الرئيسيةبحث

العقد الفريد/الجزء الثالث/15


يوم صفين

أبو بكر بن أبي شَيبة قال: خَرج عليُ بن أبي طالب من الكُوفة إلى معاوية في خمسة وتسعين ألفاً وخرج مُعاوية من الشام في بضع وثمانين ألفاً فالتقوا بصفِّين. وكان عسكر علي يُسمَى الزَّحزحة لشدة حَركته وعسكرُ معاوية يسمى الخُضْرية لاسوداده بالسلاح والدروع. وأبو الحسن قال: كانت أيامُ صِفّين كلّها موافقَة ولم تكن هَزيمة بين الفريقين إلا على حامية ثم يكرون. أبو الحسن قال: كان مُنادي على يخرج كل يوم وينادي: أيها الناس لا تُجهزُنّ على جريح ولا تَتبعُنَّ موِلِّياً ولا تَسلبنّ قتيلا ومن ألقى سلاحه فهو آمن. أبو الحسن قال: خرج معاوية إلى عليٍّ يوم صفّين ولم يُبايعه أهلُ الشام بالخلافة وإنما بايعوه عَلَى نُصرة عثمان والطلب بدمه. فلما كان من أمر الحَكَمين ما كان بايعوه بالخلافة. فكتب معاويةُ إلي سعد بن أبي وقاص يدعوه إلى القيام معه في دم عثمان: سلام عليك: أما بعد. فإن أحقَّ الناس بنُصرة عثمان أهلُ الشُّورى من قُريش الذين اثبتوا حقَّه واختاروِه عَلَى غيره ونُصرةِ طلحة والزبير وهما شريكاك في الأمر ونظيراك في الإسلام. وخفّت لذلك أم المؤمنين فلا تَكره ما رضوا ولا تَردّ ما قبلوا وإنما نريد أن نردّها شورى بين المسلمين. والسلام. فأجابه سعد: أما بعد. فإن عُمَر رضي الله عنه لم يُدخل في الشورى إلا مَن تَحِل له الخلافة فلم يكن أحد أولى بها من صاحبه إلا باجتماعنا عليه. غَير أنَ عليًّا كان في ما فينا ولم يكن فينا ما فيه ولو لم يطلبها ولزم بيتَه لطلَبتْه العربُ ولو بأقصى اليمن. وهذا الأمر قد كرهنا أولَه وكَرِهنا آخره. وأما طلحة والزُّبير فلو لزما بيوتَهما لكان خيراً لهما. والله يَغفر لأم المؤمنين ما أتتْ. وكتب معاوية إلى قيس بن سعد بن عُبادة: أما بعد. فإنما أنت يهوديّ ابن يهوديّ إن ظَفر أحبُّ الفريقين إليك عَزلك واستبدل بك وإن ظَفر أبغضُ الفريقين إليك قَتلك ونَكّل بك. وقد كان أبوك أوترَ قوسَه ورَمى غرضَه فأكثر الحزَّ وأخطأ المَفْصِل فخذله قومُه وأدركه يومهُ ثم مات طريداً بحَوْران. فأجابه قيس: أما بعد. فأنت وثنيّ ابن وثنيّ. دخلتَ في الإسلام كُرهاً وخرجتَ منه طوعاً لم يَقْدُم إيمانك ولم يحذَر نفاقك. ونحن أنصارُ الدين الذي خرجتَ منه وأعداء الدين الذي دخلتَ فيه. والسلام. وخطب عليُ بن أبي طالب أصحابَه يوم صِفّين فقال: أيها الناس إنَّ الموتَ طالبٌ لا يُعجزه هارب ولا يفوته مُقيم أقْدِموا ولا تَنْكُلوا فليس عن الموتِ مَحيص. والذي نفسُ ابن أبي طالب بيده إن ضَربة سيف أهونُ من مَوت الفِراش. أيها الناس اتقوا السيوفَ بوجُوهكم والرماح بصُدوركم ومَوعدي وإياكم الرايةُ الحمراء. فقال رجلٌ من أهل العراق: ما رأيتُ كاليوم خطيباً يَخْطبنا! يأمرنا أن نَتقي السيوفَ بوجُوهنا والرماحَ بصُدورنا ويَعدنا رايةً بيننا وبينها مائةُ ألف سيف. قال أبو عُبيدة في التاج: جَمعِ عليُّ بن أبي طالب رياسةَ بكر كُلٌها يوم صِفين لحُضين بن المُنذر بن الحارث بن وعْلة وجعل ألويتها تحت لوائه وكانت له رايةً سوداء يَخْفِق ظِلُّها إذا أقبل فلم يُغن أحد في صِفين غَناءه. فقال فيه عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه: لمن رايةً سَواءُ يَخْفِق ظِلَّها إذ قِيل قدَّمها حُضينُ تَقدمَا ُ يقدَمُها في الصفِّ حتى يُزِيرَها حياضَ المَنايا تَقْطُر السَمَّ والدَّما جَزى الله عنّي والجزاءُ بكَفَّه ربيعة خيراً ما أعفَّ وأكرما وكان من هَمْدان في صِفين حُسن. فقال فيهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لهمدان أخلاقٌ ودينٌ يزينهم وبأسٌ إذا لاقَوْا وحُسْن كلام فلو كُنتُ بوِّاباً على باب جَنَّة لقلتُ لهمدان ادخُلوا بسَلام أبو الحسن قال: كان فيُ بن أبي طالب يَخرج كلّ غداة لصفّين في سرًعان الخيل فيقف بين الصفين ثم ينادي: يا معاوية علامَ يقتتل الناس ابرُز إلي وأبْرز إليك فيكون الأمرُ لمن غَلب. فقال له عمرو بن العاص: أنصفك الرجلُ. فقال له معاوية: أردتَها يا عمرو والله لا رضيتُ عنك حتى تُبارز عليَّا. فبرز إليه متنكّرأ فلما غَشيه علي بالسَّيف رمى بنفسه إلى الأرض وأبدى له سوأته فضرب عليَّ وجهَ فَرسه وانصرف عنه. فجلس معه معاوية يوماً فنظر إليه فضحك. فقال عمرو: أضحك الله سِنَّك ما الذي أضحكك قال: من حُضور ذهنك يوم بارزتَ عليًّا إذ اتّقيتَه بعَورتك. أما واللهّ لقد صادفتَ منّاناً كريماً ولولا ذلك لَخَرم رَفغَيك بالرُمح. قال عمرو بن العاص: أما والله إني عن يمينك إذ دعاك إلى البِراز فأحولت عيناك ورَبا لسَحْرُك وبدأ منك ما أكره ذِكرَه لك. وذكر عمرو بن العاصي عند علي بن أبي طالب فقال فيه عليّ: عجباً لابن النابغة! يزعم أنّي بلقائه أعافِس وأمارِس أنىّ وشَرُّ القول أكذبُه إنه يَسأل فيُلحف ويسأل فيَبخل. فإذا أحمرّ البأس وحَمِي الوطيس وأخذت السيوفُ مأخذها من هام الرجال. لم يكن له هتٌم إلا نَزْعُه ثيابه وَيمنح الناس استه أغَضه الله وتَرحَه.

مقتل عمار بن ياسر

العُتبي قال: لما التقى الناس بصفٌين نَظَر معاويةُ إلى هاشم بن عُتبة الذي يقال له: المِرْقال لقول النبيّ ﷺ: أرَّقَل لِيَمون. وكان أعورَ والرايةُ بيده وهو يقول. أعور يَبغي نَفْسَه محلاَّ قد عالَجِ الحياةَ حتى مَلاّ لا بُد أن يَفُل أو يُفلا فقال معاويةُ لعمرو بن العاص: يا عمرو هذا المر قال واللهّ لئن زَحف بالراية زَحْفاً إنه ليومُ أهل الشام الأطْول. ولكني أرى ابن السوداء إلى جنبه يعني عماراً وفيه عَجلة في الحرب وأرجو أن تُقدمه إلى الهَلكة. وجعل عمار يقول: أبا عتبة تقدّم. فيقول: يا أبا اليقظان أنا أعلم بالحَرْب منك دَعني أزْحف بالراية زَحْفاً. فلما أضجره وتقدم أرسل معاويةُ خيلاً فاختطفوا عماراً فكان يُسمَي أهلً الشام قتلَ عمار فَتحَ الفُتوح. أبو بكر بن أبي شيبة: عن يزيد بن هارون عن العوّام بن حَوْشب عن أسود بن مسعود عن حَنْظلة بن خُويلد قال: إني لجالس عند مُعاوية إذ أتاه رجلاًن يَختصمان في رأس عمار كل واحد منهما يقول: أنا قتلتُه. فقال لهما عبدُ اللهّ بن عمرو بن العاص: لِيَطِبْ به أحدُكما نفساً لصاحبه فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول له: تقتلك الفئة الباغية. أبو بكر بن أبي عشيبة عن ابن عُلَية عن ابن عَون عن الحسن عن أم سَلَمة قالت: سمعتُ رسولَ الله ﷺ يقول: تقتل عماراً الفئةُ الباغية. أبو بكر قال: حدَثنا عليُّ بن حَفص عن أبي مَعشر عن محمد بن عُمارة قال: ما زال جَدّي خزيمة بن ثابت كافًّا سلاحَه يوم صِفَين حتى قُتل عمّار فلما قُتل سًلّ سيفَه وقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: تَقتل عمَّاراً الفئةُ الباغية. فما زال يُقاتل حتى قُتل. أبو بكر عن غُنْدَر عن شُعبة عن عمرِو بن مُرة عن عبد الله بن سَلَملَمة قال: رأيتُ عمِّاراً يومَ صِفين شيخاً آدم طُوالا أخذاً الحربةَ بيده ويدهُ ترعد وهو يقول: والذي نفسي بيده لقد قاتلتُ بهذه الحَرْبة مع رسول الله ﷺ ثلاثَ مرات وهذه الرابعة. والذي نفسي بيده لو ضرَبونا حتِى يبلغوا بنا سَعفات هَجر لعرفتُ أنّا على حق وأنهم على باطل. ثم جعل يقول: صبراَ عبادَ الله الجنةُ تحت ظلال السيوف. أبو بكر بن أبي شَيبة عن وَكيع عن سُفيان عن حَبيب عن أبي البحتريّ قال: لما كان يوم صِفين واشتدت الحربُ دعا عمَار بشَربة لبن وشَربها وقال: إن رسول الله ﷺ قال لي: إن آخر شرَبة تَشربها من الدنيا شربةُ لبن. أبو ذَرْ عن محمد بن يحيى عن محمد بن عبد الرحمن عن أبيه عن جَدَته أم سَلمة زوج النبي ﷺ قال: لما بَنى رسولُ الله ﷺ مسجدَه بالمدينة أمر باللَّبِن يُضرب وما يُحتاج إليه ثم قام رسولُ الله ﷺ فوَضع رداءه فلما رأى ذلك الهاجرون والأنصار وضعوا أرديتهم وأكسيتهم يرتجزون ويقولون ويعملون: لئن قَعدنا والنبيّ يَعملُ ذاك إذاً لعملٌ مُضلّلُ قالت: وكان عثمان بن عفان رجلاً نظيفاً مُتنظِّفاً فكان يَحمل اللَّبنة ويُجافي بها عن ثوبه فإذا وَضعها نفض كفّيه ونظَرَ إلى ثوبه فإذا أصابه شيء من التراب نَفَضه. فنظر إليه علي رضي الله عنه فأنشده: وقائماً طَوْراً وطوْراً قاعدَا ومَن يُرى عن التَّراب حائدَا فسمعها عمَّارُ بن ياسر فجعل يَرتجزها وهو لا يدري من يعني. فَسمعه عثمانُ فقال: يا بن سُميَّة ما أعْرَفني بمَن تُعَرِّض ومعه جريدة فقال: لتكفّن أو لأعترضنَ بها وجهَك. فسمعه النبي ﷺ وهو جالس في ظِل حائط فقال: عمَّار جِلْدة ما بين عَينيّ وأنفي فمن بَلغ ذلك منه فقد بلغ مني وأشار بيده فوَضعها بين عينيه. فكفَّ الناسُ عن ذلك وقالوا لعمّار: إن رسول الله ﷺ قد غَضب فيك ونخاف أن ينزل فينا قرآن. فقال: أنا أرْضيه كما غضب. فأقبل عليه فقال: يا رسول الله ما لي ولأصحابك قال: وما لك ولهم قال: يريدون قَتلي يَحمِلون لبِنة ويَحملون على لَبِنتين. فأخذ به وطاف به في المسجِد وجعل يمسح وجهه من التراب ويقول: يا بن سُميّة. لا يَقتنك أصحابي ولكن تَقتلك الفئةُ الباغية. فلما قُتل بصفّين ورَوى هذا الحديثَ عبدُ الله بن عمرو بن العاص قال معاوية: هم قتلوه لأنهم أخرجوه إلى القتل. فلما بلغ ذلك عليًّا قال: ونحن قَتلنا أيضاً حمزة لأنا أخرجناه.

من حرب صفين

أبو الحسن قال: كانت أيامُ صِفّين كُلها مُوافقةً ولم تكن هزيمة في أحد الفريقين إلا على حامية ثم يَكرون. أبو بكر بن أبي شَيبة قال: انفضت وقعة صفّين عن سَبعين ألف قَتيل خمسين ألفاً من أهل الشام وعشرين ألفاً من أهل العراق. ولما انصرف الناس من صِفّين قال عمرو بن العاص: شَبًت الحربُ فأعددتُ لها مُشْرِف الحارك مَحْبوك الثَّبَجْ يصِل الشرّ بشّر فإذا وَثب الخيلُ من الشرّ مَعَج جُرْشُع أعظَمُه جُفْرته فإذا ابتل من الماء خَرج وقال عبدُ الله بن عمرو بن العاص: فإن شهدتْ جُمْلٌ مَقامي ومَشْهدي بصفّين يوماً شاب منها الذوائبُ عشيّةَ جا أهلُ العراق كأنّهم سَحابُ خريف صَفَفَتْه الجَنائبُ إذا قلتُ قد وَلّوا سراعاً بدت لنا كتائبُ منهم وارْجَحَنت كتائب فدارت رَحانا وِاستدارت رَحاهُم سراةَ النّهار ما تُولّى المَناكب وقالوا لنا إنا نرى أن تُبايعوا عليًّا فقُلنا بل نَرى أن تُضاربوا وقال السّيد الحميري وهو رأس الشيعة وكانت الشَيعة مِن تعظيمها له تلقي له وساداً بمسجِد الكوفة: إنّي أدينُ بما دان الوصيُّ به وشاركتْ كَفُّه كفّي بصفِّينَا تلك الدِّماء معاً يا ربّ في عُنقِي ثم اسقني مِثلها آمين أمينا آمين مِن مِثلهم في مِثل حالهمُ في فِتية هاجَروا في اللهّ شارِينا ليسوا يُريدون غيرَ اللهّ ربّهمُ نِعْم المُراد توخّاه المُريدونا وقال النّجاشي يوم صِفين وكتب بها إلى معاوية: يِا أيها الملك المّبْدي عداوتَه انظر لنفسك أيّ الأمر تَأتَمِرُ فإن نفَسْتَ على الأقوام مَجْدَهم فابسُط يَديك فإنّ الخيرَ مُبْتَدر واعلم بأنّ علي الخير مِن نَفر شُمِّ العَرانين لا يَعْلوهم بَشَر نِعْمَ الفتى أنت إلّا أنِّ بينكما كَما تَفاضل ضوءُ الشّمس والقمر وما إخالك إلا لستَ مُنْتهياً حتى ينالَك من أظفاره ظُفر

خبر عمرو بن العاص مع معاوية

سُفيان بن عُيينةَ قالت: أخبرني أبو موسى الأشعري قال: أخبرني الحسنُ قال: عَلم معاوية والله إن لم يبايعه عمرو لن يَتم له أمر فقال له: يا عمرو اتبعني. قال: لماذا للآخرة فوالله ما مَعك آخرة أم للدُنيا فوالله لا كان حتى أكونَ شريكَك فيها. قال: فأنت شريكي فيها. قال: فاكتُب لي مصرَ وكُوَرها. فكتب له مصرَ وكُورها وكتب في آخرً الكتاب: وعلى عمرٍ والسمعُ والطاعة. قال عمرو: واكتب: إن السمع والطاعة لا يَنْقصان من شرْطه شيئاً. قال مُعاوية: لا ينظر الناس إلى هذا. قال عمرو: حتى تكتب. قال: فكتب والله ما يجد بدّاً من كتابتها. ودخل عتبةُ بن أبي سفيان على معاوية وهو يكلّمُ عمراً في مصر وعمرو يقول له: إنما أبايعك بها ديني. فقال عُتبة: ائتمِنِ الرجل بدينه فإِنه صاحبٌ من أصحاب محمد ﷺ. وكتب عمرو إلى معاوية: مُعاويَ لا أُعطيك دِيني ولم أنلْ به منك دُنيا فانظرَنْ كيف تَصنَعُ وما الدينُ والدُنيا سواءٌ وإنني لآخُذ ما تُعطي ورَأسي مُقَنع وقالوا: لما قَدِم عمرو بن العاص على معاوية وقام معه في شأن عليّ بعد أن جعل له مصر طُعمة قال له: إن بأرضك رجلاً له شرَف واسم والله إنْ قام معك استهويتَ به قلوبَ الرجال وهو عُبادة بن الصامت. فأرسل إليه معاوية. فلما أتاه وَسّع له بينه وبين عمرو بن العاص فَجَلس بينهما. فحَمد الله معاوية وأثَنى عليه وذكر فضلَ عُبادة وسابقَته وذكر فضلَ عُثمان وما ناله وحضّه على القيام معه. فقال عُبادة: قد سمعتُ ماِ قلتَ أتدريانِ لمَ جلستُ بينكما في مكانكما قالا: نعم لفضلك وسابقتك وشرفك. قال: لا والله ما جلستُ بينكما لذلك وما كنتُ لأجلس بينكما في مكانكما ولكن بينما نحن نسير مع رسول الله ﷺ في غَزاة تَبوك إذ نظر إليكما تسيران وأنتما تتحدثان فالتفت إلينا فقال: إذا رأيتموهما اجتمعا ففرقوا بينهما فإنهما لا يجتمعان على خير أبداً. وأنا أنها كما عن اجتماعكما. فأما ما دعوتماني إليه من القيام معكما فإن لكما عدواً هو أغلظ أعدائكما وأنا كامنٌ من ورائكم في ذلك العدوّ إن اجتمعتم على شيء دخلتُ فيه.

أمر الحكمين

أبو الحسن قال: لما كان يوم الهرير وهو أعظم يوم بصفّين زَحف أهلُ العراق على أهل الشام فأزالوهم عن مراكزهم حتى انتهوا إلى سُرادق معاوية فدعا بالفَرس وهمّ بالهزيمة ثم التفت إلى عمرو بن العاص وقال له: ما عندك قال: تَأمر بالمصاحف فتُرفَع في أطراف الرّماح ويقال: هذا كتابُ الله يحكم بيننا وبينكم. فلما نظر أهلُ العراق إلى المصاحف ارتدوا واختلفوا وقال بعضُهم: نحاكمهم إلى كتاب اللهّ. وقال بعضهم: لا نحاكمهم لأنا على يقين من أمرِنا ولسنا على شك. ثم أجمع رأيهُم على التحكيم. فهمّ عليّ أن يُقدم أبا الأسود الدّؤلي فأبى الناس عليه. فقال له ابن عباس: اجعلني أحدَ الْحَكمين فوالله لأفتلنّ لك حبلاً لا ينقطع وسطُه ولا يُنشر طرفاه. فقال له عليّ: لستَ من كيدك ولاحت كيد معاوية في شيء لا أعطيه إلا السيف حتى يَغلبه الحق. قال: وهو والله لا يُعطيك إلا السيف حتى يَغلبك الباطل. قال: وكيف ذلك قال: لأنك تُطاع اليوم وتُعصى غداً وإنه يُطاع ولا يُعصى. فلما انتشر عن عليّ أصحابُه قال: لله بلاءُ ابن عباس إنه لينظر إلى الغَيب بستر رَقيق. قال: ثم اجتمع أصحابُ البرانس وهِم وجُوه أصحاب عليّ على أن يقدّموا أبا موسى الأشعري وكان مُبرنساً وقالوا: لا نرضى بغيره فقدَّمه عليِّ. وقدَم معاويةُ عمرو بن العاص. فقال مُعاوية لعمرو: إنكَ قد رُميتَ برَجل طويل الِّلسان قصير الرأي فلا تَرْمه بعَقلك كلِّه. فأخليَ لهما مكان يجتمعان فيه فأمهله عمرو بن العاص ثلاثةَ أيام ثم أقبل إليه بأنواع من الطعام يشهيِّه بها حتى إذا استبطن أبو موسى ناجاه عمرو فقال له: يا أبا موسىَ إنك شيخ أصحاب محمد ﷺ وذو فضْلها وذو سابقتها وقد تَرى ما وَقعتْ فيه هذه الُأمة من الفُتنة العَمياء التي لا بقاءَ معها فهل لك أن تكونَ ميمون هذه الأمة فَيَحْقِن الله بك دِماءَها فإنه يقول في نفس واحدة: " ومَن أحْياها فكأنما أحْيا الناسَ جَميعاً " فكيف بمن أحيا أنفُسَ هذا الخلقِ كلّه! قال له: وكيف ذلك قال: تَخلع أنت عليّ بن أبي طالب وأخلع أنا معاويةَ بن أبي سُفيان ونختار لهذه الأمة رجلاً لم يَحضُرْ في شيء من الفتنة ولم يَغمِس يده فيها. قال له: ومَن يكون ذلك وكان عمرو بن العاص قد فَهِم رأي أبي موسى في عبد الله بن عُمر فقال له: عبدُ اللهّ بن عمر. فقال: إنه لكما ذكرت ولكن كيف لي بالوثيقةِ منك فقال له: يا أبا موسى ألا بذِكْرِ الله تطمئنُّ القلوب خُذ من العُهود والمواثيق حتى ترضى. ثم لم يُبق عمروِ بنُ العاص عَهداً ولا مَوْثقاً ولا يَميناً مُؤكَدة حتى حلف بها حتى بَقيَ الشيخُ مَبهوتاً وقال له: قد أحببتُ. فنُودي في الناس بالاجتماع إليهما فاجتمعوا. فقال له عمرو: قُم فاخطب الناسَ يا أبا موسى. فقال: قُم أنت أخطبهم. فقال: سبحان الله! أنا أتقدّمك وأنت شيخ أصحابِ رسولِ الله ﷺ والله لا فعلتُ أبداً! قال: أو عسى في نفسك أمر فزاده أيمانَاً وتوكيداً. حتى قام الشيخ فخطب الناس فَحَمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إني قد اجتمعتُ أنا وصاحبي على أن أخلعَ أنا علي بن أبي طالب ويعزلَ هو معاويةَ بن أبي سفيان ونجعل هذا الأمر لعبد الله بن عمر فإنه لم يَحضُرْ في فتنة ولم يَغْمِس يده في دم امرىء مسلم. ألا وإني قد خلعتً عليَّ بن أبي طالب كما أختلع سيفي هذا ثم خلع سيفه من عاتقه وجلس وقال لعمرو: قُم. فقام عمرو بن العاص فحَمد اللهّ وأثنى عليه وقال: أيها الناس إِنه كان من رأي صاحبي ما قد سمعتم وانه قد أشهدكم أنه خَلعَ عليَّ بن أبي طالب كما يخلع سيفَه وأنا أُشهدكم أني قد أثبت معاوية بن أبي سفيان كما أُثبت سيفي هذا وكان قد خَلع سيفَه قبل أن يقومَ إلى الخطبة فأعاده على نفسه. فاضطرب الناسُ وخرجت الخوارج. وقال أبو موسى لعمرو: لعنك الله! فإنّ مثلَك كمثل الكلب إن تحمِلْ عليه يَلهثْ أو تتركه يَلْهث. قال عمرو: لَعنك الله! فإنّ مثلك كمثل الحِمار يحمل أسفاراً. وخرٍ ج أبو موسى من فَوره ذلك إلى مكةَ مُستعيذاً بها من عليّ وحلف أن لا يكلمه أبدا. فأقام بمكة حيناً حتى كتب إليه معاوية: سلامٌ عليك أما بعد فلو كانت النيّة تدفع الخطأ لنجا المُجتهد وأعذر الطالب والحقّ لمن نَصب له فأصابه وليس لمن عَرض له فأخطأ. وقد كان الحكمان إذ حكما على عليّ لم يكن له الخيار عليهما وقد اختاره القومُ عليك فاكره منهم ما كرهوا منك وأقبل إلى الشام فإني خيرٌ لك من عليّ ولا قوة إلا بالله. فكتب إليه أبو موسى: سلامٌ عليك أما بعد فإني لم يكن منّي في عليّ إلا ما كان من عمرو فيك غير أني أردتُ بما صنعتُ ما عند الله وأراد به عمرو ما عندك. وقد كان بيني وبينه شروط وشُورى عن تراض فلما رجع عمرو رجعتُ. أما قولك: إن الحكمين إذا حكما على رجل لم يكن له الخيار عليهما. فإنما ذلك في الشاة والبعير والدّينار والدِّرهم. فأما أمر هذه الأمة فليس لأحد فيما يَكره حُكم ولن يُذهب الحقَّ عجزُ عاجز ولا خُدعة فاجر. وأما دعاؤك إياي إلى الشام فليس لي رغبة عن حَرم إبراهيم. فبلغ عليّاً كتابُ معاوية إلى أبي موسى الأشعري فكتب إليه: سلام عليك أمّا بعد. فإنك امرؤ ظلمك الهوى واستدرجك الغًرور حقّق بك حُسنَ الظن لزومُك بيتَ الله الحرام غير حاجّ ولا قاطن فاستَقِل اللهّ يُقِلك فإن الله يَغفر ولا يغفل وأحبَّ عباده إليه التوابون. وكتبه سماك بن حَرب. فكتب إليه أبو موسى: سلامٌ عليك. فإنه والله لولا أني خشيتُ أن يَرفعك مني منعُ الجواب إلى أعظم ممَّا في نفسك لم أُجبك لأنه ليس لي عندك عُذر ينفعني ولا قُوّة تمنعني. وأما قولك " ولزومي بيت اللهّ الحرام غير حاجِ ولا قاطن " فإني اعتزلت أهلَ الشام وانقطعت عن أهل العراق وأصبت أقواماً صغّروا من ذنبي ما عظَمتم وعظموا من حقَي ما صغّرتم إذ لم يكن لي منكم وليّ ولا نصير. وكان علي بن أبي طالب إذ وجه الحَكمان قال لهما: إنما حُكْمنا كما بكتاب الله فُتحْييان ما أحيا القرآن وتُميتان ما أمات. فلما كاد عمرو بن العاص لأبي موسى اضطربَ الناس على عليّ واختلفوا وخرجت لِي زلّة إليكمُ فأعتذرْ سوف أكيس بعدها وأنشَمِرْ وأجْمع الأمر الشَتيت المنتَشِرْ أبو الحسن قال: لما قَدِمَ أبو الأسود الدؤلي على معاوية عامَ الجماعة قال له معاوية: بلغني يا أبا الأسود أن علي بن أبي طالب أراد أن يَجعلك أحد الحَكمين فما كنتَ تحكم به قال: لو جعلني أحدهما لجمعتُ ألفاً من المهاجرين وأبناء المهاجرين وألفاً من الأنصار وأبناء الأنصار ثم ناشدتُهم اللهّ: المُهاجرين وأبناء المهاجرين أولى بهذا الأمر أم الطلقاء قال له معاويةُ: لله أبوك! أي حَكم كنتَ تكون لو حكَمت!