وقال زُفر بن الحارث لعبد الملك بن مَروان: الحمد لله الذي نَصرك على كُره من المؤمنين. فقال أبو زعيزعة: ما كره ذلك إلا كافر. فقال زُفَر: كذبت قال الله لنبيّه: " كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون ". وبعث عبد الملك بن مروان إلى المدينة حبيش بن دلجة القيسي في سبعة آلاف. فدخل المدينةَ وجلس على منبر رسول الله ﷺ فدعا بخبز ولحم فأكل ثم دعا بماء فتوضأ على المنبر ثم دعا جابر بن عبد الله صاحبَ النبي ﷺ فقال: تُبايع لعبد الملك بن مروان أمير المؤمنين بعَهد الله عليك وميثاقه وأعظم ما أخذ الله على أحد من خَلقه في الوفاء فإن خُنتنا فَهَراق الله دَمك على ضلال. قال: أنت أطوقُ لذلك مني ولكن أبايعه على ما بايعتُ عليه رسولَ الله ﷺ يوم الحُديبية على السمع والطاعة. ثم خرج ابنُ دُلْجة من يومه ذلك إلى الربذة وقدم على أثره من الشام رجلاًن مع كل واحد منهما جَيش ثم اجتمعوا جميعاَ في الربذة وذلك في رمضان سنة خمس وستين. وأميرُهم ابن دلجة. وكتب ابنُ الزبير إلى العبّاس بن سَهل الساعديّ بالمدينة أن يَسير إلى حُبيش بن دُلجة. فسار حتى لَقِيه بالربذة. وبعث الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة - وهو عامل ابن الزبير على البصرة - مدداً إلى العباس بن سهل حُنيفَ بن السِّجف في تسعمائة من أهل البصرة. فساروا حتى انتهوا إلى الربذة. فبات أهلُ البصرة وأهل المدينة يقرأون القرآن ويُصلون. وبات أهل الشام في المَعازف والخمور فلما أصبحوا غَدوا على القِتال فقُتل حُبيش بن دُلجة ومن معه. فتحصّن منهم خمسمائة رجل من أهل الشام على عمود الربذة وهو الجبل الذي عليها وفيهم يوسف أبو الحجَّاج فأحاط بهم عباس بن سهل فطلبوا الأمان فقال: انزلوا على حُكمي فنزلوا عَلى حكمه فضرب أَعناقَهم أجمعين. ثم رجع عبّاس بن سهل إلى المدينة وبعث عبدُ الله بن الزُّبير ابنَه حمزة عاملاً عَلَى البصرة فاستضعفه القومُ فبعث أخاه مُصعب بن الزُّبير فقدم عليهم فقال: يا أهل البصرة بلغني أنه لا يَقْدَم عليكم أمير إلا لَقّبتموه إني ألقَب لكم نفسي: أنا القصَّاب. خبر المختار بن أبي عبيد ثم أرسل عبدُ الله بن الزبير إبراهيمَ بن محمد بن طلحة أميراً عَلَى الكوفة ثم عزله وأرسل المختار بن أبي عُبيد. وأرسل عبدَ الملك عبيدَ الله بن زياد إلى الكوفة. فبلغ المختارَ إقبالُ عبيد الله بن زياد فوجّه إليهم إبراهيم بن الأشتر في جيش فالتقوا بالجازِر وقَتل عبيدَ الله بن زياد وحُصين بن نمير وذا الكَلاع وعامة من كان معهم. وبعث برؤوسهم إلى عبد الله بن الزبير. أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدٌثنا شرَيك بن عبد الله عن أبي الجُويرية الجَرْمي قال: كنتُ فيمن سار إلى أهل الشام يوم الجازِر مع إبراهيم بن الأشتر فلقيناهم بالزَّاب فهبت الريحُ لنا عليهم فأدبروا فقتلناهم عَشِيّتنا وليلتنا حتى أصبحوا: فقال إبراهيم: إني قتلت البارحة رجلاً فوجدتُ عليه ريح طِيب فالْتَمِسوه فما أراه إلا ابن مَرْجانة. فانطلقنا فإذا هو والله مَعْكوس في بطن الوادي. ولما التقى عُبيد الله بن زياد وإبراهيم بن الأشتر بالزاب قال: مَن هذا الذي يُقاتلني قيل له: إبراهيم بن الأشتر. قال: لقد تركته أمس صبيّا يلعب بالحَمام. قال: ولما قُتل ابن زياد بَعث المختارُ برأسه إلى عليّ بن الحسين بالمدينة. قال الرسول: فقدمتُ به عليه انتصافَ النهار وهو يتغدّى قال: فلما رآه قال: سبحان الله! ما اغتر بالدًّنيا إلا مَن ليس لله في عُنقه نِعْمة! لقد أدخل رأس أبي عبدِ الله على ابن زياد وهو يتغدّى. وقال يزيد بن مُفَرّغ: إنَّ الذي عاش ختّاراً بذمَّته وماتَ عَبداً قتيلُ الله بالزَّابِ ثم إن المختار كتب كتاباً إلى ابن الزبير وقال لرسوله: إذا جئت مكة فدفَعتَ كتابي إلى ابن الزبير فأتِ المهديّ - يعني محمدَ بن الحفنية - فاقرأ عليه السلام وقل له: يقول لك أبو إسحاق: إني أحبك وأحب أهل بيتك. قال: فأتاه فقال له ذلك. فقال: كذبتَ وكذب أبو إسحاق وكيف يُحبني ويُحب أهل بيتي وهو يُجلس عمر بن سعد عَلَى وسائده وقد قتل الحُسين! فلما قدم عليه رسولُه وأخبره. قال المختار لأبي عمرو صاحب حرسه: استأجر لي نوائح يَبكين الحُسين على باب عمر بن سَعد ففَعل. فلما بكيَن قال عمر لابنه حَفْص: يا بني ايت الأمير فقل له: ما بالً النوائح يبكين الحسين على بابي فأتاه فقال له ذلك. فقال: إنه أهلٌ أن يُبكى عليه. فقال: أصلحك اللهّ انههن عن ذلك. قال: نعم تم دعا أبا عمرو صاحبَ حَرسه قال له: اذهب إلى عمر بن سعد فأتني برأسه. فأتاه فَقَام له: قم إليّ أبا حفص. فقام إليه وهو مُلتحف بملحفة فجلّله بالسيف فقتله وجاء برأسه إلى المختار. ثم قال: ائتوني بابن عمر. فلما حضره قال: أتعرف هذا قال: نعم رحمه اللهّ. قال: أتحب أن نُلحقك به قال: لا خير في العَيش بعده. فأمر به فضُرب عنقه. ثم إن المختار لما قَتل ابنَ مَرْجانة وعمر بن سعد جعل يَتْبع قتلة الحسين بن علي ومن خَذله فقتلهم أجمعين وأمر الحُسينية وهم الشيعة أن يطوفوا في أزقَّة المدينة بالليل ويقولوا: يا ثارات الحسين! فلما أفناهم ودانت له العراق ولم يكن صادق النيَّة ولا صحيحَ المذهب وإنما أراد أن يَستأصل الناس فلما أدرك بُغيته أظهر قُبح نيّته للناس فادّعى أنّ جبريل ينزل عليه ويَأتيه بالوحي من الله. وكتب إلى أهل البصرة: بلغني أنكم تُكَذبونني وتكذبون رُسلي وقد كُذبت الأنبياء من قبلي ولست بخير من كثير منهم. فلما انتشر ذلك عنه كَتَب أهلُ الكوفة إلى ابن الزبير وهو بالبَصًرة فخرج إليه. وبَرز إليه المختار فأسلمه إبراهيمُ بن الأشتر ووُجوه أهل الكوفة فقتله مُصعب وقَتل أصحابَه. أبو بكر بنُ أبي شَيبة قال: قيل لعبد الله بن عمر: إن المختار ليزعم أنه يوحَى إليه. قال: صَدق الشياطين يوحون إلى أوليائهم. وقَتل مصعبٌ من أصحاب المختار ثلاثةَ آلاف. ثم حج سنة إحدى وسبعين فقَدِم على أخيه عبد اللهّ بن الزبير ومعه وجوه أهل العراق فقال: يا أمير المؤمنين قد جئتُك بوجوه أهل العراق ولم أدعْ لهم بها نظيراً فأعطهم من المال. قال جِئتني بعبيد أهل العراق لأعطيَهم من مال اللهّ وددتُ أنّ لي بكل عشرْة منهم رجلاً من أهل الشام صَرْفَ الدينار بالدرهم. فلما انصرف مُصعب ومعه الوفدُ من أهل العراق وقد حِرمهم عبدُ الله بن الزبير ما عنده فسدت قلوبهم فراسلوا عبد الملك بن مروان حتى خرج إلى مصعب فقتله. فيُ بن عبد العزيز عن حجاج عن أبي معشر قال: لما بَعث مُصعبٌ برأس المختار إلى عبد الله بن الزُّبير فوُضع بين يديه قال: ما مِن شيء حَدَثنيه كعبُ الأحبار إلا قد رأيتُه غيرَ هذا فإنه قال لي: يَقتلك شاب من ثقيف فأراني قد قتلتُه. وقال محمد بن سيرين لما بلغه هذا الحديث: لم يعلم ابنُ الزبير أنّ أبا محمد قد خُبىء له. ولما قتل مصعب المختارَ بن أبي عُبيد ودانت له العراق كلها: الكوفة والبصرة قال فيه عبيدُ اللهّ بن قيس الرّقيات: كيف نَوْمي على الفِراش ولما تَشْمَل الشامَ غارةٌ شَعْوَاءُ تُذْهلُ الشيخَ عن بنيه وتُبْدِي عن خِدام العَقِيلةُ العَذْرَاء إنما مصعبٌ شهاب من الل ه تجلّت عن وَجْهه الظلْماء وتزوج مُصعب - لما ملك العراقَ - عائشة بنت طلحة وسُكينة بنت الحُسين ولم يكن لهما نظير في زمانهما. وقَتل مصعب امرأةَ المختار وهي ابنة النُّعمان بن بَشير الأنصاري فقال فيها عمرُ بن أبي ربيعة المَخزومي: إنَّ من أعظمِ المَصائب عندي قَتْل حَوْراءَ غادةٍ عَيْطَبول قُتلت باطلاً على غير ذَنْب إن لله دَرَّها مَن قَتيل كُتب القَتل والقِتال عليناً وعلى الغَانيات جَرُ الذيول مقتل عمرو بن سعيد الأشدق أبو عُبيد عن حجّاج عن أبي مَعشرِ قال: لما قَدم مُصعب بوجوه أهل العراق على أخيه عبد اللهّ بن الزُبير فلم يُعطهم شيئاً أبغضوا ابنَ الزُّبير وكاتَبوا عبد الملك بن مروان فخرج يُريد مصعبَ بن الزبير فلما لِم أخذ في جَهازه وأراد الخُروج أقبلت عاتكةُ بنت يزيد بن معاوية في جَواريها وقد تزينت بالحُلى فقالت: يا أمير المؤمنين لو قعدت في ظلال مُلكك ووجهت إليه كلْباً من كلابك لكَفاك أمرَه. فقال: هيهات! أما سمعت قولَ الأول: قَوْمٌ إذا ما غَزَوْا شَدوا مآزرَهم دون النِّساء ولو باتت بأطْهارِ. فلما أبى عليها وعَزم بكت وبكى معها جواريها. فقال عبدُ الملك: قاتل الله ابنَ أبي جُمعة كأنه ينظر إلينا حيث يقول: نهته فلما لم تَر النّهي عاقَه بَكت فَبكى مما دهاها قَطِينُها ثم خرج يُريد مصعب فلما كان من دِمشق على ثلاث مراحل أغلق عمرو بن سعيد دمشقَ وخالف عليه فقيل له: ما تصنعِ أتريد العراق وتَدع دمشق أهلُ الشام أشدّ عليك من أهل العراق فرجع مكانه فحاصر أهلٍ دمشق حتى صالح عمرو بن سَعيد على أنه الخليفةُ بعدَه وأن له مع كل عامل عاملا. ففَتح له دمشق وكان بيت المال بيد عمرو بن سَعيد فأرسل إليه عبدُ الملك: أن أخْرِج للحَرس أرزاقهم. فقال: إذا كان لك حَرس فإنِّ لنا حَرساً أيضاً. فقال عبد الملك: أخرج لحرسك أيضاً أرزاقَهم. فلما كان يوم من الأيام أرسل عبدُ الملك إلى عمرو بن سعيد نِصف النهارَ أن ائتني أبا أمية حتى أدبِّر معك أموراً. فقالت له امرأته: يا أبا أمية لا تذهب إليه فإنني أتخوّف عليك منه. فقال: أبو الذباب! والله لو كنت نائماً ما أيقظنِي. قالت: والله ما آمنُه عليك وإني لأجد ريح دم مَسْفوح. فما زالت به حتى ضربها بقائم سيفه فشجَّها. فخرج وخرج مه أربعة آلاف من أبطال أهل الشام الذين لا يُقدر على مثلهم مسلَحين فأحدقوا بخَضراء دِمشق وفيها عبدُ الملك فقالوا: يا أبا أُمية إن رابك رَيب فأَسمعنا صوتَك. قال: فدخل فجعلوا يصيحون: أبا أمية! أسمعنا صوتك وكان معه غلام أسحم شُجاع فقال له: اذهب إلى الناس! فقل لهم: ليس عليه بأس. فقال له عبد الملك: أمكراً عند الموت أبا أمية! خُذوه فأخذوه. فقال له عبد الملك: إني أقسمتُ إن أمكنتني منك يدٌ أن أجعل في عُنقك جامعة وهذه جامعة من فِضَّة أريد أن أبِرّ بها قَسمي. قال: فطَرح في رقبته الجامعة ثم طَرحه إلى الأرض بيده. فانكسرت ثنيَته فجعل عبدُ الملك ينظر إليه. فقال عمرو: لا عليك يا أمير المؤمنين عَظْم انكسر. قال: وجاء المُؤذنون فقالوا: الصلاة يا أمير المؤمنين لصلاة الظهر فقال لعبد العزيز بن مروان: اقتله حتى أرجع إليك من الصلاة. فلما أراد عبدُ العزيز أن يَضرب عُنقه قال له عمرو: نشدتُك بالرِّحم يا عبد العزيز أن لا تَقْتلني من بينهم فجاء عبدُ الملك فراه جالساً فقال: مالك لم تقتله! لَعنك اللهّ ولعن أمَّا ولدتك. ثم قال: قَدِّموه إليّ فأخذ الحَرْبة بيده فقال عمرو: فعلتها يا بن الزَرقاء! فقال له عبدُ الملك: إني لو علمتُ أنك تَبقى ويَصْلح لي ملكي لفديتُك بدم النَّاظر. ولكن قلّما اجتمع فَحلان في ذَوْد إلا عدا أحدُهما على الآخر ثم رفع إليه الحربة فقتله. وقعد عبدُ الملك يُرْعَد ثم أمر به فأدرج في بساط وأدخل تحت السَرير. وأرُسل إلى قَبيصة بن ذُؤيب الخُزاعيّ فدخل عليه فقال: كيف رأيك في عَمرو بن سعيد الأشدق قال: وأبصر قبيصةُ رجلَ عمرو تحت السرير فقال: اضرب عنقه يا أمير المؤمنين. قال: جَزاك الله خيراً أما علمتُ إنك لموفّق. قال قبيصة: اطْرح رأسه وانثُر على الناس الدَّنانير يَتشاغلون بها. ففعل وافترق الناس وهَرب يحيى بن سَعيد بن العاص حتى لحق بعبد اللهّ بن الزُبير بمكة فكان معه. وأرسل عبدُ الملك بن مروان بعد قتله عمرو بن سعيد إلى رجل كان يَستشيره وُيصْدر عن رأيه إذا ضاق عليه الأمر فقال له: ما ترى ما كان من فِعلي بعَمرو ابن سعيد قال: أمرٌ قد فات دَرَكه. قال: لتقولن. قال: حَزْم لو قتلتَه وحَييت أنت. قالت: أو لستُ بحيّ قال: هيهات! ليس بحيّ من أوقف نفسَه موقفاً لا يُوثق منه بعهد ولا عَقد. قال: كلام لو تقدَّم سماعُه فِعلي لأمسكتُ. ولما بلغ عبد الله بن الزبير قتلُ عمرو بن سعيد صَعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إن عبد الملك بن مروان قتل لَطِيم الشيطان كذلك نُولِّي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون. مقتل مصعب بن الزبير فلما استقرت البيعةُ لعبد الملك بن مروان أراد الخُروج إلى مُصعب بن الزبير فجعل يَستنفر أهل الشام فيُبطئون عليه فقال له الحجاجُ بن يوسف: سَلطني عليهم فوالله لأخرجنَّهم معك. قال له: قد سَلطتك عليهم. فكان الحجَّاج لا يَمر على باب رجل منِ أهل الشام قد تخّلف عن الخروج إلا أحرق عليه دارَه. فلما رأى ذلك أهلُ الشام خرجوا وسار عبدُ الملك حتى دنا من العراق. وخرج مصعب بأهل البصرة والكوفة فالتقوا بين الشام والعراق. وقد كان عبد الملك كتب كُتباً إلى رجاله من وجوه أهل العراق يدعوهم فيها إلى نَفسه ويَجعل لهم الأموال وكتب إلى إبراهيم بن الأشتر بمثل ذلك على أن يَخْذلوا مُصعبا إذا التقَوْا. فقال إِبراهيم بن الأشتر لمُصعب: إن عبد الملك قد كتب إليّ هذا الكتاب وقد كتب إلى أصحابي بمثل ذلك فادعُهم الساعةَ فاضرب أعناقَهم قال: ما كنت لأفعل ذلك حتى يَستبين لي أمرهم. قال: فأخرى. قال: ما هي قال: احبِسْهم حتى يَستبين لك ذلك. قال: ما كُنت لأفعل. قال: فعليك السلام وِالله لا تَراني بعدُ في مجلسك هذا أبداً. وقد كان قال له: دَعْني أدعو أهلَ الكوفة بما شرطه الله فقال: لا والله قتلتهُم أمس وأستنصر بهم اليوم! قال: فما هو إلا أن التَقوا فحولوا وُجوههم وصاروا إلى عبد الملك. وبقي مُصعب في شِرْذمة قليلة. فجاءه عُبيد الله بن زياد بن ظَبيان وكان مع مُصعب فقال: أين الناس أيها الأمير فقال: قد غدرتم يا أهل العراق! فرفع عُبيد الله السيفَ ليضرب مُصعبا فبدره مُصعب فضربه بالسيف على البَيضة فنَشِب السيفُ في البَيضة فجاء غلامُ لعُبيد الله ابن زياد بن ظَبيان فضرب مُصعبا بالسيف فقَتله. ثم جاء عُبيدُ الله برأسه إلى عبد الملك بن مروان وهو يقول: نُطيع مُلوك الأرض ما أقْسَطوا لنا وليس علينا. قَتْلُهم بمُحَرم قال: فلما نظر عبدُ الملك إلى رأس مُصعب خَر ساجداً. فقال عُبيد الله بن زياد بن ظَبيان وكان من فُتّاك العرب: ما ندمتُ على شيء قطُّ ندَمي على عبد الملك بن مروان إذ أتيتُه برأس مُصعب فخر ساجداً أن لا أكون ضربت عنقه فأكون قد قَتلت مَلِكي العرب في يوم واحد. وقال في ذلك عُبيد اللهّ ابن زياد بن ظَبيان: هَممتُ ولم أفعل وكِدْتُ ولَيتني فعلتُ فأدْمنت البُكا لأقاربِه فأوردتُها في النّار بكرَ بنَ وائلٍ وألحقتُ مَن قد خَرَّ شُكْراً بصاحبِه الرياشي عن الأصمعي قال: لما أُتي عبدُ الملك برأس مُصعب بن الزبير نظر إليه مليّاً ثم قال: متى تَلد قُريش مثلَك! وقال: هذا سيّد شَباب قُريش. وقيل لعبد الملك: أكان مُصعب يَشرب الطَلاء فقال: لو علم مُصعب أن الماء يُفسد مروءتُه ما شرََبه. ولما قُتل مُصعب دخل الناسُ على عبد الملك يُهنَئونه ودَخل معهم شاعرٌ فأنشده: الله أعطاك التي لا فَوقَها وقد أراد المُلْحِدون عَوْقَها عنك ويَأبَى اللًهُ سَوْقَها إليك حتى قَلّدُوكَ طَوْقها فأمر له بعشرة آلاف درهم. وقالوا: كان مُصعب أجلَ الناس وأسخى الناس وأشجع الناس. وكان تحته عَقيلتا قُريش: عائشة بنت طلحة وسكَينةُ بنت الحسين. ولما قُتل مُصعب خرجت سُكينة بنت الحسين تُريد المدينة فأطاف بها أهل العراق وقالوا: أحسنَ اللهُ صحابتَك يا ابنةَ رسول الله. فقالت: لا جزاكم الله عني خيراً ولا أخلف عليكم بخير من أهل بلد قتلتم أبي وجدي وعمّي وزَوْجي أيتمتموني صغيرةً وأرملتموني كبيرة. ولما بلغ عبد الله بن الزبير قتلُ مصعب صَعِد المنبر فجلس عليه ثم سكت فجعل لونُه يحمر مرة ويصفرّ مرة فقال رجل من قُريش لرجل إلى جنبه: ماله لا يتكلم! فوالله إنه لَلخطيب الَّلبيب. فقال له الرجل: لعلّه يريد أن يَذْكر مَقتل سيّد العرب فيشتدِّ ذلك عليه وغير ملوم. ثم تكلَم فقال: الحمدُ لله الذي له الخَلقُ والأمر والدنيا والآخرة يُؤتي المُلك مَن يشاء ويَنزع الملك ممن يشاء ويُعز من يشاء ويُذل مَن يشاء أما بعد. فإنه لم يَعِزّ مَن كان الباطل معه ولو كان معه الأنام طُراً ولم يَذِل من كان الحقّ معه ولو كان فرداً. ألا وإنّ خبراً من العراق أتانا فأحزننا وأفرحنا فأما الذي أحزننا فإنّ لفراق الحميم لوعةً يجدها حميمهُ ثم يَرْعوى ذوو الألباب إلى الصبر وكريم الأجر وأما الذي أفرحنا فإن قَتل مصعب له شهادةٌ ولنا ذَخيرة. أسلمه الطغام والصلْم الآذان أهلُ العراق وباعوه بأقل من الثمن الذي كانوا يأخذون منه فإن يُقتَل فقد قُتل أخوه وأبوه وابنُ عمه وكانوا الخيارَ الصالحين. أما والله لا نموت حتف أُنوفنا كما يموت بنو مروان ولكن قَعْصاً بالرماح وموتاً تحت ظلالِ السيوف فإن تقبل الدنيا علي لم آخذها مأخذَ الأشرِ البَطِر وإن تدْبر عني لم أبْك عليها بُكاء الخَرِف الزائل العَقْل. ولما توطَّد لابن الزُبير أمرُه ومَلك الحرمين والعراقين أظهر بعضُ بني هاشم الطعنَ عليه وذلك بعد موت الحسن والحسين فدعا عبدَ الله بن عبّاس ومحمدَ بن الحنفية وجماعةً من بني هاشم إلى بيعته فأبَوْا عليه فجعل يَشْتمهم ويَتناولهم على المِنبر وأسقط ذكرَ النبيّ ﷺ من خُطبته فعُوتب على ذلك فقال: والله ما يمنعني أني لا أذكره علانية من ذِكْره سرّاً وأُصلّي عليه ولكن رأيتُ هذا الحي من بني هاشم إذا سمعوا ذِكْرَه اشرأبت أعناقُهم وأبغض الأشياء إلي ما يسرهم. ثم قال: لتبايعُنَ أو لأحرقنكم بالنار. فأبوا عليه فحبَس محمدَ بن الحنفية في خمسةَ عشر من بني هاشم في السجن وكان السجنُ الذي حَبسهم فيه يقال له سِجن عارم. فقال في ذلك كُثير عَزَّة وكان ابنُ الزُبير يُدعى العائذ لأنه عاذ بالبيت: تخبَرُ مَن لاقيتَ أنك عائذ بل العائذ المَظلوم يفي سِجْن عارِم سَميُّ النبيّ المصطفى وابنُ عمه وفَكّاكُ أغلالٍ وقاضي مَغارم وكان أيضاً يُدعى المحِلّ لإحلاله القِتال في الحَرم. وفي ذلك يقول رجل من الشعراء في رَملة بنت الزُّبير: ألا مَن لِقَلْب مُعنَى غَزِلْ بذِكْر المُحِلّة أُخت المُحلّ ثم إن المختارً بن أبي عُبيد وجّه رجالاً يثق بهم من الشِّيعة يَكْمنون النهارَ ويسيرون الليل وخطب عبدُ الله بن الزبير بعد موت الحَسن والحُسين فقال: أيها الناس إن فيكم رجلاً قد أعمى الله قلبَه كما أعمى بصرَه قاتل أُمّ المؤمنين وحواريّ رسول اللهّ ﷺ وأفتى بزواج المُتعة. وعبدُ الله بن عباس في المسجد فقام وقال لعِكرمة: أقِم وَجْهي نحوه يا عكرمة ثم قال هذا البيت: إن يأخذ الله من عَيْنَيّ نورَهما ففي فُؤادِي وعَقْلي منهما نُورُ وأما قولُك يا بن الزبير إني قاتلت أُمّ المؤمنين فأنت أخرجتها وأبوك وخالُك وبنا سُمِّيت أُم المؤمنين فكُنّا لها خيرَ بنين فتجاوزَ الله عنها. وقاتلتَ أنت وأبوك عليّا فإن كان عليّ مؤمناً فقد ضللتم بقتالكم المؤمنين وإن كان كافراً فقد بؤُتم بسُخط من الله بفراركم من الزَّحف. وأما المُتعة فإني سمعتُ عليّ بن أبي طالب يقول: سمعتُ رسول الله ﷺ رخّص فيها فأفتيتُ بها ثم سمعتهُ يَنهي عنها وأول مِجْمر سطَع في المُتعة مجمر آل الزبير. مقتل عبد الله بن الزبير أبو عُبيد عن حجّاج عن أبي مَعْشر قال: لما بايع الناسُ عبدَ الملك بن مروان بعد قَتْل مُصعب بن الزبير ودخل الكوفة قال له الحجّاج: إني رأيتُ في المَنام كأني أسْلُخ ابنَ الزُّبير من رأسه إلى قَدميه. فقال له عبدُ الملك: أنت له فاخرج إليه. فخرج إليه الحجاج لا ألف وخمسمائة حتى نزل الطائفَ. وجعل عبدً الملك يُرسل إليه الجيوش رَسَلا بعد رَسَل حتى تَوافي إليه الناسُ قدرَ ما يظن أنه يَقْوى على قتال ابن الزبيرِ وكان ذلك في ذي القعدة سنة اثنتين وسبعين. فسار الحجاجُ من الطائف حتى نزل مِنَى فحجَّ بالناس وابنُ الزبير مَحصور ثم نَصب الحجاجُ المجانيق على أبي قُبيس وعلى قُعيْقان ونواحي مكة كُلِّها يرمي أهلَ مكة بالحجارة. فلما كانت الليلةُ التي قُتل يا صبيحتها ابنُ الزبير جمع ابنُ الزبير مَن كان معه من القرشيين فقال: ما ترون فقال رجل من بني مخزوم مِن آل بني ربيعة: والله لقد قاتلنا معك حتى لا نَجد مقيلًا ولئن صبرنا معك ما نزيد على أن نموت وإنما هي إحدى خَصْلتين: إما أن تأذن لنا فنأخذ الأمان لأنفسنا وإما أن تأذن لنا فَنخرج. فقالت ابن الزبير: لقد كنتُ عاهدتُ الله أن لا يبايعني أحدٌ فأُقيله بيعتَه إلا ابن صفوان. فقال ابن صفوان: أما أنا فإني أقاتل معك حتى أموت بموتك وإنها لتأخذني الحَفيظة أن أسلمك في مثل هذه الحالة. وقال له رجل آخر: اكتب إلي عبد الملك بن مروان. فقال له: كيف أكتب: من عبد الله أمير المؤمنين إلى عبد الملك بن مروان فوالله لا يَقبل هذا أبداً أم أكتب: لعبد الملك بن مروان أمير المؤمنين من عبد الله بن الزبير فوالله لأن تقع الخَضْراء على الغبراء أحبّ إليّ من ذلك. فقال عُروة بن الزُّبير وهو جالس معه على السرير: يا أمير المؤمنين قد جعل الله لك أُسوة. قال: من هو قال: حسن بن عليّ خَلع نفسه وبايع مُعاوية. فرِفع ابنُ الزبير رِجْلَه فضرب بها عُروة حتى ألقاه عن السرِير وقال: يا عروة قلبي إذاَ مثلُ قَلبك! والله لو قبلتُ ما تقولون ما عِشْت إلا قليلا وقد أخذت الدَنيَّة وإن ضربة بسيف في عِزّ خيرٌ من لَطْمَة في ذُلّ. فلما أصبح دخل عليه بعضُ نسائه وهي أُم هاشم بنت منصور بن زياد الفَزارية فقال لها: اصنعي لنا طعاماً فصنعت له كبداً وسَناماً. فأخذ منه لُقمة فلاكها ثم لفَظها ثم قال: اسقوني لَبناً. فأُتي بلبن فشرب منه. ثم قال: هَيِّئوا لي غُسلا فاغتسل ثم تحنط وتَطيَّب ثم نام نومة وخَرج ودَخل على أمه أسماء بنت أبي بكر ذات. النِّطاقين وهي عمياء وقد بلغت مائة سنة فقال: يا أماه ما ترين قد خَذلني الناس وِخَذلني أهلُ بيتي فقالت: لا يلعبن بِك صِبيان بني أُمية عِشْ كريماً ومُت كريماً. فخرج فأسند ظهرَه إلى الكعبة ومعه نفرٌ يسير فجعل يُقاتلهم ويَهْزِمهم وهو يقول: ويله! يا له فتْحا لو كان له رجال! فناداه الحجاج: قد كان لك رجال فضيّعتَهم. وجعل ينظر إلى أبواب المسجد والناس يَهْجُمون عليه فيقول: مَن هؤلاء فيقال له أهلُ مصر. قال: قَتلة عثمان! فحمل عليهم وكان فيهم رجل من أهل الشام يقال له خَلبوب فقال لأهل الشام: أما تستطيعون إذا ولَّى ابنُ الزبير أن لأخذوه بأيديكم قالوا: وُيمكنك أنت أن تأخذَه بيدك قال نعم. قالوا: فشأنَك. فاقبل وهو يريد أن يَحتضنه وابنُ الزبير يَرتجز ويقول: لو كان قِرْني واحداً كفيتُه فضربه ابنُ الزبير بالسيف فقطع يده. فقال خَلبوب: حَس قال ابن الزبير: اصبر خَلبوب. قال: وجاءه حجر من حِجارة المَنجنيق فأصاب قَفاه فسقط. فاقتحم أهلُ الشام عليه. فما فهموا قتلَه حتى سمعوا جارية تَبكي وتقول: وا أمير المؤمنيناه! فحزّوا رأسه وذهبوا به إلى الحجّاج. وقُتل معه عبد الله بن صَفوان وعُمارة بن حَزم وعبد الله بن مُطيع. قال أبو معشر: وبعث الحجاجُ برؤوسهم إلى المدينة. فنَصبوها للناس فجعلوا يُقرّبون رأسَ ابن صفوان إلى ابن الزبير كأنه يسارّه ويَلعبون بذلك. ثم بعث برؤوسهم إلى عبد الملك بن مَروان. فخرجت أسماء إلى الحجاج فقالت له: أتأذن لي أن أدفنه فقد قضيتَ أربك منه قال: لا. ثم قال لها: ما ظنّك برجل قَتل عبدَ الله بن الزبير قالت: حَسِيبُه اللهّ. فلما منعها أن تدفنه قالت: أما إنّي سمعتُ رسول الله يقول: يَخرج من ثقيف رجلاًن: الكذاب والمُبير فأما الكَذاب فالمُختار وأما المُبير فأنت. فقال الحجاج: اللهم مُبيرٌ لا كذّاب. ومن غير رواية أبي عُبيد قال: لما نَصب الحجاج المجانيق لقتال عبد الله بن الزُبير أظلتهم سحابة فأرعدت وأبرقت وأرسلت الصواعق ففزع الناس وامسكوا عن القتال. فقام فيهم الحجاجُ فقال: أيها الناس لا يهولنكم هذا فإني أنا الحجاج بن يوسف وقد أصحرتُ لربِّي فلو ركبنا عظيماً لحال بيننا وبينه. ولكنها جبال تهامة لم تزل الصواعقُ تنزل بها. ثم أمر بكُرسيّ فطُرح له ثم قال: يا أهل الشام قاتلوا على أعطيات أمير المؤمنين. فكان أهلُ الشام إذا رَموا الكعبة يَرْتَجزون ويقولون هذا: خَطّارة مثل الفَتِيق المُزْبِد يُرمى بها عُوّاذ أهل المَسجد ويقولون أيضاً: دِري عُقاب بلبن وأشخاب. فلما رأى ذلك ابن الزُّبير خرج إليهم بسيفه فقاتلهم حيناً. فناداه الحجِّاج: ويلك يا بن ذات النَطاقين! اقْبل الأمان وادْخل في طاعة أمير المؤمنين. فدخل على أمه أسماء فقال لها: سمعتِ - رحمك الله - ما يقول القومُ وما يَدْعونني إليه من الأمان قالت: سمعتُهم لعنهم الله! فما أجهلهم وأعجب منهم إذ يُعيرُونك بذات النّطاقين! ولو علموا ذلك لكان ذلك أعظَم فَخرك عندهم. قالت: وما ذاك يا أماه قالت: خرج رسولُ اللهّ ﷺ في بعض أسفاره مع أبي بكر فهيأت لهما سُفرة فطلبا شيئاً يَرْبطانها بها فما وجداه فقطعتُ من مِئْزري لذلك ما احتاجا إليه فقال رسولُ الله ﷺ: أمَا إن لك به نِطاقين في الجنَة. فقال عبد الله: الحمد لله حمداً كثيرِاً فما تأمريني به فإنهم قد أعْطوني الأمان قالت: أرى أن تموت كريماً ولا تتَّبع فاسقاً لئيماً وأن يكون آخر نهارك أكرمَ من أوله. فَقبَّل رأسها وودّعها وضمّته إلى نفسها. ثم خرج من عندها فَصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنّ الموت قد تغشَاكم سحابُه وأحْدف بكم رَبابُه واجتمع بعد تَفرّق وارجحنّ بعد تَمشّق ورَجَس نحوكم رعدُه وهو مُفْرغ عليكم وَدْقه وقاد إليكم البلايا تَتْبعها المنايا فاجعلوا السيوفَ لها غرضاً واستعينوا عليها بِالصبر. وتمثَّل بأبيات ثم اقتحم يُقاتل وهو يقول: قد جَدّ أصحابُك ضرْبَ الأعْناقْ وقامت الحربُ لها على ساقْ ثم جعل يُقاتل وحده ولا يَهُدّه شيء كلما اجتمع عليه القومُ فرقهم وذادهم حتى أثخن بالجراحات ولم يستطع النُّهوض. فدخل عليه الحجّاج فدعا بالنَطع فحزّ رأسه هو بنفسه في داخل مسجد الكعبة - لا رَحم الله الحجّاج - ثم بعث برأسه إلى عبد الملك بن مَروان وقَتَل من أصحابه مَن ظَفِر به. ثم أقبل فاستأذن على أمه أسماء بنت أبي بكر ليعزّيها فأذنت له فقالت له: يا حجّاج قتلتَ عبد الله قال: يا ابنة أبي بكر إني لقاتلُ الملحدين. قالت: بل أنت قاتل المُؤمنين الموحَدين. قال لها: كيف رأيتِ ما صنعتُ بابنك قالت: رأيتك أفسدت عليه دنياه وأفسد عليك آخرتك ولا ضَير أنْ أكرمه الله على يَديك فقد أهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بَغيّ من بغايا بني إسرائيل. هشامُ بن عُروة عن أبيه قال: كان عُثمان استخلف عبد الله بن الزُّبير على الدار يوم الدار فبذلك ادّعى ابنُ الزبير الخلافَة. محمد بن سعيد قال: لما نَصب الحجاج رايةَ الأمان وتصرّم الناسُ عن ابن الزبير قال لعبد الله بن صَفْوان: قد أقلتُك بيعتي وجعلتُك في سَعة فخُذ لنفسك أماناً. فقال: مه والله ما أعطيتُك إياها حتى رأيتُك أهلاً لها وما رأيتُ أحداً أولى بها منك فلا تَضربُ هذه الصلعةَ فتيانُ بني أمية أبداً وأشار إلى رأسه. قال: فحدثت سليمان بن عبد الملك حديثَه فقال: إني كنت لأراه أعرجَ جباناً. فلما كانت الليلة التي قُتل في صباحها ابنُ الزُّبير أقبل عبدُ الله بن صفوان وقد دنا أهلُ الشام من المسجد فاستأذن. فقالت الجاريةُ: هو نائم. فقال: أو ليلةُ نوم هذه أيْقظيه فلم تَفعل. فأقام ثم استأذن. فقالت: هو نائم فانصرف. ثم رجع آخرَ الليل وقد هجم القومُ على المَسجد. فخرج إليه فقال: والله ما نِمْتُ منذُ عَقلت الصلاة نومي هذه الليلةَ وليلةَ الجمل ثم دعا بالسّواك فاستاك متمكَناً ثم توضَّأ متمكناً ولبس ثيابَه ثم قال: أنظرني حتى أودِّع أمَّ عبد الله فلم يَبقَ شيء وكان يكره أن يأتيَها فتعزمَ عليه أن يأخذ الأمان فدخل عليها وقد كُفّ بصرُها فسلّم فقالت: مَن هذا فقال: عبد الله فشمّته ثم قالت: يا بُني مُت كريماً. فقال لها: إن هذا قد أمّنني - يعني الحجاج - قالت: يا بني لا تَرضَ الدنيَّة فإن الموت لا بُدّ منه. قال: إني أخاف أن يُمثِّلِ بي. قالت: إن الكَبْش إذا ذُبح لم يأمن السلخ. قال: فخَرج فقاتل قتالاً شديداً. فجعل يَهْزِمهم ثم يَرجع ويقول: يا له فتحاً لو كان له رجال! أو كان المُصعب أخي حَيًّاً! فلما حَضرت الصلاة صلّى صلاته ثم قال: أين باب أهل مصر حَنقاً لعثمان. فقاتل حتى قتل وقُتل معه عبدُ اللهّ بن صفوان. وأتي برأسه الحجاجُ وهو فاتح عَينيه وفاه فقال: هذا رجل لم يكن يعرف القَتل ولا ما يَصير إليه المقتول لذلك فتح عَينيه وفاه. هشام بن عُروة عن أبيه: إن عبد اللهّ بن الزُّبير كان أولَ مولود وُلد في الإسلام فلما وُلد كبّر النبيُّ ﷺ وأصحابه ولما قُتل كبَر الحجاج ابن يوسف وأهلُ الشام معه. فقال ابن عمر: ما هذا قالوا: كَبّر أهل الشام لقتل عبد الله بن الزُّبير. قال: الذين كَبَروا لمولده خيرٌ من الذين كبَروا لقتله. أيوب عن أبي قُلابة: شهدتُ ابنةَ أبي بكر غَسّلت ابنها ابنَ الزُّبير بعد شهر وقد تقطعت أوصاله وذُهب برأسه وكَفّنته وصلّت عليه. هشام بن عُروة قال: عبدُ الله بن عبَّاس للجائز به: جَنِّبني خَشبة ابن الزُّبير. فلم يَشعر ليلة حتى عَثر فيها فقال: ما هذا فقال: خَشبة ابن الزبير. فوقف ودعا له وقال: لئن عَلتْك رجلاك لطالما وقفتَ عليهما في صَلاتك. ثم قال لأصحابه: أما والله ما عرفتهُ إلا صَوّاماً قَوّاماً ولكنني ما زلتُ أخاف عليه منذ رأيتهُ أن تُعجبه بَغلاتُ معاوية الشُهب. قال: وكان معاوية قد حَجّ فدخل المدينة وخلفه خمسَ عشرةَ بغلة شهباء عليها رحائل الأرجوان فيها الجواري عليهن الجَلابيبُ والمُعَصفرات ففُتن الناس. أولاد عبد الملك بن مروان الوليد وسليمان من العَبْسية ويزيد وهشام وأبو بكر ومَسْلمة وسَعيد الخير وعبدُ الله وعَنْبسة والحجاج والمُنذر ومَرْوان الأكبر ومَروان الأصغر - ولم يُعقب مروان الأكبر - ومحمد ومُعاوية دَرَج. وفاة عبد الملك بن مروان توفّي عبد الملك بن مروان بدمشق للنِّصف من شوال سنة ست وثمانين وهو ابن ثلاث وستين وصلّى عليه الوليد بن عبد الملك. ووُلد عبدُ الملك في المدينة في دار مَروان سنة ثلاث وعشرين وكتب عبدُ الملك إلى هشام بن إسماعيل المَخزوميّ وكان عاملَه على المدينة أن يدعو الناسَ إلى البيعة لابنيه الوليد وسليمان. فبايع الناسُ غيرَ سعيد بن المُسيِّب فإنه أبى وقال: لا أبايع وعبدُ الملك حيّ. فضربه هشام ضرباً مُبرَحاً وألبسه المَسوح وأرسله إلى ثنيَّة بالمدينة يَقتلونه عندها ويَصْلُبونه فلما انتهوا به إلى الموضع ردّوه. فقال سَعيد: لو علمتُ أنهم لا يَصْلبونني ما لبستُ لهم التُّبّان. وبلغ عبدَ الملك خبرهُ فقال: قَبح الله هشاماً مِثل سعيد بن المُسيِّب يُضرب بالسياط! إنما كان ينبغي له أن يدعوَه إلى البَيعة فإن أب يَضْرب عنقه. وقال للوليد: إذا أنا مِتُّ فَضعْني في قبري ولا تَعْصر في عَيْنيك عَصْر الأمة ولكن شَمِّر وائتزر والبَس للناس جِلْد النمر فمن قال برأسه كذا فقُل بسَيْفك كذا. ولاية الوليد بن عبد الملك ثم بُويع للوليد بن عبد الملك في النِّصف من شوال سنة ست وثمانين. وأم الوليد ولّادة بنت العباس بن جَزْء بن الحارث بن زُهير بن جَذيمة العَبْسي. وكان على شُرطته كَعْب بن حمّاد ثم عَزله وولى أبا نائل بن رِياح ابن عَبدة الغساني. ومات الوليد يوم السبت في النِّصف من شهر ربيع الأول سنة ست وتسعين وهو ابن أربع وأربعين. وصلّى عليه سليمان. وكانت ولايته عشرَ سنين غيرَ شهور. ولد الوليد بن عبد الملك عبد العزيز ومحمد وعَنْبسة ولم يُعْقِبوا - وأمهم أم البنين بنت عبد العزيز ابن مروان - والعباس وبه كان يُكنى ويقال: إنه كان أكبرهم وعمر وبشر ورَوْح وتمّام ومبشر وحَزْم وخالد ويزيد ويحيى وإبراهيم وأبو عُبيدة ومَسرور ومَنْصور ومَرْوان وصَدقة لأمهات أولاد. وأم أبي عُبيدة فَزارية. وكان أبو عُبيدة ضَعيفاً. وولي الخلافة من ولد الوليد إبراهيم شهرين ثم خُلع. وولي يزيد الكامل شهراً ثم مات. وكان تمام ضعيفاً هجاه رجل فقال: بنو الوليد كرامٌ في أرومتهمِ نالوا المكارمَ طُرًّا غيرَ تَمّام ومَسرور بن الوليد وكان ناسكاً وكانت عنده بنتُ الحجاج. وكان بِشْر من فتيانهم ورَوْح من غلمانهم والعباس من فُرسانهم وفيه يقول الفرزدق: إنَ أبا الحارث العباس نائله مثلُ السماك الذي لا يُخلِف المَطَرَا وكانت تحته بنتُ قُطَريّ بن الفجاءة سباها وتزوجها. وله منها: المُؤمّل والحارث وكان عمر من رجالهم كان له تسعون ولداً ستون منهم كانوا يركبون معه إذا ركب. وقال رجل من أهل الشام: ليس من ولد الوليد أحدٌ إلا ومَن رآه يَحسب أنه من أفضل أهل بيته ولو وُزن بهم أجمعين عبدُ العزيز لرجحهم. وفيهم يقول جرير: وبنو الوليد مِن الوليد بمنزلٍ كالبدر حُفّ بواضحاتِ الأنجُم وعبد العزيز بن الوليد أراد أبوه أن يُبايع له بعد سُليمان فأي عليه سليمان. وحدّث الهيثم بن عدي عن ابنٍ عياش قال: لما أراد الوليدُ أن يبايع لابنه عبد العزيز بعد سُليمان أبى ذلك سليمان وشنِّع عليه فقيل للوليد: لو أمرت الشعراء أن يقولوا في ذلك لعلّه كان يَسكت فتُشهد عليه بذلك. فدعا الأقبيل القَيني فقال له: ارتجز بذلك وهو يَسمع. فدعا سليمان فسايره والأقبيل خلفه فرفع صوته وقال: إنَ وليّ العَهد لابن أمه ثم ابنهُ وليّ عهد عمّه يا ليتها قد خرجت من فمّه فالتفت إليه سليمان وقال: يا بن الخبيثة من رضي بهذا! أخبار الوليد أبو الحسين المدائني قال: كان الوليد أسنَّ ولد عبد الملك وكان يُحبه فتراخَى في تأديبه لشدَة حُبه إياه فكان لحّاناً. وقال عبدُ الملك: أضرَنا في الوليد حُبًّنا له. فلم يُوجِّهه إلى البادية. وقال الوليد يوماً وعنده عُمر بن عبد العزيز: يا غلام ادع لي صالح. فقال الغلام: يا صالحاً. فقال له الوليد: انقص ألفاً. فقال عمر بن عبد العزيز: وأنت يا أمير المؤمنين فزِدْ ألفاً. وكان الوليد عند أهل الشام أفضلَ خلفائهم وأكثرَهم فُتوحا وأعظمَهم نفقة في سبيل الله بنى مسجدَ دمشق ومسجدَ المدينة وَوضع المنابر وأعطىِ المجْذومين حتى أغناهم عن سُؤال الناس وأعطى كلِّ مُقعد خادماً وكل ضرير قائداَ. وكان يَمر بالبقَّال فيتناول قَبْضة فيقول: بكمْ هذه فيقول: بفَلْس فيقول: زِدْ فيها فإنك تَربح. ومَرَّ الوليدُ بمعلّم كُتَّاب فوجد عنده صَبيَّة فقال: ما تَصنع هذه عندك فقال: أُعلّمها الكتابة والقرآن. قال: فاجعل الذي يُعلّمها أصغرٍ منها سناً. وشكا رجل من بني مخزوم دَيْناً لَزِمه فقال: نَقْضيه عنك إن كُنت لذلك مُستحقّا. قال: يا أمير المؤمنين وكيف لا أكوِن مُستحقًّا في مَنزلتي وقَرابتي قال: قرأتَ القرآن قال: لا. ادْن مني فدنا منه فنزع العِمامة عن رأسه بقَضيب في يده ثم قَرعه به قَرْعة وقال لرجل من جلسائه: ضُمّ إليك هذا العِلْج ولا تُفارقه حتى يَقرأ القرآن. فقام إليه آخر فقال: يا أمير المؤمنين اقض دَيْني فقال له: أتقرأ القرآن قال: نعم. فاستقرأه عَشْراً من الأنفال وعَشْرا من براءة فقرأ. فقال نعم نَقضي دَينك وأنت أهلٌ لذلك. وركب الوليدُ بعيراً وحادٍ يحدُو بين يديه والوليد يقول: يا أيها البَكْر الذي أراكا ويحك تَعْلمُ الذي عَلاكا خليفة الله الذي امتطاكا لم يُحْبَ بكْر مثلَ ما حباكا ولاية سليمان بن عبد الملك