الرئيسيةبحث

العقد الفريد/الجزء الثالث/16

احتجاج علي وأهل بيته في الحكمين

أبو الحسن قال: لما انقضى أمرُ الحَكمين واختلف أصحابُ عليّ قال بعض الناس: ما مَنع أميرَ المؤمنين أن يأمر بعضَ أهل بيته فيتكلّم فإنه لم يبق أحدٌ من رؤساء العرب إلا وقد تكلّم. قال: فبينما علي يوماً على المِنبر إذ التفت إلى الحسن ابنه فقال: قُم يا حسن فقل في هذين الرجلين: عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص. فقام الحسن فقال: أيها الناس إنكم قد أكثرتم في هذين الرجلين وإنما بُعِثا ليحكما بالكتاب على الهوى فَحكما بالهَوى على الكتاب. ومَن كان هكذا لم يُسَم حَكَماً ولكنه مَحكوم عليه. وقد أخطأ عبدُ الله بن قيس إذ جعلها لعبدِ الله بن عُمر فأخطأ في ثلاث خصال: واحدة أنه خالف أباه إذ لم يَرضه لها ولا جعله من أهل الشُورى وأخرى أنه لم يستأمره في نفسه وثالثة أنه لم يَجتمع عليه المهاجرون والأنصار الذين يعقدون الِإمارة ويحكمون بها على الناس. وأما الحكومة فقد حَكم النبيّ عليه الصلاةُ والسلام سعدَ بن مُعاذ في بني قُريظة فحَكم بما يُرضي اللهّ به ولا شكّ ولو خالف لم يَرضه رسولُ الله ﷺ ثم جلس. فقال لعبد اللهّ بن عبّاس: قُمِ. فقال عبدُ اللهّ بن عبّاس بعد أن حَمِد اللهّ وأثنى عليه: أيها الناس إنّ للحق أهلا أصابوه بالتوفيق فالناسُ بين راض به وراغب عنه فإنه بَعث عبدَ اللهّ بن قَيس بًهدًى إلى ضلالة وبَعث عمرو بن العَاص بضَلالًة إلى هُدًى فلما التقيا رَجع عبدُ الله بن قَيس عن هُداه وثَبت عمرو على ضلاله. وايم الله لئن كانا حَكما بما سارا به لقد سار عبدُ الله وعليّ إمامه وسار عمرو ومعاوية إمامه فما بعد هذا من عَيب يُنتظر فقال عليّ لعبد الله بن جعفر بن أبي طالب: قُم. فقام فَحمد اللهّ وأثنَى عليه وقال: أيها الناس إنّ هذا الأمر كان النظر فيه إلى عليّ والرّضا إلى غيره. فَجئتم إلى عبد اللهّ بن قَيسِ مُبرنساً فقلتم: لا نَرضى إلا به. وايم اللهّ ما استفدنا به عِلماً ولا انتظر نامنه غائباَ وما نَعرفه صاحباً. وما أفسدا بما فعلا أهلَ العراق وما أصلحا أهل الشام ولا وَضعا حق عليّ ولا رفعا باطل معاوية ولا يُذهب الحق رُقية راق ولا نَفَحة شيطان ونحن اليوم على ما كُنّا عليه أمس. احتجاج عليّ على أهل النهروان قالواٍ: إنّ عليَّا لما اختلف عليه أهلُ النهروان والقُرى وأصحابُ البَرانس ونَزلوا قريةً يقال لها حَرُ وراء وذلك بعدَ وَقعَة الجمل فرجع إليهم عليُّ بن أبي طالب فقال لهم: يا هؤلاء مَن زعيمُكم قالوا: ابن الكَوًاء. قال: فَليَبرُز إليَّ. فَخرج إليه ابنُ الكَوَاء فقال له عليّ: يا بن الكَوَّاء ما أخرجَكم علينا بعد رضاكم بالحَكمين ومُقامكم بالكوفة قال: قاتلت بنا عدواً لا نشك في جِهاده فزعمتَ أن قتلانا في الجنة وقَتلاهم في النار فبينما نحن كذلك إذ أرسلتَ منافقاً وحكّمت كافراً وكان مما شَكك في أمر الله أن قُلت للقوم حين دعوتَهم: كتابُ الله بيني وبينكم فإن قَضى فيَ بايعتُكم وإن قَضى عليكم بايعتُموني. فلولا شكُك لم تَفعل هذا والحق في يدك. فقال عليّ: يا بن الكوّاء إنما الجوابُ بعد الفراغ أفرَضتَ فأُجيبك قالت: نعم. قال عليّ: أما قتالك معي عدوّاً لا نشكّ في جِهاده فصدقْتَ ولو شككتُ فيهم لم أُقاتلهم. وأما قَتلانا وقَتلاهم فقد قال اللهّ في ذلك ما يُستغنى به عن قولي وأما إرسالي المُنافق وتَحْكيمي الكافر فأنت أرسلتَ أبا موسى مُبَرْنَساً ومعاوية حَكّم عَمْراً أتيت بأبي موسى مُبرنساً فقلت: لا نَرضى إلا أبا موسى فهلا قام إليِّ رجل منكم فقال: يا عليّ لا نُعطَى هذه الدنيّة فإنها ضلالة. وأما قولي لمعاوية: إن تجَرَّني إليك كتابُ الله تَبعْتُك وإنْ جَرَّك إليً تبعتَنِي. زعمتَ أني لم أعط ذلك إلّا من شكٍّ فقد علمتُ أنِّ أوثق ما في يدك هذا الأمر فحدَّثني ويحك عن اليهوديِّ والنِّصرانيِّ ومُشركي العرب أهم أقرب إلى كتاب الله أم معاوية وأهل الشام قال: بل معاوية وأهل الشام أقرب قال عليّ: أفر سولُ الله ﷺ كان أوثقَ بما في يديه من كتاب اللهّ أو أنا قال: بل رسولُ الله. قال: فرأيتَ الله تبارك وتعالى حين يقول: " قُلْ فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتَبعه إن كنتم صادقين " أمَا كان رسولُ الله يَعلم أنَهً لا يُؤتى بكتاب هو أهدى مما في يَديه قال: بلى. قال: فلِمَ أعطى رسولُ الله القومَ ما أعطاهم قال: إنصافاً وحُجة قال: فإني أعطيت القومَ ما أعطاهم رسوِلُ الله. قال ابنُ الكوَاء: فإني اخطأتُ هذه واحدة زدْني. قال عليّ: فما أعظمُ ما نقمتم عَلَيَّ قال: تحْكيم الحَكَمين نظرنا في أمرنا فوجدنا تحكيمَهما شكاًّ وتَبْذيراً. قال عليّ: فمتى سُمِّي أبو موسى حَكَماً: حين أُرسل أو حين حَكَم قال: حين أُرسل. قال: أليس قد سار وهو مُسلم وأنتَ ترجو أن يَحكم بما أنزل الله قال: نعم. قال عليّ: فلا أرى الضلالَ في إرساله. فقال ابنُ الكوَاء: سمَي حَكَماً حين حَكَمٍ. قال: نعم إذاً فإرسالُه كان عَدْلاً. أرأيتَ يا بن الكوَاء لو أنّ رسولَ الله بَعث مُؤمنا إلى قوم مُشركين يدعوهم إلى كتاب الله فارتدَ على عَقبه كافراً كان يَضرٌّ نبيَّ الله شيئاً قال. لا. قال عليّ: فما كان ذَنبي أن كان أبو موسى ضَلَّ هل رضيتُ حكومته حين حَكم أو قولَه إذ قال قال ابن الكوَاء: لا ولكنَك جعلتَ مُسلماً وكافراً يحَكمان في كتاب الله. قال عي: ويلك يا بن الكوَاء! هل بَعث عَمْراً غيرُ معاوية وكيف أُحكَمُه وحُكْمه على ضرَب عُنقي إنما رَضي به صاحبهُ كما رضيتَ أنت بصاحبك وقد يَجتمع المؤمن والكافر يحكمان في أمر الله. أرأيتَ لو أنّ رجلاً مؤمناً تزوَج يهوديًة أو نصرانية فَخافا شِقاقاً بينهما ففَزع الناسُ إلى كتاب الله وفي كتابِه " فابْعثُوا حَكَماً مِن أهلهِ وحَكَماً مِن أهلِها " فَجاء رجلٌ من اليَهود أو رجل من النَّصارى ورجل من المُسلمين الذين يجوز لهما أن يحكما في كتاب الله فَحَكَما قال ابن الكَوَّاء: وهذه أيضاً أمهِلنا حتى ننظر. فانصرفَ عنهم عليّ. فقال له صَعصَعة بن صُوحان: يا أمير المؤمنين ائذن لي في كلام القوة. قال: نعم ما لم تَبْسط يداً. قال: فنادى صَعصعةُ ابنَ الكَوَّاء فَخَرج إليه فقال: أنْشُدكم بالله يا معشرَ الخارجين ألّا تكونوا عاراً على مَن يَغزو لغيره وألاّ تَخْرجوا بأرض تُسمّوا بها بعد اليوم ولا تَستعجلوا ضلالَ العام خشيةَ ضلال عامٍ قابل. فقال له ابنُ الكَوَّاء: إنَ صاحبك لقينا بأمرٍ قولُك فيه صغير فامسك. قالوا: إنّ عليّاً خرج بعد ذلك إليهم فَخَرج إليه ابنُ الكوَّاء فقال له عليّ: يا بن الكوَاء إنه مَن أذنب في هذا الدِّين ذَنباً يكوِن في الإسلام حَدَثاً استتبناه من ذلك الذنب بعَينه وإن توَبتك أن تَعرف هُدى ما خرجتَ منه وضلالَ ما دخلتَ فيه. قال ابن الكوَّاء: إننا لا ننكر أنا قد فًتِنّا. فقال له عبدُ الله بن عمرو بن جُرموز: أدرَكْنا والله هذه الآية " ألم. أحَسِبَ الناسُ أن يُتْرَكُوا أن يَقولوا آمَنَّا وهُم لا يُفتَنون " وكان عبدُ الله من قُرّاء أهل حَرُوراء فرجعوا فصلّوا خلفَ عليّ الظهرِ وانصرفوا معه إلى الكوفة ثم اختلفوا بعد ذلك في رَجعتهمِ ولامَ بعضهم بعضاَ. فقال زيدُ بن عبد الله الرَّاسبي شَكَكتم ومن أرسى ثبيراً مكانَه ولو لم تَشُكُّوا ما أنثنيتم عن الحَرْب وتَحْكيمكم عَمراً على غير تَوْبةٍ وكان لعبد الله خَطْباً من الخطْبَ فأنكَصَه للعَقْبِ لما خلا به فأصبح يَهوْى من ذُرى حالقٍ صَعْب وقال الرَياحي: ألم تَر أنّ الله أنزل حُكمَه وعَمْرٌ و وعبدُ الله مُخْتلفانِ وقال مُسلم بن يزيد الثقفي وكان من عُبَّاد حَرُوراء: إن كان ما عِبْناه عَيْباً فحسبُنا خَطايا بأخْذ النّصح من غير ناصِح َإن كان عَيْباً فاعظمنَّ بتَركنا عليّاً على أمرٍ من الحقِّ واضح نحنُ أُناسٌ بين بين وعَلَّنا سُررنا بأمرٍ غبه غيرُ صالح ثم خرجوا عَلَى علي فقتلهم بالنهروان. خروج عبد الله بن عباس على عليّ قال أبو بكر بن أبي شيبة: كان عبدُ الله بن عباس مِن أحبّ الناس إِلى عمر بن الخطاب وكان يُقدّمه على الأكابر من أصحاب محمد ﷺ ولم يَستعمله قط فقال له يوماً: كِدت استعملك ولكن أخشى أن تستحل الفيء على التأويل. فلما صار الأمرُ إلى عليّ استعمله على البصرة. فاستحل الفيء على تأويل قول الله تعالى " واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى " واستحلّه من قَرابته من رسول الله ﷺ ورَوى أبو مِخْنف عن سُليمان بن أبي راشد عن عبد الرحمن بن عُبيد قال: مَرَّ ابن عباس على أبي الأسود الدُؤلي فقال له: لو كنتَ من البهائم لكنتَ جَملاً ولو كنتَ راعياً ما بلغت المَرعى. فكَتب أبو الأسود إلى علي: أما بعد. فإِن الله جَعلك والياً مُؤتمناً وراعياً مسؤولاً وقد بَلوناك رحمك الله فوجدناك عظيمَ الأمانة ناصحاً للأمة تُوَفّر لهم فَيئَهم وتَكفّ نفسك عن دُنياهم فلا تأكلُ أموالهم ولا تَرتشي بشيء في أحكامهم. وابنُ عمّك قد أكل ما تحت يديه من غير عِلْمك فلم يَسَعْني كتمانُك ذلك. فانظر رحمك الله فيما هنالك وأكتب إليَّ برأيك فما أحببتَ أتبعه إن شاء الله. والسلام. فكتب إليه عليّ: أما بعد. فمثلُك نَصح الإمام والأمة ووالَى على الحق وفارق الْجَوْر. وقد كتبتُ لصاحبك بما كتبتَ إلي فيه ولم أُعلمْه بكتابك إلي. فلا تدع إعلامي ما يكون بِحضرتك مما النظرُ فيه للأمة صلاح فإنّك بذلك جَدير وهو حق واجب لله عليك. والسلام. وكتب عليّ إلى ابن عبِّاس: أما بعد. فإنه قد بلغني عنك أمرٌ إن كنتَ فعلتَه فقد أسخطتَ الله وأخرَبتَ أمانتك وعَصيتَ إمامك وخنتَ المسلمين. بلغني أنك خَرّبت الأرض وأكلت ما تحت يدك. فارفعْ إلي حسابك واعلم أنّ حسابَ الله أعظم من حساب الناس. والسلام. وكتب إليه ابنُ عباس: أما بعد. فإنّ كلَّ الذي بلغك باطلٌ وأنا لِمَا تحت يدي ضابط وعليه حافظ فلا تُصَدَق عليً الظنين. فكتب إليه عليّ: أما بعد. فإنه لا يَسعني تَرْكُك حتى تُعلمني ما أخذتَ من الجزْية من أين أخذتَه وما وضَعتَ منها أين وضعته. فاتَّقِ الله فيما ائتمنتُك عليه واسترعيتُك إياه ٍ فإن المَتاع بما أنت رازمُه قليل وتَبِعاتُه وبيلة لا تَبيد. والسلام. فلما رأى أن عليا غيرُ مُقلع عنه كتب إليه: أما بعد. فإنه بَلغني تعظيمُك عليََّ مَرْزِئة مالٍ بلغك أني رزأتُه أهلَ هذه البلاد. وايم الله لأنْ ألقى الله بما في بَطن هذه الأرض من عِقيانها ومخبئها وبما على ظهرها من طِلاعها ذَهباً أحب إليً من أن ألقي الله وقد سَفكتُ دماء هذه الأمة لأنالَ بذلك المُلك والإمرة. ابعث إلى عملك مَن أحبيْتَ فإني ظاعنٌ. والسلام. فلما أراد عبدُ الله المسيرَ من البَصرة دعا أخوالَه بني هلال بن عامر بن صَعصعة ليمنعوه. فَجاء الضحاك بنِ عبد الله الهِلاليُ فأجاره ومعه رجل منهم يقال له: عبدُ الله بن رَزين. وكان شجاعاً بَئيساً فقالت بنو هلال: لا غنى بنا عن هَوازن. فقالت هوازن: لا غنى بنا عن بني سُليم. ثم أتتهم قَيس. فلما رأى اجتماعَهم له حَمل ما كان في بيت مال البَصرة وكان فيما زعموا ستة آلاف ألف فَجعله في الغرائر. قال: فحدثني الأزرق اليَشكريُ قال: سمعنا أشياخَنا من أهل البَصرة قالوا: لما وَضع المالَ في الغرائر ثم مَضى به تَبِعَتْه الأخْماس كلها بالطَّف على أربع فراسخِ من البَصرة فوافقوه. فقالت لهِم قَيسِ: والله لا تصلوا إليه ومنا عين تطْرف. فقال ضمْرة وكان رأسَ الأزد: والله إنَ قيساَ لإخوتُنا في الإسلام - وجيرانُنا في الدار وأعواننا على العدوّ. إن الذي تَذهبون به المال لو رُدَ عليكم لكان نصيبُكم منه الأقلّ وهم خيرٌ لكم من المال. قالوا: فما ترى قال: انصرفوا عنهم. فقالت بكرُ بن وائل وعبدُ القَيس: نِعمَ الرَّأي رَأي ضَمْرة واعتزلوهم. فقالت بنو تميم: واللهّ لا نُفارقهم حتى نقاتلَهم عليه. فقال الأحْنَفُ بن قَيس: أنتم والله أحق ألاّ تقاتلوهم عليه وقد تَرك قتالَهم مَن هو أبعد منكم رَحِماً. قالوا: والله لنُقاتلنّهم. فقال: واللهّ لا نعاونكم على قتالهم وانصرف عنهم. فقدم عليهم ابن المُجاعة فقاتَلهم. فحمَل عليه الضحاكُ ابن عبد الله فَطعنه في كَتفه فصَرَعه فسقط إلى الأرض بغير قَتل. وحَمَل سَلمة بن ذُؤيب السَّعدي على الضّحاك فصرعه أيضاً وكثرُت بينهم الجراح من غير قَتل. فقال الأخْماسُ الذين - اعتزلوا: والله ما صنعتم شيْئاً. اعتزلتم قتالهم وتركتموهم يَتشاجرون. فجاءوا حتى صرَفوا وجوه بَعضهم عن بعض وقالوا لبني تميم: والله إن هذا اللُؤم قَبيح لنحن أسخى أنفساً منكم حين تركنا أموالَنا لبني عمكم وأنتم تقاتلونهم عليها خلوا عنهم وأرواحهم فإن القومَ فُدحوا. فانصرفوا عنهم ومَضى معه ناسٌ من قَيس فيهم الضّحاك بن عبد الله وعبدُ الله بن رَزين حتى قدموا الحجازَ فنزل مكةَ فَجعل راجزٌ لعبد الله بن عبّاس يسوق له في الطريق ويقول: صَبّحتُ من كاظمةَ القَصرَ الخَرِبْ مع ابن عبّاس بن عبد المُطّلبْ وجعل ابن عبّاس يرتجز ويقول: آوِي إلى أهلِك يِا رَباب آوِي فقد حان لكِ الإيابُ وجعلِ أيضاً يرتجز ويقول: وهُنّ يمشين بناء. هميساً إنْ يصْدُق الطَّيرُ نَنِك لَميسَا فقيل له: يا أبا العبّاس أمِثلك يَرْفث في هذا الموضع قال: إنما الرفث ما يقال عند النّساء. قال أبو محمد: فلما نزل مكةَ اشترى من عطاء بن جُبير مولى بني كعب من جواريه ثلاثَ مولّدات حجازّيات يقال لهن: شاذن وحَوراء وفُتون. بثلاثة آلاف دينار. وقال سليمانُ بن أبي راشد عن عبد الله بن عبيد عن أبي الكَنُود قال: كنت من أعوان عبد الله بالبَصرة فلما كان من أمره ما كان أتيتُ عليًّا فأخبرتُه فقال: "واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتِنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين". ثم كتب معه إليه: أما بعد فإني كنتُ أشْركتُك في أمانتي ولم يَكن من أهل بيتي رجل أوْثقَ عندي منك بمواساتي ومؤزرتي بأداء الأمانة فلما رأيتَ الزَّمان قد كَلب عَلَى ابن عمك والعدوّ قد حَرِدَ وأمانةَ الناس قد خَربت وهذه الُأمة قد فُتنت قلبتَ لابن عمك ظهر المجن ففارقتَه مِع القوم المفارقين وخَذلَته أسوأ خِذلان وخُنته مع مَن خان. فلا ابنَ عمكِ آسيت ولا الأمانةَ إليه أدَيتَ كأنك لم تكني على بَينة من ربك وإنما كِدت أُمة محمد عن دُنياهم وغَدرتهم عن فَيئهم. فلما أمكنتْك الفُرصة في خِيانةِ الأمة أسرعتَ الغَدرة وعالجتَ الوَثْبة فاخْتَطفْتَ ما قَدرت عليه من أموالهم وَانْقلبْتَ بها إلى الحجاز كأنك إنما حُزت عن أهلك ميراثَك من أبيك وأُمك. سبحان الله! أما تُؤمن بالمَعاد أما تخاف الحِساب! أما تَعلم أنك تأكل حراماً وتشرب حراماً! وتَشتري الإماءَ وتنكحهم بأموال اليتامى والأرامل والمُجاهدين في سبيل الله التي أفاء الله عليهم! فاتَقِ الله وأد إلى القوم أموالَهم فإنك والله لئن لم تَفعل وأمكنني الله منك لُأعذرن إلى الله فيك. فوالله لو أنَّ الحَسن والحسين فعلا مثلَ الذي فعلتَ ما كانت لهما عندي هَوادة ولما تركتُهما حتى أخذَ الحقَّ منهما. والسلام. فكتب إليه ابن عبَّاس: أما بعد. فقد بَلغني كتابُك تُعظم عَلي أمانة المال الذي أصبتُ من بيت مال البَصْرة. ولعمري إن حقّي في بيت مالك الله أكثر من الذي أخذتُ. والسلام. فكتب إليه عليّ: أما بعد فإن العَجب كل العجب منك إذ ترى لنفسك في بيت مال اللهّ أكثرَ مما لرجل من المسلمين قد أفلحتَ إن كان تمنيك الباطلَ وادعاءَك مالا يكون يُنجيك من الإثم ويُحل لك ما حَرم الله عليك. عَمْرك الله! إنك لأنت البعيد قد بلغني أنك اتخذت مكة وَطناً وضربتَ بها عَطناً تشتري المولّدات من المدينة والطائف وتختارهن على عينك وتُعطيِ بهنّ مالَ غيرك. وإني أقسم بالله ربه وربك ربِّ العزة ما أُحبّ أن ما أخذت من أموالهم لي حلالاً أدعه ميراثاً لعَقبي. فما بال اغتباطِك به تأكلُه حراماً! ضحِّ رُوَيداً. فكأنك قد بلغتَ المَدى وعُرضتْ عليك أعمالُك بالمَحل الذي يُنادَى فيه بالحَسرة ويَتمنّى المُضيع التَوبة والظالم الرًجعة. فكتَب إليه ابنُ عبّاس: والله لئن لم تَدعني من أساطيرك لأحملنه إلى معاوية يُقاتلك به. فكف عنه عليّ. مقتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه سُفيان بن عُيينة قال: كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يخرج بالليل إلى المسجد. فقال أناسٌ من أصحابه: نخشى أن يصيبَه بعضُ عدوٌه ولكن تعالوا نحرسه. فَخرج ذات ليلة فإذا هو بنا. فقال: ما شأنُكم فْكتمناه. فعَزم علينا. فأخبرناه. فقال: تحْرسُوني مِن أهل السماء أو من أهل الأرض قلنا: من أهل الأرض. قال: إنه ليس يقضى في الأرض حتى يُقضى في السماء. التميميَّ بإسناد له قال: لما تواعَد ابنُ مُلْجَم وصاحباه بقَتل عليّ ومعاوية وعمرو بن العاص دخَل ابنُ مُلجم المسجدَ في بُزوغ الفجر الأول فدخل في الصلاةِ تطوُّعاً ثم افتتح في القراءة وجعل يُكرِّر هذه الآية " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ". فأقبل ابنُ أبي طالب بيده مخْفَقة وهو يُوقظ الناس للصلاة ويقول: أيها الناسِ الصلاة الصلاة. فمرّ بابن مُلْجَم وهو يردّد هذه الآية فظن عليّ أنه ينسى فيها ففتح عليه فقال: واللهّ رَؤوف بالعبادِ. ثم انصرف علِىّ وهو يريد أن يدخل الدار فاتبعه فضَربه على قَرْنه ووقع السيف في الجدار فأطار فِدْرة من آخره فابتدره الناس فأخذوه ووقع السيف منه فجعل يقوِلَ: أيها الناس احذروا السيفَ فإنه مَسموم. قال: فأُتي به عليّ فقال: احبِسوه ثلاثاً وأطعموه واسقُوه فإن أعش أر فيه رَأي وإنْ أمت فاقتُلوه ولا تمثّلوا به. فمات من تلك الضرِبة. فأخذه عبدُ الله بن جعفر فقَطع يديه ورجليه فلم يَفزع ثم أراد قطعَ لسانه ففزع. فقيل له: ِ لم لَم تَفْزع لقطع يديك ورِجْليك وفزعت لقَطْع لسانك قال: إني أكره أن لا تَمُر بي ساعة لا أذْكر الله فيها. ثم قطعوا لسانه وضربوا عُنقه. وتوجّه الخارجيّ الآخرً إلى معاوية فلم يجد إليه سبيلاً. وتَوخه الثالث إلى عمرو فوجده قد أغفل تلك الليلة فلم يَخْرج إلى الصلاة وقدم مكانه رجلاً يقال له خارجة فضَربه الخارجيّ بالسيف وهو يظنه عمرو بن العاص فقتلَه. فأخذه الناسُ فقالوا: قتلتَ خارجة. قال: أو ليس عمراً قالوا له: لا. قال: أردتُ عمراً وأراد الله خارجة. وفي الحديث: أن النبيّ ﷺ قال لعلي: ألا أُخبرك بأشدّ الناس عذاباً يوم القيامة قال: أخبرني يا رسول الله. قال: فإن أشد الناس عذاباً يوم القيامة عاقرُ ناقة ثمود وخاضبُ لْحِيتك بدم رأسك. وقال كُثير عَزّة: ألا إن الأئِمة من قُريش وُلاة العَهْد أربعةٌ سواءُ علي والثلاثةُ من بَنِيه همُ الأسباط ليس بهمِ خَفاء وسِبْط لا يَذُوق الموتَ حتى يَقُودَ الخيلَ يَقدمها الَلواء تَغيْب لا يُرى عنهم زماناً برَضْوى عنده عَسَل وماء قال الحسن بن عليّ صبيحة الليلة التي قتل فيها في بن أبي طالب رضي الله عنه: حدِّثني أبي البارحة في هذا المسجد فقال: يا بني إني صلّيت البارحة ما رزق اللهّ ثم نمت نومة فرأيت رسولَ اللهّ ﷺ فشكوتُ له ما أنا فيه من مخالفة أصحابي وقلِة رَغْبتهم في الجهاد فقال لي: ادْع الله أن يُريحك منهم فدعوت الله. وقال الحسنُ صبيحةَ تلك الليلة: أيها الناس إنه قتل فيكم الليلة رجلٌ كان رسولُ الله ﷺ يبعثه فيَكْتنفه جبريلُ عن يمينه وميكائيلُ عن يساره فلا يَنثني حتى يَفْتح الله له ما ترك إلا ثلثَمائة درهم. خلافة الحسن بن علي ثم بُويع للحسن بن عليّ. وأُمّه فاطمة بنت رسوله الله ﷺ في شهر رمضان سنة أربعين من التاريخ فكتب إليه ابنُ عباس: إن الناس قد ولوك أمرَهم بعد عليّ فاشدُد عن يمينك وجاهد عدوَك واستُر من الظنين ذنبه بما لا يَثْلم دينك واستعمل أهلَ البيوتات تَسْتصلح بهم عشائرَهم. ثم اجتمع الحسنُ بن علي ومعاوية بمَسكن من أرض السَّواد من ناحية الأنبار واصطلحا وسلمَ الحسنُ الأمرَ إلى معاوية وذلك في شهر جمادى الأولى سنة إحدى وأربعين ويسمى عام الجماعة. فكانت ولاية الحسن سبعةَ أشهر وسبعة أيام ومات الحسنُ في المدينة سنة تِسْع وأربعين وهو ابن ست وأربعين سنة. وصلى عليه سعيدُ بن العاص وهو والي المدينة. وأوصى أن يُدفن مع جدّه وفي بيت عائشة فمنعه مروانُ بن الحكم فردوه إلى البقيع. وقال أبو هريرة لمروان: علامَ تمنع أن يُدفن مع جده فلقد أشهدُ أني سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: الحسنُ والحُسين سيدا شباب أهل الجنة. فقال له مروان: لقد ضيع الله حديثَ نبيه إذ لم يَرْوِه غيرك. قال: أما إنك إذ قلت ذلك لقد صحبتُه حتى عرفتُ مَن أحبَّ ومن أبغضَ ومن نَفىِ ومن أقر ومن دعا له ومن دعا عليه. ولما بلغ معاويةَ موتُ الحسن بن علي خر ساجداً لله ثم أرسل إلى ابن عباس وكان معه في الشام فعزاه وهو مُستبشر وقال له: ابن كم سنة مات أبو محمد فقال له: سنِه كان يُسمع في قُريش فالعجب من أن يجهله مثلُك! قال: بلغني أنه ترك أطفالاً صغاراً. قال: كُل ما كان صغيراً يَكْبُر وإن طِفْلَنَا لكَهْل وإن صغيرَنا لكَبير. ثم قال: مالي أراك يا معاويةُ مُستبشراً بموت الحسن ابن علي فوالله لا ينْسأ في أجلك ولا يَسُد حُفرتك وما أقَل بقاءَك وبقاءَنا بعده. ثم خرج ابنُ عباس فبعث إليه معاوية ابنَه يزيد فقعد بين يديه فعزّاه واستعبر لموت الحَسن فلما ذهب أتبعه ابنُ عباس بَصره وقال: إذا ذهب آل حَرب ذَهب الْحِلم من الناس. ثم اجتمعِ الناسُ على معاوية سنةَ إحدى وأربعين وهو عام الجماعة فبايعه أهلُ الأمصار كلها وكتب بينه وبين الحَسن كتاباً وشروطاً ووصله بأربعين ألفا. وفي رواية أبي بكر بن أبي شَيبة أنه قال له: والله لأجيزنك بجائزة ما أجزتُ بها أحداً فبلك ولا أجيز بها أحداً بعدك فأمر له بأربعمائة ألف. خلافة معاوية هو معاوية بن أبي سفيان بن حَرب بن أُمية بن عبد شَمس بن عبد مناف. وكُنيته أبو عبد الرحمن وأُمه هند بنت عُتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف. ومات مُعاوية بدمشق يوم الخميس لثمانٍ بقين من رجب سنة ستّين وصلى عليه الضحَاك بن قَيس وهو ابنُ ثلاث وسبعين سنة ويقال ابن ثمانين سنة. كانت ولايتَه تسع عشرةَ سنة وتسعة أشهر وسبعة وعشرين يوماً. صاحب شرطته يزيد بن الحارث العَبْسي. وعلى حَرَسه - وهو أود من اتخذ حرساً - رجل من الموالي يقال له المختار. وحاجبُه سعد مولاه. وعلى القضاء أبو إدريس الخَوْلاني. وولد له عبدُ الرحمن وعبد الله مات فاختة بنت قرظة. أما عبدُ الرحمن فمات صغيراً وأما عبدُ الله فمات كبيراً وحنان ضعيفاً ولا عقب له من الذكور. وكان له بنت يقال لها عاتكة تزوّجها يزيدُ بن عبد الملك وفيها يقول الشاعر. يا بيتَ عاتكة الذي أتعزَلُ حَذَر العدا وبه الفؤادُ مُوَكَّلُ ويزيدُ بن معاوية وأُمه ابنة بَحْدل كَلْبية. فضائل معاوية ذكر عمرو بنُ العاص معاوية فقال: احذروا قرْم قريش وابنَ كريمها مَن يضحك عند الغضب ولا ينام إلا على الرِّضا ويَتناول ما فوقه من تحته. سُئل عبد الله بن عبُّاس عن معاوية فقال: سَما بشيء أسرة واستظهر عليه بشيء أعلنه فحاول ما أسرَّ بما أعلن فنالَه. كان حِلْمه قاهراً لغَضبه وجُوده غالباً على مَنْعه يصل ولا يَقطع ويجمع وِلا يفرِّق فاستقام له أمره وجرى إلى مُدًته. قيل: فأخبرنا عن ابنه. قال: كان في خير سَبيله وكان أبوه قد أحكمه وأمره ونَهاه فتعلّق بذلك وسَلك طريقاً مُذللا له. وقال معاوية: لم يكن في الشَّباب شيء إلا كان مني فيه مُستمتع غير أني لم أكن صُرَعةً ولا نُكَحة ولا سِبّاً. قال الأصمعي: الحب: كثير السباب: ميمون بن مِهرْان قال: كان أوّلَ من جَلس بين الخُطبتين معاويةُ وأوّلَ من وَضع شرفَ العطاء ألفين معاوية وقال معاوية: لا زلتُ أطمع في الخلافة منذ قال لي رسولُ الله ﷺ: يا معاوية إذا ملكتَ فأحْسن. العُتْبي عن أبيه قال: قال معاوية لقُريش: ألا أخبركم عني وعنكم قالوا: بلى. قال: فأنا أطير إذا وقعتم وأقع إذا طِرْتم ولو وافق طَيراني طيرانَكم سَقَطنا جميعاً. قال معاوية: لو أن بيني وبين الناس شَعرة ما انقطعت أبداً. قيل له: وكيف ذلك قال: كنت إذا مدوها أرخيتها ماذا أرْخوها مددتها. وقال زياد: ما غلبني أميرُ المؤمنين معاويةُ قَط إلا في أمر واحد طلبتُ رجلاً منة عُمالي كَسر عليّ الخِراج فلجأ إليه فكتبتُ إليه: إن هذا فساد عَمليِ وعملك. فكتب إلي: إنه لا ينبغي لنا أن نَسوس الناسَ سياسةً واحدة لا نلين جميعاً فيمرحَ الناسُ في المَعصية ولا نَشتد جميعاً فنَحملَ الناسَ على المَهالك ولكن تكون أنت للشدة والفَظاظة والغِلظة وأكون أنا للرأفة والرحمة. أخبار معاوية قدم معاويةُ المدينةَ بعد عام الجماعة فدخل دارَ عثمان بن عفّان فصاحت عائشة بنت عثمان وبكت ونادت أباها. فقال معاوية: يا ابنة أخي إنّ الناس أعْطَوْنا طاعةً وأعطيناهم أماناً وأظهرنا لهِم حِلْماً تحته غَضب وأظهروا لنا ذُلّاً تحته حِقْد ومع كل إنسان سيفُه ويرى موضع أصحابه فإن نكثناهم نكثوا بنا ولا ندري أعلينا تكون أمْ لنا. لأن تكوني ابنةَ عمِّ أمير المؤمنين خيرٌ من أن تكوني امرأة من عُرض الناس. القَحْذَميّ قال: لما قَدم معاويةُ المدينة قال: أيها الناس إنّ أبا بكر رضي الله عنه لم يُرد الدنيا ولم تُرده وأما عمر فأرادتْه ولم يُردها وأما عثمان فنال منها ونالتْ منه وأما أنا فمالتْ بي وملتُ بها وأنا ابنُها فهي أُمي وأنا ابنُها فإن لم تَجدوني خيركم فأنا خيرٌ لكم. ثم نزل. قال جُويرية بن أسماء. نال بُسْرُ بن أرطأة مِن عليّ بن أبي طالب عند معاوية وزيدُ بن عمر بن الخطاب جالس فعلا بُسْراً ضرباً حتى شَجّه. فقال معاويةُ: يا زيد عمدتَ إلى شيخ قُريش وسيّد أهل الشام فضربتَه! وأقبل على بُسْر وقال: تَشتم عليا وهو جدُه وأبوه الفاروق على رؤوس الناس! أفكنتَ تراه يَصبر على شَتْم عليّ! وكانت أمَ زيد أمُ كُلثوم بنت علي بن أبي طالب. ولما قدم معاويةُ مكةَ وكان عمر قد استعمله عليها دخل على أُمه هِنْد فقالت له: يا بني. إنه قلما وَلدت حُرة مثلَك وقد استعملك هذا الرجل فاعمل بما وافقه أحببت ذلك أم كرهتَه. ثم دخل على أبيه أبي سفيان فقال له: يا بني. إن هؤلاء الرهط من المُهاجرين سَبقونا وتأخرنا فرفعهم سبقُهم وقصر بنا تأخيرُنا فصرْنا أتباعاً وصاروا قادةً وقد قلّدوك جَسيماً من أمرهم فلا تُخالفن رأيَهم فإنك تَجري إلى أمد لم تَبلغه ولو قد بلغتَه لتنفست فيه. قال معاوية: فعجبت من اتفاقهما في المعنى على اختلافهما في اللفظ. العتبي عن أبيه: أن عمر بن الخطاب قَدِمِ الشام على حِمار ومعه عبدُ الرحمن بن عوف على حِمار فتلقاهما معاويةُ في موكب نبيل فجاوز عمرَ حتى أُخبر فرجع إليه فلما قَرُب منه نزل فأعرض عنه عمر فجعل يمشي إلى جنبه راجلاً. فقال له عبدُ الرحمن بن عوف: أتعبتَ الرجل. فأقبل عليه عمر فقال: يا معاوية أنت صاحبُ الموكب آنفاً مع ما بلغني من وقُوف ذوي الحاجات ببابك قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: ولم ذلك قال: لأنا في بلاد لا يُمتنع فيها من جواسيس العدوِّ فلا بُدّ لهم مما يُرهبهم من هيبة السلطان فإن أمرتَني بذلك أقمتُ عليه وإن نهيتني عنه انتهيت. قال: لئن كان الذي قلتَ حقاً فإنه رأيُ أريب ولئن كان باطلًا فإنها خُدعة أحب ولا أمرك به ولا أنهاك عنه. فقال عبدُ الرحمن بن عوف: لحسن ما صدر من هذا الفتى عما أوردتَه فيه. قال: لحسن مَصادرهِ وموارده جشّمناه ما جشمناه. وقال معاوية لابن الكَوّاء: يا بن الكواء أنشدك الله ما عِلْمُك فيًّ قال: أنشدَتَني الله! ما أعلَمُكَ إلا واسع الدُّنيا ضيق الآخرة. ولما مات الحسنُ بن عليّ حَجّ معاوية فدخل المدينة وأراد أن يَلْعن عليَّا على مِنبر رسول الله صلى عليه وسلم. فقيل له: إن هاهنا سعدَ بن أبي وقاص ولا نراه يرضى بهذا فابعث إليه وخُذ رأيه. فأرسل إليه وذكر له ذلك. فقال: إن فعلت لأخرُجن من المسجد ثم لا أعود إليه. فأمسك معاوية عن لعنه حتى مات سعد. فلما مات لَعنه عَلَى المنبر وكتب إلى عماله أن يَلعنوه على المنابر ففعلوا. فكتبتْ أم سَلمة زوج النبيّ صلى عليه وسلم إلى معاوية: إنكم تلعن الله ورسولَه على منابركم وذلك أنكم تلعنون عليّ بن أبي طالب ومن أحبّه وأنا أشهد أن الله أحبَّه ورسولَه فلم يلتفت إلى كلامها. وقالت بعضُ العلماء لولده: يا بني إن الدنيا لم تَبْن شيئاً إلا هَدمه الدِّين وإنّ الدين لم يبْن شيئاً فهدمتْه الدنيا ألا ترى أنّ قوماً لعنوا عليّا ليخْفِضوا منه فكأنما أخذوا بناصيته جرّاً إلى السماء. ودخل صعصعة بن صُوحان على مُعاوية ومعه عمرو بن العاص جالسٌ على سريره فقال: وَسِّع له على تُرابيّة فيه. فقال صعصعةُ: إني والله لتُرابيّ منه خُلقت وإليه أعود ومنه أبعث وإنك لمارج من مارج من نار. العُتبي عن أبيه قال قال معاويةُ لعمرو بن العاص: ما أعجبُ الأشياء قال غَلبة مَن لا حقَّ له ذا الحقّ على حقه. قال معاوية: أعجبُ من ذلك أن يُعطى من لا حق له ما ليس له بحق من غير غَلبة. وقال معاويةُ: أُعنت على عليّ بأربعة كنت أكتم سري وكان رجلاً يُظهِره وكنتُ في أصلح جند وأطوعه وكان في أخْبَث جُند وأعْصاه وتركتُه وأصحابَ الجمل وقلتُ: إن ظَفروا به كانوا أهونَ علي منه وإن ظَفِر بهم اغتر بها في دِينه وكنتُ أحب إلى قُريش منه. فيالك مِن جامع إلي ومُفرق عنه! العتبي قال: أراد معاوية أن يقدم ابنه يزيد على الصائفة فكره ذلك يزيد فأبى معاوية إلى أن يفعل فكتب إليه يزيد يقول: نجيٌّ لا يزال يعد ذنباً لتقطع وصل حبلك من حبالي فيوشك أن يريحك من أذاتي نزولي في المهالك وارتحالي وتجهز للخروج فلم يتخلف عنه أحد حتى كان فيمن خرج أبو أيوب الأنصاري صاحب النبي ﷺ قال العتبي: وحدثني أبو إسحاق إبراهيم قال: أرسل معاوية إلى ابن عباس قال: يا أبا العباس إن أحببت خرجت مع ابن أخيك فيأنس بك ويقربك وتشير عليه برأيك. ولا يدخل الناس بينك وبينه فيشغلوا كل واحد منكما عن صاحبه. وأقل من ذكر حقك فإنه إن كان لك فقد تركته لمن هو أبعد منا حبّاً وإن لم يكن لك فلا حاجة بك إلى ذكره مع أنه صائر إليك وكل آت قريب ولتجدن إذا كان ذلك خيراً لكم منا. فقال ابن العباس: والله لئن عظمت عليك النعمة في نفسك لقد عظمت عليك في يزيد وأما ما سألتني من الكف عن ذكر حقي فإني لم أغمد سيفي وأنا أريد أن أنتصر بلساني. ولئن صار هذا الأمر إلينا ثم وليكم من قومي مثلي كما ولينا من قومك مثلك لا يرى أهلك إلا ما يحبون. قال: فخرج يزيد فلما صار على الخليج ثقل أبو أيوب الأنصاري فأتاه يزيد عائداً فقال: ما حاجتك أبا أيوب فقال: أما دنياكم فلا حاجة لي فيها ولكن قدمني ما استطعت في بلاد العدو فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: يدفن عند سور القسطنطينية رجلٌ صالح أرجو أن أكون هو. فلما مات أمر يزيد بتكفينه وحمل على سريره ثم أخرج الكتائب. فجعل قيصر يرى سريراً يحمل والناس يقتتلون. فأرسل إلى يزيد: ما هذا الذي أرى قال: صاحب نبينا وقد سألنا أن تقدمه في بلادك ونحن منفذون وصيته أو تلحق أرواحنا بالله. فأرسل إليه: العجب كل العجب: كيف يدهى الناس أباك وهو يرسلك فتعمد إلى صاحب نبيك فتدفنه في بلادنا فإذا وليت أخرجناه إلى الكلاب! فقال يزيد: إني والله ما أردت أن أودعه بلادكم حتى أودع كلامي آذانكم فإنك كافر بالذي أكرمت هذا له لئن بلغني أنه نبش من قبره أو مثل به لا تركت بأرض العرب نصرانياً إلا قتلته ولا كنيسة إلا هدمتها. فبعث إليه قيصر: أبوك كان أعلم بك فوحق المسيح لأحفظته بيدي سنةً. فلقد بلغني أنه بني على قبره قبة يسرج فيها إلى اليوم. طلب معاوية البيعة ليزيد أبو الحسن المدائني قال: لما مات زياد وذلك سنة ثلاث وخمسين أظهر معاوية عهداً مفتعلاً فقرأه على الناس فيه عقد الولاية ليزيد بعده وإنما أراد أن يسهل بذلك بيعة يزيد. فلم يزل يروض الناس لبيعته سبع سنين ويشاور ويعطى الأقارب ويداني الأباعد حتى استوثق له من أكثر الناس.