الرئيسيةبحث

العقد الفريد/الجزء الأول/17


وفود الأحنف على عمر بن الخطاب رضي الله عنه المدائني

قال: قدم الأحنف بن قيس التميمي على عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أهل البصرة وأهل الكوفة فتكلموا عنده في أنفسهم وما ينوب كل واحد منهم وتكلم الأحنف فقال: يا أمير المؤمنين إن مفاتيح الخير بيد الله وقد أتتك وفود أهل العراق وإن إخواننا من أهل الكوفة والشام ومصر نزلوا منازل الأمم الخالية والملوك الجبابرة ومنازل كسرى وقيصر وبني الأصفر فهم من المياه العذبة والجنان المخصبة في مثل حولاء السلى وحدقة البعير تأتيهم ثمارهم غضة لم تتغير وإنا نزلنا أرضاً نشاشة طرف في فلاة وطرف في ملح أجاج جانب منها منابت القصب وجانب سبخة نشاشة لا يجف ترابها ولا ينبت مرعاها تأتينا منافعها في مثل مريء النعامة يخرج الرجل الضعيف منا يستعذب الماء من فرسخين وتخرج المرأة بمثل ذلك ترنق ولدها ترنيق العنز تخاف عليه العدو والسبع فإلا ترفع خسيستنا وتنعش ركيستنا وتجبر فاقتنا وتزيد في عيالنا عيالاً وفي رجالنا رجالاً وتصفر درهمنا وتكبر قفيزنا وتأمر لنا بحفر نهر نستعذب به الماء هلكنا. قال عمر: هذا والله السيد! هذا والله السيد! قال الأحنف: فما زلت أسمعها بعدها. فأراد زيد بن جبلة أن يضع منه فقال: يا أمير المؤمنين إنه ليس هناك وأمه باهلية. قال عمر: هو خير منك إن كان صادقاً. يريد إن كانت له نية. فقال الأحنف: أنا ابن الباهلية أرضعتني بثدي لا أجد ولا وخيم أغض على القذى أجفان عيني إذا شر السفيه إلى الحليم قال: فرجع الوفد واحتبس الأحنف عنده حولاً وأشهراً ثم قال: إن رسول الله ﷺ حذرنا كل منافق صنع اللسان وإني خفتك فاحتبستك فلم يبلغني عنك إلا خير رأيت لك جولاً ومعقولاً فارجع إلى منزلك واتق الله ربك. وكتب إلى أبي موسى الأشعري: أن يحتفر لهم نهراً. على عمر بن الخطاب رضي الله عنه العتبي عن أبيه قال: وفد الأحنف وعمرو بن الأهتم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأراد أن يقرع بينهما في الرياسة فلما اجتمعت بنو تميم قال الأحنف: ثوى قدح عن قومه طالما ثوى فلما أتاهم قال قوموا تناجزوا فقال عمرو بن الأهتم: إنا كنا وأنتم في دار جاهلية فكان الفضل فيها لمن جهل فسفكنا دماءكم وسبينا نساءكم وإنا اليوم في دار الإسلام والفضل فيها لمن حلم فغفر الله لنا ولك. قال: فغلب يومئذ عمرو بن الأهتم على الأحنف ووقعت القرعة لآل الأهتم. فقال عمرو بن الأهتم: لما دعتني للرياسة منقر لدى مجلس أضحى به النجم باديا شددت لها أزري وقد كنت قبلها لأمثالها مما أشد إزاريا وعمرو بن الأهتم: هو الذي تكلم بين يدي رسول الله ﷺ وسأله عن الزبرقان فقال عمرو: مطاع في أدنيه شديد العارضة مانع لما وراء ظهره. فقال الزبرقان: والله يا رسول الله إنه ليعلم مني أكثر مما قال ولكن حسدني قال: أما والله يا رسول الله إنه لزمر المروءة ضيق العطن أحمق الولد لئيم الخال والله ما كذبت في الأولى ولقد صدقت في الأخرى رضيت عن ابن عمي فقلت أحسن ما علمت ولم أكذب وسخطت عليه فقلت أقبح ما علمت ولم أكذب فقال رسول الله ﷺ: إن من البيان لسحراً.

وفود عمرو بن معديكرب على عمر بن الخطاب رضي الله عنه

إذ أوفده سعد لما فتحت القادسية على يدي سعد بن أبي وقاص أبلى فيها عمرو بن معديكرب بلاء حسناً فأوفده سعد على عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكتب إليه معه بالفتح وأثنى في الكتاب على عمرو. فلما قدم على عمر بن الخطاب سأله عنه سعد فقال: أعرابي في نمرته أسد في تأمورته نبطي في جبايته يقسم بالسوية ويعدل في القضية وينفر في السرية وينقل إلينا حقنا نقل الذرة. فقال عمر: لشد ما تقارضتما الثناء. وكان عمر قد كتب إلى سعد يوم القادسية أن يعطى الناس على قدر ما معهم من القرآن. فقال سعد لعمرو بن معديكرب: ما معك من القرآن قال: ما معي شيء قال: إن أمير المؤمنين كتب إلي أن أعطي الناس على قدر ما معهم من القرآن فقال عمرو: إذا قتلنا ولا يبكي لنا أحد قالت قريش ألا تلك المقادير نعطى السوية من طعن له نفذ ولا سوية إذ نعطى الدنانير وفود أهل اليمامة على أبي بكر الصديق رضي الله عنه وفد أهل اليمامة على أبي بكر الصديق رضي الله عنه بعد إيقاع خالد بهم وقتله مسيلمة الكذاب فقال لهم أبو بكر: ما كان يقول صاحبكم قالوا: أعفنا يا خليفة رسول الله قال: لا بد أن تقولوا قالوا: كان يقول: يا ضفدع كم تنقين لا الشراب تمنعين ولا الماء تكدرين لنا نصف الأرض ولقريش نصفها ولكن قريش قوم لا يعدلون. فقال لهم أبو بكر: وحيكم! ما خرج هذا من إل ولا بر فأين ذهب بكم قال أبو عبيد: الإل: الله تعالى. والبر: الرجل الصالح.

وفود عمرو بن معد يكرب على مجاشع بن مسعود

وفد عمرو بن معد يكرب الزبيدي على مجاشع بن مسعود السلمي - وكانت بين عمرو وبين سليم حروب في الجاهلية - فقدم عليه البصرة يسأله الصلة فقال: اذكر حاجتك فقال له: حاجتي صلة مثلي. فأعطاه عشرة آلاف درهم وفرساً من بنات الغبراء وسيفاً جرازاً ودرعاً حصينة وغلاماً خبازاً. فلما خرج من عنده قال له أهل المجلس: كيف وجدت صاحبك قال: لله در بني سليم ما أشد في الهيجاء لقاءها وأكرم في اللأواء عطاءها وأثبت في المكرمات بناءها والله يا بني سليم لقد قاتلناكم في الجاهلية فما أجبناكم ولقد هاجيناكم فما أقحمناكم وقد سألناكم فما أبخلناكم. فلله مسؤولاً نوالاً ونائلاً وصاحب هيج يوم هيج مجاشع الوفود على معاوية وفود الحسن بن علي رضي الله عنهما على معاوية رضي الله عنه أبو بكر بن أبي شيبة قال: وفد الحسن بن علي رضي الله عنهما على معاوية بعد عام الجماعة فقال له معاوية والله لأحبونك بجائزة ما أجزت بها أحداً قبلك ولا أجيز بها أحداً بعدك فأمر بمائة ألف. وفي بعض الحديث أن النبي ﷺ دخل على ابنته فاطمة فوجد الحسن طفلاً يلعب بين يديها فقال لها: إن الله تعالى سيصلح على يدي ابنك هذا بين فئتين عظيمتين من المسلمين. على معاوية رحمه الله العتبي قال: قدم زيد بن منية على معاوية من البصرة - وهو أخو يعلى بن منية صاحب جمل عائشة ومتولي تلك الحروب ورأس أهل البصرة وكان عتبة بن أبي سفيان قد تزوج يعلى بن منية - فلما دخل على معاوية شكا إليه ديناً لزمه فقال: يا كعب أعطه ثلاثين ألفاً فلما ولى قال: وليوم الجمل ثلاثين ألفاً أخرى: ثم قال له: الحق بصهرك - يعني عتبة - فقدم عليه مصر فقال: إن سرت إليك شهرين أخوض فيهما المتالف ألبس أردية الليل مرة وأخوض في لجج السراب أخرى موقراً من حسن الظن بك وهارباً من دهر قطم ودين لزم بعد غنى جدعنا به أنوف الحاسدين فلم أجد إلا إليك مهربا وعليك معولاً فقال عتبة: مرحباً بك وأهلاً إن الدهر أعاركم غنى وخلطكم بنا ثم استرد ما أمكنه أخذه وقد أبقى لكم منا ما لا ضيعة معه وأنا واضع يدي ويدك بيد الله. فأعطاه ستين ألفاً كما أعطاه معاوية رحمه الله.

وفود عبد العزيز بن زرارة على معاوية رحمه الله

وفد عبد العزيز بن زرارة على معاوية وهو سيد أهل الكوفة فلما أذن له وقف بين يديه وقال: يا أمير المؤمنين لم أزل أهز ذوائب الرحال إليك إذ لم أجد معولاً إلا عليك أمتطي الليل بعد النهار وأسم المجاهل بالآثار يقودني إليك أمل وتسوقني بلوى والمجتهد يعذر وإذ بلغتك فقطني. فقال معاوية: احطط عن راحتك رحلها. وخرج عبد العزيز بن زرارة مع يزيد بن معاوية إلى الصائفة فهلك هناك فكتب به يزيد بن معاوية إلى معاوية فقال لزرارة: أتاني اليوم نعي سيد شباب العرب قال زرارة: يا أمير المؤمنين هو ابني أو ابنك قال: بل ابنك قال: للموت ما تلد الوالدة. أخذ سابق البريري فقال: وللموت تغدو الوالدات سخالها كما لخراب الدار تبنى المساكن وقال آخر: للموت يولد منا كل مولود لا شيء يبقى ولا يفنى بموجود وفود عبد الله جعفر على يزيد بن معاوية المدائني قال: قدم عبد الله بن جعفر على يزيد بن معاوية. فقال له: كم كان عطاؤك فقال له: ألف ألف قال: قد أضعفاناها لك قال: فداك أبي وأمي وما قلتها لأحد قبلك قال: أضعفناها لك ثانية. فقيل ليزيد: أتعطي رجلاً واحداً أربعة آلاف ألف! فقال: ويحكم! إنما أعطيتها أهل المدينة أجمعين فما يده فيها إلا عارية. فلما كان في السنة الثانية قدم عبد الله بن جعفر وقدم مولى له يقال له نافع كانت له منزلة من يزيد بن معاوية. قال نافع: فلما قدمنا عليه أمر لعبد الله بن جعفر بألف ألف وقضى عنه ألف ألف ثم نظر إلي فتبسم فقلت: هذه لتلك الليلة. وكنت سامرته ليلة في خلافة معاوية وأسمعته فيها فذكرته بها. وقدمت عليه هدايا من مصر كثيرة فأمر بها لعبد الله بن جعفر وكان له مائة ناقة فقلت لابن جعفر: لو سألته منها شيئاً نحتلبه في طريقنا ففعل فأمر بصرفها كلها إليه. فلما أراد الوداع أرسل إلي فدخلت عليه فقال: ويلك! إنما أخترك لأتفرغ إليك هات قول جميل: خليلي فيما عشتما هل رأيتما قتيلاً بكى من حب قاتله قبلي قال: فأسمعته! فقال: أحسنت والله هات حاجتك. فما سألته شيئاً إلا أعطانيه فقال: إن يصلح الله هذا الأمر من قبل ابن الزبير تلقنا بالمدينة فإن هذا لا يحسن إلا هناك. فمنع والله من ذلك شؤم ابن الزبير.

الوفود على عبد الملك بن مروان

وفود عبد الله بن جعفر على عبد الملك بن مروان قال بديح: وفد عبد الله بن جعفر على عبد الملك بن مروان وكان زوج ابنته أم كلثوم من الحجاج على ألفي ألف في السر وخمسمائة في العلانية وحملها إليه إلى العراق فمكثت عنده ثمانية أشهر. قال بديح: فلما خرج عبد الله بن جعفر إلى عبد الملك بن مروان خرجنا معه حتى دخلنا دمشق فإنا لنحط رحالنا إذ جاءنا الوليد بن عبد الملك على بغلة وردة ومعه الناس فقلنا: جاء إلى ابن جعفر ليحييه ويدعوه إلى منزله. فاستقبله ابن جعفر بالترحيب فقال له: لكن أنت لا مرحباً بك ولا أهلاً مهلاً يا بن أخي فلست أهلاً لهذه المقالة منك قال: بلى ولشر منها قال: وفيم ذلك قال: إنك عمدت إلى عقيلة نساء العرب وسيدة بني عبد مناف ففرشتها عبد ثقيف يتفخذها قال: وفي هذا عتب علي يا بن أخي قال: وما أكثر من هذا قال: والله إن أحق الناس أن لا يلومني في هذا لأنت وأبوك إن كان من قبلكم من الولاة ليصلون رحمي ويعرفون حقي وإنك وأباك منعتماني ما عندكما حتى ركبني من الدين ما والله لو أن عبداً مجدعاً حبشياً أعطاني بها ما أعطاني عبد ثقيف لزوجتها فإنما فديت بها رقبتي من النار. قال: فما راجعه كلمة حتى عطف عنانه ومضى حتى دخل على عبد الملك - وكان الوليد إذا غضب عرف ذلك في وجهه - فلما رآه عبد الملك قال: مالك أبا العباس قال: إنك سلطت عبد ثقيف وملكته ورفعته حتى تفخذ نساء عبد مناف وأدركته الغير. فكتب عبد الملك إلى الحجاج يعزم عليه أن لا يضع كتابه من يده حتى يطلقها. فما قطع الحجاج عنها رزقاً ولا كرامة يجريها عليها حتى خرجت من الدنيا. قال: وما زال واصلاً لعبد الله بن جعفر حتى هلك. قال بديح: فما كان يأتي علينا هلال إلا وعندنا عير مقبلة من الحجاج عليها لطف وكسوة وميرة حتى لحق عبد الله بن جعفر بالله. ثم استأذن ابن جعفر على عبد الملك فلما دخل عليه استقبله عبد الملك بالترحيب ثم أخذ بيده فأجلسه معه على سريره ثم سأله فألطف المسألة حتى سأله عن مظعمه ومشربه فلما انقضت مسألته قال له يحيى بن الحكم: أمن خبيثة كان وجهك أبا جعفر قال: وما خبيثة قال: أرضك التي جئت منها قال: سبحان الله! رسول الله ﷺ يسميها طيبة وتسميها خبيثة! لقد اختلفتما في الدنيا وأظنكما في الآخرة مختلفين. فلما خرج من عنده هيأ له ابن جعفر هدايا وألطافاً. فقلت لبديح: ما قيمة ذلك قال: قيمته مائة ألف من وصفاء ووصائف وكسوة وحرير ولطف من لطف الحجاز. قال: فبعثني بها فدخلت عليه وليس عنده أحد فجعلت أعرض عليه شيئاً شيئاً. قال: فما رأيت مثل إعظامه لكل ما عرضت عليه من ذلك وجعل يقول كلما أريته شيئاً: عافى الله أبا جعفر ما رأيت كاليوم وما كنا نريد أن يتكلف لنا شيئاً من هذا وإن كنا لمتذممين محتشمين. قال: فخرجت من عنده وإذن لأصحابه فوالله لبينا أنا أحدثه عن تعجب عبد الملك وإعظامه لما أهدى إليه إذا بفارس قد أقبل علينا فقال: أبا جعفر إن أمير المؤمنين يقرأ السلام عليك ويقول لك: جمعت لنا وخش رقيق الحجاز أباقهم وحبست عنا فلانة فابعث بها إلينا - وذلك أنه حين دخل عليه أصحابه جعل يحدثهم عن هدايا ابن جعفر ويعظمها عندهم فقال له يحيى بن الحكم: وماذا أهدى إليك ابن جعفر جمع لك وخش رقيق الحجاز وأباقهم وحبس عنك فلانة قال: ويلك! وما فلانة هذه قال: ما لم يسمع والله أحد بمثلها قط جمالاً وكمالاً وخلقاً وأدباً لو أراد كرامتك بعث بها إليك قال: وأين تراها وأين تكون قال: هي والله معه وهي نفسه التي بين جنبيه - فلما قال الرسول ما قال وكان ابن جعفر في أذنه بعض الوقر إذا سمع ما يكره تصام فأقبل علي فقال: ما يقول بديح قال: قلت: فإن أمير المؤمنين يقرأ السلام ويقول: إنه جاءني بريد من ثغر كذا يقول: إن الله نصر المسلمين وأعزهم قال: اقرأ أمير المؤمنين السلام وقل له: أعز الله نصرك وكبت عدوك فقال الرسول: يا أبا جعفر إني لست أقول هذا وأعاد مقالته الأولى. فسألني فصرفته إلى وجه آخر فأقبل علي الرسول فقال: يا ماص أبرسل أمير المؤمنين تهكم وعن أمير المؤمنين تجيب هذا الجواب قال: والله لأطلن دمك فانصرف. وأقبل علي ابن جعفر فقال: من ترى صاحبنا قال: صاحبك بالأمس قال: أظنه فما الرأي عندك قلت: يا أبا جعفر قد تكلفت له ما تكلفت فإن منعتها إياه جعلتها سبباً لمنعك ولو طلب أمير المؤمنين إحدى بناتك ما كنت أرى أن تمنعها إياه قال: ادعها لي. فلما أقبلت رحب بها ثم أجلسها إلى جنبه ثم قال: أما والله ما كنت أظن أن يفرق بيني وبينك إلا الموت قالت: وما ذاك قال: إنه حدث أمر وليس والله كائناً فيه إلا ما أحببت جاء الدهر فيه بما جاء قالت: وما هو قال: إن أمير المؤمنين بعث يطلبك فإن تهوين فذاك وإلا والله لا يكون أبداً قالت: ما شيء لك فيه هوى ولا أظن فيه فرجاً عنك إلا فديته بنفسي وأرسلت عينيها بالبكاء فقال لها: أما إذا فعلت فلا ترين مكروهاً فمسحت عينيها وأشار إلي فقال: ويحك يا بديح! استحثها قبل أن تتقدم إلي من القوم بادرة. قال: ودعا بأربع وصائف ودعا من صاحب نفقته بخمسمائة دينار ودعا مولاة له كانت تلي طيبه فدحست لها ربعة عظيمة مملوءة طيباً ثم قال: عجلها ويلك! فخرجت أسوقها حتى انتهيت إلى الباب وإذا الفارس قد بلغ عني فما تركني الحجاب أن تمس رجلاي الأرض حتى أدخلت على عبد الملك وهو يتلظى فقال لي: يا ماص! وكذا أنت المجيب عن أمير المؤمنين والمتهكم برسله قلت: يا أمير المؤمنين ائذن لي أتكلم قال: وما تقول يا كذا وكذا قلت: ائذن لي يجعلني الله فداك أتكلم قال: تكلم قلت: يا أمير المؤمنين أنا أصغر شأناً وأقل خطراً من أن يبلغ كلامي من أمير المؤمنين ما أرى وهل أنا إلا عبد من عبيد أمير المؤمنين نعم قد قلت ما بلغك وقد يعلم أمير المؤمنين أنا إنما نعيش في كنف هذا الشيخ وأن الله لم يزل إليه محسناً فجاءه من قبلك شيء ما أتاه قط مثله إنما طلبت نفسه التي بين جنبيه فأجبت بما بلغك لأسهل الأمر عليه ثم سألني فأخبرته واستشارني فأشرت عليه وها هي ذه قد جئتك بها قال: أدخلها ويلك! قال: فأدخلتها عليه وعنده مسلمة ابنه غلام ما رأيت مثله ولا أجمل منه حين اخضر شاربه فلما جلست وكلها أعجب بكلامها فقال: لله أبوك! أمسكك لنفسي أحب إليك أم أهبك لهذا الغلام فإنه ابن أمير المؤمنين قالت: يا أمير المؤمنين لست لك بحقيقة وعسى أن يكون هذا الغلام لي وجهاً قال: فقام من مكانه ما راجعها فدخل وأقبل عليها مسلمة يالكاع أعلى أمير المؤمنين تختارين قالت: يا عدو نفسه إنما تلومني أن اخترتك! لعمر الله لقد قال: رأي من اختارتك. قال: فضيقت والله مجلسه واطلع علينا عبد الملك قد ادهن بدهن وارى الشيب وعليه حلة تتلألأ كأنها الذهب بيده مخصرة يخطر بها فجلس مجلسه على سريره ثم قال: إيها! لله أبوك! أمسكك لنفسي أحب لك أم أهبك لهذا الغلام قالت: ومن أنت أصلحك الله قال لها الخصي: هذا أمير المؤمنين قالت: لست مختارة على أمير المؤمنين أحداً قال: فأين قولك آنفاً قالت: رأيت شيخاً كبيراً وأرى أمير المؤمنين أشب الناس وأجملهم ولست مختارة عليه أحداً قال: دونكها يا مسلمة. قال بديح: فنشرت عليه الكسوة والدنانير التي معي وأريته الجواري والطيب قال: عافى الله ابن جعفر أخشي أن لا يكون لها عندنا نفقة وطيب وكسوة فقلت: بلى ولكن أحب أن يكون معها ما تكتفي به حتى تستأنس. قال: فقبضها مسلمة. فلم تلبث عنده إلا يسيراً حتى هلكت. قال بديح: فوالله الذي ذهب بنفس مسلمة ما جلست معه مجلساً ولا وقفت موقفاً أنازعه فيه الحديث إلا قال: أبغني مثل فلانة فأقول: أبغني مثل ابن جعفر. قال: فقلت لبديح: ويلك! فما أجازه به قال: قال: حين دفع إليه حاجته ودينه لأجيزنك جائزة لو نشر لي مروان من قبره ما زدته عليها فأمر له بمائة ألف وأيم الله إني لا أحسبه أنفق في هديته ومسيره ذلك وجاريته التي كانت عدل نفسه مائتي ألف. على عبد الملك بن مروان كتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف: أن ابعث رجلاً يصلح للدين وللدنيا أتخذه سميراً وجليساً وخلياً فقال الحجاج: ما له إلا عامر الشعبي وبعث به إليه. فلما دخل عليه وجده قد كبامهتماً فقال: ما بال أمير المؤمنين قال: ذكرت قول زهير: كأني وقد جاوزت تسعين حجة خلعت بها عني عذار لجامي رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى فكيف بمن يرمى وليس برامي فلو أنني أرمى بنبل رأيتها ولكنني أرمى بغير سهام على الراحتين تارة وعلى العصا أنوء ثلاثاً بعدهن قيامي قال له الشعبي: ليس كذلك يا أمير المؤمنين ولكن كما قال لبيد بن ربيعة وقد بلغ سبعين حجة: كأني وقد جاوزت سبعين حجة خلصت بها عن منكبي ردائياً ولما بلغ سبعاً وسبعين سنة قال: بانت تشكي إلى النفس موهنة وقد حملتك سبعاً بعد سبعيناً فإن تزادي ثلاثاً تبلغي أملاً وفي الثلاث وفاء للثمانيناً وقد سئمت من الحياة وطولها وسؤال هذا الناس كيف لبيد ولما بلغ عشراً ومائة قال: أليس ورائي إن تراخت منيتي لزوم العصا تحنى عليها الأصابع أخبر أخبار القرون التي خلت أنوء كأني كلما قمت راكع ولما بلغ ثلاثين ومائة وحضرته الوفاة قال: تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر فقوما فقولا بالذي تعلمانه ولا تخمشا وجهاً ولا تحلقا شعر وقولا هو المرء الذي لا صديقه أضاع ولا خان الخليل ولا غدر إلى سنة ثم السلام عليكما ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر قال الشعبي: فلقد رأيت السرور في وجه عبد الملك طمعاً أن يعيشها. وفود الحجاج بإبراهيم بن محمد بن طلحة على عبد الملك بن مروان عمران بن عبد العزيز قال: لما ولي الحجاج بن يوسف الحرمين بعد قتله ابن الزبير استخلص إبراهيم بن محمد بن طلحة فقربه وعظم منزلته فلم تزل حاله عنده حتى خرج إلى عبد الملك بن مروان فخرج معه معادلاً لا يقصر له في بر ولا إعظام حتى حضر به عبد الملك فلما دخل عليه لم يبدأ بشيء بعد السلام إلا أن قال له: قدمت عليك أمير المؤمنين برجل الحجاز لم أدع له بها نظيراً في الفضل والأدب والمروءة وحسن المذهب مع قرابة الرحم ووجوب الحق وعظم قد الأبوة وما بلوت منه في الطاعة والنصيحة وحسن الموازرة وهو إبراهيم بن محمد بن طلحة وقد أحضرته بابك ليسهل عليه إذنك وتعرف له ما عرفتك فقال: أذكرتنا رحماً قريبة وحقاً واجباً يا غلام ائذن لإبراهيم بن محمد بن طلحة فلما دخل عليه أدناه عبد الملك حتى أجلسه على فراشه ثم قال له: يا بن طلحة إن أبا محمد ذكرنا ما لم نزل نعرفك به في الفضل والأدب والمروءة وحسن المذهب مع قرابة الرحم ووجوب الحق وعظم قدر الأبوة وما بلاه منك في الطاعة والنصيحة وحسن الوازرة فلا تدعن حاجة عن خاصة نفسك وعامتك إلا ذكرتها فقال: يا أمير المؤمنين إن أول الحوائج وأحق ما قدم بين يدي الأمور ما كان لله فيه رضا ولحق نبيه ﷺ أداء ولك فيه ولجماعة المسلمين نصيحة وعندي نصيحة لا أجد بداً من ذكرها ولا أقدر على ذلك إلا وأنا خال فأخلني يا أمير المؤمنين ترد عليك نصيحتي قال: دون أبي محمد قال: نعم دون أبي محمد. قال عبد الملك للحجاج: قم. فلما خطرف الستر أقبل علي فقال: يا بن طلحة قل نصيحتك فقال: تالله يا أمير المؤمنين لقد عمدت إلى الحجاج في تغطرسه وتعجرفه وبعده من الحق وقربه من الباطل فوليته الحرمين وهما ما هما وبهما ما بهما من المهاجرين والأنصار والموالي الأخيار يطؤهم بطغام أهل الشام ورعاع لا روية لهم في إقامة حق ولا في إزاحة باطل ويسومهم الخسف ويحكم فيهم بغير السنة بعد الذي كان من سفك دمائهم وما انتهك من حرمهم ثم ظننت أن ذلك فيما بينك وبين الله زاهق وفيما بينك وبين نبيك غداً إذا جاثاك للخصومة بين يدي الله في أمته أما والله لا تنجو هنالك إلا بحجة فاربع على نفسك أودع. فقال له عبد الملك: كذبت ومنت وظن بك الحجاج ما لم يجده فيك وقد يظن الخير بغير أهله قم فأنت الكاذب المائن. قال: فقمت وما أعرف طريقاً فلما خطرف الستر لحقني لاحق فقال: احبسوا هذا وقال للحجاج: ادخل فدخل فمكث ملياً من النهار لا أشك أنهما في أمري ثم خرج الآذن فقال: ادخل يا بن طلحة فلما كشف لي الستر لقيني الحجاج وهو خارج وأنا داخل فاعتنقني وقبل ما بين عيني وقال: أما إذا جزى الله المتواخيين خيراً تواصلهم فجزاك الله عني أفضل الجزاء فوالله لئن سلمت لك لأرفعن ناظرك ولأعلين كعبك ولأتبعن الرجال غبار قدميك قال: قلت: يهزأ بي وحق الكعبة. فلما وصلت إلى عبد الملك أدناني حتى أدناني عن مجلسي الأول ثم قال: يا بن طلحة لعل أحداً شاركك في نصيحتك هذه قلت: والله يا أمير المؤمنين ما أعلم أحداً أنصع عندي يداً ولا أعظم معروفاً من الحجاج ولو كنت محابياً أحداً لغرض دنيا لحابيته ولكني آثرت الله ورسوله وآثرتك والمؤمنين عليه قال: قد علمت أنك لم ترد الدنيا ولو أردتها لكانت لك في الحجاج ولكن أردت الله والدار الآخرة وقد عزلته عن الحرمين لما كرهت من ولايته عليهما وأعلمته أنك استنزلتني له عنهما استقلالاً لهما ووليته العراقين وما هنالك من الأمور التي لا يدحضها إلا مثله وأعلمته أنك استدعيتني إلى ولايته عليهما استزادة له لألزمه بذلك من حقك ما يؤدي إليك عني أجر نصيحتك فاخرج معه فإنك غير ذام لصحبته. فخرجت مع الحجاج وأكرمني أضعاف إكرامه. وفود رسول المهلب على الحجاج بقتل الأزارقة أبو الحسن المدائني قال: لما هزم المهلب بن أبي صفرة قطري بن الفجاءة صاحب الأزارقة بعث إلى مالك بن بشير فقال له: إني موفدك إلى الحجاج فسر فإنما هو رجل مثل وبعث إليه بجائزة فردها وقال: إنما الجائزة بعد الاستحقاق وتوجه. فلما دخل إلى الحجاج قال له ما اسمك قال: مالك بن بشير قال: ملك وبشارة كيف تركت المهلب قال: أدرك ما أمل وأمن من خاف قال: كيف هو بجنده قال: والد رءوف قال: فكيف جنده له قال أولاد بررة قال: كيف رضاهم عنه قال: وسعهم بالفضل وأقنعهم بالعدل قال: فكيف تصنعون إذا لقيتم عدوكم قال: نلقاهم بحدنا فنطمع فيهم ويلقوننا بحدهم فيطعمون فينا قال: كذلك الحد إذا لقي الحد قال: فما حال قطري قال: كادنا ببعض ما كدناه قال: فما منعكم من إتباعه قال: رأينا المقام من ورائه خيراً من إتباعه قال: فأخبرني عن ولد المهل قال: أعباء القتال بالليل حماة السرح بالنهار قال: أيهما أفضل قال: ذلك إلى أبيهم قال: لتقولن قال: هم كحلقة مضروبة لا يعرف طرفاها قال: أقسمت عليك هل روأت في هذا الكلام قال: ما أطلع الله على غيبة أحداً فقال الحجاج لجلسائه: هذا والله الكلام المطبوع لا الكلام المصنوع. وفود جرير على عبد الملك بن مروان لما مدح جرير بن الخطفي الحجاج بن يوسف بشعره الذي يقول فيه: أم من يغار على النساء حفيظة إذ لا يثقن بغيرة الأزواج وقوله: دعا الحجاج مثل دعاء نوح فأسمع ذا المعارج فاستجابا قال له الحجاج: إن الطاقة تعجز عن المكافأة ولكني موفدك على أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان فسر إليه بكتابي هذا. فسار إليه ثم استأذنه في الإنشاد فأذن له فقال: أتصحو بل فؤادك غير صاحي قال له عبد الملك: بل فؤادك. فلما انتهى إلى قوله: تعزت أم حزرة ثم قالت رأيت الواردين ذوي امتياح ثقي بالله ليس له شريك ومن عند الخليفة بالنجاح سأشكر إن رددت إلي ريشي وأثبت القوادم في جناحي ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح ارتاح عبد الملك وكان متكئاً فاستوى جالساً ثم قال: من مدحنا منكم فليمدحنا بمثل هذا أو ليسكت ثم قال له: يا جرير أترى أم حزرة ترويها مائة ناقة من نعم كلب قال: إذا لم تروها يا أمير المؤمنين فلا أرواها الله. فأمر له بمائة ناقة من نعم كلب كلها سود الحدقة فقال: يا أمير المؤمنين إنها أباق ونحن مشايخ وليس بأحدنا فضل عن راحلته فلو أمرت بالرعاء فأمر له بثمانية من الرعاء. وكانت بين يدي عبد الملك صحاف من فضة يقرعها بقضيب في يده فقال له جرير: والمحلب يا أمير المؤمنين وأشار إلى صحفة منها فنبذها إليه بالقضيب وقال: خذها لا نفعتك. ففي ذلك يقول جرير: أعطوا هنيدة يحدوها ثمانية ما في عطائهم من ولا شرف الوفود على عمر بن عبد العزيز وفود جرير عن أهل الحجاز على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قدم جرير بن الخطفي على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه عن أهل الحجاز فاستأذنه في الشعر فقال: ما لي وللشعر يا جرير إني لفي شغل عنه قال: يا أمير المؤمنين إنها رسالة عن أهل الحجاز قال: فهاتها إذاً فقال: كم من ضرير أمير المؤمنين لدى أهل الحجاز دهاه البؤس والضرر أصابت السنة الشهباء ما ملكت يمينه فحناه الجهد والكبر ومن قطيع الحشا عاشت مخبأة ما كانت الشمس تلقاها ولا القمر لما اجتلتها صروف الدهر كارهة قامت تنادي بأعلى الصوت يا عمر وفود دكين الراجز على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قال دكين بن رجاء الفقيمي الراجز: مدحت عمر بن عبد العزيز وهو والي المدينة فأمر لي بخمس عشرة ناقة كرائم صعاباً فكرهت أن أرمي بها الفجاج فتنشر علي ولم تطب نفسي ببيعها فقدمت علينا رفقة من مضر فسألتهم الصحبة فقالوا: إن خرجت الليلة فقلت: إني لم أودع الأمير ولا بد من وداعه قالوا: فإن الأمير لا يحجب عن طارق ليل فاستأذنت عليه فأذن لي وعنده شيخان لا أعرفهما فقال لي: يا دكين إن لي نفساً تواقة فإن أنا صرت إلى أكثر مما أنا في فبعين ما أرينك قلت: أشهد لي بذلك أيها الأمير قال: إني أشهد الله قلت: ومن خلقه قال: هذين الشيخين قلت لأحدهما: من أنت يرحمك الله أعرفك قال: سالم بن عبد الله فقلت: لقد استسمنت الشاهد وقلت للآخر: من أنت يرحمك الله قال: أبو يحيى مولى الأمير وكان مزاحم يكنى أبا يحيى. قال دكين: فخرجت بهن إلى بلدي فرمى الله في أذنابهن بالبركة حتى اتخذت منهن الضياع والربع والغلمان فإني لبصحراء فلج إذا بريد يركض إلى الشام فقلت له: هل من مغربة خبر قال: مات سليمان بن عبد الملك قلت: فمن القائم بعده قال: عمر بن عبد العزيز. قال: فأنخت قلوصي فألقيت عليها أداتي وتوجهت عنده فلقيت جريراً في الطريق جائياً من عنده فقلت: من أيا أبا حزرة قال: من عند أمير يعطي الفقراء ويمنع الشعراء قلت: فما ترى فإني خرجت إليه قال: عول عليه في مال ابن السبيل كما فعلت. فانطلقت فوجدته قاعداً على كرسي في عرصة داره قد أحاط الناس به لم أجد إليه يا عمر الخيرات والمكارم وعمر الدسائع العظائم إني امرؤ من قطن بن دارم أطلب حاجي من أخي مكارم إذ ننتجي والله غير نائم في ظلمة الليل وليلي عاتم عند أبي يحيى وعند سالم فقام أبو يحيى ففرج لي وقال: يا أمير المؤمنين إن لهذا البدوي عندي شهادة عليك قال: أعرفها ادن مني يا دكين أنا كما ذكرت لك أن لي نفساً تواقة وأن نفسي تاقت إلى أشرف منازل الدنيا فلما أدركتها وجدتها تتوق إلى الآخرة والله ما رزأت من أمور الناس شيئاً فأعطيك منه وما عندي إلا ألفا درهم أعطيك أحدهما فأمر لي بألف درهم. فوالله ما رأيت ألفاً كانت أعظم بركة منها.