقد الوِداد. فيالها توبةً تُؤْتنف من حَوْبة أوْرَثَت ندما اسْمَع بها الهاتف وشاعَت للشَامت فليهنأ الواصِم ما به احتقر. وأراك تَحْمد من أبيك جدّاً وجُسوراً هما أوْفيا به على سَرف التَقَحُّم وغَمْط النِّعمة فَدَعْهما فقد أذكَرَتْنا منه ما زهَدَنا فيك من بَعْدَه وبهما مَشَيْتَ الضَرَاء ودببت الخفاء فاذهب إليك فأنت نَجْل الدّغَل وعِتْرة النَّغل والآخرً شرِّ. فقال يزيد: يا أمير المؤمنين إن للشاهد غير حَكم الغائب وقد حَضرك زِياد وله مَواطن مَعْدودة بخير لا يُفْسدها التظنِّي ولا تُغيّرها التُّهم وأهلوه أهلوك التحقوا بك وتوَسطوا شأنك فسافرت به الرُّكبان وسَمِعت به أهلُ البُلدان حتى اعتقده الجاهل وشَكّ فيه العالم فلا تتحجَّر يا أمير المؤمنين ما قد اتسع وكَثُرت فيه الشهادات وأعانك عليه قومٌ آخرًون. فانحرف مِعاويةُ إلى مَن معه هذا وقد نَفِس عليه ببيعته وطَعن في إمرته يعلم ذلك كاحما اعلمه يا للرِّجال من آل أبي سُفيان! لقد حَكَموا وبذّهم يزيد وحدَه. ثم نظر إلى عُبَيد اللهّ فقال: يا بن أخي إنّي لأعرَفُ بك من أبيك وكأني بك في غَمْرَة لا يَخْطُوها السابح فالزم ابنَ عمِّك فإنّ ما قال حق. فخرجوا ولَزم عُبَيد اللهّ يزيد يَرِد مجلسه ويَطأ عَقِبه أياماً حتى رَمى به معاويةُ إلى البَصرة والياً عليها. ثم لم تَزل تُوكِسه أفعالُه حتى قتَله الله بالجازر.