الرئيسيةبحث

العقد الفريد/الجزء الثالث/11


كتاب العسجدة الثانية في الخلفاء وتواريخهم وأيامهم

قال الفقيه أبو عمر أحمدُ بن محمد بن عبد ربّه رحمه الله: قد مَضى لنا قولُنا في التوقيعات والفصول والصدور والكتابة وهذا كتاب ألفناه في أخبار الخلفاء وتواريخهم وأيامهم وأسماء كُتّابهم وحجابهم.

أخبار الخلفاء

نسب المصطفى صلى الله عليه وسلم

رَوى أبو الحسن عليّ بن محمد بن عبد الله بن أبي سيف عن أشياخه: هو محمدٌ رسول الله ﷺ ابن عبد الله بن عبد المُطلب بن هاشم ابن عبد مَناف بن قُصيّ بن كِلاَب بن مُرة بن كعب بن لُؤيّ بن غالب بن فِهْر بن مالك بن النَّضْر بن كِنانة بن خُزيمة بن مُدْرِكة بن اليأس بن مُضر بن نزار بن مَعد بن عَدْنان. وأمه آمنةُ بنت وهب بن عبد

مولد النبي صلى الله عليه وسلم

قالوا: وُلد رسول الله ﷺ عام الفيل لاثنتي عشرةَ ليلةً خلت من ربيع الأول. وقال بعضُهم: لليلتين خَلَتا منه. وقال بعضُهم: بعد الفِيل بثلاثين يومًا. فهذا جَمع ما اختلفوا فيه عن مولده. وأوحى الله إليه وهو ابن أربعين عاماً. وأقام بمكة عشرًا وبالمدينة عشرا. وقال ابن عبّاس: أقام بمكة خمسَ عشرَة وبالمدينة عشرا. والمُجمع عليه أنه أقام بمكة ثلاثَ عشرةَ وبالمدينة عشرا. اليوم والشهر الذي هاجر فيه ﷺ - هاجر إلى المدينة يومَ الاثنين لثلاث عشرة خلت من ربيع الأول. ومات يومَ الاثنين لثلاثَ عشرةَ خلت من ربيع الأول اليوم والشهر الذي هاجر فيه ﷺ. جعلنا الله ممن يرد حوضَه وينال مُرافقته في أعلى عِليين من درجات الفِرْدوس وأسأل الله الذي جعلنا من أمته ولم نَره أن يتوفّانا على مِلّته ولا يَحْرمنا رُؤْيته في الدُّنيا والآخرة.

صفة النبي صلى الله عليه وسلم

رَبيعة بن أبي عبد الرحمن عن أنس بن مالك قال: كان رسولُ اللهّ ﷺ أبيضَ مُشرباً حُمرة ضَخم الرأس أزجَّ الحاجبين عظيمَ العينين أدعجَ أهدبَ شثْن الكّفين والقدمين. إذا مشى تكفّأ كأنما ينحطّ من صَبَب ويَمْشي في صُعد كأنما يتقلّع من صَخر. إذا التفت التفت جميعا. ليس بالجَعْد القَطَط ولا السَّبْط. ذا وَفْرة إلى شحمة أُذنيه. ليس بالطَّويل البائن ولا بالقصير المُتطامن. عَرْفه أطيبُ من المسك الَأذْفر. لم تَلد النساءُ قبله ولا بعده مثلَه. بين كَتفيهَ خاتَمُ النبوّة كبَيضة الحمَامة. لا يَضْحك إلا تَبسُّماً. في عَنْفقته شعرات بيض لا تكاد تبين. وقال أنس بن مالك: لم يبلغ الشيبُ الذي كان برسول اللهّ ﷺ عشرين شِعرة. وقيل له: يا رسول الله عجّل عليك الشيّب. قال: شَيَّبتني هودٌ وأخواتُها.

هيئة النبي وقعدته صلى الله عليه وسلم

كان ﷺ يأكل على الأرض ويجلس على الأرض ويمشي في الأسواق ويلبس العَبَاءة ويُجالس المساكين ويَقْعد القُرفصاء ويتوسّد يدَه ويلْعق أصابعَه ولا يأكل مُتَّكئا ولم يُرقطُّ ضاحكاً مِلْء فيه. وكان يقول: إنما أنا عبد آكلُ كما يأكل

شرف بيت النبي صلى الله عليه وسلم

قال النبي ﷺ: أنا سيّد البَشر ولا فَخْر وأنا أفصحُ العرب وأنا أوّل مَن يَقرع بابَ الحنة وأنا أول من يَنشقّ عنه التراب. دعا لي إبراهيم وبشرّ بي عيسى ورأت أمي حين وَضعتني نُورًا أضاء لها ما بين المَشرق والمغرب. وقال ﷺ: إنّ الله خَلق الخَلْق فجعلني في خير خَلْقه وجعلهم فِرَقاً فجعلني في خَيرهم فِرْقة وجعلهم قبائل فجعلني في خير قبيلة وجعلهم بُيوتا فجعلني في خَير بيت فأنا خيرُكم بيتاً وخيرُكم نَسبا. وقال ﷺ: أنا ابن الفواطم والعَواتك من سُليم واستُرضعتُ في بني سعد بن بكر. وقال: نَزل القرآن بأعرب اللّغات فلكل العرب فيه لغة ولبني سَعد بن بكر سبعُ لغات. وبنو سعد ابن بكر بن هوازن أفصحُ العرب فهم من الأعجاز وهي قبائلُ من مُضر متفرقة وكانت ظِئْرَ النبيّ ﷺ التي أرضعتْه حليمةُ بنت أبي ذُؤيب من بني ناصرة بن قصيّة بن نصر بن سَعد بن بكر بن هوازن. وإخوته في الرّضاعة: عبد اللهّ بن الحارث وأنيسة بنت الحارث وخِذامة بنت الحارث وهي التي أتى بها النبيّ ﷺ في أَسْرى حُنين فَبسط لها رداءه ووهب لها أَسرى قومها. والعواتك من سُليم ثلاث: عاتكة بنت مُرّة ابن هلال ولدت هاشماَ وعبدَ شمس ونوفلاً وعاتكة بنت الأوقص بن هلال ولدت وَهْب بن عبد مناف بن زهرة وعاتكة بنت هِلٍال بن فالج. وقال عليّ للأَشعث إذ خَطب إليه: أَغرّك ابن أبي قُحافة إذ زَوَّجك أمّ فَروَة وإنها لم تكن من الفواطم من قُريش ولا العواتك من سُلَيم.

أبو النبي صلى الله عليه وسلم

عبدُ الله بن عبد المُطّلب ولم يكن له ولدُ غيرًه ﷺ وتُوفي وهو في بَطن أمه. فلما وُلد كَفله جدُّه عبدُ المًطلب إلى أن توفِّي فكَفله عمُّه أبو طالب وكان أخا عبد اللهّ لأمه وأبيه فمن ذلك كان أشفقَ أعمام النبيّ ﷺ وأَوْلاهم به. وأمّا أعمام النبيّ ﷺ وعَمّاته فإنّ عبد المطلب بن هاشم كان له من الولد لصُلبه عشرة من الذُّكور وستّة من الإناث. وأسماء بنيه: عبدُ اللهّ والد النبيّ عليه الصلاة والسلام والزبير وأبو طالب واسمه عبدُ مَناف والعبّاس وضِرار وحَمزة والمُقوِّم وأبو لهَب واسمه عبد العُزّى والحارث والغَيداق واسمه حجل وقال نَوفل. وأسماء بناته عمّات النبيّ ﷺ: عاتكة والبَيضاء وهي أم حكيم و بَرة وأميمة وأروى وصَفيّة.

ولد النبي صلى الله عليه وسلم

وُلد له من خَديجة: القاسمُ والطيب وفاطمةُ وزَينب ورُقَية

أزواجه صلى الله عليه وسلم

أولهن خديجةُ بنت خُويلد بن أسد بن عَبْد العُزى ولم يتزوج عليها حتى ماتت. ثم تزوِّج سَوْدة بنت زَمْعة وكانت تحت السكران بن عمرو وهو من مهاجرة الحَبشة فمات ولم يُعقب فتزوجها النبيُّ ﷺ بعده. ثم تزوّج عائشةَ بنت أبي بكر بِكراً ولم يتزوّج بِكرًا غيرها وهي ابنة ستّ وابتنى عليها ابنة تسع وتُوفي عنها وهي ابنة ثمانِ عشرةَ سنة وعاشت بعده إلى أيام معاوية وماتت سنة ثمان وخمسين وقد قاربت السبعين ودُفنت ليلاً بالبقيع وأوصت إلى عبد الله بن الزًبير. وتزوَّج حفصةَ بنت عمرَ بن الخطاب وكانت تحت خُنيس بن حُذافة السَّهمي وكان رسولُ اللهّ ﷺ أرسله إلى كِسرى ولا عَقِب له. ثم تزوج زينَبَ بنت خُزيمة من بني عامر بن صعصعة وكانت تحت عُبيدة بن الحارث ابن عبد المطلب أول شهيد كان ببدر. ثم تزوّج زينب بنت جَحش الأسدية وهي بنت عمة النبيّ ﷺ وهي أوّل مَن مات من أزواجه في خلافة عُمر. ثم تزوّج أم حَبيبة واسمعها رَمْلة بنت أبي سُفيان وهي أختُ معاوية وكانت تحت عُبيد الله بن جَحش الأسدي فتنصر ومات بأرض الحبشة. وتزوّج أم سَلمة بنت أبي أمية بن المُغيرة المخزوميّ وكانت تحت أبي سَلمة فتُوفي عنها وله منها أولاد وبقيت إلى سن تسع وخمسين. وتزوَّج ميمونة بنت الحارث من بني عامر بن صَعصعة وكانت تحت أبي رُهم العامرِيّ. وتزوّج صفية بنت حُييِّ بن أخطب النًضرية وكانت تحت رجل من يهود خيبر يقال له كِنانة فضرب رسولُ الله ﷺ عُنقه وسَبى أهله. وتزوّج جُويرية بنت الحارث وكانت من سَبي بني المُصطلق. وتزوْج خَولة بنت حَكيم وهي التي وَهبت نفسها للنبيّ ﷺ. وتزوّج امرأة يقال لها عمْرة فطلقها ولم يَبْن بها وِذلك أن أباها قال له: وأزيدك أنّها لم تمرض قطْ. فقال: ما لهذه عند الله من خير فطلقها. وتزوّج امرأة يقال لها: أميمة بنت النعمان فطلقها قبل أن يَطأها. وخَطب امرأة من بني مُرة بن عَوْف فردّه أبوها وقال: إنّ بها بَرَصا. فلما رجع إليها وجدها بَرْصاء.

كتاب النبي صلى الله عليه وسلم وخدامه

كُتّاب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم

زيْد بن ثابت ومُعاوية بن أبي سُفيان وحَنْظلة بن الربيع الأسديّ وعبدُ الله بن سعد بن أبي سرح ارتد ولحق بمكة مُشركا.

وحاجبُه: أبو أنسة مولاه وخادمه: أنس بن مالك الأنصاريّ ويكنى أبا حَمزة. وخازنُه على خاتَمه: مُعيقيب بن أبي فاطمة. ومؤذّناه: بلال وابن أم مَكتوم. وحُرّاسه: سعدُ بن زَيد الأنصاري والزُّبير بن العوام وسَعد بن أبي وقّاص. وخاتَمه فِضّة وفصّه حبشيّ مكتوب عليه: محمد رسول الله في ثلاثة أسطر: محمد سطر ورسول سطر واللهّ سطر. وفي حديث أنس بن مالك خادم النبي ﷺ: وبه تَختّم أبو بكر وعُمر وتَختّم به عثمانُ ستةَ أشهر ثم سقط منه في بئر ذي أرّوَان فطُلب فلم يوجد.

وفاة النبي صلى الله عليه وسلم

توفي ﷺ يوم الاثنين لثلاثَ عشرة ليلةً خلت من ربيع الأول وحُفر له تحت فِراشه في بيت عائشة. وصلى عليه المسلمون جميعاً بلا إمام الرجالُ ثم النساء ثم الصِّبيان ودُفن ليلةَ الأربعاء في جوف الليل ودَخل القبرَ عليٌ والفَضل وقُثَم ابنا العبّاس وشُقْران مولاه ويقال: أسامة بن زيد وهم تولّوا غسلَه وتَكفينه وأمره كلَّه وكفن في ثلاثة أثواب بيض سَحُولية ليس فيها قميصٌ ولا عِمامة. واختلف في سِنَه. فقال عبد اللهّ ابن عبَّاس وعائشةُ وجريرُ بن عبد اللهّ ومعاوية: توفي وهو ابن ستين سنة. وقال عُروة بن الزُبير وقَتادة: ؟؟

نسب أبي بكر الصديق وصفته رضي الله عنه

هو عبد الله بن أبي قُحافة واسم أبي قحافة عثمان بن عمرو بن كَعب بن سَعد بن تَيم بن مُرة وأمه أمُّ الخَير بنت صخر بن عمرو بن كعب بن سَعد بن تيم بن مُرة. وكاتبُه: عثمان بن عفَّان. وحاجبُه: رشيدٌ مولاه. وقيل: كتب له زيدُ بن ثابت أيضاً. وعلى أمره كلّه وعلى القضاء عمرُ بن الخطّاب وعلى بيت المال أبو عُبيدة بن الجَرّاح ثم وجّهه إلى الشام. ومُؤذّنه: سعدُ القَرَظ مولى عمار بن ياسر. قيل لعائشة: صِفي لنا أباك. قالت: كان أبيَض نحيفَ الجسم خفيفَ العارضين أحنى لا يستمسك إزاره مَعروق الوجه غائر العينين ناتىء الجبهة عاري الأشاجع أقرع. وكان عمر بن الخطاب أصلع. وكان أبو بكر يَخْضب بالحنّاء والكَتَم. وقال أبو جعفر الأنصاريّ: رأيتُ أبا بكر كأنّ لِحْيته ورأسَه جَمر الغَضىَ. وقال أنس بن مالك قَدِم رسولُ الله ﷺ المدينةَ وليس في أصحابه أَشمطُ غَيْر أبي بكر. فغّلفها بالحِنّاء والكَتَم. وتوفيَ مساء ليلة الثلاثاء لثمانِ ليالٍ بَقين من جُمادى الآخرة سنةَ ثلاثَ عشرةَ من التاريخ. خلافة أبي بكر رضي الله عنه - شُعبة عن سَعد بن إبراهيم عن عُروة عن عائشة: إنّ النبيّ ﷺ قال في مَرضه: مُروا أبا بكر فَلْيصلِّ بالناس. فقلتُ: يا رسولَ الله إنَّ أبا بكر إذا قام في مَقامك لم يُسمِع الناسَ من البُكاء فَمُر عُمرَ فليصلِّ بالناس. قال: مُروا أبا بكر فَلْيصلِّ بالناس: قالت عائشة: فقلتُ لِحَفصة: قُولي له: إنَ أبا بكر إذا قام في مَقامك لم يُسمِع الناس من البكاء فمُر عُمر ففعلت حفصة. فقال رسولُ الله ﷺ: مه! إنكن صواحبُ يوسف مُروا أبا بكر فَلْيصل بالناس. أبو جَعدة عن الزُّبير قال: قالت حفصة: يا رسولَ الله إنك مَرِضتَ فقدَّمت أبا بكر. قال: لستُ الذي قدمتُه ولكنّ الله قَدّمه. أبو سَلمة عن إسماعيل بن مُسلم عن أنس قال: صلَّى أبو بكر بالنّاس ورسولُ الله ﷺ مريض ستةَ أيام. النضرُ بن إسحاق عن الحَسن قال: قيل لعليّ: علامَ بايعتَ أبا بكر فقال: إنَّ رسول الله ﷺ لم يَمُت فَجْأة كان يَأْتيه بلالُ في كل يوم في مَرضه يُؤذّنه بالصلاة فيأمر أبا بكر فيصلِّي بالناس وقد تَركني وهو يَرى مكاني فلما قُبض رسولُ الله ﷺ رَضي المسلمون لدنياهم مَن رَضيه رسولُ الله ﷺ لدينهم فبايعوه وبايعتُه. ومن حديث الشَّعبيّ قال: أَوَّل مَن قَدِم مكةَ بوفاة رسول اللهّ ﷺ وخلافة أبي بكر عبدُ ربّه بن قيس بن السائب المَخزوميّ فقال له أبو قُحافة: مَن ولي الأمر بعده قال: أبو بكر ابنك. قال: فرضي بذلك بنو عبد مَناف قال: نعم. قال: لا مانعَ لما أَعطى الله ولا مُعطيَ لما مَنع الله. جعفر بن سليمان عن مالك بن دينار قال: تُوفي رسولُ اللهّ ﷺ وأبو سفيان غائب في مَسعاة أخرجه فيها رسولُ اللهّ ﷺ فلما انصرف لقي رجلاً في بعض طر مُقبلاً من المدينة فقال له مات محمد قال: نعم. قال: فمن قام مَقامه قال: بكر. قال أبو سفيان: فما فعل المُستضعفان عليّ والعبّاس قال: جالسين. قال: أما واللهّ لئن بقِيت لهما لأرفعنّ من أعقابهما ثم قال: إني أرى غَيرةً لا يُطفئها إلا دم. فلما قدم المدينةَ جعل يطوف في أزقّتها ويقول: بني هاشم لا تَطمع الناسُ فيكم ولا سيما تَيمُ بن مُرة أو عَدِي فما الأمرُ إلا فيكمُ وإليكمُ وليس لها إلا أبو حَسن عَلي فقال عمر لأبي بكر: إنّ هذا قد قَدم وهو فاعل شرًّا وقد كان النبيّ ﷺ يستألفه على الإسلام فدَع له ما بيده من الصَّدقة فَفَعل. فرضي أبو سفيان وبايعه.

سقيفة بني ساعدة

أحمد بن الحارث عن أبي الحَسن عن أبي مَعشر عن المَقْبريّ: أن المهاجرين بينما هم في حُجرة رسول اللهّ ﷺ وقد قَبضه اللهّ إليه إذ جاء مَعْن بن عديّ وعُويم ساعدة فقالا لأبي بكر: بابً فِتْنة إن يُغلقه اللهّ بك هذا سعدُ بن عُبادة والأنصار يُريدون أن يُبايعوه. فَمضى أبو بكر وعمر وأبو عُبيدة حتى جاءوا سَقيفة بني ساعدة وسَعد على طِنّفس مُتكئاً على وِسادة وبه الحًمّى فقال له أبو بكر: ماذا ترى أبا ثابت قال: أنا رجلٌ منكم. فقال حُباب بن المُنذر: منّا أمير ومنكم أمير فإنّ عمل المُهاجريّ في الأنصاري شيئاً ردّ عليه وإن عمل الأنصاريُّ في المهاجري شيئاً رد عليه وإن لم تَفعلوا فأنا جذيلها المُحكّك وعُذَيقها المُرجّب لَنُعيدنَّها جَذَعة. قال عمر: فأردتُ أن أتكلم وكنتُ زَوّرت كلاماً في نفسي. فقال أبو بكر: على رِسْلك يا عمر فما ترَك كلمةً كنتُ زوَّرتها في نَفسي إلا تكلّم بها وقال: نحن المهاجرون أول الناس إسلاماً وأكرمُهم أحساباً وأوسَطُهم داراً وأحسنُهم وُجوهاً وأمسُّهم برسول الله ﷺ رَحِماً وأنتم إخوانُنا في الإسلام وشُركاؤنا في الدَين نَصرتم وواسيتم فجزاكم اللهّ خيراً فنحن الأمراء وأنتم الوزراء لا تَدين العربُ إلا لهذا الحيّ من قُريش فلا تَنْفَسوا على إخوانكم المهاجرين ما فضّلهم الله به فقد قال رسولُ الله ﷺ: الأئمة من قُريش. وقد رضيت لكم أحدَ هذين الرجلين - يعنى عمرَ ابن الخطاب وأبا عُبيدة بن الجَراح - فقال عمر: يكون هذا وِأنتَ حيّ! ما كان أحد لِيُؤخّرك عن مَقامك الذي أقامك فيه رسولُ الله ﷺ ثُم ضرب على يده فبايعه وبايعه الناس وازدحموا على أبي بكر. فقالت الأنصار: قتلتم سعداً. فقال عمر: اقتُلوه قَتله الله فإنه صاحبُ فتنة. فبايع الناسُ أبا بكر وأتوا به المسجدَ يُبايعونه فسمع العبّاسُ وعليٌّ التَكبيرَ في المسجد ولم يَفرُغوا من غَسل رسول الله ﷺ فقال عليّ: ما هذا قال العّباس: ما رُئِي مثلُ هذا قطّ أما قلتُ لك! ومن حديث النًعمان بن بَشير الأنصاري: لما ثَقل رسولُ الله ﷺ تكلّم الناس مَن يقوم بالأمر بعده فقال قوم: أبو بكر وقال قومٌ: أبي بن كعب. قال النُّعمان بن بَشير: فأتيتُا أبيّا فقلت: يا أبيّ إن الناسَ قد ذكروا أنَ رسول ﷺ يستخلف أبا بكر أو إياك فانطلق حتى نَنظر في هذا الأمر. فقال: إنَّ عندي في هذا الأمر من رسول الله ﷺ شيئاً ما أنا بذاكره حتى يَقبِضه الله إليه ثم انطلق. وخرجت معه حتى دخلنا على النبيّ ﷺ بعد الصُّبح وهو يَحسو حَسْوا في قَصعة مَشْعوبة. فلما فرغ أقبل على أبيّ فقال: هذا ما قلتُ لك. قال: فأوص بنا. فخرج يخطّ برجليه حتى صار على المِنبر ثم قال: يا معشر المهاجرين إنكم أصبحتم تَزيدون وأصبحت الأنصارُ كما هي لا تزيد ألا وإن الناس يَكْثرون وتَقِلّ الأنصار حتى يكونوا كالمِلْح في الطعام فمن وَلى من أمرهم شيئاً فَلْيَقبَل من مُحسنهم ولْيعفُ عن مُسيئهم ثم دخل. فلما توفي قيل لي: هاتيك الأنصارُ مع سعد بن عُبادة يقولون: نحن الأولى بالأمر والمهاجرون يقولون: لنا الأمر دونكم. فأتيت أبيّا فقرعتُ بابه فخرج إليّ مُلتحفا فقلت: ألا أراك إلا قاعداً ببيتك مُغلقاً عليك بابَك وهؤلاء قومُك من بني ساعدة يُنازعون المُهاجرين فأخرج إلى قومك. فخَرج فقال: إنكم والله ما أنتم من هذا الأمر في شيء إنه لهم دونكم يليها من المُهاجرين رجلان ثم يُقتل الثالث ويُنزع الأمرُ فيكون هاهنا وأشار إلى الشام وإن هذا الكلام لمبلول بريق رسول الله ﷺ ثم أغلق بابَه ودخل. ومن حديث حذيفة قال: كنَا جلوساً عند رسول اللهّ عظيم فقال: إني لا أدري ما بقائي فيكم فاقتدُوا بالذين من بَعدي وأشار إلى أبي بكر وعمر واهتدُوا بهَدْي عمار وما حَدّثكم ابن مسعود فصدقوه. الذين تخلفوا عن بيعة أبي بكر - في والعباس والزبير وسعد بن عُبادة. فأما عليّ والعباس والزبير فقعدوا في بيت فاطمة حتى بَعث إليهم أبو بكر عمرَ ابن الخطاب ليُخرِجهم من بيت فاطمة وقال له: إِن أبوا فقاتِلْهم. فأقبل بقَبس من نار على أن يُضرم عليهم الدار فلقيته فاطمةُ فقالت: يا بن الخطاب أجئت لتُحرق دارنا قال: نعم أو تدخلوا فيما دخلتْ فيه الأمة. فخرج علي حتى دخل على أبي بكر فبايعه فقال له أبو بكر: أكرهتَ إمارتي فقال: لا ولكني آليتُ أن لا أرتدي بعد موت رسول الله ﷺ حتى أحفظَ القرآن فعليه حَبست نفسي. ومن حديث الزُّهري عن عُروة عن عائشة قالت: لم يُبايع عليٌ أبا بكر حتى ماتت فاطمة وذلك لستة أشهر من موت أبيها ﷺ. فأرسل علي إلى أبي بكر فأتاه في منزله فبايعه وقال: واللهّ ما نَفسنا عليك ما ساق الله إليك من فَضل وخَير ولكنّا كُنَا نرى أن لنا في هذا الأمر شيئاً فاستبددْتَ به دوننا وما نُنكر فضلك. وأما سعدُ بن عبادة فإنه رحل إلى الشام. أبو المنذر هشام بن محمد الكلبيّ قال: بث عمرُ رجلاً إلى الشام فقال: ادْعه إلى البَيعة واحمل له بكل ما قَدرت عليه فإن أيَ فاستعن الله عليه. فقَدم الرجل الشام فلقيه بحُوران في حائطٍ فدَعاه إلى البيعة فقال: لا أبايع قُرشياً أبداً. قال: فإني أقاتلك. قال: وإن قاتلتَني! قال: أفخارج أنت مما دخلتْ فيه الأمة قال: أمّا من البَيعة فأنا خارج. فرَماه بسَهم فقتله. ميمون بن مِهران عن أبيه قال: رُمي سعد بنُ عبادة في حمّام بالشام فقُتل. سعيد بن أبي عَروبة عن ابن سيرين قال: رُمي سعد بن عُبادة بسهم فوُجد دفينا في جسده. فمات فبكته الجنّ فقالت: وقَتلنا سيّد الخَزْ رج سعدَ بن عُبادة ورَميناه بسهمي نِ فلم نُخْطِىء فُؤاده فضائل أبي بكر رضي الله عنه - محمد بن المَنكدر قال: نازع عمرَ أبا بكر فقال رسولُ الله ﷺ: هل أنتم تاركوِني وصاحبي إنّ الله بَعثني بالهُدى ودين الحق إلى الناس كافّة فقالوا جميعاً: كذبت وقال أبو بكر: صدقتَ. وهو صاحبُ رسول الله ﷺ وجليسه في الغار وأوّل من صلّى معه أمن به واتّبعه. وقال عمر بن الخطّاب: أبو بكر سيّدنا وأعتق سيّدَنا. يريد بلالاً. وكان بلال عبداً لأميّة بن خَلف فاشتراه أبو بكر وأَعتقه وكان من مُولَّدي مكّة أبوه رَباح وأمه حَمامة. وقيل للنبي ﷺ: مَن أول من قام معك في هذا الأمر قال: حُرّ وعَبد. يريد بالحُر أبا بكر وبالعَبد بلالاً. وقال بعضُهم: عليّ وخبّاب. أبو الحسن المدائني قال: دخل هارون الرشيدً مسجدَ رسول الله ﷺ فبعث إلى مالك بن أنس فقيه المدينة فأتاه وهو واقف بين قبر رسول الله ﷺ واْلمِنبر فلما قام بين يديه وسلّم عليه بالخلافة قال: يا مالك صف لي مكان أبي بكر وعُمر من رسول الله ﷺ في الحياة الدنيا. فقال: مكانُهما منه يا أمير المؤمنين كمكان قَبريهما من قبره. فقال: شَفيتَني يا مالك: الشَّعبي عن أبي سَلمة: إنّ عليا سُئل عن أبي بكر وعمرِ فقال: على الخَبير سقطتَ كانا والله إمامَين صالحين مُصلحين خَرجا من الدنيا خميصِين. وقال عليّ بن أبي طالب: سَبق رسولُ اللهّ ﷺ وثَنّى أبو بكر وثَلّث عمر ثم خَبطتنا فتنةٌ عَمياء كما شاء الله. وقالت عائشة: تُوفّي رسولُ الله عظيم بين سَحْري ونَحري فلو نَزل بالْجبال الراسيات ما نَزل بأبي لهدّها اشرأبّ النِّفاق وارتدت العرب فوالله ما اختلفوَا في لفظة إلا طار أبي بحظّها وغنائها في الإسلام. عمرو بن عثمان عن أبيه عن عائشة أنه بلغها أن أُناساً يتناولون من أبيها فأرسلت إليهم فلما حضروا قالت: إنّ أبي والله لا تعطوه الأيدي طَوَد مًنيف وظل ممدود أنجح إذ أكديتم وسبق إذ ونيتم سَبْقَ الجواد إذا استولى على الأمد. فتى قريش ناشئاً وكَهفها كهلا. يَفك عانيها ويَريش مُملقها ويرأب صَدْعها ويَلُمّ شَعثها. فما برحت شكيمتُه في ذات اللهّ تشتد حتى اتخذ بفنائه مسجداً يحيى فيه ما أمات المُبطلون. وكان وقيد الجوامح عزير الدَّمعة شجّي النشيج. وأصفقت إليه نسوان مكة وولدانها يَسخرون منه ويستهزئون به والله يستهزىء بهم وَيمُدّهم في طُغيانهم يَعمهوِن وأكبرت ذلك رجالات قريش فما فَلّوا له صفاة ولا قصفوا قناة حتى ضرب الحقُّ بجِرانه وألقىِ بَرْكه ورست أوتادُه. فلما قَبض الله نبيَّه ضَرب الشيطانُ رُواقَه ومدّ طنبه ونصب حبائلَه وأجلب بخيله ورَجْله فقام الصدِّيق حاسراً مشمِّراً. فردّ نَشر الإسلام على غره وأقام أَوَده بثِقافه فابذعرّ النِّفاق بوطئه وانتاش الناسَ بعَدْله حتى أراح الحق على أهله وحَقن الدماءَ في أهبها. ثم أتته منيّته فسدّ ثُلمتَه نظيرُه في المَرحمة وشقيقُه في المَعدلة ذلك ابن الخطّاب. للّه دَرّ أم حَفلت له ودَرّت عليه. ففتح الفًتوح وشرد الشِّرْك وبَعَج الأرض فقاءت أُكًلَها ولفظت جَناها ترأمه ويأباها وتريده ويَصْدِف عنها ثم تَركها كما صَحبها. فأَرُوني ما ترتابون وأيَّ يومي أبي تَنقمون أيوم إقامته إذ عدل فيكم أم يوم ظَعنه إِذ نَظر لكم أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.

وفاة أبي بكر الصديق رضي الله عنه

الليثُ بن سَعد عن الزُّهري قال: أهدي لأبي بكر طعام وعنده الحارث ابن كَلَدة فأكلا منه فقال الحارث: أكلنا سّم سَنة وإني وإياك لميتان عند رأس الحًوِل فماتا جميعاً في يوم واحد عند انقضاء السنة. وإنما سمته يهود كما سمّت النبيّ ﷺ بخيبر في ذِراع الشاة. فلما حضرت النبيّ ﷺ الوفاةُ قال: ما زالت أكلُه خَيبر تُعاودني حتى قَطعت أبْهري. وهذا مثلُ ما قال الله تعالى " ثم لَقَطَعنا منه الوَتين ". والأبهر والوتين: عرقانِ في الصُلب إِذا انقطع أحدُهما مات صاحبه. الزُهري عن عُروة عن عائشة قالت: اغتسل أبو بكر يوم الاثنين لسبع خَلون من جُمادى الآخرة وكان يوماً بارداً فحُم خمسةَ عشر يوماً لا يخرج إلى صلاة وكان يأمر عمر يصلَي بالناس. وتُوفي ليلةَ الثلاثاء لثمانٍ بقين من جُمادى الآخرةِ سنة ثلاثَ عشرةَ من التاريخ. وغسلته امرأته أسماءُ بنت عُميسٍ. وصلٌى عليه عمرُ بن الخطاب بين القبر والمِنبر وكبّر أربعا. الزُّهري عن سعيد بن المُسيّب قال: لما تُوفى أبو بكر أقامت عليه عائشة النَوح فبلغ ذلك عمرَ فنهاهنَ فأبين. فقال لهشام بنِ الوليد: أخرج إلي بنت أبي قُحافة فأخرج إليه أم فَروة فعلاها بالدرّة ضرباً فتفرَقت النوائح. وقالت عائشة وأبوها يَغمِض رضي الله عنه: وأبيضُ يُستسقى الغمامُ بوَجهه ربيع اليتامى عِصْمة للأرامِل قالت عائشة: فنظر إلي وقال: ذاك رسولُ الله ﷺ ثم أغمي عليه. فقالت: لعمرُك ما يُغنى الثرَّاءُ عن الفَتى إذا حَشْرجتْ يوماً وضاق بها الصدرُ فنظر إلي كالغَضبان وقال: قولي: " وجاءتْ سَكْرةُ الموِت بالحقّ ذلك ما كُنت منه تَحِيد " ثم قال: عُروة بن الزبير والقاسم بن محمد قالا: أوصى أبو بكر عائشةَ أن يدفن إلى جنب رسول اللهّ ﷺ. فلما تُوفى حُفر له وجعل رأسُه بين كَتِفي رسول اللهّ ﷺ ورأسُ عمرَ عند حَقْوي أبي بكر. وبقي في البيت موضع قبر. فلما حضرت الوفاةُ الحسنَ بن عليّ أوصى بأن يُدفن مع جدّه في ذلك الموضع. فلما أراد بنو هاشم أن يَحفِروا له مَنعهم مروانُ وهو والي المدينة في أيام معاوية. فقال أبو هُريرة: علام تمنعه أن يُدفن مع جدّه فأشهدُ لقد سمعتُ رسول الله عليه يقول: الحسن والْحُسين سيّدا شباب أهل الجنة. قال له مروان: لقد ضَيّع الله حديثَ رسول الله ﷺ إذ لم يَرْوه غيرُك. قال: أنا والله لقد قلتُ ذلك لقد صحبتُه حتى عرفتُ مَن أحبُ ومن أبغض ومن نَفى ومن أقرّ ومن دعا له ومن دعا عليه. قال: وسُطح قبرُ أبي بكر كما سُطح قبر النبيّ ﷺ ورُش بالماء. هشام بن عُروة عن أبيه: إن أبا بكر صُلّي عليه ليلا ودُفن ليلا. ومات وهو ابن ثلاثٍ وستين سنة ولها مات النبي ﷺ. وعاش أبو قحافة بعد أبي بكر أشهراً وأياماً ووهب نصيبَه في ميراثه لولد أبي بكر. وكان نَقش خاتم أبي بكر: نعم القادر الله. ولما قُبض أبو بكر سُجّى بثوب فارتجت المدينة من البكاء ودَهشِ القوم كيوم قُبض فيه رسولُ الله ﷺ. وجاء عليّ بن أبي طالب باكياً مُسرعاً مسترجعاً حتى وقف بالباب وهو يقول. رَحِمك اللهّ أبا بكر كنتَ واللهّ أولَ القوم إسلاماً وأصدَقهم إيماناً وأشدَّهم يقينا وأعظَمهم غَناء واحفظهم على رسول اللهّ ﷺ وأحدبَهم على الإسلام وأحماهم عن أهله وأنسبَهم برسول الله خُلقا وفضلا وهَديا وسَمْتا فجزاك الله عن الإسلام وعن رسول اللهّ وعن المسلمين خيرا. صدقت رسول الله حين كذّبه الناس وواسيتَه حين بخلوا وقمتَ معه حين قعدوا وسمّاك اللهّ في كتابه صدَيقاً فقال: " والذي جاء بالصِّدق وصَدّق به " يريد محمداً ويريدك. كنت والله للإسلام حِصناً وللكافرين ناكباً لم تضلل حجّتك ولم تَضعف بصيرتك ولم تَجبن نفسُك. كنت كالجبلِ لا تحركه العواصف ولا تُزيله القواصف. كنت كما قال رسولُ الله ﷺ: ضعيفاً في بدنك قوياً في دينك متواضعاً في نفسك عظيماً عند الله جليلاً في الأرض كبيراً عند المؤمنين. لم يكن لأحد عندك مطمع ولا هوى فالضعيفُ عندك قويّ والقويّ عندك ضعيف حتى تأخذ الحق من القوي وتأخذه للضعيف فلا حَرمك الله أجرك ولا أضلّنا بعدك. القاسم بن محمد عن عائشة أم المؤمنين أنها دخلت على أبيها في مرضه الذي تُوفي فيه فقالت: يا أبت اعهد إلى خاصّتك وأنفذ رأيك في عامّتك وانقل من دار جهازك إلى دار مُقامك إنك مَحضور ومتّصل بي لوعتُك وأرى تخاذلَ أطرافك وانتقاع لونك فإلى اللهّ تَعْزيتي عنك ولديه ثوابُ حُزني عليك. أرقأ فلا أرْقأ وأشكو فلا أُشكى. قال: فَرفع رأسه وقال: يا أمّه هذا يوم يُخلَّى لي فيه عن غطائي وأشاهد جَزائي إن فرحاً فدائم وان ترحاً فمُقيم. إني اضطلعتُ بإمامة هؤلاء القوم حين كان النُّكوص إضاعة والخَزَل تفريطا فشهيدي الله ما كان بقلبي إلا إياه فتبلّغت بصَحفتهم وتعلّلت بدرّة لِقْحتهم فأقمت صلايَ معهم لامختالًا أشِراً ولا مُكاثراً بَطِراً. لم أعْدُ سدّ الجَوعة وتَوْرية العَوْرة وإقامة القِوام من طوى مُمعض تهفو منه الأحشاء وتجفّ له الأمعاء فاضطررت إلى ذلك اضطرار الجَرِض إلى الماء المَعيفِ الآجن. فإذا أنا مِتّ فردّي إليهم صَحْفتهم وعبدهم ولقحتهم ورَحاهم ودثارةً ما فوقي اتقيت بها البرد ووِثارةً ما تحتي اتقيتُ بها أذى الأرض كان حشوها قِطَع السعف. قال: ودخل عليه عمر فقال: يا خليفة رسول اللهّ لقد كلفت القوم بعدك تعباً وولّيتهم نصباً فهيهات من شَقَّ غُبارك! فكيف اللحاقُ بك!.

استخلاف أبي بكر لعمر

عبد الله بن محمد التّيمي عن محمد بن عبد العزيز: إن أبا بكر الصديق حين حضرته الوفاةُ كتب عَهده وبَعث به مع عثمان بن عفان ورجلٍ من الأنصار ليقرآه على الناس فلما اجتمع الناسُ قاما فقالا: هذا عهدُ أبي بكر فإن تُقِرُّوا به نقرأْه وإن تُنكروه نرجعه. فقال: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا عهد أبي بكر بن أبي قُحافة عند آخر عهده بالدُّنيا خارجا منها وأوّل عهده بالآخرة داخلاً فيها حيثُ يُؤمِن الكافر ويتقي الفاجر ويَصدق الكاذب. إني أَمّرت عليكم عمرَ بن الخطّاب فإن عَدل واتقى فذاك ظنِّي به ورجائي فيه وإن بدّل وغيّر فالخيرَ أردت لا يعلم الغيب إلا الله قال أبو صالح: أخبرنا محمد بن وضاح قال: حدّثني محمد بن رُمْح بن المهاجر التُّجيبي قال: حدّثني الليثُ بن سعد عن عُلوان عن صالح بن كَيسان عن حميد ابن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه أنه دخل على أبي بكر رضي الله عنه في مَرضه الذي تُوفي فيه فأصابه مُفيقا فقال: أصبحت بحمد اللهّ بارئاً. قال أبو بكرِ: أتراه قال: نعم. قال: أما إني على ذلك لشديدُ الِوَجع ولما لقيتُ منكم يا معشر المُهاجرين أشدُّ عليَّ من وَجعي. إني وَليت أمَركم خيركم في نفسي فكلّكم وَرِم من ذلك أنفه يريد أن يكون له الأمر من دونه ورأيتم الدنيا مُقبلة ولن تقبل - وهي مُقبلة - حتى تتخذوا سُتور الحرير ونضائد الدِّيباج وتألموا الاضطجاع على الصوف الأَذربيّ كما يألم أحدُكم الاضطجاع على شَوك السّعدان. والله لأن يُقدّم أحدكم فتُضرب عُنقه في غير حدّ خير له من أن يَخوض في غَمْرة الدنيا. ألا وإنكم أول ضالّ بالناس غدا فتصدّوهم عن الطريق يميناً وشمالاً. يا هاديَ الطريق إنما هو الفَجر أو البَحْر. قال: فقلتُ له: خَفِّض عليك يَرحمك الله فإن هذا يَهيضك على ما بك إنما الناس في أَمرك بين رجلين إما رجل رأى ما رأيتَ فهو معك وإما رجل خالفَك فهو يُشير عليك برأيه وصاحبَك كما تُحب ولا نَعلمك أردتَ إلا الخير ولم تزل صالحا مُصلحا مع أنك لا تأسي على شيء من الدنيا. فقال: أجل إني لا آسىَ على شيء من الدنيا إلا على ثلاث فعلتهن وودتُ أني تركتهن وثلاثٍ تركتهن ووددتُ أني فعلتهن وثلاثٍ وددتُ أني سألت رسول الله ﷺ عنهن. فأما الثلاث التي فعلتهن ووددتُ أني تركتُهن: فوددتُ أني لم أكشف بيتَ فاطمة عن شيء وإن كانوا أغلقوه على الحرب ووددتُ أني لم أكن حَرقت الفَجَاءة السلمي وأني قتلته سريحاً أو خلَيته نجيحا ووددت أني يوم سقيفة بني ساعدة قد رميتُ الأمر في عُنق أحد الرجلين فكان أحدُهما أميراً وكنتُ له وزيراً - يعني بالرجلين عمرَ بن الخطاب وأبي عُبيدة بن الجراح - وأما الثلاث التي تركتُهن ووددتُ أني فعلتُهن: فوددتُ أني يوم أتيت بالأشعث بن قيس أسيراً ضربتُ عنقه فإنه يُخيل إلي أنه لا يرى شرُّا إلا أعان عليه ووددتُ أني سيرت خالدَ بن الوليد إلى أهل الردة أقمت بذي القصة فإن ظفر المسلمون ظَفروا وإن انهزموا كنتُ بصدد لقاء أو مَدد ووددت أني وجهت خالد بن الوليد إلى الشام ووجهتُ عمر ابن الخطاب إلى العِراق فأكون قد بسطت يدَي كلتيهما في سبيل الله. وأما الثلاث التي وددتُ أني أسأل رسول الله ﷺ عنهن: فإني وددتُ أني سألته: لمن هذا الأمر من بعده فلا يُنازعه أحد وأني سألته هل للأنصار يا هذا الأمر نصيب فلا يُظلموا نصيبَ منه ووددتُ أني سألته عن بنت الأخ والعَمة فإنَ في نفسي منهما شيئاً.

نسب عمر بن الخطاب وصفته

أبو الحسن عليّ بن محمد قال: هو عمر بن الخطاب بن نُفيل بن عبد العُزى بن رِياح بن عبد الله بن قُرط بن رَزاح بن عَدِيّ بن كعب بن لُؤي بن غالب ابن فِهْر بن مالك. وأُمه حَنْتمة بنت هاشم بن المُغيرة بن عبد الله بن عمرِ بن مَخزوم. وهاشم هو ذو الرُمحين. قال أبو الحسن: كان عمر رجلاً آدمَ مُشْرَباً حُمرة طويلاً أصلِع له حِفَافان حسنَ الخدّين والأنف والعينين غليظَ القدمين والكفين مَجُدول الفحم حسن الخَلق ضخم الكراديس أعسَر يَسَر إذا مَشى كأنه راكب. وَلى الخلافةَ يوم الثلاثاء لثمانٍ بقين من جُمادى الآخرة سنة ثلاثَ عشرةَ من التاريخ. وطعن لثلاث بقين من ذي الحجَّة سنة ثلاث وعشرين من التاريخ. فعاش ثلاثةَ أيام. ويقال سبعة أيام. مَعْدان بن أبي حَفصة قال: قُتل عمر يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجَّة سنة ثلاث وعشرين وهو ابن ثلاثٍ وستين سنة في رواية الشعبيّ. ولها مات أبو بكر ولها مات النبي ﷺ.

فضائل عمر بن الخطاب

أبو الأشهب عز الحسن قال: عاتب عُيينةُ عثمانَ فقال له: كان عمر خيراً لنا منك أعطانا فأغنانا وأخشانا فأتْقانا. وقيل لعثمان: ما لك لا تكون مثلَ عمر قال: لا أستطيع أن أكون مثلَ لُقمان الحَكيم. القاسم بن عمر قال: كان إسلام عمر فَتحاً وهجرته نصراً وإمارته رحمة. وقيل: إن عمر خَطب امرأة من ثقيف وخطبها المُغيرة فزوَجوها المُغيرة. فقال النبيُ ﷺ: ألا زوجتم عمر فإنه خير قريش أولها وآخرها إلا ما جعل اللهّ لرسوله. الحسن بن دينار عن الحسن قال: ما فَضل عمرُ أصحابَ رسول الله ﷺ أنه كان أطولَهم صلاة وأكثرَهم صياماً ولكنه كان أزهدهم في الدنيا وأشدهم في أمر الله. وتظلّم رجل من بعض عًمال عمر وادًعى أنه ضَربه وتعدَى عليه فقال: اللهم إِني لا أحلُّ لهم أشعارَهم ولا أبشارهم. كلُ من ظَلمه أميرُه فلا أميرَ عليه دوني ثم أقاده منه. عَوَانُة عن الشًعبي قال: كان عمر يطوف في الأسواق ويقرأ القرآن ويقضي بين الناس حيث أدركه الخصوم. وقال المُغيرة بن شُعبة وذكر عُمَر فقال: كان والله له فضلٌ يمنعه من أن يَخدع وعقل يَمنعه من أن يَنخدع. فقال عمر: لست بِخَب ولا الَخب يَخدعني. عِكرمة عن ابن عباس قال قال: بينما أنا أمشي مع عُمرَ بن الخطاب في خلافته وهو عامد لحاجة له وفي يده الذَرة فأنا أمشي خلفه وهو يُحدّث نفسَه ويَضرب وحشي قَدميه بدِرَّته إذ التفت إليّ فقال: يا بن عبّاس أتدري ما حَملني على مَقالتي التي قلتُ يوم تُوفّي رسولُ الله ﷺ قلت: لا. قال: الذي حَملني على ذلك أنِّي كنتُ أقرأ هذه الآية: " وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شًهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا " فوالله إني كنت لأظنّ أن رسول الله ﷺ سيبقى في أمته حتى يَشهد علينا بأخفّ أعمالنا فهو الذي دَعاني إلى ما قلت. ابن دأب قال: قال ابن عبّاس: خرجت أريد عمر في خلافته فألفيتُه راكباً على حمار قد أَرْسنه بحَبل أسود وفي رجليه نَعلان مخصوفتان وعليه إزار قصير وقميص قصير قد انكشفت منه ساقاه فمشيتُ إلى جَنبه وجعلتُ أجبِذُ الإزار عليه فجعل يَضحك ويقول: إنه لا يطيعك. حتى أتى العالية فَصنع له قومٌ طعاماً من خُبز ولحم فدَعه إليه وكان عمر صائماً فجعل يَنبُذ إليّ الطعام ويقول: كُلْ لي ولك. ومن حديث ابن وَهْب عن اللَّيث بن سعد: أن أبا بكر لم يكن يأخذ من بيت المال شيئاً ولا يُجري عليه من الفيء درهما إلا أنه استلف منه مالاً فلما حَضرته الوفاةُ أمر عائشةَ بردّه. وأما عمرُ بن الخطاب فكان يُجرى على نفسه دِرْهمين كلَّ يوم. فلما وَلى عمرُ بن عبد العزيز قيل له: لو أخذتَ ما كان يأخذ عمرُ بن الخطّاب قال: كان عمرُ لا مالَ له وأنا مال يُغنيني بم فلم يأخذ منه شيئاً. أبو حاتم عن الأصمعي قال: قال عمر وقام على الرَّدم: أين حقك يا أبا سفيان مما هنا قال: ممّا تحت قَدميك إليّ. قال: طالما كنتَ قديمَ الظّلم ليس لأحد فيما وراء قدميّ حق إنما هي منازل الحاج. قال الأصمعي: وكان رجلٌ من قريش قد تقدَّم صدرٌ من داره عن قدمَي عمر فهدمه. وأراد أن يُغوِّر البئر فقيل له: في البئر للناس مَنفعة فتركها. قال الأصمعي: إذا ودَّع الحاجًّ ثم بات خلفَ قدمي عمرَ لم أرَ عليه أن يرجع. يقول: قد خرج من مكة. مقتل عمر أبو الحسن: كان للمُغيرة بن شُعبة غلام نَصراني يقال له: فَيْروز أبو لؤلؤة وكان نجَّاراً لطيفاً وكان خِراجُه ثقيلاً فشكا إلى عمر ثِقل الخراج وسأله أن يكلِّم مولاه أن يُخفِّف عنه من خراجه فقال له: وكم خِراجك قال ثلاثة دراهم في كل شهر. قال وما صناعتُك قال: نجَّار. قالت: ما أرى هذا ثقيلاً في مثل صناعتك. فخرج مُغضَباً فاستلّ خِنْجراً محدودَ الطَّرفين. وكان عمر قد رأى في المَنام ديكاً أحمر ينقره ثلاث نَقرات فتأوله رجلاً من العجم يَطعنه ثلاثَ طَعنات. فطعنه أبو لُؤِلؤة بخِنْجره ذلك في صلاة الصُّبح ثلاثَ طَعنات إحداها بين سرُّته وعانته فخرقت الصِّفاق وهي التي قتلته. وطُعن في المسجد معه ثلاثةَ عشرَ رجلاً مات منهم سَبعة. فأقبل رجلٌ من بني تميم يقال له حِطَّان فألقى كِساءه عليه ثم احتضنه. فلما علم العِلج أنه مأخوذ طَعن نفسه وقدَّم عُمر صُهيباً يصلِّي بالناس فقرأ بهم في صلاة الصُّبح: " قل هو الله أَحد " في الرَّكعة الأولى و " قُل يأيها الكافرون " في الرّكعة الثانية. واحتُمل عمر إلى بيته فعاش ثلاثةَ أيام ثم مات. وقد كان استأذن عائشةَ أن يُدفن في بيتها مع صاحبيه فأجابته وقالت: والله لقد كنتُ أردتُ ذلك المَضجع لنفسي ولأوثرنّه اليوم على نفسي. فكانت ولايةُ عمر عشرَ سنين. صلّى عليه صُهيب بين القَبر والمِنْبر ودُفن عند غروب الشمس. كاتبُه: زيدُ بن ثابت وكتب له مًعَيقب أيضاً. وحاجبُه: يرْفأ مولاه. وخازِنُه: يسار. وعلى بيت ماله: عبدُ الله ابن الأرقم. وقال الليثُ بن سعد: كان عمرُ أول من جَنّد الأجناد ودَوَّن الدَّواوين وجعل الخلافة شُورى بين ستّة من المسلمين وهم: عليّ وعُثمان وطِلْحة والزًّبير وسَعد بن أبي وقَّاص وعبدُ الرحمن بن عوف ليختاروا منهم رجلاً يولّونه أمرَ المسلمين. وأوصى أن يَحضُر عبدُ اللهّ بن عُمر معهم وليس له من أمر الشُّورى شيء.