وقال الأصمعي: ولي سليمان بن حبيب المحاربي قضاء دمشق لعبد الملك والوليد وسليمان وعمر بن عبد العزيز رحمه الله ويزيد وهشام. وأراد عمر بن عبد العزيز رحمه الله مكحولاً على القضاء فأبى عليه. قال له: وما يمنعك قال مكحول: قال رسول الله ﷺ: لا يقض بين الناس إلا ذو شرف في قومه وأنا مولى. ولما قدم رجال من الكوفة على عمر بن الخطاب رضي الله عنه يشكون سعد بن أبي وقاص قال: من يعذرني من أهل الكوفة إن وليت عليهم التقي ضعفوه وإن وليت عليهم القوي فجروه. فقال له المغيرة: يا أمير المؤمنين إن التقي الضعيف له تقواه وعليك ضعفه. والقوي الفاجر لك قوته وعليه فجوره. قال: صدقت فأنت القوي الفاجر فاخرج إليهم. فخرج إليهم فلم يزل عليهم أيام عمر وصدرا من أيام عثمان وأيام معاوية حتى مات المغيرة. حسن السياسة وإقامة المملكة كتب الوليد بن عبد الملك إلى الحجاج بن يوسف يأمره أن يكتب إليه بسيرته. فكتب إليه: إني أيقظت رأيي وأنمت هواي فأدنيت السيد المطاع في قومه ووليت الحرب الحازم في أمره وقلدت الخراج الموفر لأمانته. وقسمت لكل خصم من نفسي قسماً أعطيه حظاً من لطيف عنايتي ونظري. وصرفت السيف إلى النطف المسيء والثواب إلى المحسن البريء فخاف المريب صولة العقاب وتمسك المحسن بحظه من الثواب. وقال أردشير لابنه: يا بني: إن الملك والعدل أخوان لا غنى بأحدهما عن الآخر فالملك أس والعدل حارس. والبناء ما لم يكن له أس فمهدوم والملك ما لم يكن له حارس فضائع. يا بني اجعل حديثك مع أهل المراتب وعطيتك لأهل الجهاد وبشرك لأهل الدين وسرك لمن عناه ما عناك من ذوي العقول. وقالت الحكماء: مما يجب على السلطان أن يلتزمه العدل في ظاهر أفعاله لإقامة أمر سلطانه وفي ضميره لإقامة أمر دينه. فإذا فسدت السياسة ذهب السلطان ومدار السياسة كلها على العدل والإنصاف لا يقوم سلطان لأهل الكفر والإيمان إلا بهما ولا يدور إلا عليهما مع ترتيب الأمور مراتبها وإنزالها منازلها. وينبغي لمن كان سلطاناً أن يقيم على نفسه حجة الرعية ومن كان رعية أن يقيم على نفسه حجة السلطان. وليكن حكمه على غيره مثل حكمه على نفسه. وإنما يعرف حقوق الأشياء من يعرف مبلغ حدودها ومواقع أقدارها. ولا يكون أحد سلطان حتى يكون قبل ذلك رعية. وقال عبد الملك بن مروان لبنيه: كلكم يترشح لهذا الأمر ولا يصلح له منكم إلا من كان له سيف مسلول ومال مبذول وعدل تطمئن إليه القلوب. ووصف بعض الملوك سياسته فقال: لم أهزل في وعد ولا وعيد ولا أمر ولا نهي ولا عاقبت للغضب واستكفيت وأثبت على الغناء لا للهوى وأودعت القلوب هيبة لم يشبها مقت ووداً لم تشبه جرأة وعممت بالقوت ومنعت الفضول. وذكر أعرابي أمير فقال: كان إذا ولي لم يطابق بين جفونه وأرسل العيون على عيونه فهو غائب عنهم شاهد معهم فالمحسن راج والمسيء خائف. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا يصلح لهذا الأمر إلا اللين من غير ضعف القوي من غير عنف. وقال الوليد بن عبد الملك لأبيه: يا أبت ما السياسة قال: هيبة الخاصة مع صدق مودتها وكتب أرسطوطاليس إلى الإسكندر: أن املك الرعية بالإحسان إليها تظفر بالمحبة منها فإن طلبك ذلك منها بإحسانك هو أدوم بقاء منه باعتسافك. وأعلم أن تقول قدرت على أن تفعل فاجتهد ألا تقول تسلم من أن تفعل. وقال أردشير لأصحابه: إني إنما أملك الأجساد لا النيات وأحكم بالعدل لا بالرضا وأفحص عن الأعمال لا عن السرائر. وكان عمرو بن العاص يقول في معاوية: اتقوا أكرم قريش وابن كريمها من يضحك في الغضب ولا ينام إلا على الرضا ويتناول ما فوقه من تحته. وقال معاوية: إني لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت أبداً. فقيل له: وكيف ذلك قال: كنت إذا مدوها أرخيتها وإذا أرخوها مددتها. وقال عمرو بن العاص رأيت معاوية في بعض أيامنا بصفين خرج في عدة لم أره خرج في مثلها فوقف في قلب عسكره فجعل يلحظ ميمنته فيرى فيها الخلل فيبدر إليه من يسده ثم يفعل ذلك بميسرته فتغنيه اللحظة على الإشارة. فدخله زهو مما رأى فقال: يا ابن العاص كيف ترى هؤلاء وما هم عليه فقلت: والله يا أمير المؤمنين لقد رأيت من يسوس الناس بالدين والدنيا فما رأيت أحد تأتى له من طاعة رعيته ما تأتى لك من هؤلاء. فقال: أفتدري متى يفسد هذا وفي كم ينتقض جميعه قلت: لا. قال: في يوم واحد. قال: فأكثرت التعجب. قال: إي والله وفي بعض يوم قلت: وكيف ذلك يا أمير المؤمنين قال: إذا كذبوا في الوعد والوعيد وأعطوا على الهوى لا على الغناء فسد جميع ما ترى. وكتب عبد الله بن عباس إلى الحسن بن علي إذ ولاه الناس أمرهم بعد علي رضي الله عنه: أن شمر للحرب وجاهد عدوك واشتر من الظنين دينه بما لا يثلم دينك وول أهل البيوتات تستصلح بهم عشائرهم. وقالت الحكماء: أسوس الناس لرعيته من قاد أبدانها بقلوبها وقلوبها بخواطرها وخواطرها بأسبابها من الرغبة والرهبة. وقال أبرويز لابنه شيرويه: لا توسعن على جندك سعة يستغنون بها عنك ولا تضيقن عليهم ضيقاً يضجون به منه ولكن أعطهم عطاء قصداً وامنعهم منعاً جميلاً وابسط لهم في الرجاء ولا تبسط لهم في العطاء. ونحو هذا قول المنصور لبعض قواده: صدق الذي قال: أجع كلبك يتبعك وسمنه يأكلك. فقال له أبو العباس الطوسي: أما تخشى يا أمير المؤمنين إن أجعته أن يلوح له غيرك برغيف فيتبعه وكتب أبرويز إلى ابنه شيرويه من الحبس: اعلم أن كلمة منك تسفك دما وأخرى منك تحقن دماً وأن سخطك سيف مسلول على من سخطت عليه وأن رضاك بركة مستفيضة على من رضيت عنه وأن نفاذ أمرك مع ظهور كلامك. فاحترس في غضبك من قولك أن يخطئ ومن لونك أن يتغير ومن جسدك أن يخف فإن الملوك تعاقب حزماً وتعفو حلماً. واعلم أنك تجل من الغضب وأن ملكك يصغر عن رضاك فقدر لسخطك من العقاب كما تقدر لرضاك من الثواب. وخطب سعيد بن سويد بحمص فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إن للإسلام حائطاً منيعا وبابا وثيقاً فحائط الإسلام الحق وبابه العدل. ولا يزال الإسلام منيعاً ما اشتد السلطان. وليست شدة السلطان قتلاً بالسيف ولا ضرباً بالسوط ولكن قضاء بالحق وأخذاً بالعدل. وقال عبد الله بن الحكم: إنه قد يضطغن على السلطان رجلان: رجل أحسن في محسنين فأثيبوا وحرم ورجل أساء في مسيئين فعوقب وعفي عنهم. فينبغي للسلطان أن يحترس منهما. وفي كتاب التاج: أن أبرويز كتب لابنه شيرويه يوصيه بالرعية: و ليكن من تختاره لولايتك امرأ كان في ضعة فرفعته أو ذا شرف كان مهملاً فاصطنعته. ولا تجعله امرأً أصبته بعقوبة فاتضع لها ولا امرأً أطاعك بعد ما أذللته ولا أحداً ممن يقع في قلبك أن إزالة سلطانك أحب إليه من ثبوته. وإياك أن تستعمله ضرعاً غمراً كثيراً إعجابه بنفسه قليلاً تجربته في غيره ولا كبيراً مدبراً قد أخذ الدهر من عقله كما أخذت السن من جسمه. بسط المعدلة ورد المظالم الشيباني قال: حدثنا محمد بن زكريا عن عباس بن الفضل الهاشمي عن قحطبة بن حميد قال: إني لواقف على رأس المأمون يوماً وقد جلس للمظالم فكان آخر من تقدم إليه - وقد هم بالقيام - امرأة عليها هيئة السفر وعليها ثياب رثة فوقفت بين يديه فقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. فنظر المأمون إلى يحيى بن أكثم. فقال لها يحيى: وعليك السلام يا أمة الله تكلمي بحاجتك. فقالت: يا خير منتصف يهدى له الرشد ويا إماماً به قد أشرق البلد تشكو إليك - عميد القوم - أرملة عدى عليها فلم يترك لها سبد وابتز مني ضياعي بعد منعتها ظلما وفرق مني الأهل والولد فأطرق المأمون حيناً ثم رفع رأسه إليها وهو يقول: في دون ما قلت زال الصبر والجلد عني وأقرح مني القلب والكبد هذا أذان صلاة العصر فانصرفي وأحضري الخصم في اليوم الذي أعد فالمجلس السبت - إن يقض الجلوس لنا ننصفك منه - وإلا المجلس الأحد قال: فلما كان يوم الأحد جلس فكان أول من تقدم إليه تلك المرأة فقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. فقال: وعليك السلام ثم قال: أين الخصم فقالت: الواقف على رأسك يا أمير المؤمنين - وأومأت إلى العباس ابنه - فقال: يا أحمد بن أبي خالد خذ بيده فأجلسه معها مجلس الخصوم. فجعل كلامها يعلو كلام العباس. فقال لها أحمد بن أبي خالد: يا أمة الله إنك بين يدي أمير المؤمنين وإنك تكلمين الأمير فاخفضي من صوتك. فقال المأمون: دعها يا أحمد فإن الحق أنطقها والباطل أخرسه. ثم قضى لها برد ضيعتها إليها وظلم العباس بظلمه لها وأمر بالكتاب لها إلى العامل الذي ببلدها أن يوغر لها ضيعتها ويحسن معاونتها وأمر لها بنفقة. العتبي قال: إني لقاعد عند قاضي هشام بن عبد الملك إذ أقبل إبراهيم ابن محمد بن طلحة وصاحب حرس هشام حتى قعدا بين يديه فقال: إن أمير المؤمنين جراني في خصومة بينه وبين إبراهيم. فقال القاضي شاهديك على الجراية. فقال: أتراني قلت على أمير المؤمنين ما لم يقل وليس بيني وبينه إلا هذه السترة! قال: لا ولكنه لا يثبت الحق لك ولا عليك إلا ببينة. قال: فقام الحرسي فدخل على هشام فأخبره. فلم نلبث أن تقعقعت الأبواب وخرج الحرسي وقال: هذا أمير المؤمنين. وخرج هشام فلما نظر إليه القاضي قام فأشار إليه وبسط له مصلى فقعد عليه وإبراهيم بين يديه. وكنا حيث نسمع بعض كلامهم ويخفى عنا بعضه قال: فتكلما وأحضرا البينة فقضى القاضي على هشام بن عبد الملك. فتكلم إبراهيم بكلمة فيها بعض الخرق فقال: الحمد لله الذي أبان للناس ظلمك. فقال له هشام: هممت أن أضربك ضربة ينتثر منها لحمك عن عظمك. قال: أما والله لئن فعلت لتفعلنه بشيخ كبير السن قريب القرابة واجب الحق. فقال هشام: يا إبراهيم استرها علي. قال: لا ستر الله علي إذا ذنبي يوم القيامة إن سترتها. قال: فإني معطيك عليها مائة ألف. قال إبراهيم: فسترتها عليه أيام حياته ثمناً لما أخذت منه وأذعتها بعد مماته تزيينا له. قال: وورد على الحجاج بن يوسف سليك بن سلكة فقال: أصلح الله الأمير أرعني سمعك واغضض عني بصرك واكفف عني غربك. فإن سمعت خطأ أو زللا فدونك والعقوبة. قال: قل. فقال: عصى عاص من عرض العشيرة فحلق على اسمي وهدم منزلي وحرمت عطائي. قال: هيهات! أو ما سمعت قول الشاعر: جانيك من يجني عليك وقد تعدي الصحاح مبارك الجرب ولرب مأخوذ بذنب عشيرة ونجا المقارف صاحب الذنب فقال: أصلح الله الأمير إني سمعت الله عز وجل يقول غير هذا. قال: وما ذاك قال: قال الله تعالى: " يا أيها العزيز إن له أباً شيخاً كبيراً فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين. قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون ". قال الحجاج: علي بيزيد بن أبي مسلم. فمثل بين يديه. فقال: افكك لهذا عن اسمه واصكك له بعطائه وابن له منزل ومر مناديا ينادي: صدق الله وكذب الشاعر. وقال معاوية: إني لأستحي أن أظلم من لا يجد علي ناصراً إلا الله. وكتب إلى عمر بن عبد العزيز رحمه الله بعض عماله يستأذنه في تحصين مدينته. فكتب إليه: حصنها بالعدل ونق طرقها من الظلم. وقال المهدي للربيع بن أبي الجهم وهو والي أرض فارس: يا ربيع آثر الحق والزم القصد وابسط العدل وارفق بالرعية واعلم أن أعدل الناس من أنصف من نفسه وأظلمهم من ظلم الناس لغيره. وقال ابن أبي الزناد عن هشام بن عروة قال: استعمل ابن عامر عمرو بن أصبغ على الأهواز فلما عزله قال له: ما جئت به قال له: ما معي إلا مائة درهم وأثواب. قال: كيف ذلك قال: أرسلتني إلى بلد أهله رجلان: رجل مسلم له ما لي وعليه ما علي ورجل له ذمة الله ورسوله فوالله ما دريت أين أضع يدي. قال: فأعطاه عشرين ألفاً. وقال النبي ﷺ: الظلم ظلمات يوم القيامة.
صلاح الرعية بصلاح الإمام
قالت الحكماء: الناس تبع لإمامهم في الخير والشر. وقال أبو حازم الأعرج: الإمام سوق فما نفق عنده جلب إليه. ولما أتي عمر بن الخطاب رضي الله عنه بتاج كسرى وسواريه قال: إن الذي أدى هذا لأمين! قال له رجل: يا أمير المؤمنين أنت أمين الله يؤدون إليك ما أديت إلى الله تعالى فإذا رتعت رتعوا. ومن أمثالهم في هذا قولهم: إذا صلحت العين صلحت سواقيها. الأصمعي قال: كان يقال: صنفان إذا صلحا صلح الناس: الأمراء والفقهاء. واطلع مروان بن الحكم على ضيعة له بالغوطة فأنكر شيئاً فقال لوكيله: ويحك! إن لأظنك تخونني. قال: أفتظن ذلك ولا تستيقنه قال: وتفعله قال: نعم والله إني لأخونك وإنك لتخون أمير المؤمنين وإن أمير المؤمنين ليخون الله فلعن الله شر الثلاثة. قولهم في الملك وجلسائه ووزرائه قالت الحكماء لا ينفع الملك إلا بوزرائه وأعوانه ولا ينفع الوزراء والأعوان إلا بالمودة والنصيحة ولا تنفع المودة والنصيحة إلا مع الرأي والعفاف. ثم على الملوك بعد ذلك ألا يتركوا محسناً ولا مسيئاً ما دون جزاء فإنهم إذا تركوا ذلك تهاون المحسن واجترأ المسيء وفسد الأمر وبطل العمل. وقال الأحنف بن قيس. من فسدت بطانته كان كمن غص بالماء ومن غص بالماء فلا مساغ له ومن خانه ثقاته فقد أتي من مأمنه. وقال العباس بن الأحنف: قلبي إلى ما ضرني داعي يكثر أحزاني وأوجاعي كيف احتراسي من عدوي إذا كان عدوي بين أضلاعي وقال آخر: كنت من كربتي أفر إليهم فهم كربتي فأين الفرار وأول من سبق إلى هذا المعنى عدي بن زيد في قوله للنعمان بن المنذر: وقال آخر: إلى الماء يسعى من يغص بريقه فقل أين يسعى من يغص بماء وقال عمرو بن العاص: لا سلطان إلا بالرجال ولا رجال إلا بمال ولا مال إلا بعمارة ولا عمارة إلا بعدل. وقالوا: إنما السلطان بأصحابه كالبحر بأمواجه. وقالوا: ليس شيء أضر بالسلطان من صاحب يحسن القول ولا يحسن الفعل. و لا خير في القول إلا مع الفعل ولا في المال إلا مع الجود ولا في الصدق إلا مع الوفاء ولا في الفقه إلا مع الورع ولا في الصدقة إلا مع حسن النية ولا في الحياة إلا مع الصحة. وقالوا: إن السلطان إذا كان صالحاً ووزراؤه وزراء سواء امتنع خيره من الناس ولم ينتفع منه بمنفعة وشبهوا ذلك بالماء الصافي يكون فيه التمساح فلا يستطيع أحد أن يدخله وإن كان محتاجا إليه.
صفة الإمام العادل
كتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لما ولي الخلافة إلى الحسن بن أبي الحسن البصري أن يكتب إليه بصفة الإمام العادل فكتب إليه الحسن رحمه الله: اعلم يا أمير المؤمنين أن الله جعل الإمام العادل قوام كل مائل وقصد كل جائر وصلاح كل فاسد وقوة كل ضعيف ونصفة كل مظلوم ومفزع كل ملهوف والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالراعي الشفيق على إبله الرفيق بها الذي يرتاد لها أطيب المراعي ويذودها عن مراتع الهلكة ويحميها من السباع ويكنها من أذى الحر والقر. والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالأب الحاني على ولده يسعى لهم صغاراً ويعلمهم كباراً يكتسب لهم في حياته ويدخر لهم بعد مماته. والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالأم الشفيقة البرة الرفيقة بولدها حملته كرها ووضعته كرها وربته طفلاً تسهر بسهره وتسكن بسكونه ترضعه تارة وتفطمه أخرى وتفرح بعافيته وتغتم بشكايته. والإمام العدل يا أمير المؤمنين وصي اليتامى وخازن المساكين يربي صغيرهم ويمون كبيرهم. والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالقلب بين الجوارح تصلح الجوارح بصلاحه وتفسد بفساده والإمام العدل يا أمير المؤمنين هو القائم بين الله وبين عباده يسمع كلام الله ويسمعهم وينظر إلى الله ويريهم وينقاد إلى الله ويقودهم. فلا تكن يا أمير المؤمنين فيما ملكك الله عز وجل كعبد ائتمنه سيده واستحفظه ماله وعياله فبدد المال وشرد العيال فأفقر أهله وفرق ماله. واعلم يا أمير المؤمنين أن الله أنزل الحدود ليزجر بها عن الخبائث والفواحش فكيف إذا أتاها من يليها! وأن الله أنزل القصاص حياة لعباده فكيف إذا قتلهم من يقتص لهم! واذكر يا أمير المؤمنين الموت وما بعده وقلة أشياعك عنده وأنصارك عليه فتزود له ولما بعده من الفزع الأكبر. واعلم يا أمير المؤمنين أن لك منزلاً غير منزلك الذي أنت فيه يطول فيه ثواؤك ويفارقك أحباؤك يسلمونك في قعره فريداً وحيداً. فتزود له ما يصحبك يوم يفر المرء من أخيه. وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه واذكر يا أمير المؤمنين " إذا بعثر ما في القبور. وحصل ما في الصدور " فالأسرار ظاهرة والكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. فالآن يا أمير المؤمنين وأنت مهل قبل حلول الأجل وانقطاع الأمل. لا تحكم يا أمير المؤمنين في عباد الله بحكم الجاهلين ولا تسلك بهم سبيل الظالمين ولا تسلط المستكبرين على المستضعفين فإنهم لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة فتبوء بأوزارك مع أوزارك وتحمل أثقالك مع أثقالك. ولا يغرنك الذين يتنعمون بما فيه بؤسك ويأكلون الطيبات في دنياهم بإذهاب طيباتك في آخرتك. و لا تنظر إلى قدرتك اليوم ولكن انظر إلى قدرتك غداً وأنت مأسور في حبائل الموت وموقوف بين يدي الله في مجمع من الملائكة والنبيين والمرسلين وقد عنت الوجوه للحي القيوم. إني يا أمير المؤمنين وإن لم أبلغ بعظتي ما بلغه أولو النهي من قبلي فلم آلك شفقة ونصحاً فأنزل كتابي إليك كمداوي حبيبه يسقيه الأدوية الكريهة لما يرجو له في ذلك من العافية والصحة. والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. هيبة الإمام في تواضعه قال ابن السماك لعيسى بن موسى: تواضعك في شرفك أكبر من شرفك. وقال عبد الملك بن مروان: إن أفضل الرجال من تواضع عن رفعة وزهد عن قدرة وأنصف عن قوة. و ذكر عن النجاشي أمير الحبشة: أنه أصبح يوما جالساً على الأرض والتاج على رأسه فأعظم ذلك أساقفته فقال لهم: إني وجدت فيما أنزل الله تعالى على المسيح عليه السلام يقول له: " إذا أنعمت على عبدي نعمة فتواضع لها أتممتها عليه ". وإنى ولد لي الليلة غلام فتواضعت لذلك شكراً لله تعالى. وقال ابن قتيبة: لم يقل في الهيبة مع التواضع بيت أبدع من قوال الشاعر في بعض خلفاء بني أمية: يغضي حياء ويغضى من مهابته فما يكلم إلا حين يبتسم وأحسن منه عندي قول الآخر. وقال أبو العتاهية: يا من تشرف بالدنيا وطينتها ليس التشرف رفع الطين بالطين إذا أردت شريف الناس كلهم فانظر إلى ملك في زي مسكين ذاك الذي عظمت في الله نعمته وذاك يصلح للدنيا وللدين وقال الحسن بن هانئ في هيبة السلطان مع محبة الرعية: إمام عليه هيبة ومحبة ألا حبذا ذاك المهيب المحبب وقال آخر في الهيبة وإن لم تكن في طريق السلطان: بنفس من لو مر برد بنانه على كبدي كانت شفاء أنامله ومن هابني في كل شيء وهبته فلا هو يعطيني ولا أنا سائله ولابن هرمة في المنصور: له لحظات عن حفافي سريره إذا كرها فيها عقاب ونائل كريم له وجهان وجه لدى الرضا أسيل ووجه في الكريهة باسل فأم الذي آمنت آمنة الردى وأم الذي أوعدت بالثكل ثاكل وليس بمعطى العفو من غير قدرة ويعفو إذا ما مكنته المقاتل أهاشم يا فتى دين ودنيا ومن هوى في اللباب من اللباب أهابك أن أبوح بذات نفسي وتركي للعتاب من العتاب وقال أشجع بن عمرو في هيبة السلطان: منعت مهابتك النفوس حديثها بالشيء تكرهه وإن لم تعلم ومن الولاة مفخم لا يتقى والسيف تقطر شفرتاه من الدم وقال أيضا لهارون الرشيد: وعلى عدوك يا ابن عم محمد رصدان ضوء الصبح والإظلام فإذا تنبه رعته وإذا غفا سلت عليه سيوفك الأحلام وقال الحسن بن هانئ في الهيبة فأفرط: ملك تصور في القلوب مثاله فكأنه لم يخل منه مكان ما تنطوي عنه القلوب بفجرة إلا يكلمه بها اللحظان حتى الذي في الرحم لم يك صورة لفؤاده من خوفه خفقان فمجاز هذا البيت في إفراطه أن الرجل إذا خاف شيئاً وأحبه أحبه بسمعه وبصره وشعره وبشره ولحمه ودمه وجميع أعضائه فالنطف التي في الأصلاب داخلة في هذه الجملة. قال ألا ترثي لمكتئب يحبك لحمه ودمه ألا ترثي لمكتئب يحبك لحمه ودمه وقال المكفوف في آل محمد عليه السلام: أحبكم حباً على الله أجره تضمنه الأحشاء واللحم والدم وفي مثل هذا قول الحسن بن هانئ: وأخفت أهل الشرك حتى إنه لتخافك النطف التي لم تخلق فإذا خافه أهل الشرك خافته النطف التي في أصلابهم على المجاز الذي ذكرناه. ومجاز آخر: أن النطف التي أخذ الله عليها ميثاقها يجوز أن يضاف إليها ما هي لا بد فاعلة من قبل أن تفعله كما جاء في الأثر: إن الله عز وجل عرض على آدم ذريته فقال: هؤلاء أهل الجنة وبعمل أهل الجنة يعملون وهؤلاء أهل النار وبعمل أهل النار يعملون. ومن قولنا في الهيبة: يا من يجرد من بصيرته تحت الحوادث صارم العزم رعت العدو فما مثلت له إلا تفزع منك في الحلم أضحى لك التدبير مطرداً مثل اطراد الفعل للاسم رفع الحسود إليك ناظره فرآك مطلعاً مع النجم تسمو العيون إلى إمام عادل معطى المهابة نافع ضرار ونرى عليه إذا العيون لمحنه سيما الحليم وهيبة الجبار حسن السيرة والرفق بالرعية قال الله تعالى لنبيه محمد ﷺ فيما أوصاه به من الرفق بالرعية: " ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك ". وقال النبي ﷺ: من أعطى حظه من الرفق فقد أعطى حظه من الخير كله ومن حرم حظه من الرفق حرم حظه من الخير كله. ولما استخلف عمر بن عبد العزيز رحمه الله أرسل إلى سالم بن عبد الله ومحمد بن كعب فقال لهما: أشيرا علي. فقال له سالم: اجعل الناس أباً وأخاً وابناً فبر أباك واحفظ أخاك وارحم ابنك. وقال له محمد بن كعب: أحبب للناس ما تحب لنفسك واكره لهم ما تكره لنفسك واعلم أنك لست أول خليفة. وقال عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز لأبيه عمر: يا أبت ما لك لا تنفذ في الأمور فوالله لا أبالي في الحق لو غلت بي وبك القدور. فقال له عمر: لا تعجل يا بني فإن الله تعالى ذم الخمر في القرآن مرتين وحرمها في الثالثة وأنا أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيدعوه وتكون فتنة. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة أما بعد فإن أمكنتك القدرة على المخلوق وقال المنصور لولده عبد الله المهدي: لا تبرم أمراً حتى تفكر فيه فإن فكرة العاقل مرآة تريه حسناته وسيآته. واعلم أن الخليفة لا تصلحه إلا التقوى والسلطان لا تصلحه إلا الطاعة والرعية لا يصلحها إلا العدل. وأولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة وانقص الناس عقلاً من ظلم من هو دونه. وقال خالد بن عبد الله القسري لبلال بن أبي بردة: لا يحملنك فضل المقدرة على شدة السطوة ولا تطلب من رعيتك إلا ما تبذله لها فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون. وقال أبو عبيد الله كاتب المهدي: ما أحوج ذا القدرة والسلطان إلى دين يحجزه وحياء يكفه وعقل يعقله وإلى تجربة طويلة وعين حفيظة وأعراق تسري إليه وأخلاق تسهل الأمور عليه وإلى جليس شفيق وصاحب رفيق وإلى عين تبصر العواقب وقلب يخاف الغير. ومن لم يعرف لؤم الكبر لم يسلم من فلتات اللسان ولم يتعاظم ذنباً وإن عظم ولا ثناء وإن سمح. وكتب أردشير إلى رعيته: من أردشير المؤيد ملك الملوك ووارث العظماء إلى الفقهاء الذين هم حملة الدين والأساورة الذين هم حفظة البيضة والكتاب الذين هم زينة المملكة وذوي الحرث الذين هم عماد البلاد: السلام عليكم فإنا بحمد الله إليكم سالمون. فقد وضعنا عن رعيتنا بفضل رأفتنا بها إتاوتها الموظفة عليها ونحن مع ذلك كاتبون بوصية فاحفظوها: لا تستشعروا الحقد فيدهمكم العدو ولا تحتكروا فيشملكم القحط وتزوجوا في الأقارب فإنه أمس للرحم وأثبت للنسب ولا تعدوا هذه الدنيا شيئاً فإنها لا تبقي على أحد ولا ترفضوها فإن الآخرة لا تدرك إلا بها. ولما انصرف مروان بن الحكم من مصر إلى الشام استعمل عبد العزيز ابنه على مصر وقال له حين ودعه: أرسل حكيماً ولا توصه. أي بني انظر إلى عمالك فإن كان لهم عندكم حق غدوة فلا تؤخره إلى عشية وإن كان لهم عشية فلا تؤخره إلى غدوة وأعطهم حقوقهم عند محلها تستوجب بذلك الطاعة منهم. وإياك أن يظهر لرعيتك منك كذب فإنهم إن ظهر لهم منك كذب لم يصدقوك في الحق. واستشير جلساءك وأهل العلم فإن لم يستبن لك فاكتب إلي يأتك رأيي فيه إن شاء الله تعالى. وإن كان بك غضب على أحد من رعيتك فلا تؤاخذه به عند سورة الغضب واحبس عنه عقوبتك حتى يسكن غضبك ثم يكون منك ما يكون وأنت ساكن الغضب منطفئ الجمرة فإن أول من جعل السجن كان حليماً ذا أناة. ثم انظر إلى أهل الحسب والدين والمروءة فليكونوا أصحابك وجلساءك ثم اعرف منازلهم منك على غير استرسال ولا انقباض. أقول هذا واستخلف الله عليك. أبو بكر بن أبي شيبة عن عبد الله بن مجالد عن الشعبي قال: قال زياد: ما غلبني أمير المؤمنين معاوية في شيء من السياسة إلا مرة واحدة استعملت رجلاً فكسر خراجه فخشي أن أعاقبه ففر إليه واستجار به فأمنه. فكتبت إليه: إن هذا أدب سوأ من قبلي. فكتب إلي: إنه لا ينبغي أن نسوس الناس سياسة واحدة لا نلين جميعاً فتمرح الناس في المعصية ولا نشتد جميعا فنحمل الناس على المهالك ولكن تكون أنت للشدة والغلظة وأكون أنا للرأفة والرحمة. ما يأخذ به السلطان من الحزم والعزم قالت الحكماء: أحزم الملوك من قهر جده هزله وغلب رأيه هواه وجعل له الفكر صاحباً يحسن له العواقب وأعرب عن ضميره فعله ولم يخدعه رضاه عن سخطه ولا غضبه عن كيده. وقال عبد الملك بن مروان لابنه الوليد وكان ولي عهده: يا بني اعلم أنه ليس بين السلطان وبين أن يملك الرعية أو تملكه الرعية إلا حزم أو توان. وقالوا: لا ينبغي للعاقل أن يستصغر شيئاً من الخطأ أو الزلل فإنه متى ما استصغر الصغير يوشك أن يقع الكبير فقد رأينا الملوك تؤتى من العدو المحتقر ورأينا الصحة تؤتى من الداء اليسير ورأينا الأنهار تتدفق من الجداول الصغار. وقالوا: لا يكون الذم من الرعية لراعيها إلا لإحدى ثلاث: كريم قصر به عن قدره فاحتمل لذلك ضغناً أو لئيم بلغ به إلى ما لا يستحق فأورثه ذلك بطراً أو رجل منع حظه من الإنصاف فشكا تفريطا. ومن كتاب للهند: خير الملوك من أشبه النسر حوله الجيف لا من أشبه الجيف حولها النسور. وقيل لملك سلب ملكه: ما الذي سلبك ملكك فقال: دفع شغل اليوم إلى غد والتماس عدة بتضييع عدد واستكفاء كل مخدوع عن عقله. والمخدوع عن عقله من بلغ قدراً لا يستحقه أو أثيب ثواباً لا يستوجبه. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: انتهزوا هذه الفرص فإنها تمر مر السحاب ولا تطلبوا أثراً بعد عين. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه أحزم الخلفاء. كانت عائشة رضي الله عنها إذا ذكر عمر قالت: كان والله أحوزياً نسيج وحده وقد أعد للأمور أقرانها. وقال المغيرة بن شعبة: ما رأيت أحداً هو أحزم من عمر كان والله له فضل يمنعه أن يخدع وعقل يمنعه أن يخدع. وقال عمر: لست بخب والخب لا يخدعني. ومر عمر رضي الله عنه ببنيان يبنى بآجر وجص فقال: لمن هذا قيل: لعاملك على البحرين. فقال: أبت الدراهم إلا أن تخرج أعناقها. فأرسل فشاطره ماله. وكان سعد بن أبي وقاص يقال له: المستجاب لقول النبي ﷺ: اتقوا دعوة سعد. فلما شاطره عمر ماله قال له سعد: لقد هممت. قال له عمر: بأن تدعو علي قال: نعم. قال: إذا لا تجدني بدعاء ربي شقيا. وهجا رجل الشعراء سعد بن أبي وقاص يوم القادسية فقال: ألم تر أن الله اظهر دينه وسعد بباب القادسية معصم فأبنا وقد آمت نساء كثيرة ونسوة سعد ليس فيهن أيم فقال سعد: اللهم اكفني يده ولسانه فقطعت يده وبكم لسانه. ولما عزل عمر أبا موسى الأشعري عن البصرة وشاطره ماله وعزل أبا هريرة عن البحرين وشاطره ماله وعزل الحارث بن كعب بن وهب وشاطره ماله دعا أبا موسى فقال له: ما جاريتان بلغني أنهما عندك إحداهما عقيلة والأخرى من بنات الملوك قال: أما عقيلة فإنها جارية بيني وبين الناس وأما التي هي من بنات الملوك فإني أردت بها غلاء الفداء. قال: فما جفنتان تعملان عندك قال: رزقتني شاة في كل يوم فيعمل نصفها غدوة ونصفها عشية. قال: فما مكيالان بلغني أنهما عندك قال: أما أحدهما فأوفي به أهلي وديني. وأما الآخر فيتعامل الناس به. فقال: ادفع إلينا عقيلة والله إنك لمؤمن لا تغل أو فاجر مبل أرجع إلى عملك عاقصاً بقرنك مكتسعاً بذنبك. والله إن بلغني عنك أمر لم أعدك. ثم دعا أبا هريرة فقال له: هل علمت من حين أني استعملتك على البحرين وأنت بلا نعلين ثم بلغني أنك ابتعت أفراساً بألف دينار وستمائة دينار قال: كانت لنا أفراس تناتجت وعطايا تلاحقت. قال: قد حسبت لك رزقك ومؤونتك وهذا فضل فأده. قال: ليس لك ذلك. قال بلى والله وأوجع ظهرك. ثم قام إليه بالدرة فضربه حتى أدماه ثم قال: إيت بها. قال: احتسبتها عند الله. قال: ذلك لو أخذتها من حلال وأديتها طائعاً. أجئت من أقصى حجر البحرين يجبي الناس لك لا لله ولا للمسلمين! ما رجعت بك أميمة إلا لرعية الحمر. وأميمة أم أبي هريرة. وفي حديث أبي هريرة قال: لما عزلني عمر عن البحرين قال لي: يا عدو الله وعدو كتابه سرقت مال الله قال: فقلت: ما أنا عدو الله ولا عدو كتابه ولكني عدو من عاداهما ما سرقت مال الله. قال: فمن أين لك عشرة آلاف قلت: خيل تناتجت وعطايا تلاحقت وسهام تتابعت. قال: فقبضها مني. فلما صليت الصبح استغفرت لأمير المؤمنين. فقال لي بعد ذلك: ألا تعمل قلت: لا. قال: قد عمل من هو خير منك يوسف صلوات الله عليه. قلت: قال: ثم دعا الحارث بن كعب بن وهب فقال: ما قلاص وأعبد بعتها بمائتي دينار قال: خرجت بنفقة معي فتجرت فيها. فقال: أما والله ما بعثناكم لتتجروا في أموال المسلمين! أدها. فقال: أما والله لا عملت عملاً بعدها أبداً. قال: انتظر حتى استعملك. وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عمرو بن العاص وكان عامله على مصر: من عبد الله عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص سلام عليك أما بعد فإنه بلغني أنك فشت لك فاشية من خيل وإبل وغنم وبقر وعبيد. وعهدي بك قبل ذلك أن لا مال لك فاكتب إلي من أين أصل هذا المال ولا تكتمه. فكتب إليه: من عمرو بن العاص إلى عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين. سلام عليك. فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد. فإنه أتاني كتاب أمير المؤمنين يذكر فيه ما فشا لي وأنه يعرفني قبل ذلك ولا مال لي. وإني اعلم أمير المؤمنين أني ببلد السعر به رخيص وأني من الحرفة والزراعة ما يعالجه أهله وليس في رزق أمير المؤمنين سعة. وبالله لو رأيت خيانتك حلالاً ما خنتك فأقصر أيها الرجل فإن لنا أحساباً هي خير من العمل لك إن رجعنا إليها عشنا بها. ولعمري إن عندك من لا يذم معيشته ولا تذم له. وذكرت أن عنك من المهاجرين الأولين من هو خير مني فأنى كان ذلك ولم نفتح قفلك ولم نشركك في عملك. فكتب إليه عمر: أما بعد فإني والله ما أنا من أساطيرك التي تسطر ونسقك الكلام في غير مرجع! وما يغني عنك أن تزكي نفسك وقد بعثت إليك محمد بن مسلمة فشاطره مالك. فإنكم أيها الرهط الأمراء جلستم على عيون المال ثم لم يعوزكم عذر تجمعون لأبنائكم وتمهدون لأنفسكم. أما تجمعون العار وتورثون النار والسلام. فلما قدم عليه محمد بن مسلمة صنع له عمرو طعاماً كثيراً. فأبى محمد بن مسلمة أن يأكل منه شيئاً. فقال له عمر: أتحرمون طعامنا فقال: لو قدمت إلي طعام الضيف أكلته ولكنك قدمت إلى طعاماً هو تقدمة شر. والله لا أشرب عندك الماء فاكتب لي كل شيء هو لك ولا تكتمه. فشاطره ماله بأجمعه حتى بقيت نعلاه. فأخذ إحداهما وترك الأخرى. فغضب عمرو بن العاص فقال: يا محمد بن مسلمة قبح الله زماناً عمرو بن العاص لعمر بن الخطاب فيه عامل. والله إني لأعرف الخطاب يحمل فوق رأسه حزمة من الحطب وعلى ابنه مثلها وما منهما إلا في نمرة لا تبلغ رسغيه والله ما كان العاص بن وائل يرضى أن يلبس الديباج مزوراً بالذهب والفضة. قال له محمد ابن مسلمة: اسكت والله عمر خير منك وأما أبوك وأبوه ففي النار. والله لولا الزمان الذي سبقك فيه لألفيت مقتعد شاة يسرك غزرها ويسوءك بكؤها. فقال عمرو: هي عندك بأمانة الله. فلم يخبر بها عمر.