الرئيسيةبحث

العقد الفريد/الجزء الثالث/17

فقال لعبد الله بن الزبير: ما ترى في بيعة يزيد قال: يا أمير المؤمنين إني أناديك ولا أناجيك إن أخاك من صدقك فانظر قبل أن تتقدم. وتفكر قبل أن تندم فإن النظر قبل التقدم والتفكر قبل التندم. فضحك معاوية وقال: ثعلب رواغ تعلمت السجع عند الكبر في دون ما سجعت به على ابن أخيك ما يكفيك. ثم التفت إلى الأحنف فقال: ما ترى في بيعة فلما كانت سنة خمس وخمسين كتب معاوية إلى سائر الأمصار أن يفدوا عليه. فوفد عليه من كل مصر قومُ. وكان فيمن وفد عليه من المدينة محمد بن عمرو بن حزم فخلا به معاوية وقال له: ما ترى في بيعة يزيد فقال: يا أمير المؤمنين ما أصبح اليوم على الأرض أحدٌ هو أحب إلي رشداً من نفسك سوى نفسي وإن يزيد أصبح غنياً في المال وسيطاً في الحسب وإن الله سائل كل راع عن رعيته فاتق الله وانظر مَن تولى أمرَ أمة محمد. فأخذ معاويةَ بَهْر حتى تنفّس الصُعداء وذلك في يوم شات ثم قال: يا محمد إنك امرؤ ناصحٌ قلت برأيك ولم يكن عليك إلا ذاك. ثم قال معاوية: إنه لم يَبق إلا ابني وأبناؤهم فابني أحبّ إليّ من أبنائهم اخرُج عني. ثم جلس معاويةُ في أصحابه وأذن للوفود فدخلوا عليه وقد تقدَّم إلى أصحابه أن يقولوا في يَزيد فكان أوَّلَ من تكلَّم الضحاكُ بن قيس فقال: يا أميرَ المؤمنين إنه لا بُد للناس مِن والٍ بعدك والأنفس يُغْدَى عليها ويًراح. وإن الله قال: كُلّ يومٍ هو في شَان. ولا ندري ما يختلف به العصرْان ويزيدُ ابن أمير المؤمنين في حُسن مَعْدِنه وقَصْد سيرته من أفضلنا حِلما وأحكمنا عِلماً فولّه عهدك واجعله لنا عَلماً بعدك. وإنّا قد بَلَونا الجماعةَ والُألفة فوجدناه أحقن للدماء وآمَن للسُّبل وخيراً في العاجلة والآجلة. ثم تكلَّم عمرو بن سَعيد فقال: أيها الناس إن يزيدَ أملٌ تأمُلونه وأجل تأمنونه طويل الباع رَحْب الذراع إذا صِرْتم إلى عَدله وَسِعكم وإِن طلبتم رِفْده أغناكم جَذَع قارح سُوبق فسَبق ومُوجِد فمَجَد وقُورعِ فقَرع خلف من أمير المؤمنين ولا خَلف منه. فقال: اجلس أبا أمية فلقد أوسعت وأحسنت. ثم قام يزيد بن المُقفّع فقال: أمير المؤمنين هذا وأشار إلى معاوية فإن هلك فهذا وأشار إلى يزيد فمن أي فهذا وأشار إلى سيفه. فقال معاوية: اجلس فإنك سيّد الخطباء. ثم تكلم الأحنف بن قيس فقال: يا أميرَ المؤمنين أنت أعلم بيزيد في ليله ونهاره وسره وعَلانيته ومَدخله ومَخرجه فإن كنت تَعلمه لله رضا ولهذه الأمة فلا تُشاور الناسَ فيه وإن كنت تعلم منه غيرَ ذلك فلا تُزوّده الدنيا وأنت تذهب إلى الآخرة. قال: فتفرّق الناس ولم يذكروا إلا كلامَ الأحنف. قال: ثم بايع الناسُ ليزيد بن معاوية فقال رجل وقد دُعي إلى البيعة: اللهم إني أعوذ بك من شر معاوية. فقال له معاوية: تَعوذ من شر نفسك فإنه أشدّ عليك وبايعْ. قال: إني أبايع وأنا كاره للبَيعة. قال له معاوية: بايع أيها الرجل فإن الله يقول: " فعَسى أن تَكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً ". ثم كتب إلى مروان بن الحكم عامِله على المدينة: أن ادْعُ أهلَ المدينة إلى بيَعة يزيد فإن أهل الشام والعِراق قد بايعوا. فخطبهم مروان فحضّهم على الطاعة وحَذّرهم الفِتنة ودعاهم إلى بيَعة يزيد وقال: سُنه أبي بكر الهادية المهْديَة. فقال له عبدُ الرحمن بن أبي بكر: كذبْتَ! إن أبا بكر ترك الأهل والعشيرة وبايع لرجل من بني عَدي رضي دينَه وأمانته واختاره لُأمة محمد صلى الله عليه وسلم. فقال مروان: أيها الناس إن هذا المُتكلم هو الذي أنزل الله فيه: " والذي قالَ لوالدَيْه أُفٍّ لكما أتعِدَانني أن أُخْرَج وقد خَلَت القُرونُ من قَبلي ". فقال له عبدُ الرحمن: يا بن الزرقاء أفينا تتأوَل القرآن! وتكلّم الحُسين بن علي وعبدُ الله بن الزبير وعبدُ الله بن عمرَ وأنكروا بيعةَ يزيد وتفرّق الناس. فكتب مروان إلى معاوية بذلك. فخرج معاويةُ إلى المدينة في ألف فلما قَرُب منها تلقَاه الناس فلما نظر إلى الحُسين قال: مرحباً بسيّد شباب المسلمين قرّبوا دابّةً لأبي عبد اللهّ. وقال لعبد الرحمن بن أبي بكر: مرحبَاَ بشيخ قريش وسيّدها وابن الصدّيق. وقال لابن عمر: مرحباً بصاحب رسول الله وابن الفاروق. وقال لابن الزُبير: مرِحباً بابن حواريّ رسول الله ﷺ وابن عمته ودعا لهم بدواب فَحملهم عليها. وخرج حتى أتى مكة فقضى حَجَّه ولما أراد الشُّخوص أمر بأثقاله فقدِّمت وأمر بالمِنبر فقرب من الكعبة وأرسل إلى الحُسين وعبد الرحمن بن أبي بكر وابن عمر وابن الزُبير فاجتمعوا. وقالوا لابن الزبير: اكفنا كلامه فقال: علَى أن لا تُخالفوني. قالوا: لك ذلك ثم أتوا معاويةَ فرحّب بهم وقال لهم: قد علمتم نَظري لكم وتَعطُّفي عليكم وصِلتي أرحامَكم ويزيدُ أخوكم وابنُ عَمكم وإنما أردتُ أن أُقدمه باسم الخلافة وتكونوا أنتم تأمرِون وتَنْهون. فسكتوا وتكلّم ابنُ الزبير فقال: نخيرك بينِ إحدى ثلاث أيّها أخذت فهي لك رغبة وفيها خِيار: فإن شئت فاصنع فينا ما صنع رسولُ الله ﷺ قَبضه الله ولم يَسْتخلف فدع هذا الأمرَ حتى يختارَ الناسُ لأنفسهم وإن شئت فما صنع أبو بكر عَهد إلى رجل من قاصية قُريش وتَرك مِن ولده ومن رهطه الأدْنين مَن كان لها أهلاً وإن شئت فما صَنع عمر صيرها إلى ستة نفر من قُريش يختارون رجلاً منهم وترك ولده وأهلَ بيته وفيهم من لو وَليها لكان لها أهلَاَ. قال معاوية: هل غيرُ هذا قال: لا. ثم قال للآخرين: ما عندكم قالوا: نحن على ما قال ابنُ الزبير. فقال معاوية: إني أتقدّم إليكم وقد أعذر من أنذر إني قائل مقالة فأُقسم باللهّ لئن رَدّ عليً رجلٌ منكم كلمة في مَقامي هذا لا تَرْجع إليه كَلِمته حتى يُضرب رأسُه فلا ينظر امرؤ منكم إلا إلى نفسه ولا يُبقى إلا عليها. وأمر أن يقوم على رأس كُلِّ رجل منهم رجلاًن بسَيفيْهما فإن تكّلَم بكلمة يَرُدّ بها عليه قولَه قتلاه. وخرج وأخرجهم معه حتى رَقي المِنبر وحَفّ به أهل الشام واجتمع الناسُ فقال بعد حمد الله والثناء عليه: إنا وجدنا أحاديث الناس ذاتَ عَوار قالوا: إن حًسيناً وابن أبي بكر وابن عمرِ وابن الزّبير لم يُبايعوا ليزيد وهؤلاء الرهط سادةُ المسلمين وخيارُهم لا نبرم أمراً دونهم ولا نقضي أمراً إلا عن مشورتهم وإني دعوتُهم فوجدتهم سامعين مُطيعين فبايعوا وسَلّموا وأطاعوا. فقال أهلُ الشام: وما يَعْظُم من أمر هؤلاء ائذن لنا فنضربَ أعناقهم لا نرضى حتى يُبايعوا علانيةً! فقال معاوية: سبحان اللهّ! ما أسرعَ الناسَ إلى قُريش بالشرّ وأحلى دماءَهم عندهم! أنصتوا فلا أسمع هذه المقالة من أحد. ودعا الناسَ إلى البيعة فبايعوا. ثم قربت رواحله فركب ومضى. فقال الناس للحُسين وأصحابه: قلتم: لا نُبايع فلما دُعيتم وأُرضيتم بايعتم! قالوا لم نَفعل. قالوا: بلى قد فعلتم وبايعتم أفلا أنكرتم! قالوا: خِفنا القتل وكادكم بنا وكادنا بكم. وفاة معاوية عن الهيثم بن عديّ قال: لما حَضرت معاويةَ الوفاةُ ويزيدُ غائب دعا الضحاكَ بن قيس الفِهريَّ ومُسلم بن عُقبة المُرّيِّ فقال: أبلغا عنّي يزيد وقُولا له: انظُر إلى أهل الحِجاز فهم أصلُك وعِتْرتك فمن أتاك منهم فأكرمه ومَن قَعد عنك فتعاهدْه. وانظر أهلَ العراق فإن سألوك عَزْل عامل في كل يوم فاعْزِله فإنّ عَزْلَ عامل واحد أهونُ من سَلِّ مائة ألف سيف ولا تَدري على من تكون الدائرة ثم انظر إلى أهل الشام فاجعلهم الشِّعار دون الدَثار فإن رابك من عدوّك رَيْب فارمه بهم ثم اردُد أهلَ الشام إلى بَلدهم ولا يُقيموا في غيره فيتأدّبوا بغير أدبهم. لستُ أخاف عليك إلا ثلاثة: الحُسينَ بن عليّ وعبدَ الله بن الزّبير وعبدَ الله بن عمر. فأما الحُسين بن عليّ فأرجو أن يَكفيكه الله فإنه قَتل أباه وخَذل أخاه وأما ابنُ الزُبير فإنه خَبّ ضَبّ وإن ظَفرت به فقَطِّعه إرْباً إرْباً وأما ابنُ عمر فإنه رجل قد وَقذه الورع فخل بينه وبين آخرته يُخل بينك وبين دُنياك. ثم أخرج إلى يزيدَ بريداً بكتاب يَستقدمه ويستحثّه. فخرج مُسرعاً. فتلقاه يزيد فأخبره بموت مُعاوية فقال يزيد: جاء البريدُ بقرطاس يَخُبّ به فأوجَس القلبُ من قرطاسه فَزَعَا قُلنا لك الويلُ ماذا في صَحيفتكم قالوا الخليفةُ أمسى مُثْبَتاً وَجِعا فمادت الأرضُ أو كادت تَميد بنا كأنّ أغبرَ من أركانها انقلعا ثم انبعَثنا إلى خوصٍ مُزممة نرمي العَجاج بها ما نأتلي سرعا فما نُبالي إذا بَلغْن أرْحُلَنا ما مات منهن بالمَوْماة أو ظَلعا أوْدَى ابنُ هِنْد وأودَى المجدُ يَتْبعه كذاك كُنا جميعاً قاطنين معا أغرّ أبلجُ يستسقى الغمام به لو قارع الناسَ عن أحلامهم قَرعا ا يَرقع الناس ما أوهى ولو جَهدوا أن يَرْقعوه ولا يُوهون ما رَقَعا قال محمدُ بن عبد الحكم: قال الشافعيْ: سَرق هذين البيتين من الأعشى. ابن دأب قال: لما هَلك معاويةُ خَرج الضحاكُ بن قيس الفِهْريّ وعلى عاتقه ثيابَ حتى وقف إلى جانب المِنبر ثم قال: أيها الناس إن معاوية كان إلْف العرب ومَلِكَها أطفأ اللهّ به الفِتْنة وأحيا به السُّنة وهذه أكفانه ونحن مدْرجوه فيها ومخُلون بينه وبين ربه فمن أراد حُضوره صلاة الظُهر فَلْيَحْضُره. وصلّى عليه الضحاك بن قيس الفِهْرِيّ. ثم قدم يزيدُ من يومه ذلك فلم يَقْدَم أحدٌ على تَعْزيته حتى دخل عليه عبدُ الله بن هَمّام السَّلولي فقال: اصْبر يزيدُ فقد فارقتَ ذا مقَةٍ واشكُر حِباء الذي بالمُلك حَاباكا لا رُزْءَ أعظمُ في الأقوام قد عَلموا مما رُزئت ولا عُقْبى كعُقباكا أصبحتَ راعيَ أهل الأرض كُلًهمُ فأنتَ ترعاهمُ والله يرَعاكا وفي مُعاويةَ الباقي لنا خلفٌ إذا بَقيتَ فلا نَسْمع بمنَعاكا فافتتح الخُطباء الكلام. ثم دخل يزيد فأقام ثلاثةَ أيام لا يخرج للناس ثم خرج وعليه أثرُ الحزن فَصعِد المِنبر وأقبل الضحَّاك فجلس إلى جانب المنبر وخاف عليه الحَصرَ. فقال له يزيد: يا ضحاك أجئتَ تعلم بني عبد شمس الكلام! ثم قام خطيباً فقال: الحمدُ لله الذي ما شاء صَنع مَن شاء أعطى ومَن شاء مَنع ومَن شاء خَفض ومن شاء رَفع. إنّ مُعاوية بن أبي سُفيان كان حَبلاً من حبال الله مدّه الله ما شاء أن يَمُدّه ثم قَطعه حين شاء أن يقطعه فكان دون مَن قَبله وخيراً ممن يأتي بعده ولا أزكيه وقد صار إلى ربّه فإن يَعفُ عنه فبِرَحْمته وإن يُعذبه فبِذَنبه. وقد وَليتُ بعده الأمرَ ولستُ أعتذر من جهل ولا أنِي عن طلب وعلى خلافة يزيد بن معاوية ونسبه وصفته هو يزيد بن مُعاوية بن أبي سُفيان بن حَرب بن أُمية بن عبد شَمس بن عبد مناف. وأُمه مَيْسون بنت بَحْدل بن أُنيف بنِ دلجة بنِ قُنافة أحد بني حارثة بن جَناب. وكنيته أبو خالد وكان آدمَ جعداً مَهْضوماً أحورَ العين بوجهه آثار جُدريّ حسنَ الِّلحية خَفِيفَها وَلي الخلافة في رجب سنة ستين ومات في النِّصف من شهر ربيع الأول سنة أربع وستّين ودُفن بحُوَارين خارجاً من المدينة. وكانت ولايته أربع سنين وأياماً. وكان على شرُطته حُميد بن حُرَيث بن بَحْدل. وكاتبه وصاحب أمره سرجون بن منصور. وعلى القضاء أبو إدريس الخَوْلاني. وعلى الخراج مَسلمة بن حديدة الأزْدي. أولاد يزيد: معاوية وخالد وأبو سُفيان وأمهم فاختةُ بنت بي هاشم بن عُتبة بن ربيعة وعبدُ الله وعمرو أمهما أم كلثوم بنت عبد الله بن عبّاس. وكان عبدُ الله ولدُه ناسكاً وولدُه خالد عالماً لم يكن في بني أمية أزهدَ من هذا ولا أعلم من هذا. الأصمعي عن أبي عمرو قال: أعرق الناس في الخلافة عاتكة بنت يزيد ابن معاوية بن أبي سفيان أبوها خليفة وجدّها معاوية خليفة وأخوها مُعاوية بن يزيد خليفة وزوجها عبدُ الملك بن مروان خليفة وأرِباؤها: الوليدُ مقتل الحسين بن علي علِيّ بن عبد العزيز قال: قرأ عليّ أبو عُبيد القاسم بن سلّام وأنا أسمع فسألتُه: نروي عنك كما قُرىء عليك قال: نعم. قال أبو عُبيد: لما مات مُعاوية بن أبي سفيان وجاءت وفاتُه إلى المدينة وعليها يومئذ الوليدُ بن عُتبة فأرسل إلى الحُسين بن عليّ وعبدِ الله بن الزُّبير فدعاهما إلى البيعة ليزيد فقالا: بالغد إن شاء الله على رؤوس الناس وخرجا من عنده. فدعا الحسينُ برواحله فركبها وتوجّه نحو مكة على المَنهج الأكبر وركب ابنُ الزبير بِرْذونا له وأخذ طريق العَرْج حتى قدم مكة. ومرّ حسينُ حتى أتى على عبد الله بن مُطيع وهو على بئر له فنزل عليه فقال للحسين: يا أبا عبد الله لا سَقانا اللهّ بعدَك ماءً طيباً أين تريد قال: العراق. قال: سبحان الله! لمَ قال: مات معاويةُ وجاءني أكثرُ من حِمْل صُحف. قال: لا تفعل أبا عبد اللهّ فوالله ما حَفظوا أباك وكان خيراً منك فكيف يِحفظونك ووالله لئن قُتلت لا بَقيتْ حُرْمة بعدك إلا استُحّلت. فخرج حسين حتى قَدِم مكة فأقام بها هو وابنُ الزبير. قال: فقدم عمرو بنُ سعيد في رمضان أميراً على المدينة والموسم وعُزل الوليد بن عُتبة. فلما استوى على المنبر رَعَف. فقال أعرابيّ: مه! جاءنا واللهّ بالدم! قال: فتلقّاه رجل بعمامته. فقال: مه! عًمّ الناسَ والله! ثم قام فخطب فناولوه عصاً لها شُعبتان. فقال: تشعَّب الناسُ والله! ثم خرج إلى مكة فقَدِمها قبل يوم التَّروية بيوم ووفدت الناسُ للحُسين يقولون: يا أبا عبد الله لو تقدَّمت فصلّيت بالناس فأنزلتَهم بدارك إذ جاء المؤذّن فأقام الصلاة فتقدّم عمرو بن سعيد فكَبّر فقيل للحُسين: اخرج أبا عبد الله إذ أبيت أن تتقدّم. فقال: الصلاة في الجماعة أفضل. قال: فصلّى ثم خرج. فلما انصرف عمرو بنُ سعيد بلغه أن حُسيناً قد خرج. فقال: اطلبوه اركبوا كل بعير بين السماء والأرض فاطلُبوه. قال: فعجب الناسُ من قوله هذا فطلبوه فلم يُدركوه. وأرسل عبدُ الله بن جعفر ابنيه عوناً ومحمداً ليردّا حُسينا. فأبى حُسين أن يرجع. وخرج ابنا عبد الله بن جعفر معه. ورجع عمرو بنُ سعيد إلى المدينة وأرسل إلى ابن الزبير ليأتيَه فأبى أن يأتيَه. وامتنع ابنُ الزبير برجال من قُريشٍ وغيرهم من أهل مكة. قال: فأرسلَ عمرو بنُ سعيد لهم جيشاً من المدينة وأمًر عليهم عمرو بنَ الزبير أخا عبد الله بن الزبير وضَرب على أهل الديوان البَعْث إلى مكة وهم كارهون للخروج فقال: إما أنْ تأتوني بأدلاَء وإما أن تَخرجوا. قال: فبعثهم إلى مكة فقاتلوا ابن الزبير فانهزم عمرو بنُ الزبير وأسره أخوه عبدُ الله فحبَسه في السجن. وقد كان بَعَث الحُسين بن عليّ مسلمَ بن عَقيل بن أبي طالب إلى أهل الكوفة ليأخذ بَيعتهم وكان على الكوفة حين مات معاوية فقال: يا أهل الكوفة ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبّ إلينا من ابن بنت بحَدل. قال: فبلِغ ذلك يزيدَ فقال: يا أهل الشام أشيروا عليّ مَن استعمل على الكوفة فقالوا: ترضى من رَضي به معاويةُ قال: نعم. قيل له: فإنّ الصكّ بإمارة عُبيد الله بن زياد على العراقين قد كُتب في الديوان فاستَعْمِلْه على الكوفة. فقَدِمها قبل أن يَقْدم حُسين. وبايع مُسلمَ بن عَقيل أكثرُ من ثلاثين ألفاً من أهل الكوفة وخرجوا معه يريدون عُبيدَ الله بن زياد فجعلوا كلما انتهوا إلى زُقاق انسلّ منهم ناس حتى بقي في شرذمة قليلة. قال: فجعل الناسُ يَرْمونه بالآجُر من فوق البيوت. فلما رأى ذلك دَخل دار هانىء بن عُروة المُراديِّ وكان له شَرَف ورأي فقال له هانيء: إنَ لي من ابن زياد مكاناً وإني سوف أتمارض فإذا جاء يَعودني فاضْرِب عنقه. قال: فبلغ ابنَ زياد أن هانيء بن عُروة مريضٌ يقيء الدم وكان شرَب المَغْرة فجعل يَقيؤها فجاءه ابنُ زياد يعوده. وقال هانيء: لا قلت لكم: اسقوني فاخرُج إليه فاضرب عنقه يقولها لمُسلم ابن عقيل. فلما دخل ابنُ زياد وجلس قال هانيء: اسقوني فَتثبّطوا عليه. فقال: ويحكم! اسقوني ولو كان فيه نفسي. قال: فخرج ابنُ زياد ولم يَصنع الآخر شيئاً. قال: وكان أشجعَ الناس ولكن أُخذ بقَلْبه. وقيل لابن زياد ما أراده هانيء فأرسل إليه. فقال: إني شاكٍ لا أستطيع. فقال: أئتوني به وإن كان شاكياً. فأُسرجت له دابة فركب ومعه عصا وكان أعرج فجعل يسير قليلاً قليلاً ثم يقف ويقول: ما أذهبُ إلى ابن زياد حتى دخل على ابن زياد فقال له: يا هانيء أما كانت يدُ زياد عندك بيضاء قال: بلى. قال: ويدي قال: بلى. ثم قال له هانيء: قد كانت لك عندي ولأبيك وقد أمنْتُك في نفسي ومالي. قال: اخرج فخرج. فتناول العصا من يده وضرب بها وجهه حتى كَسرها ثم قَدّمه فضرب عُنقه. وأُرسل إلى مُسلم بن عَقيل فخرج إليهم بسيفه فما زال يقاتلهم حتى أثْخنوه بالجراح فأسروه. وأُتي به ابنَ زياد فقدّمه ليضرب عنقَه فقالت له: دَعْني حتى أُوصي فقال له: أَوْص. فنظر في وجوه الناس فقالت لعمر بن سعد: ما أرى قرشيّاً هنا غيرَك فادْن مني حتى أُكَلِّمَك. فدنا منه فقال له: هل لك أن تكون سيّد قريش ما كانت قريش إنّ حُسيناً ومَن معه وهم تِسْعون إنساناً ما بين رجل وامرأة في الطريق فاردُدهم واكتب لهم ما أصابني ثم ضُرب عنقه. فقال عمر لابن زياد: أتدري ما قال لي قال: اكتُم على ابن عمك. قال: هوِ أعظم من ذلك. قال: وما هو قال: قال لي: إنّ حُسينا أقبل وهم تسعون إنساناَ ما بين رجل وامرأة فاردُدهم واكتُب إليه بما أصابني. فقال له ابنُ زياد: أما والله إذ دَللتَ عليه لا يُقاتله أحد غيرك. قال: فبعث معه جَيْشاً وقد جاء حسيناً الخبرُ وهم بشَرَاف فهمّ بأن يرجعِ ومعه خمسةٌ من بني عَقيل فقالوا: تَرجع وقد قُتل أخونا وقد جاءك من الكُتب ما نثق به! فقال الحسينُ لبعض أَصحابه: والله مالي على هؤلاء من صَبر. قال: فلقيه الجيشُ على خُيولهم وقد نزلوا بكَرْبلاء. فقال حسين: أي أرض هذه قالوا: كَرْبلاء قال: أرض كَرْب وبلاء. وأحاطت بهم الخَيل. فقال الحُسين لعمر بن سعد: يا عمر اختر منّي إحدى ثلاث خِصال: إما أن تتركني أرجع كما جئتُ وإما أن تُسيِّرني إلى يزيد فأضع يدي في يده وإمّا أن تسيرني إلى الترك أقاتلهم حتى أموت. فأرسل إلى ابن زياد بذلك فهمّ أن يُسيره إلى يزيد. فقال له شَمِر بن ذي الجَوْشن: أمكنك الله من عدوّك فتسيّره! إلّا أن ينزل في حُكمك. فأرسل إليه بذلك. فقال الحسين: أنا أنزل على حُكم ابن مَرْجانة! والله لا أفعل ذلك أبداً. قال: وأبطأ عمر عن قِتاله. فأرسل ابنُ زياد إلى شَمِر بن ذي الجَوشن وقال له: إن تقدّم عمر وقاتَل وإلا فاتركه وكُن مكانه. قال: وكان مع عمر بن سعد ثلاثون رجلاً من أهل الكوفة فقالوا: يَعرض عليكم ابنُ بنت رسول الله ﷺ ثلاثَ خصال فلا تَقْبلون منها شيئاً! فتحَولوا مع الحُسين فقاتلوا. ورأى رجل من أهل الشام عبد الله بن حسن بن عليّ وكان من أجمل الناس فقال: لأقتلن هذا الفتى. فقال له رجل: ويحك! ما تصنع به دعه. فأبى وحمل عليه فضرَبه بالسيف فقتله فلما أصابته الضربة قال: يا عمّاه قال: لبّيك صوتاً قَل ناصرُه وكَثر واتره. وحمل الحُسين على قاتله فقطع يَده ثم ضَربه ضربةً أخري فقَتله ثم اقتتلوا. عليّ بن عبد العزيز قال: حدّثني الزبير قال حدّثني محمد بن الحسن قال: لما نَزل عمر بنُ سعد بالحُسين وأيقن أنهم قاتلوه قام في أصحابه خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: قد نَزل بي ما تَرَوْن من الأمر وإنّ الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت وأدبر معروفُها واشمعلّت فلم يبق منها إلا صُبابة كصُبابة الإناء الأخْنس عيش كالمرْعى الوبيل. ألا تَرون الحقّ لا يُعمل به والباطلَ لا يُنهى عنه لِيرغب المؤمنُ في لقاء الله فإني لا أرى الموتَ إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا ذُلا ونَدَما. قُتل الحسينُ رضي الله عنه يوم الجمعة يوم عاشوراء سنة إحدى وستين بالطف من شاطىء الفرات بموضع يدعى كَربلاء. وولد لخمس ليالٍ من شعبان سن أربع من الهِجرة. وقُتِل وهو ابن سِتٍّ وخمسين سنة وهو صابغٌ بالسواد قَتله سِنان بن أبي أنس وأجهز عليه خولةُ بن يزيد الأصْبحِي من حِمْير. وحَز رأسه وأتى به عُبيد الله وهو يقول: أوْقِر رِكابي فِضّةً وذَهبَا أنا قتلتُ المَلِك المُحجّبَا خيرَ عباد اللهّ أمّا وأبَا فقال له عبيدُ الله بن زياد: إذا كان خير الناس أمَّا وأبَا وخير عباد اللهّ فلِمَ قتلتَه قَدّموه فاضربوا عنقه فضُربت عنقه. رَوْح بن زِنْباع عن أبيه عن الغاز بن ربيع الجُرشي قال: إني لعند يزيدَ ابن معاوية إذا أقبل زَحْر بن قيس الجُعفي حتى وقف بين يَدَي يزيد فقال: ما وراءك يا زَحرِ! فقال: أبشرّك يا أمير المؤمنين بفَتح الله ونَصره قَدِم علينا الحُسين في سبعةَ عشرَ رجلاً من أهل بيته وستين رجلاً من شيعته فبَرزنا إليهم وسألناهم أن يَسْتسلموا وينزلوا على حُكم الأمير أو القتال فأبوا إلا القتال فغدونا عليهم مع شُروق الشمس فأحطنا بهم من كل ناحية حتى أخذت السيوفُ مأخَذَها من هام الرجال فجَعلوا يلوذون منّا بالآكام والحُفر كما يلوذ الحَمام من الصَقر فلم يكنَ إِلا نَحر جَزور أو قَوم قائم حتى أتينا على أخرهم فهاتيك أجسامَهم مُجزَّرة وهامَهم مُرمَلة وخدودَهم مُعفَّرة تَصهرُهمِ الشمس وتَسفي عليهم الريحُ بقاع سَبْسب زوارهم العِقْبان والرخم. قال: فَدمعت عينا يزيد وقال: لقد كنت أقنع من طاعتكم بدون قتل الحُسين لعن اللهّ ابنَ سُمية! أما والله لو كنتُ صاحبَه لتركتُه رحم الله أبا عبد الله وغَفر له.