الرئيسيةبحث

العقد الفريد/الجزء الثالث/1

كتاب الواسطة في الخطب

قال أبو عمر أحمدُ بن محمد بن عبد ربّه: قد مضى قولُنا في الأجْوبة وتَباين النّاس فيها على قدر عُقولهم ومَبلغ فِطَنهم وحضُورِ أذهانهم بم ونحن قائلون بعَون الله وتَوْفيقه في الخُطب التي يُتخيّر لها الكلامُ وتفَاخرت بها العربُ في مَشاهدهم ونَطقت بها الأئمة على مَنابرهم وشُهرت بها في وقامت بها على رُؤوس خُلفائهم وتَباهت بها في أعيادهم ومَساجدهم ووصلَتْها بِصَلَواتهم وخوطب بها العوام واستُجزلت لها الألفاظ وتُخيِّرت لها المعاني: أعلم أنّ جميع الخُطب على ضَرْبين: منها الطِّوال ومنها القِصَار ولكُلِّ ذلك مَوْضع يَليق به ومكانٌ يَحسُن فيه. فأول ما نَبدأ به من ذلك خُطبُ النبيّ ﷺ ثم السَّلف المُتقدمين ثم الجلّة من التابعين والجلّة من الخُلفاء الماضين والفُصحاء المتكلّمين على ما سَقط إلَينا ووَقع عليه اختيارُنا ثم نذكر بعضَ خُطب الخَوارج لجزالة أَلفاظهم وبَلاغة مَنْطقهم كخُطْبة قطريّ بن الفُجاءة في ذَمّ الدنيا فإنها مَعْدومة النَّظير مُنْقطعة القَرين وخُطبة أبي حَمْزة التي سمعها مالكً بن أنس فقال: خَطَبنا أبو حَمْزة بالمدينة خُطبة شَكّك فيها المُستبصر ورَدّ بها المُرتاب ثم نَسمح بصَدر من خُطب البادية وقَوْل الأعراب خاصَّة لمعرفتهم بداء الكَلام قال عبدُ الملك بن مَرْوان لخالد بن سَلِمة القُرَشيّ المَخْزومي مَن أخطبُ الناس قال: أنا قال: ثم مَن قال: أنا قال: ثم مَن قال: شيخ جُذام - يَعني رَوْح بن زِنْباع - قال ثم مَن قال: أُخيفش ثقيف - يعني الحجاج - قال: ثم مَن قال: أميرُ المؤمنين. وقال مُعاوية لما خَطب الناسُ عنده فأَكثروا: والله لأرْمينكم بالخَطيب المِصْقع قُمْ يا زِياد. وقال محمدٌ كاتب المَهديّ - وكان شاعراً راوية وطالباً للنحو عَلَّامة - قال: سمعتُ أبا دُواد يقول: وجَرى شيء من ذِكر الخًطب وتَحْبير الكلام فقال: تَلْخيص المَعاني رِفْق والاستعانة بالغَريب عَجْز والتّشادق في غَيْر أهل البادية نَقْص والنَّظر في عُيون الناس عِيّ ومَسْح اللِّحية هُلْك والخُروج عَمّا بُني عليه الكلامُ إسهاب. قال: وسمعتُه يقول: رأْسُ الخطابة الطبع وعَمودها الدُّرْبة وحَلْيها الإعراب وبَهاؤها تَخُيّر اللفظ والمحبّة مَقْرونة بقلّة الاستكراه. وأَنشدني بيتاً له في خُطباء إياد: يَرْمُون بالخُطَب الطِّوال وتارةً وَحْيَ المَلاَحظ خِيفةَ الرُّقباء أَنشدني في عِيّ الخَطِيب واستعانته بمَسْح العثْنون وفَتْل الأصَابع: مَلِيءٌ ببُهْر والتفات وسُعْلة ومَسْحةِ عُثْنون وفَتْل الأصابع مَرّ بِشرْ بن المُعتمر بإبراهيم بن جِبلة بن مَخْرمة السَّكوني الخَطيب وهو يعَلِّم فِتْيانهم الخَطابة فوقف بِشرٌ يستمع فظنّ إبراهيم أنه إنما وَقف ليَسْتفيد أو يكون رجلاً من النظّارة. فقال بشر: اضربوا عمّا قال صفْحاً واطووا عنه كَشْحاً ثم دفع إليهم صَحيفة من تَنْميقه وتَحْبيره فيها: خُذْ من نفسك ساعة نشاطك وفراغ بالك وإجابتها إياك فإنّ قليل تلك الساعة أكرمُ جوهراً وأشرفُ حَسباً وأحسن في الأسماع وأَحْلى في الصُّدور وأسلم من فاحش الخَطأ وأجلبُ لكُلّ عين وغُرّة من لفظ شريف ومَعنى بديع واعلم أنّ ذلك أَجدى عليك مما يُعطِيك يومُك الأطْول بالكدّ والمُطاولة والمُجاهدة بالتّكليف والمُعاودة ومهما أَخطأك لم يُخطئك أن يكون مقبولاً قصداً وخَفيفاً على اللسان سَهْلاً كما خَرج من يَنبوعه ونَجم من مَعدنه وإياك والتوعّرَ فإن التوعّر يُسلمك إلى التَّعقيد والتّعقيد هو الذي يَسْتهلك مَعانيك ويَشين ألفاظَك. ومَن أراد معنًى كريماً فَلْيَلْتمس له لفظاً كريماً فإن حق المعنى الشريف اللفظ الشريف ومن حقهما أن تَصونهما عما يُفسدهما ويهجِّنهما وعما تعود من أجله إلى أن تكون أسوأ حالاًَ منك قبل أن تَلتمس إظهارهما وتَرتهن نفسك بمُلابستهما وقضاء حقهما. وكن في ثلاث منازل: وإن أَوْلَى الثلاث أن يكون لفظك رشيقاً عَذْباً وفخَماً سهلاً ويكون معناك ظاهراً مكشوفاً وقريباً معروفاً إمّا عند الخاصة إن كنت للخاصة قصدت وإمّا عند العامة إن كنت للعامة أردت والمعنى ليس يشرف بأن يكون من مَعاني الخاصة وكذلك ليس يتضع بأن يكون من مَعاني العامة وإنما مدار الشرف على الصواب وإحراز المَنفعة مع مُوافقة الحال وما يَجب لكل مَقام من المقال وكذلك اللفظ العاميّ والخاصيّ فإن أمكنك أن تبلغ من بيان لسانك وبلاغة قلمك ولُطف مَداخلك واقتدارك على نفسك على أن تُفْهم العامة معاني الخاصة وتَكسوها الألفاظ المتوسطة التي لا تَلطف عن الدهماء ولا تَجفو عن الأكفاء فأنت البليغُ التام. فقال له إبراهيم بن جبلة: جُعلت فداك أنا أحوجُ إلى تعلّمي هذا الكلام من هؤلاء الغِلْمة. خطبة رسول الله في حجة الوداع ﷺ في حجة الوداع إن الحمد للهّ نَحمده ونَستغفره ونَتوب إليه ونعوذ بالله من شرُور أنفسنا ومن سَيئات أعمالنا مَن يَهْد الله فلا مُضِلِّ له ومَن يُضلل فلا هاديَ له وأَشهد أن لا إله الله وحدَه لا شريك له وأنّ محمداً عبدُه ورسولُه. أُوصيكم عبادَ اللهّ بَتْقوى الله وٍ أَحثُّكم على طاعته وأَسْتَفْتح بالذي هو خير. أما بعد أيّها الناس اسمعوا منّي أبيّنَ لكم فإني لا أدري لعليّ لا أَلْقاكم بعد عامي هذا في مَوْقفي هذا. أيها الناس إن دماءكم وأموالَكم عليكم حَرام إلى أن تَلقوا ربَّكم كحُرمة يومكم هذا في شَهركم هذا في بلدكم هذا. ألا هل بَلّغت اللهم اشهد. فمن كانت عنده أمانة فَلْيُؤَدها إلى الذي ائتمنه عليها وإن رِبَا الجاهلية مَوْضوع وإن أوّل ربا أبدأ به ربا عمّي العبّاس بن عبد المطلب وإن دماء الجاهليَّة مَوْضوعة وإن أول دَم أبدأ به دَم عامر بن رَبيعة بن الحارث بن عبد المطلب وإنّ مآثر الجاهلية موضوعة غير السّدانة والسّقاية. والعَمْدُ قَوَد وشبْه العمد ما قُتل بالعصا والحجر ففيه مائة بعير فمَن زاد فهو من أهل الجاهلية. أيها الناس إنّ الشيطان قد يَئسْ أن يُعبد في أرْضكم هذه ولكنه رضي أن يُطاع فيما سوى ذلك مما تُحَقِّرون من أعمالكم. أيها الناس إنّما النّسيء زيادة في الكُفر يُضَل به الذين كَفروا يُحلّونه عاماً ويُحَرمونه عاماً ليُواطئوا عدّة ما حَرّم الله وإنالزمان قد استدار كهيئته يوم خَلق الله السموات والأرض وإن عدّةَ الشهور عند اللهّ اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حُرم ثلاثة متواليات وواحد فرد ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب الذي بين جمادي وشعبان ألَا هل بلّغت اللهم أشهد. أيها الناس إنّ لنسائكم عليكم حقَاً وإنّ لكم عليهن حقّاَ لكم عليهن أن لا يُوطِئن فَرْشَكم غيركم ولا يُدخلن أحداً تكرهونه بيوتكم إلاّ بإذنكم ولا يأتين بفاحشة فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تَعْضُلوهن وتَهْجروهن في المَضاجع وتضربوهن ضرباً غير مُبرِّح فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رِزقُهن وكسوتهن بالمعروف وإنما النساء عندكم عَوَار لا يملكن لأنفسهن شيئاً أخذتموهن بأَمانة الله واستحلَلتُم فُروجهن بكلمة الله فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهن خيراً. أيها الناس إنما المؤمنون إخوة فلا يحل لامرئ مالُ أخيه إلاّ عن طِيب نفسه ألا هل بلّغت اللهم أشهد. فلا تَرْجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم أعناق بعض فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لم تَضلّوا: كتابَ الله ألا هل بلَّغت اللهم أشهد. أيها الناس: إنّ ربكم واحد وإن أباكم واحد كلُكم لآدم وآدم من تراب أكرمُكم عند الله أتقاكم ليس لعربيّ على عجميّ فَضل إلّا بالتقوى ألا هل بلّغت قالوا: نعم قال: فَلْيبلغ الشاهد منكم الغائب. أيها الناس إن الله قد قَسم لكل وارث نصيَبه من الميراث ولا يجوز لوارث وصية ولا تجوز وصية في أكثر من الثّلث والولدُ للفراش وللعاهر الحَجر من ادَعى إلى غير أبيه أو تولّى غَير مواليه فعليه لعنةُ الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صَرْفاً ولا عدلاً. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وخطب أبو بكر يوم السقيفة أراد عُمر الكلام فقال له أبو بكر على رِسْلك ثم حَمد الله وأَثنى عليه ثم قال أيها الناس نحن المُهاجرون أوّلُ الناس إسلاماً وأكرمهم أحساباً وأوسطّهم داراً وأحسنُهم وجوهاً وأكثر الناس وِلادةً في العرب وأمسّهم رَحِماً برسول الله ﷺ أسلمنا قبلكم وقُدِّمنا في القرآن عليكم فقال تبارك وتعالى: والسّابِقون الأوّلون من المُهاجِرين والأنصار والذينَ أتبعوهم بإحْسان. فنحنُ المهاجرون وأنتم الأنصار إخواننا في الدًين وشركاؤنا في الفَيْء وأنصارُنا على العدوّ آويتم وآسيتم فجزاكم اللهّ خيراً فنحن الأمراء وأنتم الوزراء لا تَدِين العرب إلّا لهذا الحيّ من قُرَيش فلا تنْفسوا على إخوانكم المهاجرين ما منحهم اللهّ من فضله. حمد الله وأَثنى عليه قال: أيها الناس إني قد وُلِّيتُ عليكم ولستُ بخيركم فإن رأيتُموني على حق فأَعينوني وإن رأيتُموني على باطل فسدِّدوني. أَطيعوني ما أطعتُ الله فيكم فإذا عصيتُه لا طاعة لي عليكم. ألاَ إن أقواكم عندي الضَّعيفُ حتى آخذَ الحقَّ له وأَضعفَكم عندي القوي حتى آخذَ الحق منه. أقول قولي هذا وأَستغفر الله لي ولكم. وخطب أخرى فلمّا حمد الله بما هو أهله وصلّى على نبيه عليه الصلاةُ والسلام قال: إنّ أشقَى الناس في الدنيا والآخرًة الملوكُ. فرفع الناسُ رؤوسهم فقال: ما لكم أيها الناسُ إنكم لطَعانون عَجِلون. إن من الملوك مَن إذا مَلك زهده الله فِيما بيده ورغّبه فيما بيد غيره وانتقصه شطر أجله وأشرب قلَبه الإشفاقَ فهو يَحسد على القليل ويتَسخّط الكثير ويَسأم الرّخاء وتَنقطع عنده لذّة البقاء لا يستعمل العِبْرة ولا يسكُن إلى الثقة فهو كالدرهم القَسيّ والسَّراب الخادع جَذِل الظاهر حزين الباطن فإذا وَجبت نفسُه ونَضب عمره وضحا ظلُّه حاسبه اللهّ فأَشدّ حسابَه وأقل عَفْوه. ألا إن الفقراء هم المَرحومون وخيرَ الملوك مَن أمن بالله وحَكم بكتابه وسُنَّة نبيِّه ﷺ وإنكم اليوم على خِلافة نبوة ومَفْرِق محجَّة وسترون بعديِ مُلْكاً عَضُوضاً ومَلِكاً عَنُودا وأُمة شَعاعاً ودَماً مُفاجاً فإن كانت للباطل نزْوَة ولأهل الحق جَوْلة يعفو بها الأثر ويَموت لها الخبر فالزموا المساجد واستشيروا القرآن واعتصموِا بالطاعة. وليكن الإبرام بعد التَشاور والصَّفقة بعد طوله التناظر. أفي بلاد خرْشَنة إنّ الله سَيْفتح لكم أقصاها كما فتح عليكم أدناها. وخطب أيضاً فقال الحمد لله أحمده وأستعينه وأَستغفره وأومن به وأَتوكّل عليه وأَسْتهدي اللهّ بالهُدى وأَعوذ به من الضّلال والرّدى ومن الشك والعَمى. مَن يَهْدِ الله فهو المُهتدي ومن يُضلّل فلن تَجد له وليَّاً مُرْشداً. وأَشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له له المُلك وله الحَمْد يُحيي وُيميت وهو حَيٌ لا يَموت يُعزّ مَن يشاء ويُذِل مَن يشاء بيده الخَير وهو عَلَى كلّ شيء قدير. وأَشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه أَرسله بالهُدى ودين الحق ليُظهره عَلَى الدين كلّه ولو كَرِه المشركون إلى الناس كَافة رحمةً لهم وحُجة عليهم والناسُ حينئذ عَلَى شَرّ حال في ظُلمات الجاهليّة دينّهم بِدْعة ودَعْوتهم فِرْية. فأعزِّ الله الدينَ بمحمد ﷺ وألفَ بين قلوبكم أيها المًؤمنون فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حُفْرة من النار فأَنقذكم منها كذلك يُبيّن الله لكم آياته لعلكم تَهتدون. فأَطيعوا اللهّ ورسوله فإنه قال عزّ وجلّ: مَن يُطِع الرَّسولَ فقد أطاع الله ومَن تَوَلى فما أَرسلناكَ عليهم حَفيظاً. أمّا بعد أيها الناس إني أوصيكم بتقوى الله العظيم في كل أَمر وعَلَى كلِ حال ولُزوم الحق فيما أَحببتم وكَرِهتم فإنه ليس فيما دون الصدق من الحديث خير. مَن يَكْذب يَفْجر ومَن يَفْجر يَهْلِك. وإيّاكم والفَخْرَ وما فَخْرُ مَن خُلق من تراب وإلى التراب يَعود هو اليوم حيّ غداً مَيّت. فاعمَلوا وعُدُّوا أنفسَكمِ في الموتى وما أَشكل عليكم فردّوا عِلْمه إلى الله وقَدِّموا لأنفسكم خيراً تَجدوه مًحْضراً فإنه قال عَزٌ وجلّ: يَوْمَ تَجد كلُّ نَفْس ما عَمِلَتْ مِن خَيْرٍ مُحضَراً ومَا عَملت مِن سُوء تَوَدُّ لو أَنَّ بينها وبينه أَمَداً بَعيداَ ويُحذِّرَكم الله نفسَه والله رءُوف بالعِبَاد. فاتّقوا الله عبادَ الله وراقبوه واعتبروا بمَن مَضى قبلكم واعلموا إنه لا بُدّ من لقاء ربّكم والجزاء بأعمالكم صَغيرها وكَبيرها إلا ما غَفر الله أنه غَفور رحيم فأَنْفًسَكم أَنفسكم والمُستعانُ الله ولا حَولَ ولا قوّة إلّا بالله. إنً الله وملائكته يصلّون على النبيّ يأيها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلِّموا تَسْليَماَ. اللهم صَلِّ على محمدٍ عَبْدِك ورسولك أفضلَ ما صلَيت على أحدٍ من خلْقك وزَكِّنا بالصلاة عليه وأَلحقنا به وأحشُرنا في زمْرته وأَوْرِدْنا حوضَه. اللًهم أَعِنَّا عَلَى طاعتك وانصُرنا عَلَى عدوّك حمد الله وأثنى عليه ثم قال: أَوصِيكم بتقوى الله وان تُثْنُوا عليه بما هو أهلُه وأن تَخْلِطوا الرَّغبة بالرَّهبة وتَجمعوا الإلحافَ بالمَسألة فإنَّ الله أَثنىِ عَلَى زكريّا وعَلَى أهل بيته فقال: أنّهم كانوا يُسَارِعُون في الخَيْرَاتِ ويَدْعُوننا رَغَباَ وكانوا لنا خاشِعين. ثم اعلَموا عبادَ الله أن اللهّ قد ارتهن بحقه أنفسَكم وأَخذ عَلَى ذلك مواثيقَكم وعَوَّضكم بالقليل الفاني الكثيرَ الباقي وهذا كتابُ الله فيكم لا تَفْنى عجائبُه ولا يُطْفأ نورُه. فثِقوا بقوله وانتصحوا كتابَه واستبصروا به ليوم الظلمة فإنه خَلقكم لعبادته ووَكَل بكم الكرامَ الكاتبين يَعلمون ما تفَعلون. ثم اعلموا عبادَ الله أنكم تَغْدون وتَرُوحون في أجل قد غُيِّب عنكم عِلْمُه فإن استطعتم أن تنقضي الآجالُ وأنتم في عَمل الله ولن تَستطيعوا ذلك إلا بالله فسابقوا في مَهل بأعمالكم قبل أن تنقضي آجالكم فتردّكم إلى سُوء أعمالكم فإنَّ أَقواماً جعلوِا أجالَهم لغيرهم فأَنهاكم أن تكونوا أمثالَهم. فالوَحَى الوَحَى والنجاء النجاء فإن وراءكم طالباً حَثيثاً مَرُّه سريعاً سَيْرُه. خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال بعد أن حَمِد الله وأثنى عليه: أيها الناس تعلَّموا القرآن واعملوا به تكونوا من أهله إنه لم يبلغ حقّ مخْلوق أن يُطاع في معْصية الخالق. إلا وإني أنزلت نَفْسي من مال الله بمنزلة وإلَي اليتيم: إن استَغنيت عفَفْت وإن افتَقَرْت أكلْتُ بالمعروف تَقَرمَ البَهمة الأعرابية: القَضْم لا الخَضْم. وخطب أيضاً حمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس: مَن أراد أن يَسْأل عن القرآن فليأت أبي بن كعب ومَن أراد أن يَسْأل! عن الفرائض فَلْيأت زيدَ بن ثابت ومَن أراد أن يَسأل عن الفِقْه فَلْيأت مُعاذ بن جَبَل ومَن أراد أن يَسْأل عن المال فَلْيأتني فإن الله جعلني له خازناً وقاسماً. إني بادىء بأزواج رسول الله ﷺ فمُعطيهن ثم المهاجرين الأوَلين الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم أنا وأصحابي ثم بالأنصار الذين تَبؤَءوا الدارَ والإيمان مِن قبلهم ثم مَن أسرع إلى الهِجرة أسْرعَ إليه العطاء وجمَن أبطأ عن الهجرة أبطأ عنه العطاء. فلا يلومنً رجل إلا مُناخ راحلته. إني قد بَقيت فيكم بعد صاحبي فابتليتُ بكم وابتُليتم بي وإني لن يَحْضرني من أموركم شيء فأكِله إلى غير أهل الْجَزاء والأمانة فلئنْ أحسنوا لأحسننَ إليهم ولئنْ أساءُوا لاُ نكّلَنَ بهم. وخطب أيضاً فقال: الحمد لله الذي أعزَنا بالإسلام وأكرمنا بالإيمان ورَحمنا بنبيّه ﷺ فهدانا به من الضلالة وجَمعنا به من الشتات وألَّف بين قلوبنا ونَصرنا عَلَى عدوّنا ومكّن لنا في البلاد وجَعلنا به إخواناً مُتحابين. فاحَمدوا الله عَلَى هذه النّعمة واسألوه المَزيدَ فيها والشُكر عليها فإنَّ الله قد صَدقكم الوعدَ بالنَصر عَلَى مَن خالفَكم. وإياكم والعملَ بالمَعاصي وكُفْر النعمة فقلما كفر قوم بنعمة ولم يَنزعوا إلى التوبة إلا سُلبوا عزَهم وسُلط عليهِم عدوّهم. أيها الناس إنَ الله قد أعزّ دَعوة هذه الأمة وجَمع كلمتها وأظهر فَلَجها ونصَرها وشرَّفها فاحمدوه عبادَ الله عَلَى نِعمَه واشكروه عَلَى آلائه. جعلَنا الله وإياكم من الشاكرين. وخطبة له أيضاً أيها الناس إنه قد أتي عَلَيَّ زمان وأنا أرى أن قوماً يقرءون القرآن يُريدون به الله عزّ وجلّ وما عنده فخُيّل إليّ أن قوماً قَرَءوه يُريدون به الناس والدنيا. ألا فأريدوا الله بأعمالكم. ألا إنما كنا نعرفكم إذ يتنزَّل الوَحْي وإِذ رسول الله بين أظهرنا يُنبئنا من أخباركمٍ فقد انقطع الوَحْى وذهب النبي فإنما نعرفكم بالقَول. ألا مَن رأينا منْه خيراً ظنَنا به خيراً وأحببناه عليه ومَن رأينا منه شرّا ظنَنَا به شرّا وأبغضناه عليه. سرائركم بَينكم وبين ربكم. ألا وإني إنما أبعث عُمّالي ليُعلِّموكم دينكم وسُننكم ولا أبعثهم ليَضرِبوا ظهوركم ويأخذوا أموالَكم. ألا مَن رابه شيء من ذلك فَلْيرْفعه إليّ فوالذي نفسي بيده لاقُصَّنكم منه. فقامٍ عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين أرأيتَ إن بعثتَ عاملاً من عُمّالك فأدّب رجلاً من رعيَّتك فَضرَبه أتقصّه منه قال: نعم والذي نفَس عُمر بيده لأقصَّنه منه فقد رأيتُ رسولَ الله ﷺ يقصّ من نفسه. وخطب أيضاًً فقال أيها النّاس اتقوا الله في سَريرتكم وعَلانيتكم وَأْمروا بالمعروف وانهوا عن المُنكر ولا تكونوا مثلَ قوم كانوا في سَفينة فأقبل أحدُهم على مَوضعه يَخْرِقه فنَظر إليه أصحابهُ فمَنعوه فقال: هو مَوْضعي ولي أن أحْكم فيه. فإِن اخذوا عَلَى يده سَلِم وسَلِموا وإنْ تركوه هَلك وهَلكوا معه. وهذا مَثل ضربتُه لكم رحمنا اللهّ وإياكم. رحمه الله: حمد الله وأثنى عليه وصلى عَلَى نبيّه ثم قال: أيها الناس استغفروا ربكم إنه كان غفّاراً اللهم إني استغفرك وأتوب إليك. اللهم إنا نتقرب إليك بعمّ نبيّك وبقيّة آبائه وكِبار رجاله فإنك تقول وقولُك الحق: وأمّا الْجدَارُ فكانَ لغُلامينْ يَتِيميْن في المدينة وكانَ تَحْته كَنْز لهما وكان أَبُوهما صالحاً. فحفظتَهما لصلاح أبيهما فاحفظ اللهم نبيّك في عَمّه. اللهم أغفر لنا إنك كنت غفاراً. اللهم أنت الرّاعي لا تُهمل الضالّة ولا تدع الكَسيرة بمَضْيعة. اللهم قد ضَرع الصغير وَرَقّ الكبير وارتفعت الشكوى وأنت تعلم السرّ وأخْفى. اللهم أغِثْهم بغِياثك قبل أن يَقْنطوا فَيَهْلِكوا فإنه لا ييأس من رَوْحٍ اللهّ إلا القومُ الكافرون. فما برحوا حتى علَّقوا الحِذاء وقَلّصوا المآزر وطَفِق الناس بالعبّاس يقولون: هنيئاً لك يا ساقي الْحِرمين. خطب إذ ولي الخلافة صَعد المِنْبَر فحَمد اللهّ وأثنى عليه ثم قال: يأيها الناس إني داعٍ فأمِّنوا. اللهم إني غَليظ فَلَينِّي لأهل طاعتك بموافقة الحقّ ابتغاء وجهك والدار الآخرة و ارزقْني الغِلْظة والشدّة على أعدائك وأهل الدَّعارة والنِّفاق من غير ظُلم منّي لهمِ ولا اعتداء عليهم. اللهم إني شحيح فسَخِّني في نوائب المَعروف قَصْداً من غير سرف ولا تَبْذير ولا رياء ولا سُمعة واجعلني ابتغي بذلك وَجْهَك والدارَ الآخرًة. الَّلهم ارزقني خَفْض الْجَناح وَلين الجانب للمُؤمنين. اللهم إني كثيرُ الغَفْلة والنِّسيان فألْهمني ذِكرْك على كلّ حال وذِكرْ الموت في كلّ حين. اللهم إني ضعيف عند العمل بطاعتك فارزقني النشّاط فيها والقًوّة عليها بالنيّة الحسنة التي لا تكون إلا بعزّتك وتَوْفيقك. اللهم ثَبِّتني باليقين والبرّ والتَّقوى وذِكْر المَقام بين يديك والْحَياء منك وأرزقني الخُشوع فيما يُرْضيك عني والمُحاسبة لنفسي وصلاح النِّيات والحَذر من الشّبهات اللهم ارزقني التفكّر والتدبّر لما يتلوه لِساني من كتابك والفَهْم له والمَعرفة بمَعانيه والنّظر في عجائبه والعملَ بذلك ما بقيتُ إنك على كلّ شيء قدير. وكان آخرً كلام أبي بكر الذي إذا تكلَّم به عُرف أنه قد فرغ من خطبته: اللهم اجعل خيرَ زماني آخرًه وخيرَ عملي خواتمَه وخيرَ أيامي يومَ ألقاك.