وقال ﷺ: لا تَقْتدوا بمن ليست له عُقْدة. قال: وما خَلق الله خَلقاً أحبَّ إليه من العقل. وكان يقال: العقل ضربان: عَقْل الطبيعة وعقل التَّجْربة وكلاهما يُحتاج إليه ويؤدَي إلى المنفعة. وكَان يُقال: لا يكون أحدٌ أحب إليك من وَزِيرٍ صالح وافِر العقل كامِل الأدب حَنيك السن بَصير بالأمور فإذا ظَفِرْتَ به فلا تُباعِدْه فإنَّ العاقلَ ليس يمانِعك نَصِيحَته وإن جَفَتْ. وكان يقال: غَرِيزة عقل لا يَضِيعِ معها عَمَل. وكان يقال: أجَل الأشياء أصلاَ وأحْلاها ثمرةً صالحُ الأعمال وحُسن الأدب وعقل مُسْتَعمل. وكان يقال: التجاربُ ليس لها غاية والعاقلُ منها في الزَيادة. ومما يُؤكَد هذا قولُ الشاعر: ومكتوب في الْحِكمة: إنَّ العاقلَ لا يغترَّْ بمودَّة الكَذوب ولا يثِق بنَصيحته ويُقال: مَن فاته العقلُ والفُتوَّة فرَأْسُ مالِه الجَهْلُ. ويُقال: من عَير الناسَ الشيءَ ورَضِيه لنفْسه فذاك الأحْمق نفسُه. وكان يقال: العاقلٍ دائمُ المودَة والأحمق سَريع القطِيعة. وكان يقال: صَديق كل امرئ عقله وعدوُه جَهْله. وكان يقال: المعْجبِ لَحُوح والعاقلُ منه في مَؤُونهَ. وأمَا العُجْب فإنه الجَهْل والكِبر. وقيل: أعلى الناس بالعَفْو أقدرُهم على العُقوبة وأنْقص الناس عقلاً مَن ظَلم من هو دونه. ويقال: ما شيء بأحسنَ من عَقْل زانه حِلْم وحِلْم زانه عِلم وعِلم زانه صِدْق وصِدْق زانه عَمَل وعَمَل زانه رِفْق. وكان عمر بن الخطّاب رضىِ الله عنه يقول: ليس العاقلُ من عَرف الخير من الشر بل العاقلُ مَن عرف " خَير " الشرّين ويقال: عدوٌ عاقل أحب إلي من صديقٍ جاهل. وكان يقال: الزم ذا العقل وذا الكرم واسترسل إليه وإياك وفراقه إذا كان كريماً ولا عليك أن تصحب العاقل وإن كان غير محمود الكرم لكن احترس من شين أخلاقه وانتفع بعقله ولا تدع وكان يقال: قطيعة الأحمق مثل صلة العاقل. وقال الحسن: ما أودع الله تعالى أمرأ عقلاً إلا استنقذه به يوماً ما. وأتى رجلٌ من بني مجاشع إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله ألست أفضل قومي قال النبي ﷺ: إن كان لك عقل فلك فضل وإن كان لك تقي فلك دينٌ وإن كان لك مالٌ فلك حسب وإن كان لك خلق فلك مروءة. قال: تفاخر صفوان بن أمية مع رجل فقال صفوان: أنا صفوان بن أمية بخٍ بخٍ فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: ويلك! إن كان لك دين فإن لك حسباً وإن كان لك عقل فإن لك أصلاً وإن كان لك خلق فلك مروءة وإلا فأنت شرٌ من حمار. وقال النبي ﷺ: كرم الرجل دينه ومروءته عقله وحسبه خلقه. وقال: وكل الله عز وجل الحرمان بالعقل ووكل الرزق بالجهل ليعتبر العاقل فيعلم أن ليس له في الرزق حيلة. وقال بزرجمهر: لا ينبغي للعاقل أن ينزل بلداً ليس فيه خمسة: سلطان قاهر وقاضٍ عدل وسق قائمة ونهرٍ جارٍ وطبيب عالم. وقال أيضاً: العاقل لا يرجو ما يعنف برجائه ولا يسأل ما يخاف منعه ولا يمتهن ما لا يستعين سئل أعرابي: أي الأسباب أعون على تذكية العقل وأيها أعون على صلاح السيرة فقال: أعونها على تذكية العقل التعلم وأعونها على صلاح السيرة القناعة. وسُئل عن أجود المواطن أن يُخْتبر فيه العقل فقال: عند التّدْبير. وسُئِل: هل يَعمل العاقلُ بغير الصَّواب فقال: ما كلّ ما عُمِل بإذن العقل فهو صواب. وسُئل: أيُّ الأشياء أدلُّ على عَقل العاقل قال: حُسن التَّدْبير. وسُئل: أي مَنافع العقل أعظم قال: اجتنابُ الذّنوب. وقال بُزُرْجَمهِر: أفْره ما يكونُ من الدّوابّ لا غِنى بها عن السَّوْط وأَعفُّ مَن تكون منِ النساء لا غِنى بها عن الزًوْج وأَعْقل من يكون من الرِّجال لا غِنى به عن مَشورة ذوِي الأَلباب. سُئل أعرابيّ عن العقل متى يُعرف قال: إذا نَهاك عقلُك عمّا لا يَنْبغي فأنت عاقل. وقال النبي ﷺ: العَقْل نُور في القْلب نُفرِّق به بين الحقّ والباطل وبالعَقْل عُرِف الْحَلال والْحَرام وعُرِفَت شَرائع الإسلام ومَواقع الأحكام وجَعَله الله نُوراً في قُلوب عِبَاده يَهْديهم إلى هُدًى ويَصُدُّهم عن رَدى. " ومِن جَلالة قَدْر العَقْل أنَّ اللهّ تعالى لم يُخاطب إلا ذَوي العُقول فقال عزَّ وجلّ: " إنما يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَاب ". وقال: " لِتُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا ". أي عاقلا وقال: " إِنّ في ذَلِكَ لَذِكْرَى لمَنْ كَانَ لهُ وقال النبي ﷺ: العاقل يَحْلُم عمّن ظَلَم ويَتواضع لمن هو دُونه ويُسابق إلى البِرّ مَن فَوْقه. وإذا رأى بابَ بِرٍّ أنتهزه وإذا عَرَضت له فِتْنة اعتَصم بالله وتَنَكَّبَها. وقال ﷺ: قِوَام المَرْء عَقْلُه ولا دينَ لمن لا عَقْل له. وإذا كان العَقْل أشرَفَ أَعلاق النَّفس وكان بقَدْر تمكُّنه فيها يكونُ سُمُوُّها لطَلَب الفضائل وعلوُّها لابتغاء المَنازل كانت قِيمةُ كلّ امرىء عقلَه وحِلْيَتُه التي يَحْسُن بها في أَعُين الناظرين فَضْلَه. ولعَبْد اللهّ بن محمَّد: تأَمَّل بعَيْنَيْكَ هذا الأنام وكُنْ بعضَ مَن صانه نُبْلُهُ فحِليةُ كلَّ فتىً فَضْلُه وقِيمة كلَّ آمرىءٍ عقْله ولا تتكل في طِلاب العُلا على نَسَب ثابتٍ أَصلُه فما من فتىً زانَه أهلُه بشيءٍ وخاًلَفه فِعْلُه ويُقال: العَقْلُ إدْراك الأشياء على حَقائقها فَمَن أدرَك شيئاً على حقيقته فقد كَمُل عَقْله. وقيل: العقْل مِرآه الرَّجُل. أَخذه بعضُ الشعراء فقال: فإذا كانَ عليها صَدَأ فَهْوَ جَهالَه وإذا أَخْلَصه الل ه صِقالاً وصَفَا له فَهْي تُعْطِي كُلَّ حيٍّ ناظرٍ فيها مِثَاله ولآخر: لا تَراني أَبداً أُك رِمُ ذَا المالَ لمالهِ لا ولا تزْرِي بمَنْ يع قل عِنْدِي سُوءُ حالهِ إنما أَقضي عَلَى ذَا كَ وهذا بِفِعَاله أنا كاْلمِرآةِ أَلْقَى كل وجهٍ بِمثاله كيفما قَلَّبني الَدهرُ يَجدْني مِنْ رِجَاله ولبعضهم: إذا لم يَكُنْ لِلْمَرْءِ عَقْلٌ فإنَّه وإن كان ذا نُبْلٍ على النَّاس هَين وإن كان ذا عقْل أُجِلَّ لعَقْله وأَفضلُ عَقْل عقْلُ مَنْ يتَدَيَّن وقال آخر: ويُقال: إنّ العَقْل عينْ القَلْب فإذا لم يَكُن للمرء عقْل كان قَلْبه أكمه. وقال صالح بنُ جَنَاح: ألاَ إنَّ عقْل المرء عَيْنَا فُؤادِه وإنْ لم يكن عقْل فلا يُبْصِر القَلبُ وقال بعضُ الفلاسفة: الهَوَى مصاد العَقْل. ولعبد الله بن ميحمد: ثلاث مَنْ كنَّ فيه حَوَى الفضلَ وإن كان راغباً عن سِواها: صِحَّة العَقْل والتَّمسُّك بالعَدْل وتَنزيه نَفسه عن هَوَاها. ولمحمد بن الْحَسن بن دُريد: وآفةُ العقل الهَوَى فمنْ عَلا على هَوَاهُ عقلُه فَقد نَجَا وقال بعضُ الحُكماء: ما عبد الله بشيء أحبَّ إليه من العقل وما عُصي بشيءِ أحبَّ إليه من السَّتْر. وقال مَسْلمة بن عبد الملك: ما قرأتُ كتاباً قطُّ لأحد إلا عرفتُ عقله منه. وقال يحيى بن خالد: ثلاثةُ أشياء تدلُّ على عُقول أرْبابها: الكتاب يدُل على عقل كاتبه والرسولُ يَدُل على عقل مُرْسِله والهديَّةُ تدل على عقل مُهديها. واستعمل عمرُ بن عبدِ العزيز رجلاً فقيل له: إنه حَدِيث السنّ ولا نراه يَضْبط عملَك فأخذ العهدَ منه وقال: ما أُراك تَضبِط عملَك لحداثتك فقال الفَتى: وليس يَزيد المرءَ جهلاً ولا عَمىً إذا كان ذا عَقْل حداثةُ سِنَهِ فقال عمرُ: صدق ورَدَّ عليه عهدَه. وقال جَثّامة بن قَيْس يَصِف عاقلاً: بَصِيرٌ بأَعْقاب الأمور كأئما تُخاطِبه من كلّ أمرٍ عواقبُهُ ولغيره في المعنى: بَصِير بأَعقاب الأمُور كأنّما يَرَى بصَواب الرأْي ما هو واقعُ وقال شَبِيبُ بن شَيْبة لخالد بنِ صَفْوان: إني لأَعْرف أمراً لا يتلاقى فيه اثنان إلا وَجب النُّجح بينهما قال له خالد: ما هو قال العقل فإن العاقل لا يسأل إلا ما يجوز ولا يردّ عما يُمكن. فقال له خالد: نعَيتَ إليَّ نفسي إنّا أهل بَيْت لا يموتُ منّا أحدٌ حتى يرى خَلفه. وقال عبدُ اللهّ بن الحُسن لابنه محمد يا بني احذَر الجاهل وإن كان لك ناصحاً كما تَحْذر العاقلَ إذا كان لك عدوًا ويُوشِك الجاهلُ أن توَرطَك مَشورته في بعض اغترارك فيَسْبِقَ إليك مكْر العاقل وإِيَّاكَ ومُعاداة الرّجال فإنك لا تَعْلَمَنّ منها مَكْرَ حَلِيم عاقل أو مُعاندة جاهل. وقال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب صلواتُ الله عليه: لا مالَ أعودُ من عقل ولا فَقر أضرُّ من جَهل. ويُقال: لا مرُوءة لمن لا عَقلَ له. وقال بعضُ الحًكماء: لو استغنى أحدٌ عن الأدب لاستَغْنى عنه العاقل ولا يَنتَفع بالأدب مَن لا عَقل له كما لا ينتَفع بالرّياضة إلا النِّجيب. وكان يُقال: بالعقل تُنَال لذَّة الدنيا لأنّ العاقل لا يَسْعَى إلا في ثلاث: مَزِية لمَعاش أو مَنْفعة لمَعاد أو لذة في غير مُحرم. ولبعضهم: إذا أحببتَ أقواماً فلاصِقْ بأهْل العَقل منهم والحَيَاء فإنّ العقلَ ليس له إذا ما تفاضلت الفضائل من كفاء لمحمّد بن يزيد: وأفضَل قَسْم الله للمَرْء عقلًه وليس منَ الخَيراتِ شيءٌ يُقارِبهُ إذا أكمل الرحْمن للمرء عقلَه فقد كَمُلت أخلاقُه ومآربُه يَعِيش الفتَى بالعقلِ في النَاس إنّه على العقل يَجْري عِلْمهُ وتجَاربهً فَزَينُ الفتَى في النًاس صِحَّةُ عقله وإن كان مَحْصوراً عليه مَكاسِبه وشَين الفَتى في النَّاس قِلّة عقله وإن كَرُمت أعراقهُ ومَناسِبهُ ولبَعْضهم: العقْلُ يأمر بالعَفاف وبالتُّقَى وإليه يَأْوِي الحِلْمُ حين يؤولُ فإن استطعتَ فخُذْ بفَضلك فَضْلَه إنَّ العُقول يُرى لها تَفضيل ولبعضهم: إذا جمُع الآفاتُ فالبُخْل شَرها وشرَ منَ البُخل المواعيدُ والمَطلُ ولا خَيرَ في عقل إذا لم يَكًن غنىً ولا خَيْر في غِمْدٍ إذا لم يكًن نَصْل وإن كان للإنسان عقل فعَقْلُه هُو النَصْل والإنسانُ مِن بعده فَضْل ولبَعضهم: يُمَثَل ذو العقل في نَفْسه مصائبَه قبْل أن تنْزِلا فإن نزلت بَغْتةً لم ترعه لِما كان في نفسه مَثَلا رأى الهمَّ يُفْضي إلى آخِرٍ فَصيَّرَ آخرَه أوَّلا الحكمة قال النبي ﷺ: ما أخلصَ عبدٌ العملَ لله أربعين يوماً إلا ظهرت يَنابيعُ الحِكْمة من قَلْبه على لسانه. وقال عليه الصلاةُ والسلام: الحِكْمة ضالّة المُؤْمن يأخذها ممَن سَمِعها ولا يبالي من أيَ وعاء خَرجت. وقال عليه الصلاةُ والسلام: لا تَضَعوا الحِكْمة عِنْدَ غير أهلها فتَظلِمُوها ولا تَمْنعوها أهلَها فَتَظْلِمُوهم. وقال الحُكماء: لا يطلب الرجلُ حِكْمة إلا بحكمة عنده. وقالوا: إذا وَجَدتم الحِكْمة مَطْرُوحة على السكك فخُذوها. وفي الحديث: خُذوا الحِكْمة ولو من أَلْسِنة المُشْركين. وقال زياد: أيها الناس لا يَمْنعكم سوءُ ما تَعْلمون منَّا أن تنَنْتفعوا بأحْسَنِ ما تسمعون منّا فإِنَّ الشاعر يقول: اعْمل بعِلْمي وإن قَصَّرْت في عَمَلي يَنْفَعْك قولِي ولا يَضْرُرْكَ تَقْصِيرِي قيل لقُس بن ساعدة: ما أفضلُ المَعْرِفة قال معْرفة الرجل نَفْسَه قِيل له: فما أَفضلُ العِلْم قال: وقوف المرء عند عِلْمه قِيل له: فما أفضلُ المروءة قال: استبقاءُ الرجل ماء وَجْهه. وقال الحسنُ: التّقْدِير نِصْف الكَسْب والتًّؤدة نِصف العقل وحُسْن طَلب الحاجة نِصْف العِلْم. وقالوا: لا عقلَ كالتَّدبير ولا وَرَع كالكفّ ولا حَسَب كحُسْن الخُلق ولا غِنى كرِضا عن الله وأَحقُّ ما صبر عليه ما ليس إلى تَغْييره سَبيل. وقالوا: أفضلُ البرِّ الرّحمة ورَأْس المودّة الاسترسالُ ورَأس العُقوق مُكاتمة الأَدْنين ورَأْس العَقْل الإصابة بالظنّ. وقالوا: التفكًر نور والغَفلة ظُلْمة والجهالة ضَلالة والعِلم حَياة والأوّل سابق والآخِر لاحِق والسعِيد من وُعِظ بغَيْره. حَدَّث أبو حاتم قالِ: حدّثني أبو عُبيدة قال: حدّثني غيرُ واحد من هَوازِنَ من أولي العِلم وبعضُهم قد أدرك أبوه الجاهلية " أو جدُّه " قالوا: اجتمع عامر بن الظرِب العَدْواني وحُممَة بن رافعِ الدَّوْسيّ - ويَزعمُ النُّساب أنّ ليلى بنت الظَّرب أُمُّ دوس وزينبَ بنت الظرب أُمُ ثقيف " وهو قَيْسي " - عند مَلك من مُلوك حِمْير فقال: تَساءَ لا حتى أَسْمع ما تقولان. فقال عامر لحُممة: أين تُحِب أن تكون أياديك قال: عند ذي الرَّثْية العَدِيم وعند ذي الخلّة الكَريم والمُعْسِر الغَريم والمُسْتَضْعف الهضِيم. قال: مَن أحقُّ الناس بالمقْت قال: الفَقِير المُختال والضعيف الصوال والعَييّ القوّال قال: فمَن أَحق الناس بالمنّع قال: الحَرِيص الكاند والمُستميد الحاسد والمُلْحِف الواجِد. قال: فمن أجدرُ الناس بالصَنيعة قال: من إذا أُعطى شَكر وإذا مُنِع عَذر وإذا مُطِل صَبر وإذا قدُم العهدُ ذكَر قال: من أكرمُ الناس عِشْرة قال: من إذا قَرُب مَنَح " وإذا بَعُد مدح " وإذا ظُلم صَفَح وإذا ضُويق سَمح قال: مَن ألأم الناس قال: مَن إذَا سأل خَضع وإذا سُئل مَنع وإذا مَلك كَنَع ظاهِره جَشع وباطنه طَبع. قال: فمن أحْلم الناس قال: من عَفا إذا قَدَر وأجملَ إذا انتصر ولم تُطْغِه عِزَّة الظَّفر. قال: فمن أحزمُ الناس قال: مَن لا أَخذ رقابَ الأمور بيدَيه وجَعل العواقبَ نُصْب عَيْنَيه ونَبذ التهيب دَبْر أُذنيه. قال: فمن أَخرقُ الناس قال: مَن رَكِب الْخِطار واعتَسف العِثَار وأَسرعَ في البِدَار قبلَ الاقتِدار. قال: مَن أَجوَدُ الناس قال: مَن بذل المجهود ولم يأس على المعهود. قال: مَن أَبلغ الناس قال: مَن جَلَّى المعنى المزِيز بالّلفظ الوجيز وطَبَّق المفْصل قبل التَّحزيز. قال: من أنعم الناس عَيشاً قال: من تحلَّى بالعَفاف ورَضي بالكَفاف وتجاوز ما يَخاف إلى مالا يَخاف. قال: فمن أشقى الناس قال: من حسد على النِّعم وسَخِط على القِسَم واستَشعر النَّدَم على فوْت ما لم يُحتم. قال: من أغنى الناس قال: من آستَشعر الياس وأظْهر التَّجمُّل للناس واستكثر قليلَ النِّعم ولمِ يَسْخط على القِسَم. قال: فمن أحكم الناس قال: من صَمت فادًكر ونَظر فاعتبر وَوُعِظ فازْدَجر. قال: مَن أَجْهل الناس قال: من رأى الخُرْق مَغْنما والتَّجاوزَ مَغْرما. وقال أبو عُبيدة: الخَلة: الحاجة والخُلَّة: الصداقة. والكاند: الذي يَكفر النِّعمة والكنود: الكفور والمُسْتَمِيد: مثل المُسْتَمِير وهو المُسْتعطِي. ومنه اشتقاق المائدة. لأنها تًمادُ. وكَنع: تَقَبَّض يُقال منه: تَكَنًع جِلْدُه إذا تَقَبَّض. يريد أنه مُمْسك بخَيل. والجَشَع: أسوأ الحِرْص. والطَّبع " الدَنس. والاعتساف: رُكوب الطريق على غير هِداية وركوبُ الأمر على غير مَعرفة. والمَزيز: من قولهم: هذا أمزّ من هذا أي أفضل منه وأزيد. والمُطبِّق من السيوف: الذي يُصيب المفاصل لا يجاوزها. وقال عمرو بن العاص: ثلاثٌ لا أناة فيهنّ: المُبادرة بالعَمل الصالح ودَفْن الميِّت وتَزْويج الكُفْء. وقالوا: ثلاثة لا يُندم على ما سَلف إليهم: الله عزَ وجَلّ فيما عُمل له والمَوْلى الشَّكُور فيما أُسْدى إليه والأرضُ الكَريمة فيما بُذر فيها. وقالوا: ثلاثة لا بقاء لها: ظِلُّ الغَمام وصُحْبة الأشرْار والثًناء الكاذب. وقالوا: ثلاثة لا تكون إلاّ في ثلاثة: الغِنَى في النَّفس والشَّرف في التَّواضع والكرم في التَّقوى. وقالوا ثلاثة لا تًعرف إلا عند ثلاثة ذو البَأس لا يُعرف إلاّ عند اللقاء وذو الأمانة لا يُعرف إلا عند الأخذ والعَطاء. والإخوان لا يُعرفون إلا عند النَّوائب. وقالوا: مَن طلب ثلاثة لم يَسْلم من ثلاثة: مَن طلب المالَ بالكيمياء لم يسلم من الإفلاس ومَن طلب الدِّين بالفَلْسفة لم يَسلم من الزًندقة ومَن طلب الفِقه بغرائب الحديث لم يَسلم من الكَذِب. وقالوا: عليكم بثلاث: جالِسوا الكبراء وخالطوا الحكماء وسائلوا العُلماء. وقال عمرُ بن الخطّاب رضوان الله عليه: أخوفُ ما أخاف عليكم شُحٌّ مُطاع وهَوًى مُتَّبع وإعجاب المرء بنفسه. واجتمعت عُلماء العَرب والعجم على أربع كلمات: لا تحمل على ظَنِّك ما لا تُطيق ولا تَعْمل عملاً لا يَنْفعك ولا تَغْترّ بامرأة ولا تَثِق بمال وإن كثر. وقال الرِّياحي فيِ خُطبته باْلمِرْبَد: يا بَني رِياح لا تَحْقِرُوا صغيراً تأخذون عنه فإني أخذتُ من الثعلب رَوَغانه ومن القِرْدَ حِكايته ومن السِّنَّوْر ضَرَعه ومن الكلب نُصرَته. ومن ابن آوَى حذَره ولقد تعلَمت من القَمر سَيْرَ اللَّيل ومن الشَّمس ظهور الحيِن بعد الحين. وقالوا: ابن آدم هو العالَم الكَبير الذي جَمع الله فيه العالَم كلّه فكان فيه بَسالة اللَّيث وصَبْر الْحِمار وحِرْص الخنزير وحَذَر الغُراب ورَوَغان الثّعلب وضَرَع السِّنَّور وحِكاية القِرْد ولما قَتَل كِسْري بُزُرْجمهرَ وجد في مِنْطقتِهِ مكْتوباً: إذا كان الغدرْ في الناس طِبَاعاً فالثقة بالناس عَجْز وإذا كان القَدَر حقَّاً فالْحِرْص باطل وإذا كان المَوْت راصداً فالطمأنينة حُمق. وقال أبو عمرو بن العلاء: خُذ الخَير من أَهْله ودَع الشرَّ لأهله. وقال عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه: لا تَنْهَكوا وَجْه الأرض فإن شَحْمتها في وَجْهها. وقال: بِع الحَيَوان أحسنَ ما يكون في عَيْنك. وقال: فَرِّقوا بين المَنايا واجعلوا من الرأس رأسين ولا تَلبثوا بِدَرا مَعْجزة. وقالوا: إذا قَدُمت المُصيبة تُرِكت التَّعزية وإذا قَدُم الإخاء سَمُجَ الثَّناء. وفي كتاب للهند: يَنْبغي للعاقل أن يَدَع التماسَ ما لا سَبِيل إليه لئلاّ يُعدّ جاهلاً كرَجُل أراد أن يُجري السفنَ في البرّ والعَجلَ في البَحْر وذلك ما لا سَبيلَ إليه. وقالوا: إحسان المُسيء أن يَكُفَّ عنك أذاه وإساءةُ المُحسن أن يَمْنعك جَدْواه. وقال الحسنُ البَصْريّ: اقدَعوا هذه النفوسَ فإنها طُلعة وحادِثوها بالذِّكر فإنها سريعة الدُّثور فإنكم إلاّ تَقْدعوها تَنزع بكم إلى شرِّ غاية. يقول: حادثوها بالحكمة كما يُحادث السَّيف بالصِّقال فإنها سَريعة الدُّثور يريد الصَّدأ الذي يَعْرض للسيف. واقدَعوها: من قدعتَ أنف الجمل إذا دفعتَه. فإنها طُلَعة يريد مُتَطلّعة إلى قال أرْدشير بن بابك: إن للآذان مَجَّة وللقلوب مَلَلا ففَرِّقوا بين الحكمتين يَكُنْ ذلك اسْتِجماماً.
☰ جدول المحتويات
البلاغة وصفتها
قيل لعمرو بن عُبيد: ما البلاغة قال: ما بَلَّغك الجنَّة وعَدَل بِك عن النار قال السائل: ليس هذا أُريد قال: فما بَصَّرك مواضعَ رُشْدك وعواقبَ غَيِّك قال: ليس هذا أريد قال: مَن لم يحسن أن يسكت لم يُحسن أن يَسمع ومَن لم يُحسن أن يَسمع لم يحسن أن يسأل ومَن لم يُحسن أن يَسأل لم يُحسن أن يقول: قال: ليس هذا أُريد قال قال النبي ﷺ: إنّا معشر " النبيين " بِكَاء - أي قليلو الكلام وهو جمع بكىء - وكانوا يكرهون أن يَزيد مَنْطق الرجل على عَقْله قال السائل: ليس هذا أريد قال: فكأنك تُريد تَخَيُّر الألفاظ في حُسْن إفهام قال: نعم قال: إنك إن أردتَ تَقْرير حُجَّة اللهّ في عُقول المُكَلَّفين وتخفيف المَؤونة على المُسْتمعين وتَزيين المعاني في قُلوب المستفهمين بالألفاظ الحَسنة رغبةً في سُرعة استجابتهمِ ونفْي الشواغل عن قلوبهم بالمَوْعظة الناطقة عن الكتَاب والسُّنَّة كُنت قد أُوتيت فَصْلَ الخِطاب. وقيل لبعضهم: ما البلاغة قال: مَعْرفة الوَصْل من الفَصل. وقيل لآخر: ما البلاغة قال: إيجاز الكلام وحَذْف الفُضُول وتَقْرِيب البعيد. وقيل لبعضهم: ما البلاغة قال: أن لا يُؤتى القائل من سُوء فَهْم السامع ولا يُؤتى السّامع من وقال مُعاوية لصُحارٍ العَبْديّ: ما البلاغة قال: أن تُجيب فلا تُبطئ وتُصيب فلا تُخْطئ. ثمّ قال: أَقِلْني يا أمير المؤمنين قال: قد أَقَلْتكَ. قال: لا تُبْطئ ولا تُخطئ. قال أبو حاتم: استطال الكلامَ الأوّل فاستقَال وتَكلّم بأوجزَ منه. وسمع خالدُ بن صَفْوان رجلاً يتكلّم ويُكثْر فقال اعلم رحمك الله أن البلاغة ليست بحِفّة اللسان وكَثْرة الهَذَيان ولكنها بإصابَة المَعْنى والقَصْدِ إلى الحُجَّة. فقال له: أبا صَفْوان ما من ذَنْب أعظم من اتْفاق الصَّنعة. وتكلّم رَبيعة الرَّأي يوماً فأكثر " وأُعجب بالذي كان منه " وإلى جَنْبه أعرابيٌّ فالتفتَ إليه فقال: ما تَعُدّون البلاغةَ يا أعرابيّ قال: قِلّة الكلام وإيجاز الصواب قال: فما تَعُدّون العِيّ قال: ما كًنت فيه منذُ اليوم. فكأنما أَلْقمه حَجراً. ومن أمثالهم في البلاغة قولُهم: يُقِلّ الحزّ ويُطبِّق اْلمِفْصل. وذلك أنّهم شَبّهوا البَلِيغ المُوجز الذي يُقل الكلام ويُصيب الفُصول والمَعاني بالجزَّار الرَّفيق يًقل حَزّ اللَّحم ويُصيب مَفاصله. ومثله قولُهم: يَضع الهِناء مواضع النُّقبِ أي لا يتكلّم إلا فيما يجب فيه الكلامُ مِثْل الَطالِي الرَّفيق الذي يضع الْهناء مواضع النُّقب. وقولهم: قَرْطَس فلان فأصاب الثغرة وأصاب عَيْن القِرْطاس. كل هذا مَثل للمُصيب في كلامه الموجز في لَفْظه. " قيل للعَتّابي: ما البلاغة قال: إظهار ما غمَض من الحقّ وتَصْوير الباطل في صورة الحق. وقيل لأعرابيّ: مَن أَبلغ الناس قال: أَسْهَلهم لَفظاً وأحسنهم بَدِيهة. وقيل لآخر: ما البلاغة فقال: نشر الكلام بمعانيه إذا قَصُر وحُسْن التأليف له إذا طال. وقيل لآخر: ما البلاغة فقال: قَرْع الحجَّةِ ودُنُوّ الحاجة. وقيل لآخر: ما البلاغة قال: الإيجاز في غَيْر عَجْز والإطناب في غَيْر خَطَل. وقيل لغيره: ما البلاغة قال: إقلال في إيجاز وصَواب مع سُرعة جواب. قيل لليُونانيّ: ما البلاغة قال: تَصْحيح الأقسام واختيار الكلام. وقيل لبعضهم: مَن أبلغ الناس قال: مَن ترك الفُضُول واقتصر على الإيجاز. وكان يقال: رسولُ الرجل مكان رَأْيه وكِتَابه مكان عَقله. وقال جَعفر بن محمد عليه السلام: سُمِّي البليغ بليغاً لأنه يَبلغ حاجتَه بأَهْون سعيه. وسُئل بعضُ الحكماء عن البلاغة فقال: مَن أخذ مَعاني كثيرة فأدَاها بألفاظ قليلة وأخذ معاني قليلة فولّد منها لفظاً كثيراً فهوِ بَليغ. وقالوا: البلاغة ما كان من الكلام حَسناً عند استماعه مُوجزاً عند بَدِيهته. وقيل: البلاغة: لَمْحة دالّة على ما في الضَّمير. وقال بعضُهم: إذا كفاك الإيجاز فالإكثار عِيّ وإنما يَحْسن الإيجاز إذا كان هو البَيان: ولبعضهم: خَيْر الكلامٍ قَليلُ على كَثير دَلِيلُ والعِيُّ مَعنى قَصِيرُ يَحويه لفظٌ طَويلُ وقال بعضُ الكتَّاب: البلاغةُ مَعْرفة الفَصْل من الوَصْل. وأَحْسن الكلام القَصْد وإصابة المعنى. قال الشاعر: وإذا نَطقتَ فلا تكًن أَشِراً وآقصِدْ فخيرُ الناس مَن قصَدَا وقال آخر: وما أحدٌ يكون له مَقالٌ فيَسْلَم من مَلامٍ أو أثامِ وقال: الدَّهرُ ينقص تارةً ويَطولُ والمَرْءُ يَصْمت مَرَّةً ويَقُول والقولُ مخْتلف إذا حصَّلته بَعْضٌ يرَدّ وبعضُه مَقبول إذا وَضَح الصواب فلا تَدَعْه فإنّك كلّمكا ذُقْت الصَّوابَا وجدتَ له على اللهوات بَرْداً كبَرْد الماء حين صَفا وطابا وقال آخر: ليس شَأْنُ البليغ إرسالَه القو لَ بطُول الإسهاب والإكثار إنما شأنُهُ التَّلطُّف لِلْمَع - نىَ بحُسْنِ الإيراد والإصدْارِ وجوه البلاغة البلاغة تكون على أَرْبعة أَوْجه: تكون باللّفظ والخطّ والإشارة والدِّلالة وكلٌّ منها له حظّ من البلاغة والبَيَان ومَوْضع لا يجوز فيه غيرُه ومنه قولُهم: لكل مَقام مَقال ولكل كلام جَواب ورُبّ إشارة أبلغً من لفظ. فأمّا الخطّ والإشارة فمفْهومان عند الخاصة أو أكثر العامة. وأمّا الدِّلالة: فكل شيء دلَّك على شيء فقد أخبرك به كما قال الحكيم: أشهد أنّ السمواتِ والأرضَ آيات دالاّت وشَواهد قائمات كلٌّ يُؤدّي عنك الحجَّة ويَشهد لك بالرُّبوبية. وقال آخر: سَل الأرضِ " فقُل ": مَن شَقَّ أنهارَكِ وغَرَس أشجارَكِ وجَنَى ثمارك فإن لم تُجِبك إخباراَ أجابتك اعتباراً. لقد جِئْتُ أبغِي لِنَفْسي مُجيراً فَجِئْت الْجبَالَ وجِئْتُ البُحُورَا فقال ليَ البحرُ إذ جِئْتُه وكيف يُجير ضريرٌ ضَريرا وقال آَخر: نَطقتْ عَيْنُه بما في الضَّمير وقال نُصِيب بن رَباح: فَعاجُوا فأَثْنَوْا بالذي أنت أهلُه ولو سَكتُوا أثنت عليك الحَقَائِبُ يُرِيد: لو سكتوا لأثنت عليك حقائبُ الإبل التي يَحْتقبها الرَّكب من هِباتك. وهذا الثَّناء إنما هو بالدَّلالة لا باللفظ. وقال حَبِيب. الدار ناطَقةٌ وليست تَنْطقُ بدُثورها أنَّ الجديد سَيخْلُقُ وهذا في قديم الشعرِ وحَديثه وطارفِ الكلام وتَليده أكثر من أن يُحيط به وَصْف أو يأتَي من ورائه نعْت. وقال رجل للعتّابي: ما البلاغة قال: كل من بلّغك حاجته وأَفهمك معناه بلا إعادة ولا حُبْسة ولا استعانة فهو بَليغ. قالوا: قد فَهمنا الإعادة والحُبسة فما معنى الاستعانة قال. أن يقول عند مَقاطع كلامه: اْسمع منِّي وافهم عنِّي أو يمسح عُثْنونه أو يَفْتِل أصابعه أو يُكْثر التفاته من غير مُوجب أو يتساءل من غير سُعلة أو يَنبهر في كلامه. وقال الشاعر: مَليْء ببُهر والتفاتٍ وسُعْلة ومَسْحِة عُثْنون وفَتْل الأصابع وهذَا كلُّه من العيّ. وقال أبْرويز لكاتبه: اعلم أنَّ دعائم المَقالات أربع إن التُمس لها خامسة لم تُوجد وإن نَقصت منها واحدة لم تتمّ وهي: سُؤالك الشيء وسُؤالك عن الشيء وأمْركِ بالشيء وإخبارك عن الشيء. فإذا طلبت فأسجح وإذا سألتَ فأَوْضح وإِذا أمرت فأحكم وإِذا أَخبرت فحقِّق. وأجمع الكَثِير مما تريد في القَليل مما تقول. يريد الكلام الذي تَقِل حروفه وتَكثر معانيه. وقال ربيعة الرِّأي: إني لأسمع الحديثَ عُطْلاً فأًشنِّفه وأُقرّطه فيَحْسُن وما زِدْت فيه شيئاً ولا غيرت له معنى. وقالوا: خيرُ الكلام ما لم يحْتج بعدَه إلى كلام. " وقال يحيى: الكلامُ ذُو فنون وخيره ما وفق له القائل وانتفع به السامع وللحسن بن جَعفر: وفي الصمْتِ سَترٌ للعَيِّ وإِنما صَحِيفة لُبِّ المرء أن يتكلما وصف أعرابي بليغاً فقال: كأنّ الألْسن رِيضَتْ فما تَنْعَقِد إِلا على وُده ولا تَنطق إلا ببَيانه. وَصف أبو الوَجيه بلاغةَ رجل فقال: كان والله يَشُول بلسانه شولان البَرُوق ويتخلّل به تخلًل الحيّة ". وللعرب من مُوجز اللّفظ ولَطِيف المعنى فًصول عَجيبة وبدائع غريبة وسنأتي على صَدْر منها إن شاء الله تعالى.
فصول من البلاغة
قدم قُتيبة بن مُسلم خُراسانَ والياً عليها فقال: مَن كان في يده شيء من مال عبد الله بن خازم فَلْيَنْبِذْه وإن كان في فيه فَليَلْفِظه وإن كان في صَدْره فَلْيَنْفُثْه. فَعَجب الناس من حُسن ما فصّل. وقيل لأبي السَّمًال الأسديّ أيامَ مُعاوية: كيف تركتَ الناس قال: تركتُهم بين مظلوم لا يَنْتَصف وظالم لا يَنتهي. وقيل لشَبيب بن شَيْبة عند باب الرَّشيد: كيف رأيتَ الناس قال: رأيت الداخلَ راجياً والخارج راضياً. وقال حسّان بن ثابت في عبد الله بن عبّاس: إذا قال لم يَتْرك مَقالا لقائلٍ بمْلْتَقطات لا نَرَى بينها فَضْلا كَفي وَشَفي ما في النُّفوس ولم يَدَعْ لذي إِرْبة في القَوْل جِدّاً ولا هَزْلا ولَقي الحُسين بن عليّ رضوان الله عليهما الفرزدقَ في مَسيره إلى العراق فسأله عن الناس فقال: القُلوب معك والسُّيوِف عليك والنَّصر في السماء. وقيل لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام: كم بين المَشرق والمَغرب فقال: مَسيرة يوم للشمس قيل له: فكم بين السماء والأرض قال: مَسيرة ساعة لدَعْوة مُستجابة. وقيل لأعْرابي: كم بين مَوْضع كذا وموضع كذا قال: بَياضُ يوم وسَواد ليلة. وشكا قوم إلى المَسيح عليه السلام ذنوبهم فقال: اتركوها تُغفَر لكم. وقال عليُّ بنُ أبي طالب رضي الله عنه: قِيمة كلِّ إنسان ما يحسن. وقيل لخالد بن يَزيد بن مُعاوية: ما أقربُ شيء قال: الأجل قيل له: فما أبعدُ شيء قال: الأمل قيل له: فما أوْحش شيء قال: الميّت قيل له: فما آنس شيء قال: الصاحب المُواتي. مَرّ عمرو بن عُبيد بسارق يُقْطع فقال: سارق السَّريرة يَقطع سارق العلانية. وقيل للخليل بن أحمد: مالك تَرْوي الشِّعر ولا تَقُوله قال: لأني كالمِسَنّ أشْحذ ولا أقْطع. وقيل لعَقِيل بن عًلَّفةَ: ما لَك لا تًطيل الهجاء قال: يَكْفيك من القِلادة ما أَحاط بالعُنق. ومَرِّ خالد بن صَفْوان برجل صَلَبه الخَلِيفة فقال: أَنْبتته الطاعة وحَصَدته المَعْصية. ومرَّ أَعرابيّ برجل صَلبه السلطان فقال: مَن طَلّق الدنيا فالآخرة صاحبتُه ومن فارق الحق ومن النطق بالدِّلالة ما حدّث به العبَّاس بن الفرج الرِّياشي قال: نزل النعمان بن المنذر ومعه عديّ بن زيد العِبَاديّ في ظل شَجرة مُورقة ليلهوَ النعمان هناك فقال له عَدِيّ: أبيتَ اللعنَ أتدري ما تقول هذه الشجرة قال: ما تقول قال تقول: رب شَرْبٍ قد أناخُوا حولَنا يَمْزُجون الخمرَ بالماء الزُّلالْ ثم أضحَوْا عَصَف الدهرُ بهم وكذاك الدهرُ حال بعد حال فتَنغّص على النعمان ما هو فيه. " وقال ابن الأعرابي: قلت للفضل: ما الإيجاز عندك قال: حذف الفضول وتقريب البعيد ". وقال رجلٌ لخالد بن صَفْوان: إنك لتًكْثر قال: أكثر لضَرْبين أحدهما فيما لا تُغني فيه القِلْة والآخر لتمرين اللّسان فإنَّ حَبْسه يُورِث العُقلة. وكان خالدُ بن صَفْوان يقول: لا تكونُ بليغاً حتى تُكلِّم أمَتك السَّوداء في اللّيلة الظَّلماء في الحاجة المُهِمَة بما تَتكلَّم به في نادي قَومك. وإنما اللّسان عُضو إذا مَرّنته مَرَن وإذا تَركته لَكِنَ كاليد تُخَشِّنها بِالمُمَارسة والبَدنِ الذي تُقوِّيه برَفّع الحجر وما أشبهه والرِّجْل إذا عُوِّدت المشي مشت. وكان نوفلُ بن مُساحق إذا دخل على امرأته صَمت فإذا خرج عنها تكلّم فقالت له: إذا كنتَ وذكر شَبِيبُ بن شيبة خالدَ بن صَفْوان فقال: ليس له صَدِيق في السِّر ولا عدوٌّ في العَلاَنية. وهذا كلام لا يَعرف قَدْره إلا أهلُ صناعته. " وَوَصف رجلٌ آخرَ فقال: أتَيناه فأخرج لسانَه كأنّه مِخْراق لاعب. ودَخل مَعن بن زائدة على المَنْصُور يُقارب خَطْوه فقال المنصور: لقد كَبرتْ سنّك قال: في طاعتك قال: وإنك لَجلْد قال: على أعدائك قال: أرى فيك بقية قال: هي لك. وكان عبد الله بن عبَّاس بليغاً فقال فيه مُعاوية: إذا قال لم يَتْرك مقالاً ولم يَقِفْ لعِيّ وِلم يَثْنِ اللسانَ على هُجْر يُصَرِّفُ بالقول اللسانَ إذا انتحَى ويَنظُر في أعْطافه نَظَر الصَّقر وتكلّم صَعْصَعَةُ بن صُوحان عند مُعاوية فَعَرِق فقال له مُعاوية: بَهرك القولُ قال: الجياد نَضَّاحة بالعَرَق. وكتب ابن سَيَابة إلى عمرو بن بانة: إنَّ الدهر قد كَلَحَ فَجَرح وطَمحَ فجَمح وأفسد ما صَلَح فإن لم تُعِنْ عليه فَضَح. ومَدح رجل من طَيئ كلامَ رجل فقال: هذا الكلامُ يُكْتَفي بأُولاه ويُشْتَفي بأًخْراه. ووَصف أعرابيّ رجلاً فقال: إنَّ رِفْدَك لَنجيح وإن خيرك لصَرِيح وإن مَنْعك لمُرِيح. ودخل إياسُ بنُ معاويةَ الشامَ وهو غلام فقدِّم خصماً له إلى قاضٍ لعبد الملك " وكان خَصْمه شيخاً كبيراً ". فقال له القاضي: أتقدِّم شيخاً كبيرأً فقَال له إياس: الحقُّ أكبرُ منه قال له: اسكت قال. فمن يَنْطق بحُجَّتي قال: ما أظنّك تقُول حقّاً حتى تقُوم قال: أشهد أن لا إله إلا الله. فقام القاضي فدخل على عبد الملك فأَخبره بالخبر فقال: اقض حاجتَه الساعة وأَخْرجه من الشام لا يُفْسِد عليّ الناسَ. ومن الأسْجاع قولُ ابن القِرِّيّة وقد دُعي لكلام فاحتبَسٍ القولُ عليه فقال: قد طال السَّمر وسَقَط القَمر واشتَدّ المَطر فما أنتظر. فأجابه فتى من عبد القيس: قد طال الأَرَق وسقَط الشَفق فَلْينطق من نَطَق. قال أحمد بنُ يوسف الكاتب: دخلتُ على المأمون وبيده كتابٌ لعمرو بن مَسْعدة وهو يُصَعِّد في ذُراه ويقوم مَرَّة ويَقْعد أخرى ففعل ذلك مراراً ثم التفت إليَّ فقال: أَحْسَبك مُفكِّراً فيما رأيتَ قلتُ: نعمٍ وَقَى الله عزّ وجلّ أميرَ المؤمنين المَكاره فقال: ليس بَمكْروه ولكن قرأتُ كلاما نَظِير خَبرٍ خَبّرني به الرشيدُ سمعتُه يقول: إنَّ البَلاغة لتَقاربٌ من المَعنى البَعيد وتَباعدٌ من حَشْو الكلام ودَلالة بالقَلِيل على الكثير. فلم أتوَهّمٍ أنّ هذا الكلامَ يَسْتَتِبّ على هذه الصِّفة حتى قرأتُ هذا الكتابَ فكان استعطافاً على الجُنْد وهو: كتابي إلى أمير المؤمنين أَيَّدَه الله ومَن قِبَلي من أجناده وقُوّاده في الطاعة والانقياد على أفضل ما تكون عليه طاعةُ جًنْد تأخّرت أرزاقُهم واختّلت أحوالُهم. فأَمر بإعطائهم ثمانيةَ أشهر. ووَقع جَعْفر البرمكيّ إلى كُتَّابه: إن اْستطعتُم أن تكون كُتًبكم تَوْقيعات فافعلوا. وأمره هارون الرشيد أن يَعْزل أخاه الفضلَ عن الخاتَم ويأخذَه إليه عَزْلاً لَطيفاً. فكتب إليه: قد رَأَى أميرُ المؤمنين أن يَنْقُل خاتَم خِلافته من يمينك إلى شِمالك فكَتب إليه الفضلُ: ما انتقلتْ عني نِعمة صارت إليك ولا خَصَّتك دوني. ووَقع جعفرٌ في رُقْعة رجل تنَصل إليه من ذَنب: تقدمت لك طاعة وظَهرت منك نَصيحة كانت بينهما نَبْوة ولن تَغْلِب سيَئة حسَنَتين. قال الفضْل بن يحيى لأبيه: ما لنا نُسْدِي إلى الناس المَعروف فلا نرى من السُّرور في وُجوههم عند انصرافهم ببِرنا ما نراه في وُجوههم عند آنصرافِهم ببِرَ غيرنا فقال له يَحيى: إن آمال الناس فينا أطولُ منها في غيرنا وإنما يُسَر الإنسانُ بما بَلِّغه أملَه. قيل ليحيى: ما الكرمُ قال: مَلِك في زِيّ مِسكين قيل: فما الفَرْعنة قال: مِسكين في بَطْش عِفريت قيل: فما الجودُ قال: عَفْو بعد قُدرة. أُتي المأمونُ برجل قد وَجَب عليه الحدُّ فقال وهو يُضرب: قَتَلتني يا أميرَ المؤمنين قال: الحقَّ قَتَلك قال: ارحَمني قال: لستُ أرْحمَ بك ممن أوجبَ عليك الحدَ. وسأل المأمون عبد الله بن طاهر في شيء فأسرع يفي ذلك فقال له المأمون: فإنّ الله عزّ وجلّ قد قَطع عُذْر العَجول بما مكَّنه من التثبُّت وأَوْجب الْحُجَّة على القَلِق بما بَصَّره من فضْل الأناة. قال: أتأذن لي يا أميرَ المؤمنين أن أكتُبه قال: نعم فكَتبه. قال إبراهيمُ بن المهديّ قال لي المأمونُ: أنت الخليفة الأسْود قلت: يا أميرَ المؤمنين أنت مَنَنت عليّ بالعَفو وقد قال عبدُ بني الْحَسْحاس: أشعارُ عَبْد بنيِ الْحَسْحاس قُمْنَ له عند الفَخار مَقامَ الأصل والوَرقِ إن كنتُ عبداَ فنَفْسي حُرِّة كَرَماً أَو أَسْودَ الْجلْد إني أَبْيضُ الخُلُقِ فقال المأمون: يا عمُّ خرّجك الهَزْل إلى الجد ثم أنشأ يقول: ليس يُزْرِي السواد بالرَّجلِ الشَّهم ولا بَالفتى الأديب الأريبِ إن يكُن للسّواد مِنك نصِيبٌ فبَيَاض الأخلاق منك نَصيبي قال المأمون: أسْتحسن من قول الحُكماء: الجودُ بَذْل المَوْجود والبُخل بَطَر بالمَعْبود عزّ وجلّ. قالت أُمُّ جعفر زُبيدة بنت جعفر للمأمون حين دَخلت عليه بعد قتْل ابنها: الحمد لله الذي ادّخرك لي لمَّا أثكَلني وَلَدي ما ثكِلت ولداً كنتَ لي عوضاً منه. فلما خرجَت قال المأمون لأحمد بن أبي خالد: ما ظننتُ أن نِساءَ جُبلن على مِثل هذا الصَّبر". وقال أبو جَعفر لعمرو بن عُبيد: أعنِّي بأصحابك يا أبا عُثمان قال: ارفع عَلَم الحقّ يَتْبعك أهلُه.
آفات البلاغة
قال محمد بن منصور كاتبُ إبراهيم وكان شاعراً راوياً وطالباً للنحو عَلامة قال سمعتُ أبا دُواد " بن جرير الإيادي " وجَرى شيء من ذِكْر الخُطَب وتَمْييز الكلام فقال: تَلْخيصُ المَعاني رِفق والاستعانة بالغَريب عَجْز والتَّشادُق في غير أهل البادية نَقْص والنَّظر في عُيون الناس عِيّ ومَسُ اللِّحية هَلَع والخُروج عما بُني عليه الكلام إسْهاب. قال: وسمعتهُ يقول: رَأْسُ الخَطابة الطبْع وعَمُودها الدربة " وجناحاها رواية الكلام " وحَلْيُها الِإعراب وبَهاؤها تخيّر اللَفظ والمَحبَّة مَقرونة بقلّة الاستكراه. وأنشدني بيتاً في خُطباء إياد: يَرْمُون بالخُطب الطِّوال وتارةً وَحْي المَلاَحظ خِيفَةَ الرُّقباءِ وقال ابن الأعرابيّ: قلتُ للفَضْل: ما الايجاز عندك قال: حَذْف الفُضول وتَقْريب البَعيد. وتكلم ابن السمَّاك يوماً وجارية له تَسمعِ " كلامه " فلما دخل " إليها " قال لها: كيف سمعتِ كلامي " قالت: ما أَحسنه! لولا أنك تُكْثِر ترْدادَه! قال: أرِدده حتى يَفهمه مَن لم يفهمه " قالت: إلى أن تًفَهِّمه من لم يَفْهمه يكون " قد " مَلَّه من فَهمِه.
باب الحلم ودفع السيئة بالحسنة
قال الله تبارك وتعالى: " وَلاَ تَسْتَوِى الحسنةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَن فَإذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَة كأَنَّهُ وَليٌّ حَمِيم. وَمَا يُلَقَاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوَا وَمَا يُلًقّاهَا إِلا ذو حظٍّ عَظِيم ". وقال رجل لعمرو بن العاص: والله لأتفرَّغنَّ لك قال: هنالك وقعت في الشغل قال: كأنك تهددني والله لئن قلت لي كلمة لأقولنِّ لك عشراً قال: وانت والله لئن قلت لي عشراً لم اقل لك واحدة وقال رجل لأبي بكر رضي الله عنه: واللهّ لأَسُبَّنك سبًّا يَدْخل القبرَ معك قال: معك يَدْخل لا مَعي. وقيل لعمرو بن عُبيد: لقد وَقع فيك اليومَ أيّوب السِّخْتِياني حتى رَحِمناك قال: إياه فارحموا. وشَتم رجلٌ الشَعبَيّ فقال له: إن كنتَ صادقاً فغَفر اللهّ لي وإن كنتَ كاذباً فغفر الله لك. وشَتم رجلٌ أبا ذَرًّ فقال: يا هذا لا تُغْرق في شَتْمنا ودَعْ للصُّلح مَوْضعاً فإنا لا نًكافيء مَن عمى الله فينا بأكثر من أن نُطيع الله فيه. ومَرَّ المَسيح بن مَرْيم عليه الصلاةُ والسلام بقوم من اليهود فقالوا له شرًّا فقال خيراَ فقيل له: وقال الشاعر: ثَالَبني عَمْرٌو وثَالبته فأُثِّم المَثْلوب والثَّالبُ قلتُ له خيراً وقال الخنى كل على صاحبِه كاذِب وقال آخر. وذي رَحِمٍ قَلّمْت أَظفار ضغنه بِحِلْميَ عنه حين ليس له حِلْمُ إذا سُمْتهُ وَصْلَ القَرابة سامَني قطيعَتها تلك السّفاهة والِإُثم فداويتُه بالحِلْم والمَرْءُ قادرٌ على سَهْمه ما كان في كَفِّه السًهم " وعن النبي ﷺ: ما تجرّع عَبد في الدنيا جرْعةً أحب إلى اللهّ من جَرْعة غيظ رَدّها بحِلْم أو جَرْعة مُصيبة ردها بصَبْر " وكتب رجل إلى صديق له وبلَغه أنه وَقع فيه: لئن ساءَني أن نِلْتِني بمَساءةٍ لقد سَرَّني أَنِّي خَطّرْتُ ببالك وأنشد طاهرُ بن عبد العزيز: إذا ما خَليلي أَسا مَرَّةً وقد كان فيما مضى مُجْمِلاَ ذكرتُ المقدم من فِعْلهِ فلم يفسد الآخرُ الأوّلا قيل للأحنف بن قيس: ممنِ تعلَّمت الحِلْم قال: من قيس بن عاصم المِنْقريّ رأيتهُ قاعداً بفِناء داره مُحْتبياَ بحمائل سَيْفه يُحَدِّث قَومه حتى أُتي برجُل مكتوف ورجُل مقتول فقيل له: هذا ابن أخيك قَتل ابنك فوالله ما حَل حَبْوته ولا قطَع كلامه ثم التفت إلى ابن أخيه فقال له: يا بن أخي أَثِمت برّبك ورَمَيت نفسَك بسَهْمك وقتلتَ ابن عمك. ثم قال لابن له آخر: قم يا بني فوارِ أخاك وحُلّ كِتاف ابن عمك وسُق إلى أُمِّه مائة ناقة ديةَ ابنها فإنها غَريبة ثم أنشأ يقول: إِنِّي امرؤ لا شائنٌ حَسَبي دَنَس يهجنه ولا أفْنُ من مِنْقرٍ في بيت مكْرُمة والغُصن يَنْبُت حولَه الغُصْن خطباء حي يقول قائلُهم بيضُ الوُجوه أعفّه لُسْن لا يفطنون لعَيْب جارهمُ وهمُ لحفْظ جِواره فُطْنُ وقال رجل للأحنف بن قَيْس: علِّمني الْحِلم يا أبا بَحْر قال: هو الذُّل يا بن أَخي أَفتصبر عليه وقال الأحنف: لستُ حليماً ولكنّي أتحالم. وقيل " له ": مَن أَحلمُ: أنت أم معاوية قال: تا لله ما رأيتُ أجهلَ منكم إنّ معاويةَ يَقْدِر فيَحْلُم وأنا أَحلُم ولا أقدِر فكيف أُقاس عليه أو أُدانيه! قال: إن شئتَ أخبرتُك بخَلَّة وإن شئت بخَلَّتين وإن شئت بثلاث قال: فما الخَلَّة قال: كان أَقوى الناس على نفسه قال: فما الخلتان قال: كان مُوَقّي الشر مُلَقّي الخَيْر قال: فما الثلاث قال: كان لا يجهل ولا يبْغي ولا يَبْخل. وقيل لقَيْس بن عاصم: ما الْحِلم قال: أن تَصِل مَن قطَعك وتُعْطي مَن حرَمَك وتعفو عَمَّن ظلَمك. وقالوا: ما قرن شيء إلى شيء أَزينُ من حِلْم إلى عِلْم ومن عَفْو إلى قُدْرة. وقال لُقمانُ الحكيم: ثلاثة لا تَعْرفهم إلا في ثلاثة: لا تعرف الحليم إلا عند الغضب ولا الشجاع إلا عند الحَرْب ولا تَعْرف أخاك إلا إذا احتجت إليه. وقال الشاعر: ليْست الأحلامُ في حي الرِّضا إنما الأحلامُ في حين الغَضَبْ وفي الحديث. أقرب ما يكون المَرْء من غَضَب الله إذا غَضِب. وقال الحسن: المؤْمن حَليم لا يَجهل وإن جُهل عليه وتلا قولَ الله عز وجلَّ: " وَإذَا خاطَبَهُمْ الجاهلونَ قَالُوا سَلاماً ". وقال معاوية: إني لأستحي من ربيِّ أن يكون ذَنْبٌ أعظمَ من عفوي أو جَهْل أكبرَ من حِلْمي وقال مُؤَرِّق العِجْليّ: ما تكلّمت في الغَضب بكلمة ندمتُ عليها في الرِّضا. وقال يزيدُ بن أبي حَبيب: إنما غَضَبي في نَعْليّ فإذا سمعت ما أكره أخذتُهما ومَضيت. وقالوا: إذا غَضِب الرجلُ فَلْيَسْتَلق على قفاه وإذا عَيِيَ فَليرَاوح بين رِجْلَيْهِ. وقيل للأحنف: ما الحِلْم فقال: قوْل إن لم يكنِ فعل وصَمْت إن ضَرَّ قوْل. وقال " أمير المؤمنين " علِيٌ بن أبي طالب رضي الله عنه: مَن لانَتْ كلمته وجبت مَحبَّتهُ. وقال: حِلْمك على السًفيه يكثر أنصارك عليه. وقال الأحنف: مَن لم يصبر على كلمة سَمِع كلمات. وقال: رب غَيْظ تجرعته مخافةَ ما هو أشدُّ منه وأنشد: رَضيتُ بِبَعْض الذُّلِّ خوفَ جميعه كذلك بعضُ الشر أهونُ من بَعْض وأسمع رجلٌ عمر بن عبد العَزيز بعضَ ما يَكْره فقال لا عليك إنّما أردتَ أن يَسْتِفزَّني الشيطانُ بعزة السلطان فأنال منك اليوم ما تنالُه مني غداً انصرفْ إذا شئت. وقال الشاعرُ في هذا المعنى: لَنْ يًدْرِك المجدَ أقوامٌ وإن كَرُموِا حتى يَذِلُوا وإن عَزُوا لأقوام ويُشْتَموا فترَى الألوانَ كَاسفةَ لا ذلَ عَجْزٍ ولكنْ ذُلِّ أحْلام إذا قِيلت العوراءُ أغضى كأنّه ذَلِيل بلا ذُلِّ ولو شاء لانتصرْ وأحسن بيْت في الحِلْم قولُ كَعْب بنِ زُهير: إذا أنت لم تُعْرِض عن الجهل والخَنَى أصبتَ حَليماً أو أصابك جاهلُ وقال الأحنفُ آفةُ الحِلْم الذّلّ. وقال لا حِلْم لمَن لا سَفِيه له. وقال: ما قلَّ سُفهاء قَوْم إلا ذَلْوا. وأنشد: لابدَّ للسًّودد من رِماح ومِن رِجالٍ مُصَّلَتي السِّلاح يُدَافعون دونه بالرَّاح ومِنْ سَفيهٍ دائم النباح وقال النَابغة الجعديّ: ولا خير في حِلْمٍ إذا لم تَكُنْ له بَوادرُ تَحُمِي صَفْوَه أن يُكَدَرَا " ولا خَير في جَهْل إذا لم يَكُن له حَلِيم إذا ما أَوْرد الأمر أصْدرا " ولمّا أنشدَ هذين البيتن للنبي ﷺ قال: لا يَفْضُض اللهّ فاك " قال ": فعاش مائة وثلاثين سنةً لم تَنْغَضْ له ثَنيَّة. وقالوا: لا يَظهر الحِلْم إلاِّ مع الانتصار كما لا يَظهر العَفو إلاّ مع الاقْتدار. وقال الأصمعيّ: سمعتُ أعرابيَّاً يقول: كَان سِنانُ بن أبي حارثة أحلمَ من فَرْخ الطائر قلت: وما حِلْم فرخ الطائر قال: إنّه يخرج من بَيْضة في رأس نِيق ولا يتحوَل حتى يتوفّر ريشه ويَقْوى على الطيران. " وللأشْنَنْدانيّ: وفي اللّين ضَعْفٌ والشَّراسة هَيْبةٌ ومَن لا يُهَب يُحْمَل على مَرْكب وَعْرِ وللفقر خيرٌ من غِنى في دَنَاءَةً ولَلْمَوتُ خيرٌ من حياة على صُغر وما كُلَّ حين يَنْفع الْحِلْمُ أَهْلَه ولا كُلَّ حالٍ يَقْبُح الْجَهلُ بالصَّبر وما بي عَلى مَن لان لي مِنْ فَظَاظَةٍ ولكنّني فَظّ أَبيٌّ على القَسرْ وقَال آخر في مَدح اَلحِلْم: إني أرى الحِلْم مَحْمُوداً عواقبُه والجَهْلُ أفنَى من الأقوام أقوامَا ولسَابق: ألمِ تَرَ أنّ الحِلْم زَيْنٌ مُسَوِّدٌ لصاحبه والجَهْلَ لِلْمرء شائِنُ فكن دافناً للجهل بالحِلْم تَسْتَرح من الجهل إنّ الحِلم للجَهْل دافِنُ ولغيره: فيا ربِّ هَبْ لي منك حَلماً فإنني أرى الحِلْم لم يندم عليه حليم وقال بعضً الحُكماء: ما حَلا عِنْدي أفضل من غَيْظ أتجرّعه. وقال بعضهم: وفي الحِلم رَدْعٌ للسَّفِيه عن الأذى وفي الخُرْق إغراءٌ فَلا تَكُ أَخْرَقَا فَتَنْدَمَ إذ لا تَنْفَعَنْك ندامةٌ كما ندِم المَغْبُونُ لَمَا تَفَرَّقا وقال علي عليه السلام: أوّل عِوَض الحَليم عن حِلْمه أن الناسَ أنصارُه على الجاهل. سُئل كِسْرى أنو شرِوان: ما قَدْر الحِلْم فقال: وكيف تَعْرِفُ قَدْر ما لم يَرَ كَمَالَه أحد. وقال مُعاوية لخالد بن المُعَمَّر: كيف حُبُّك لعليّ بن أبي طالب عليه السلامُ قال: أُحِبّه لثلاثِ خِصال: على حِلمه إذا غَضِب وعلى صِدقة إذا قال وعلى وَفائه إذا وَعد. وكان يُقال: ثلاثٌ مَن كُنَّ فيه استَكْمل الإيمان: من إذا غَضِب لم يُخْرِجْه غَضَبُه عن الحقّ ومَن إذا رَضيَ لَم يُخرِجه رِضاهُ إلى الظلم والباطل ومن إذا قَدَر لم يَتَناول ما ليس له. وقال عمرُ بن الخطّاب رضي الله عنه: إذا سَمعت الكلمةَ تُؤْذِيك فطَأْطِىء لها حتى تَتخطاك. وقال الحسنُ: إنما يُعْرف الحِلم عند الغَضَب. فإذا لم تَغْضب لم تَكن حِليماً وقال الشاعر: وليس يَتِمًّ الحِلْم لِلمَرْء راضِياً إذا هو عند السُّخط لم يَتَحِلَّم وقال بعضُ الحكماء: إنّ أفضلَ وادٍ تُرى به الحِلْمُ فإذا لم تكن حَلِيماً فتحلّم فإذا لم تكن عَلِيماً فتعلِّم فقلَّما تشبَّه رجلٌ بقَوْم إلا كان منهم. وقال بعضُهم: الحِلم عُدَّة على السّفيه لأنك لا تُقابل سفيهاً بالإعراض عنه والاستخفاف بفِعْله إلا أَذْللتَه. ويقال: ليس الحَلِيم مَن ظُلِم فَحَلُم حتى إذا قَدَر انْتَقم ولكنَّ الحَلِيم من ظُلِم فَحَلُم ثمّ قَدَر فَعَفا. وللأحنف أو غيره: ولربما ضحِك الحَليمُ من الأذىَ وفؤادهُ من حَرِّه يَتأَوَّهُ ولرًبَّما شَكَلَ الحليمُ لسانَهَ حَذَرَ الجواب وَإنّه لمُفَوَّه وقيل: ما استَبَ اثنان إلا غَلب ألأمُهما. وقال الأحنف: وجدتُ الحلم أنصرَ لي من اِلرِّجال. وقال بعضهم: إيّاك وعِزَّةَ الغَضب فإنها تصَيرك إلى ذلّ الاعتذار. وقيل: مَن حَلُم ساد ومَن تَفهَّم ازداد. وقال الأحنف: ما نازعني أحد قط إلا أخذتُ أمري بإحدى ثلاث: إن كان فوقي عرفتُ قدرَه وإن كان دُوني أكرمتُ نفسي عنه وإن كانَ مثلي تفَضَّلت عليه. ولقد أَحْسن الذي أخذ هذا المعنى فَنَظَمه فقال: إذا كان دُوني مَنْ بُليت بجَهْله أَبَيْتُ لِنَفْسي أن تُقَارع بالجَهْل وإن كان مثلي ثم جاء بِزَلَّة هَوِيتُ لصَفْحي أن يُضاف إلى العَدْل وان كنت أدنى منه قدراً ومَنْصِباً عَرفت له حَقَّ التقدم والفضل وفي مِثْله قال بعضُ الشعراء: سأُلزِم نَفسي الصَفحَ عن كل مُذْنبٍ وإن كَثُرت منه إليَّ الجرائمُ ولا الناسُ إلا واحدٌ من ثلاثةٍ شريفٌ ومشروفٌ ومثلٌ مُقاوم فأمًا الذي فَوقي فأَعْرِف فضلَه وأَتبع فيه الحقَّ والحقُّ قائم وأمّا الذي دوني فإن قال صُنت عن إجابته نَفْسي وإن لامَ لائِم وأمّا الذين مِثْلي فإنْ زلَّ أو هَفَا تفضلت إنّ الفَضل للحُرّ لازم ولأصْرم بن قَيْس ويُقال إنها لعليّ عليه السلامُ: أَصَمُّ عن الكَلِم المُحْفِظاتِ وأَحْلُمُ والحِلْمُ بي أَشْبَهُ فلا تَغْتِرر برُواء الرِّجال وما زَخْرَفوا لك أو مَوَّهوا فكم من فَتَى يُعْجِب الناظرين له أَلْسُنٌ وله أَوْجُه ينام إذا حَضَر المَكْرُمَاتِ وعند الدَّناءة يستنبه وللحَسن بن رجاء: أُحِبُّ مكارِم الأخلاق جَهْدِي وأَكْره أن أَعيب وأن أُعابَا وأَصْفَح عن سِباب النَّاس حِلْماً وشرُّ الناس مَن يَهْوَى السِّبابا ومَن هَاب الرِّجالَ تَهَيَّبُوه ومَن حَقَر الرِّجالَ فلن يُهَابا ومَن قَضَت الرجالُ له حُقوقاً ولم يَقْض الحُقوِق فما أصابَا وقال محمد بن عليّ رضوان الله عنهما: مَن حَلُمَ وَقَى عِرْضه ومَن جادت كفُّه حَسُن ثناؤه ومَن أَصْلح مالَه استَغْنى ومَن احتمل المَكْروه كثرت مَحاسنه ومَن صَبر حُمِد أمرُه ومَن كظَم غيظَه فشا إحسانُه ومَن عَفا عن الذُّنوب كثُرت أياديه ومَن اتَّقى الله كفاه ما أهمَّه. وسأل أميرُ المؤمنين عليٌّ عليه السلامُ كبيراً من كُبراء الفُرْس: أيُّ شيء لمُلوككمٍ كان أحمدَ عندكم قال: كان لأرْدَشير فضل السَّبْق في المملكة غير أنّ أحمدَهم سيرة أنو شروان. قال: فأيّ أخلاقِه كان أغلبَ عليه قال: الحلم والأناة. قال: هما توأمان يُنتجهما عُلوّ الهمَّة. إنّي وَهَبْت لظاِلمي ظُلْمِيِ وغفَرْتُ ذاك له على عِلم ورأيتُه أسدَى إليَّ يداَ لما أبان بجَهْله حِلْمي رَجَعَتْ إساءتُه عليه وإح ساني إليَّ مُضاعَف الغُنْم وغَدْوتُ ذا أَجْرٍ ومَحْمدةٍ وغداَ بكَسْب الظلم والإثمْ وكأنما الإحسانُ كان له وأنا المُسيء إليه في الحُكْم ما زال يَظْلمني وأَرْحَمه حتى رَثيتُ له من الظُّلم ولمحمد بن زياد يَصِف حُلماء: نَخالُهمُ في الناس صُمَّاً عن الْخَنَىِ وخُرْساً عن الفَحْشاء عند التَهاجُرِ ومَرضىَ إذا لُوقُوا حياءً وعِفّةَ وعند الحِفَاظ كاللُّيوث الخَوادِر كأن لهم وَصْماَ يخافون عارَه وما ذاك إلاّ لاتّقاء المَعاير وله أيضاً: وأَرْفع نفسي عنِ نًفوس وربما تَذلَلتُ في إكرامها لنُفوس وإنْ رامني يوماَ خَسيسٌ بجَهْله أَبى اللهُ أنْ أَرْضى بعِرْضِ خَسيس ولبعضهم: وإذا استشارك مَنْ تَوَدّ فُقل له أَطِع الحَلِيم إذا الحلِيمُ نَهَاكَا واعلم بأنَك لن تَسُود ولن ترَى سُبل الرًشادِ إذا أَطعتَ هَواكا وقال آخر: وكن مَعْدِناً للحِلم واصفَح عن الأذى فإنك راءِ ما عملتَ وسامِعُ وأَحْبِب إذا أجبتَ حُثا مُقارِباً فإنك لا تَدْري متى أَنْتَ نازع وأَبْغِض إذا أبغضتَ غيرَ مُباين فإنَك لا تَدْري متى أنت راجِع "