الرئيسيةبحث

العقد الفريد/الجزء الأول/26


فساد الإخوان

قال أبو الدَّرداء: كان الناس وَرَقاً لا شَوْك فيه فصاروا شَوْكاً لا وَرَق فيه. وقيل لعُرْوة بن الزُّبير: ألا تَنْتقل إلى المدينة قال: ما بَقِى بالمدينة إلا حاسدٌ على نِعْمة أو شامت بمُصِيبة. الخُشني قال أنشدني الرِّياشيّ: إذا ذَهَب التكرُّم والوَفاء وباد رِجالُه وبَقِي الغُثَاءُ وأَسْلَمني الزَّمانُ إلى رِجالٍ كأمْثال الذِّئاب لها عُواء صَديق كلَّما استَغْنيت عنهم وأَعْداء إذا جَهَدَ البَلاء إذا ما جئتهم يَتدافَعوني كأنِّي أجربٌ آذاه داء أقولُ - ولا ألاَم على مَقال - على الإخوان كُلِّهم العَفاء وقالت الحًكماء: لا شيءَ أضيع من مَوَدَةِ من لا وَفاء له: واصطناع مَن لا شكر عِنده والكريمُ يَوَدُّ الكريم عن لُقْية واحدة واللّئيم لا يَصِل أحداً إلا عن رَغْبة أو رَهْبة. وفي كتاب لِلْهند: إنّ الرَّجل السًوْء لا يَتَغَيّر عن طبْعه كما أنَّ الشَّجرة المُرَّة لو طَلَيْتها بالعَسل لم وسَمِع رجلٌ أبا العتاهية يُنْشد: فارْم بطَرْفك حيث شئ تَ فلا ترى إلا بَخيلاَ " فقال له: بَخلت الناس كًلَّهم قال: فأَكذبني بسَخِيّ واحد ". وقال أيضا في هذا المعنى: لله درُّ أَبيك أيّ زَمان أصبحتُ فيه وأيّ أهل زَمانِ كلّ يُوازنك المَودة جاهداً يُعْطِي ويأخُذ منك بالميزان فإذا رأى رُجْحانَ حَبَّة خَرْدلٍ مالتْ مَودَّتُه مع الرًّجحان وقال فيه أيضاً: أَرَى قوماً وُجُوهُهمُ حِسانٌ إذا كانت حَوائجُهم إلينَا وإن كانت حَوائجُنا إِليهم يُقبح حُسْن أوجههم عَلَينا فإن مَنع الأشحّةُ ما لَدَيهم فإنّا سوف نَمْنح ما لَدَينا وقال: مَوالينا إذا احتاجوا إلينا وليسَ لنا إذا احتجنا موالى للبَكريّ: كان في سِرِّي وجَهْري ثِقَتي لستُ عنه في مُهِمّ أحترس ستر البغض بألفاظ الهوى وادَّعىٍ الوُدَّ بغِش ودَلَس إنْ رآني قال لي خَيراً وإنْ غبت عنه الود بغش ودلس ثم لمّا أمكَنَتهُ فًرْصةٌ حَمَل السيفَ على مَجْرَى النّفس وأرادَ الرُوح لكنْ خانَهُ قَدَرٌ أيقَظَ مَن كانَ نَعَس وأنشد العُتبي: إِذا كنتَ تَغْضب من غير ذَنْب وتَعْتِب من غَير جُرْم عَلَيّا طَلبتُ رِضاكَ فإن عَزَّني عَدْدتُكَ مَيْتاً وإن كنتً حَيّا فلا تعجبنّ بمَا في يَدَيْكا فأكثْر منه الذي في يَدَيّا وقال ابن أبي حازم: وصاحب كانَ لي وكنتُ لهُ أشفقَ من والدٍ عَلَى وَلَدِ كُنّا كَسَاقٍ تَسْعى بها قَدَمٌ أو كَذِراعٍ نيطت إلى عَضد حتى إذا دَبَّت الحوادثُ في عَظْمِي وحًل الزّمانُ من عقَدي وخِلٍّ كان يَخْفِض لي جَناحًا أعادَ غِنًى فنابذَني جماحَا فقلتُ لهُ وَلِي نَفْس عَزُوف إذَا حَمُيت تَقحَمت الرًّماحا سأبدِل بالمَطامع فيك يأسًا وباليَأْس آستَراح من استراحا وقال عبد الله بن مُعاوية بن " عبد الله بن " جعفر: وأنتَ أخي ما لم تكن ليَ حاجةٌ فإِنْ عَرَضت أيقنتُ أنْ لا أخا لِيَا فلا زاد ما بَيْني وبَيْنك بعدَ ما بَلَوْتُكَ في الحاجاتِ إلا تمَادِيا كِلاَنَا غنيٌّ عن أَخِيه حياتَه ونحنُ إذا مِتْنا أشدُّ تَغانِيا وعينُ الرِّضَا عن كلِّ عَيْبٍ كليلةٌ كما أنّ عينَ السُّخط تُبدِي المَساوِيا وقال البُحتريّ: أشرِّق أم أغَرِّبً يا سعيدُ وأَنْقُص من ذِمامِي أو أزِيدُ عَدَتني عن نَصِيبين العَوادِي فبَخْتى أبلهٌ فيها بَلِيدُ وخَلَّفني الزّمانُ على رِجالٍ وجُوههمُ وأيديهمْ حَدِيد لهم حُلَل فهُنَّ بِيضٌ وأخلاقٌ سَمُجن فهُنَّ سُود وقالُوا لو مَدحت فَتًى كَرِيماً فقلتُ وكيفَ لي بفتًى كَريم بُلِيتُ ومَرَّ بي خَمْسون حَولاً وحَسْبُك باْلمُجَرِّب من عَلِيم فلا أَحدٌ يُعَدُّ ليومِ خيْرٍ ولا أحدٌ يَعود علَى عَدِيم وقال: قد بلوتُ النّاسَ طُرَّا لم أحِدْ في الناس حرا صار حُلْوُ الناس في العَي ن إذا ما ذيق مُرا وقال: مَن سَلاَ عنِّيَ أَطْلَق تُ حِبالِي من حِبالهْ أَو أَجَدّ الوَصل سارَع ت بجَهْدِي في وصاله إنَّما أَحْذو على فع ل صَدِيقي بمثَاله غيرَ مُستجْدٍ إِذا ازوَر ر كأني مِن عِيَاله لَنْ تراني أبداً أع ظِم ذا مالٍ لماله لا ولا أَزْرَى بمَنْ يع قِل عندي سُوءُ حاله ومن قولنا في هذا المعنى: أبا صالحٍِ جاءت على الناس غَفْلةٌ على غَفْلَةٍ بانت بكلِّ كَرِيم فَليتَ الآلي باتُوا يُفادون بالألى أقاموا فَيُفْدَى ظاعنٌ بمقيم وياليتَها الكُبْرَى فتُطْوى سماؤنا لها وتُمَدّ الأرضُ مَدَّ أَديم فما الموتُ إلا عَيْش كلِّ مُبَخَّل وما العَيْش إلا موت كل ذَميم وأعذَرُ ما أدمى الجُفونَ من البُكا كَريمٌ رَأى الدًّنيا بكَفّ لَئيم ومثلُه في هذا المعنى: أبا صالحٍ أينَ الكِرامُ بأَسْرِهم أفِدْني كريماً فالكريمُ رِضَاءُ أحقًّا يقول الناسُ في جود حاتمٍ وابن سِنان كان فيه سَخاء عَذِيريَ مِن خَلْق تَخَلَّق منهم غَباءٌ ولُؤْم فاضحٌ وجَفاء حِجارةُ بُخْلٍ ما تَجُود ورُبَّما تَفجَّر من صُمِّ الحجارة ماء ولو أنّ موسى جاَء يَضْربُ بالعَصا لما انبجَسَت من ضَرْبه البُخلاء بَقاءُ لِئام الناس مَوْتٌ عليهمُ كما أنّ موتَ الأكْرمين بَقاء ساقٌ تَرنّح يَشْدُو فوقَهُ ساقُ كأنّه لِحَنِين الصَّوْتِ مُشْتاقُ يا ضَيْعَةَ الشِّعر في بُلْهٍ جَرامقةٍ تَشابهت منهُمُ في اللُّؤْم أخلاق " غُلَّت باَّعناقِهم أَيدٍ مُقَفَّعَةٌ لا بُوركت منهُمُ أَيدٍ وأعنَاق كأنما بينهم في مَنْع سائلهم وحَبْس نائلهم عَهْد ومِيثاقُ كم سُقْتهم بأَماديحي وقُدْتهم نحو المَعالي فما انقادوا ولا انساقوا وإن نَبا بيَ في ساحاتهم وَطنٌ فالأرض واسعة والناس أَفراق ما كنتُ أوّلَ ظمآن بمَهمهة يَغرُّه من سراب القَفْر رَقراق رِزْقٌ من الله أرضاهم وأسخطَني الله للأنْوك المَعْتوه رَزَّاق يا قابضَ الكف لا زالت مُقبَّضة فما أناملُها للناس أرزاق وغِبْ إذا شِئت حتى لا تُرى أبداً فما لفقدك في الأحشاء إقلاق ولا إليك سبيلُ الجود شارعةٌ ولا عليكَ لنور المجد إشراق لم يَكتنفني رَجاء لا ولا أمل إلا تكنّفه ذُلّ وإملاق يَتحامَوْن لِقائي مثلَ ما يَتحامَوْن لِقاءَ الأسد طَلْعتي أثقلُ في أعينهم وعلى أنفسهم من أحُد لو رأوني وَسْط بحْرٍ لم يكن أحَدٌ يأخذ منهم بيَدىِ "

باب في الكبر

قال النبي ﷺ: يقول الله تبارك وتعالى: العَظمة إزاري والكِبْرياء ردائي فمن نازعني واحداً منهما قصمتُه وأهنته. وقال عليه السلام: لا يدخل حَضْرة القدس مُتكبِّر. وقال: فَضل الإزار في النار. معناه: من سَحب ذيلَه في الخُيلاء قاده ذلك إلى النار. و " نَظر الحسنُ إلى عبد الله بن الأهْتم يَخْطِر في المَسْجِد فقال: انظروا إلى هذا ليس منه عضو إلا وللّه عليه نِعْمة وللشيطان في لَعْنة. وقال سَعد بن أبي وَقّاص لابنه: يا بُني: إيّاك والكِبرَ ولْيكُنْ فيما تَسْتَعِين به على تَرْكه: عِلْمُك بالذي منه كنتَ والذي إليه تَصِير وكيف الكِبْر مع النُّطْفة التي منها خُلِقتَ والرحِم التي منها قُذِفْت والغِذَاء الذي به غُذِيت. وقال يحيى بن حَيّان: الشريفُ إذا تَقَوى تواضَع والوَضيع إذا تقوَّى تَكَبَّر. وقال بعضُ الحُكماء: كيف يَسْتقِرّ الكِبر فيمن خُلِق من ترَاب وطُوِي على القَذَر وجَرى مجرى البول. وذكر الحسنُ المُتكبرين فقال: يُلْفي أحدُهم ينص " رَقَبَته " نصّا ينفَض مذرويه ويَضرب أصْدَريه يَمْلُخ في الباطل مَلْخا يقول: ها أناذا فاعرفُوني قد عَرَفناك يا أَحمق مَقتك الله ومَقتك الصالحون. ووَقف عُيينة بن حِصْن بباب عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه فقال: استأذِنُوا لي على أمير المؤمنين وقولُوا له: هذا ابن الأخيار بالباب. فأذِن له فلما دَخل عليه قال له: أنتَ ابن الأخْيار قال نعم قال له: بل أنتَ ابن الأَشْرار وأما ابن الأخيار فهو يُوسف بن يَعْقوب بن إسحاق بن إبراهيم. وقيل لعبيد اللهّ بن ظَبْيان: كثر الله في العَشِيرة أمثالك فقال: لقد سألتم الله شَططا. وقيل لرجُل من بني عبد الدَّار عَظِيم الكِبْر: ألا تَأْتي الخَلِيفة قال: أخشى أَلا يَحمل الجسْرُ شرفي. وقَيل له: ألا تَلبَس فإنَّ البَردَ شدِيد قال: حَسَبي يُدْفئني. قيل للحجاجِ: كيف وجدت منزلَك بالعِرَاق أيها الأمِير قال: خَير مَنزِل لو أدركتُ بها أربعةَ نفر فَتقرَّبت إلى الله سُبحانه وتعالى بدمائهم قيل له: ومَن هم قال: مُقاتل بن مِسْمع وَلِي سِجِسْتان فأتاه الناسُ فأعْطاهم الأموال فلما قَدِم البصرة بسط له الناسُ أرديتهم فمشى عليها فقال: لمثْل هذا فليعمل العامِلُون. وعبيد اللهّ بن ظَبيان خطَب خُطْبة أَوْجَز فيها فناداه الناسُ من أَعْراض المَسْجد. كثَّر الله فينا أمثالك قال: لقد كلَّفتم ربكم شططا. ومَعْبد بن زُرارة كان ذات يومٍ جالساً على طريق فمرَّت به امرأةٌ فقالت: يا عبد الله أين الطَّريق لِمَكان كذا فقالَ لمِثْلي يُقال يا عبد الله! وَيلك! وأبو السَّمّال الحَنَفِيّ أضلَّ ناقَته فقال: واللهّ لئن لم تُرَدَّ عليَّ ناقتي لا صلّيتُ أبداً. وقال ناقلُ الحديث: ونَسيِ الحجَّاج نفسَه وهو خامسُ هؤلاء الأربعة بل هو أشدُّهم كُفْراً وأعْظَمهم إلحاداَ حين كتب إلى عبد الملك بن مروان في عَطْسة عَطسها فَشَمَّته أصحابُه ورَدَ عليهم: بَلغني ما كان من عُطاس أمير المؤمنين وتشْميت أصحابه له وردّه عليهم فيا ليتني كنتُ معهم فأفوز فوزاً عظيما. وكتابُه إليه: إنّ خَليفة الرَّجل في أهلِه أكرمُ عليه من رَسوله إليهم وكذلك الخُلفاء يا أميرَ المؤمنين أعلَى منزِلةً من المُرسلين. العُتْبيّ قال: رأيتُ مُحْرِزاَ مولَى باهلة يَطوف على بَغْلة بين الصَّفا والمَرْوة ثم رأيتُه بعد ذلك على جِسْر بَغْداد راجلاً فقلتُ له: أراجلٌ أنتَ في مِثْل هذا المَوْضع قال: نعم إنّي ركبتُ في مَوْضع يمْشي الناسُ فيه فكان حقيقاً على الله أن يُرَجِّلني في مَوْضع يَرْكب الناس فيه. وقال بعضُ الحكماء " لابنه: يا بُني عليك بالترحيب والبشر وإياك والتقطيبَ والكبر فأنَ الأحرار أحبُّ إليهم أن يًلْقَوْا بما يُحبون ويُحرَموا مِن أن يُلْقَوْا بما يكرهون ويًعْطَوْا. فانظر إلى خَصْلة غَطّت على مِثْل اللؤم فالزمها وانظر إلى خَصلة عَفَّت على مثل الكرة فاجتنبها. ألم تسمع قول حاتم الطائي: أضاحِك ضيفي قبل إنزال رَحْله ويُخصب عندي المَحَلُّ جديبُ وما الخِصب للأضياف أن يَكْثُرَ القِرَى ولكنما وجهُ الكريم خَصيب وقال محمود الوراق: التِّيه مَفسدة للدِّين منقصة للعَقل لمجلبة للذمّ والسخَطِ مَنْع العطاء وبَسْط الوجه أحسنُ من بَذْل العطاء بوَجْه غير منبسط وقال أيضاً: بِشْرُ البخيلِ يكاد يصْلِح بُخلَه والتِّيهُ مَفْسدة لكلِّ جوادِ ونقيصة تبْقى على أيامه ومَسبَّة في الأهل والأولاد وقال آخر في الكِبر: مع الأرض يا بنَ الأرض في الطَيران أَتأْمُل أن تَرْقَى إلى الدَبَرَانِ حَمَاهُ مكانُ البُعد مِن أَن تَناله بسَهْم من البَلْوى يدُ الحَدثان التسامح مع النعمة والتذلل مع المصيبة قالوا: من عَزّ بإقبال الدَّهر ذَلّ بإِدْباره. وقالوا: مَن أَبْطره الغِنَى أذلّه الفقر. وقالوا: مَن وَليَ وِلاية يَرى نفْسَه أكبر منها لم يتغيَّر لها ومَن وَليَ ولايةً يراها أكبر من نفسه تغير لها. وقال يحيى بن حَيّان: الشرَّيف إذا تقوَّى تواضع والوضيعُ إذا تقوَّى تكبَّر. وقال كِسرى: احذَرُوا صَوْلة الكريم إذا جاع واللئيم إذا شَبع. وكتب عليًّ بن الجَهْم إلى ابن الزيّات: أبا جعفر عرج على خُلطائكَا وأَقصِر قليلاً من مَدى غُلوائكَا فإن كنتَ قد أُوتيت في اليوم رِفْعةً فإنّ رَجائي في غَدٍ كرجائكا وقال عبد العزيز بن زُرارة الكلابيّ: إذا نال لم يَفْرَح وليس لنَكبة أَلمَت به بالخاشع المُتَضائل وقال الحسنُ بن هانئ: لقد حَزِنْتُ فلَم أَمُتْ تَرَحا ولقد فَرِحْتُ فلم أمُت فَرَحا كتب عقِيلُ بن أبي طالب إلى أخيه عليّ بن أبي طالب عليه السلامُ يسأله عن حاله فكتب إليه عليٌّ رضي الله عنه: فإنْ تَسألِينيّ كيفَ أنتَ فإنني جَليِدٌ على عَض الزَّمان صَلِيبُ عَزِيزٌ عليًّ أنْ تُرى بي كآبةٌ فيفرح واشٍ أو يُسَاء حَبِيب ما جاء في ذم الحمق والجهل قال النبي ﷺ: " الجاهلُ يظلم مَن خالطه ويعتدي على مَن هو دونه ويتَطاول على مَن هو فَوْقه ويتَكلّم بغير تَمييز وإن رَأَى كريمةً أعرض عنها وإن عَرَضت فتْنة أرْدَتْه وتهوَّر فيها. وقال أبو الدَّرداء: عَلامة الجاهل ثلاث: العُجُب وكَثرة المَنطق وأن يَنْهَى عن شيء ويأتيه. وقال أرْدشير: حَسْبُكم دَلالة على عَيْب الجهل أنَّ كل الناس تَنفر منه وتَغضب من أن تُنسب وكان يُقال: لا تَغْرُرْك من الجاهل قَرابة ولا أُخوَة ولا إِلْف فإنّ أحقَّ الناس بتَحريق النَّار أقربُهم منها. وقيل: خَصْلتان تقَرِّبانك من الأحمق كثرةُ الالتفات وسرعة الجواب. وقيل: لا تَصْطحب الجاهِلَ فإنّه يُريد أن يَنْفعك فيضُرّك. ولبعضهم: لكلِّ دَاءٍ دواءٌ يستطب به إلا الحماقةَ أَعْيَتْ مَن يُدَاويها ولأبى العتاهية: احْذَرِ الأحمقَ أن تَصْحَبَه إنما الأحمقُ كالثَّوب الخَلَقْ كلَّما رَقَّعْتَه مِن جانبٍ زَعْزَعتْه الريحُ يوماَ فَانخرق أو كصدع في زُجاج فاحشٍ هل تَرَى صَدْع زُجاجٍ يَلْتصق فإذا عاتبتَه كي يَرْعَوِي زادَ شرًّا وتمادى في الحُمق

باب في التواضع

قال النبي ﷺ: مَن تَوَاضَع لله رَفعه الله. وقال عبدُ الملك بن مَرْوان رَفعه إلى النبي ﷺ: أفضَل الرجال مَن تَوَاضع عن رِفْعة وزَهِد عن قُدْرة وأنصف عن قوة. وقال ابن السماك لعيسى بن موسى: تواضُعك في شَرَفك أكبرُ من شرَفك. وأصبح النّجاشيّ يوماً جالساً على الأرض والتّاجُ عليه فأعظمت بَطارقتُه ذلك وسألُوه عن السَّبب الذي أوْجبه فقال: إني وَجدت فيما أنزل الله على المَسِيح: إذا أنعَمْتُ عَلَى عَبْدِي نِعمةً فَتَواضَع أتمَمتُها عليه وإنه وُلد لي هذه الليلةَ غلامٌ فتواضعتُ شكراً للّه. خرج عمرُ بن الخطّاب رضي الله عنه ويدُه على المُعلَّى بن الجارود العَبْديِّ فَلقيَتْه امرأةٌ من قُرَيش فقالت له: يا عُمر فَوَقف لها فقالت: كنَا نَعْرفك مُدةً عُميراً ثم صِرْت من بعد عُمير عُمر ثم صِرْت من بعد عُمر أميرَ المؤمنين فاتق اللهّ يا بن الخطّاب وانظُر في أمور الناس فإنه مَن خاف الوَعيد قَرُبَ عليه البَعيد ومَن خاف الموتَ خَشيَ الفَوْت. فقال المُعلّى: إيهاً يا أمةَ الله فقد أبكيتِ أميرَ المؤمنين. فقال له عُمر: اسكت أتَدْري مَن هذه " ويحك " هذه خَوْلة بنت حَكيم التي سمع الله قولَها من سمائه فعُمَر أحرى أن يَسمع قولَها ويَقْتدي به. وقال أبو عَبّاد " الكاتب ": ما جَلس إليَّ رجل قَطَ إلا خيِّل إليَ أنّي سأجلس إليه. وسُئل الحسنُ عن التواضع فقال: هو أن تخرج من بَيْتك فلا تلْقى أحداً إلا رأيتَ له الفضلَ وقال رجل لبَكر بن عبد الله: عَلِّمني التواضع فقال: إذا رأيتَ مَن هو أكبَرُ منك فقُل: سَبَقني إلى الِإسلام والعَمل الصالح فهو خير مني وإذا رأيت " من هو " أصغرُ منك فقُل: سبقتُه إلى الذُّنوب والعمل السيئ فأنا شرٌّ منه. وقال أبو العتاهية: يا مَن تشرًّف بالدُّنيا وزينتها ليسَ التشرُّف رَفْعَ الطّين بالطيّن إذا أردتَ شريفَ الناس كلِّهِمُ فانظُرْ إلى مَلِك في زِيِّ مِسْكينَ " ذاك الذي عَظُمت في الناس هِمَّته وذاكَ يَصْلح للدُّنيا وللدِّين " الرفق والأناة قال النبي ﷺ: مَن أًوتِيَ حظَّه من الرِّفق فقد أوتي حظَّه من خَيْر الدُنيا والآخرة. وقالت الحُكماء: يُدْرَك بالرِّفق ما لا يُدْرَك بالعًنْف ألاَ تَرى أنّ الماء على لِينه يَقْطع الْحَجَر على شِدَته وقال أشجعُ " بن عمرو " السُّلَميّ لجعفر بنِ يحيى بنِ خالد: وقال النابغة: الرِّفْقُ يُمْن والأَناةُ سعادةٌ فاْسْتَأْنِ في رِفْق تُلاَق نَجَاحَا وقالوا: العَجل بَرِيدُ الزَّلل. أخذ القَطامىِ التَّغلبِيّ هذا المعنى فقال: قد يُدْرِك المُتَأنِّي بعض حاجتِه وقد يكونُ معَ المُستَعْجل الزَّللُ وقال عَدِيُّ بن زَيد: قد يُدْرِكُ المُبْطِىءُ مِن حظّه والْحَين قد يَسْبقُ جُهْدَ الحَرِيصْ استراحة الرجل بمكنون سره إلى صديقة تقول العرب: أَفْضَيْتُ إليك بشُقوري. وأَطلَعْتُك على عًجَري وبُجَري. لوكان في جَسدي بَرص ما كَتَمتُه. وقال اللهّ تبارك وتعالى: " لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرّ ". وقالت الحكماء: لكلّ سِرّ مُستودع. وقالوا: مكاتمة الأدْنين صرَيحُ العُقوق. وأبثثتُ عَمراً بعضَ ما في جَوَانحي وجَرَّعتُه من مُرّ ما أتجرع " ولا بدَّ من شَكْوى إلى ذي حَفِيظةٍ إِذَا جَعلتْ أسرارُ نفس تَطَلَّع " وقال حبيب: شكوت وما الشَّكْوَى لِمِثْليَ عادةٌ ولكنْ تَفِيضُ النفسُ عند امتلائها وأنشد أبو الحسن محمد الَبَصَريَّ: لَعِبَ الهَوَى بمَعالمي ورُسومي ودُفِنْتُ حيًّا تحت رَدْم هُمُومِي وشكوتُ هَمِّي حين ضِقْتُ ومَن شكا هَمًّا يضِيقُ به فغير ملوم وقال آخر: إِذا لم أطِق صَبراً رَجعتُ إلى الشكوى وناديتُ تحت اللًيل يا سامع النَّجْوَى وأَمطَرْت صَحْن الخَدِّ غيثاً من البُكا على كَبِد حَرَّى لِتَرْوَى فما تَرْوَى الاستدلال باللحظ على الضمير قالت الحكماء: العينُ باب القَلْب فما كان في القلب ظهَر في العين. أبو حاتم عن الأصمعي عن يونس بن مُصْعب عن عثمان بن إبراهيم بن محمد قال: إني لأَعرف في العين إِذَا عَرفتْ وأَعرِف فيها إذا أنكرتْ وأعرف فيها إذا لم تَعرف ولم تُنكر أما إذا عرفت فتخواصّ وأما إذا أَنكرت فتَجْحظ وأما إذا لم تَعرف ولم تُنْكر فتَسْجُو. وقال صريعُ الغَواني: جَلنا عَلامات اْلمَوَدَّة بَيْننا مَصايِدَ لَحْظٍ هنَ أَخفي من السِّحْرِ فأعرفُ فيها الوَصْلَ في لِينِ طَرْفِها وأعرِف فيها الهَجْر في النَظر الشزْر وقال محمودٌ الورّاق: إنّ العُيون على القُلوب شَوِاهدٌ فبغيضُها لكَ بَينٌّ وحبِيبُها وإذا تَلاحظت العُيون تَفاوضت وتحدثت عما تجن قلوبها يَنْطِقْنَ والأفْواهُ صامِتةٌ فما يَخْفي عليك بَريئُهَا ومُريبها وقال ابن أبي حازم: خذْ مِن العَيْش ما كَفي ومِن الدَّهر ما صَفا عين من لا يُحب وَصْلك تُبْدِي لكَ آلْجَفَا ومن قولنا في هذا المعنى: صاحب في الحب مَكْذُوبُ دَمْعة للشَّوق مَسْكوب وقال الحسنُ بن هانئ: وإِنّي لِطَيْر العيَنْ بالعَينْ زاجِر فقد كِدْتُ لا يَخْفي عَلَيَّ ضَمِيرُ الاستدلال بالضمير على الضمير كتب حَكيمٌ إلى حَكيمٍ: إذا أردتَ معرفةً مالَك عنِدي فضَع يَدَك على صدْرك فكما تَجدُني كذلك أجدُك. وقالوا: إيَّاكم ومَن تُبغضه قلوبُكم فإنَ القُلوب تُجَازي القلوبَ. وقال ذو الإصْبع: لا أسألُ الناسَ عمّا في ضَمائرهم ما في ضمِيري لهم مِن ذاك يَكْفِينى وقال محمود الورّاق: لا تسألنَّ المَرْء عمًا عنِده واستَمْل ما في قَلبه من قَلْبكَا إنْ كان بُغْضاً كان عندك مِثْلُه أو كان حُبَا فاز منك بحًبِّكا الإصابة بالظن قيل لعمرو بن العاص: ما العَقْل قال الإصابة بالظَّن ومَعْرفة ما يكون بما قد كان. وقال عليٌ بن أبي طالب رضي الله عنه: للهّ دَرُّ عباس إن كان لينظر إلى الغَيْب من سِترْ رَقيق. وقال الشاعر: وقَلّما يَفْجأ المَكْرُوهُ صاحبَه حتى يَرى لوجوه الشَّرّ أسْبَاباً وإنّما رَكَّب الله العقلَ في الإنسان دون سائر الحَيوان ليستدلَ بالظاهر على الباطن ويَفْهم الكثيرَ بالقليل. ومن قوِلنا في هذا المعنى: يا غافلا ما يَرى إلا مَحاسِنَه ولو دَرَى ما رأى إلا مَساويهِ انظُر إلى باطنِ الدًّنيا فظاهِرُها كلُّ البهائم يَجْري طَرْفُها فيه تقديم القرابة وتفضيل المعارف قال الشَّيباني: أَوَّل مَن آثر القَرابة والأولياء عثمانُ بن عفّان رضي الله عنه وقال: كان عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه يمنع أقاربَه ابتغاءَ وجه اللهّ. فلا يُرَى أفضل من عمر. وقال لما آوَى طريدَ النبي ﷺ: ما نَقِم الناسُ عَلَيَّ أن وصلتُ رحماً وقَرَّبت وقيل لمُعَاوية بن أبي سُفيان: إنَّ آذِنَك يُقدِّم معارفَه وأصدقاءَه في الإذْن على أشرافِ الناس ووُجوههم فقال: وَيْلكم! إنَّ المَعْرفة لتَنْفع في الكلْب العَقور والجَمَل الصَّؤول فكيف في رَجُل حَسيب ذي كرم ودين. وقال رجلٌ لزِياد: أصلح اللهّ الأميرَ إنَ هذا يُدِلّ بمَكانةٍ يَدَّعيها منك قال: نعم وأخبرك بما يَنْفعه من ذلك إنْ كان الحق له عليك أخذتُكَ به أخذاً شديداً وإن كان لك عليه قَضيته عنه. وقال الشاعر: أقولُ لجاريِ إنْ أتاني مُخاصماً يُدِلُ بحقِّ أو يُدِلُّ بباطل إذا لم يَصِلْ خيْري وأنتَ مُجاورِي إليك فما شَرِّي إليك بواصِل العُتْبيّ قال: وَلَي عبدً اللهّ بنُ خالد بن عبد الله القَسْرِي " قَضاء " البَصرة فكان يُحابى أهل مودَّتِه فقيلَ له: أيّ رجلٍ أنت لولا أنك تُحَابي! قال: وما خَيْر الصَّديق إذا لم يَقْطع لصديقه قِطْعة من دينه. ووَلِي ابن شُبرمة قَضَاء البَصرة وهو كاره فأحسن السِّيرة. فلما عُزِلَ اجتمع إليه أهلُ خاصَّته ومَودَّته فقال لهم: والله لقد وَليتُ هذه الوِلاية وأنا كارهٌ وعُزلت عنها وأنا كاره وما بي من ذلك إلا مخافَة أن يلي هذه الوُجوهَ من لا يَعرف حقّها. ثم تمثَل بقول الشاعر: بَلَى إنَّ أقواماً أخافُ عليهمُ إذا مِتُّ أن يُعطوا الذي كنتُ أمنع " وتقول العامَّة: مَحَبَّة السلطان أردّ عليك من شُهودك " وقال الشاعر: إذا كان الأمير عليك خَصما فَلَيس بقابلٍ منك الشّهودَا وقال زياد: أحب الولايةَ لثلاث وأَكرهها لثلاث: أحبها لِنَفْع الأوْلياء وضرَّ الأَعْداء واسترخاص الأشياء وأكرهها لِرَوْعة البريد وقُرْب العزْل وشَماتة العدوّ. ويقول الحُكماء: أَحقُّ مَن شاركك في النِّعمة شرُكاؤك في المُصِيبة. أَخذه الشاعر فقال: وإنَ أوْلى الموالي أن تُوَاسِيه عند السُّرُور لمن آساك في الحزَن إنّ الكِرام إذا ما أسْهلُوا ذَكَروا مَن كان يَألَفهم في المَنْزِل الخَشِن وقال حَبِيب: قَبَح الإلهُ عداوةً لا تُتّقى ومَودَّةً يُدْلَى بها لا تَنْفَعُ فضل العشيرة قال عليّ بنُ أبي طالب رضي اللهّ عنه: عشيرةُ الرجل خيرٌ للرجل من الرجل للعَشِيرة إن كَفَّ عنهم يداً واحدة كَفُّوا عنه أيدياً كثيرة مع مودَّتهم وحِفَاظهم ونُصْرتهم. إنِّ الرجل لَيَغْضَب للرجل لا يَعْرفه إلا بِنسَبه وسأتْلُو عليكمِ في ذلك آياتٍ من كِتاب اللهّ " تعالى " قال اللهّ عزّ وجلّ فيما حكاه عن لُوط: " لَوْ أنَّ لِي بِكُم قُوّة أَوْ آوِى إلى رُكْن شَدِيد "! يعني العشيرة ولم يكن للوط عَشيرة: فوالذي نفسيِ بيده ما بعث الله نبيًّا من بعده إلا في ثَرْوَة من قومه ومَنعة من عَشِيرته ثم ذكر شُعيباَ إذ قال له قومُه: " إنَّا لَنَرَاكَ فِينا ضعِيفاً ولَوْلا رَهطك لَرَجَمْناكَ " وكان مَكْفوفاً والله ما هابُوا " الله ولا هابوا " إلا عشيرتَه. وقبل لِبُزُرْجمْهِر: ما تقول في ابن العم قال: هو عدوُّك وعدوُّ عدوّك. الدَّين مِن حَدِيث عائشة عن النبي ﷺ أنه قال: الدَّيْنُ يَنْقُص ذا الحَسب. وقال عمر " ألا إنّ " لأسَيْفع أُسَيْفِع جُهينة رَضي مِن دِينه وأمانته أن يُقال: سَبق الحاج ألا وإنه قد أدان مُعرِضاَ وأصبح قدرِين به فمن كان له عِنْده شيء فلْيأْتنا بالغداة وقال مولَى قُضاعة: فلو كنتُ مولىَ قَيْس غَيْلانَ لم تَجد علي لإنْسان من الناس دِرْهَما ولكنَّني مولَى قُضاعة كُلِّها فلستُ أبالي أن أدينَ وتَغرَما وقال آخر: إذا ما قضيْتَ الدَّينَ بالدَين لم يكُن قَضاءَ ولكِن كان غًرْماً على غُرْم وقال سُفيان الثوريّ: الدَّين هَمٌ باللًيل وذُلٌ بالنهار فإذا أراد الله أن يُذِلَ عَبداً جَعله قِلادة في عُنقه. ورأى عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً مُتقنِّعاً فقال له: كان لقمان الحكيم يِقول: القِنَاع رِيبةٌ بالليل ذُلٌّ بالنهار فقال الرجلُ: إنّ لُقمان الحكيم لم يكن عليه دين. وقال المقنع الكِنْديّ: يَعِيبونني بالدَين قَومي وإنما تَداينتُ في أشياء تُكْسِبهم حَمْدا إذا أكلوا لَحْمي وَفَرتُ لحومهم وإن هدَمُوا مَجْدِي بنيتُ لهم مَجْدَا وقالت الحكماء: لَيس لكَذّاب مُرُوءة. وقالوا: مَن عُرف بالكَذِب لم يَجُزْ صِدْقه. وقال النبي ﷺ: لا يجوز الكَذِب في جِدّ ولا هَزْل. وقال: لا يكون المؤمن كَذّاباً. وقال عبد الله بن عُمر: خُلْف الوَعْدِ ثُلُث النِّفاق. وقال حبيب الطائيِّ في عَيّاش: يا أكثر الناس وَعْداَ حَشْوُه خُلْفٌ وأكثر الناس قولاً حَشْوُه كَذِبُ ومن قولنا في هذا المعنى: صَحِيفةٌ أفنيتْ ليتٌ بها وعسى عُنْوانها راحةُ الرِّاجي إذا يَئسَا وَعْدٌ له هاجسٌ في القَلْب قد بَرِمتْ أحشاءُ صَدْري به من طول ما آنحبسا مواعدٌ غَرَّني منها وَمِيضُ سَنَى حتى مَددْتُ أيها الكًفّ مقْتَبِسا فَصادفتْ حجَراً لو كنتَ تَضْرِبه مِن لُؤْمه بعَصَا مُوسى لما آنْبَجَسا كأنما صِيغ من بُخل ومن كَذِب فكان ذاكَ له رُوحا وذا نَفَسا والقول به اعلم أنّ السامع شريك القائل في الشَر. قال الله " تعالى ": " سماعُونَ لِلْكَذِب ". وقال العُتبي: حَدّثني أبي عن سَعد القصير قال: نَظر إليَّ عمرو بن عُتبة ورجل يَشْتُم رجلاً بين يديّ فقال لي ويلك - وما قال لي ويلك قبْلها - نَزَه سَمْعك عن استماع الخَنا كما تُنزِّه لِسانَك عن الكلام به فإنّ السامعَ شريكُ القائل وإنه عَمد إلى شرِّ ما في وعائه فأفرغه في وِعائك ولو رُدَّت كلمة جاهل في فِيهِ لَسَعِدَ رادُّها كما شَقي قائُلها.

باب في الغلو في الدِّين

توّفِّي رجل في عَهد عمرَ بن ذَرّ ممن أسرَف على نفسه في الذنوب وجاوَزَ في الطُّغيان فتَحَامَى الناسُ عن جِنازته فحضرَها عمرُ بن ذرّ وصلّى عليه فلما أدْلٍيَ في قبره قال: يَرْحمك الله أبا فُلان صَحِبْت عُمْرك بالتوحيد وعَفَّرت وجهك لله بالسُّجود فإن قالوا مُذْنِب وذو خَطايا فمَن منَا غيرُ مُذنِب وذِي خطايا.

ومن حديث أبي هُريرة عن النبي ﷺ قال: إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: " يأ يُّها الرُسل كُلُوا مِنَ الطًيبَاتِ واعْمَلوا صالِحاً إنّي بما تَعملون عَلِيم " وقال: " يأيها الذِينَ آمَنُوا كلوا مِنْ طَيِّبَاتِ ما رَزَقْنَاكُمْ " ثم ذكر الرجلَ يرى أشعثَ أغبرَ يمُدُّ يديه إلى السماء يقول: يا رَبّ يا رَب ومَطعَمه حَرَام ومشرَبه حَرام ومَلْبسه حَرام فأنى يُستجاب له قال النبي ﷺ: إن اللهّ بَعثني بالْحَنِيفيَّة السَّمْحة ولم يبعثني بالرهبْانية المُبْتدعة سُنَّتي الصلاة والنوم والإفطار والصَّوم فمن رَغِب عن سُنتي فليس مني.

وقال ﷺ: إنّ هذا الدِّين مَتِين فأَوْغل فيه برِفق فإنّ اْلمنبَتَ لا أرْضاً قَطع ولا ظَهْراً أَبقى.

وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: خَير هذه الأمَّة هذا النَّمط الأوْسط يَرْجع إليهم الغالي ويَلحق بهم التّالي.

وقال مطَرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير لابنه وكان قد تَعبَّد: يا بُنيّ إن الحسنَة بين السيئتين - يعني أن الدين بين الإفْراط والتّقْصير - وخَير الأمور أَوْسطها وشَرّ السّير الحَقْحقة.

وقال سلمان الفارِسيّ: القَصْدَ والدًوامَ فأنت الجَواد السابق.

وقالوا: " طالب العِلم و " عاملُ البِرِّ كآكِل الطَّعام إن أكل منه قوتاً عصمه وإن أسْرَف منه أَبْشَمه.

وفي بعض الحديث: إن عيسى بنَ مريم عليه السلام لَقِيَ رجلاً فقال له: ما تَصْنع قال: أَتعبَّد ونظير هذا أن رفقة من الأشعريين كانوا في سَفر فلما قَدِموا قالوا: ما رأينا يا رسول الله بعدَكَ أفضلَ من فلان كان يَصُوم النهار فإذا نزَلنا قام من الليل حتى نرْتحل قال: فَمن كان يَمْهن له ويَكفُله قالوا: كلّنا قال: كلّكم أفضلُ منه.

وقيل للزهري: ما الزّهد في الدنيا قال " أمّا " إنه ما هو بتشعيث اللِّمة ولا قَشَف الهيئة ولكنَّه ظَلَف النَّفس عن الشَّهوة.

عليِّ بن عاصم عن أبي إسحاق الشَّيباني قال: رأيتُ محمد بن الحنفيَّة واقفاً بعَرَفات على بِرذَوْن وعليه مُطْرَف خز أصْفَر.

السدِّي عن ابن جُريج عن " عثمان بن أبي سليمان: أن " ابن عباس كان يَرْتدي رِدَاء بأَلْف.

إسماعيل بن عبد الله بن جعْفر عن أبيه قال: رأيتُ رسول الله ﷺ عليه ثوبان مصبوغان بالزَّعفران: رداء وعمامة.

وقال مَعمر: رأيتُ قميص أيوب السِّخْتِياني يكاد يَمس الأرض فسألتُه عن ذلك فقال: إن الشُّهرة كانت فيما مضى في تذْييل القَمِيص وإنهّا اليومَ في تَشميره.

أبو حاتم عن الأصمعي: أن ابن عَوْن اشترى بًرْنساً فمرَّ على معاذَة العَدَويَّة فقالت: مِثلُك يَلْبس هذا فذكرتُ ذلك لابن سيربن قال: أفلا أخبرتها أن تَميما الدارمي اشترى حُلَّة بألف فصلّىِ قدم حمَّاد بن سَلمة البَصرة فجاءه فرْقد السَّبَخي وعليه ثيابُ صُوف فقال له حمَاد: ضَع عنك نَصرانيّتك هذه فلقد رأيتنا ننتظر إبراهيم " فيخرج إلينا " وعليه معَصفْرة ونحن نرى أن المَيْتة قد حلَّتْ له أبو الحسن المدائنيّ قال: دخل محمد بن واسع على قُتيبة بن مُسلم وَالي خُراسان في مِدْرَعة صوف فقال له: ما يدعوكَ إلى لِباس هذه فسكت فقال له قتيبة: أكلّمك ولا تُجيبني قال: أَكرَه أن أقولَ زُهداً فأُزَكّي نفسي أو أقولَ فَقْراً فأَشكو ربي فما جوابُك إلا السُّكوت.

قال ابن السًماك لأصحاب الصُّوف: والله لئن كان لباسُكم وَفْقاً لسرائركم فقد أحببتم أن يطلع الناس عليها وإن كان مخالفاً لها فقد هَلكتم.

وكان القاسمُ بن محمد يَلْبس الخزّ وسالِم بن عبد الله يَلْبس الصُّوف ويقعُدان في مجلس المدينة فلا يُنكر هذا على هذا " شيئاَ " ولا ذا على هذا.

ودَخل رجلٌ على محمد بن المُنْكَدر فوجده قاعداً على حَشايا مُضاعَفة وجاريةٌ تُغَلِّفه بالغالية فقال: رَحمك الله جئتُ أسألك عن شيء وجدتك فيه - يريد التزيّن - قال: على هذا أدركتُ الناس.

وصلّى الأعمشُ في مسجد قوم فأطال بهم الإمام فلما فَرغ قال له: يا هذا لا تُطِلْ صلاتك فإنه يكون خَلْفك ذو الحاجة والكبَير والضَّعيف قال الإمام: وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين فقال له الأعمش: أنا رسولُ الخاشعين إليك إنهم لا يَحتاجون إلى هذا منك.

العُتْبيّ قال: أصابت الربيعَ بن زِياد نُشَّابةٌ في جبينه فكانت تنتقض عليه كل عام فأتاه عليُّ بن أبي طالب عائداً فقال له: كيف تَجدك يا أبا عبد الرحمن قال: أجدُني لو كان لا يذهب ما بي إلا بذَهاب بَصري لتمنيّت ذهابَه قال له: وما قيمة بَصرك عندك قال: لو كانت لي الدُّنيا فديتُه بها قال: لا جَرم ليُعطينّك اللهّ على قَدْر الدُنيا لو كانت لك لأنفقتها في سبيله إِنّ الله يُعطي على قَدْر الألم والمُصيبة وعنده بعدُ تَضْعيفٌ كثير.

قال له الرَّبيع: يا أميرَ المؤمنين ألا أشكو إليك عاصمَ بن زِياد قال: وماله قال: لَبِسَ العَباء وتَرَك المُلاَء وغم أهْلَه وأحْزن وَلَده قال: عليِّ عاصماً.

فلما أتاه عَبس في وَجْهه وقال: وَيْلكَ يا عاصم! أترى الله أباح لك اللذّاتِ وهو يكره " منك " أخْذَك منها أنت أهونُ على الله من ذلك أو ما سَمعْته يقول: " مَرَجَ البَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَان بَيْنهما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَان " حتى قال: " يَخْرُجُ مِنْهَما اللُؤْلُؤُ والمَرْجَان ".

وتالله لابتذال نِعَم الله بالفِعال أحب إِلي من ابتذالها بالمَقَال وقد سمعته يقول: " وأمَّا بِنِعْمَةِ ربكَ فَحَدًث " وقوله: " قُلْ مَنْ حَرَمَ زِينَةَ الله الَتي أخْرَجَ لِعِبَادهِ والطيبَاتِ مِنَ الرزْقِ ".

قال عاصم: فعلامَ اقتصرتَ أنت يا أميرَ المَؤمنين على لِبْس الخَشِن وأكْل الحَشف قال: إن الله افترض على أئمة محمد بن حاطب الْجُمَحيّ قال: حدّثني من سَمع عمرو بن شُعيب وكنتُ سمعتُه أنا وأبي جميعاً قال: حدّثني عمرو بن شُعيب عن أبيه عن جدّه عن " عبد الله بن مَسعود قال: أتى رسول الله ﷺ ذاتَ يوم أمّ " عبد الله بن عمرو " بن العاص " وكانت امرأة تَلْطُف برسول الله ﷺ وسلّم فقال: كيف أنتِ يا أمَ عبد الله كيف أكونُ وعبد الله بن عمرو رجلٌ قد تخلّى من الدنيا قال لها: كيف ذلك قالت: حرّم النوم فلا ينام ولا يُفطر ولا يَطْعم اللحم ولا يؤدِّي إلى أهله حقَّهم قال: فأين هو قالت: خرج ويُوشك أن يَرْجع الساعة قال: فإذا رجع فاحبسيه عليَّ.

فخرج رسول الله ﷺ وجاء عبد الله وأوْشك رسول الله ﷺ في الرَّجعة فقال: يا عبد الله بن عَمرو ما هذا الذي بلغني عنك " قال: وما ذاك يا رسولَ الله قال بَلَغني أنك لا تنام " ولا تُفْطر " قال: أردتُ بذلك الأمْنَ من الفزع الأكبر قال: وبلَغني أنك لا تَطْعم اللَّحم قال: أردتُ بذلك ما هو خيرٌ منه في الجنَّة قال: وبلغني أنك لا تؤدي إلى أهلك حقَهم قال: أردتُ بذلك نساءً هنَّ خير منهنّ فقال رسول الله ﷺ وسلَّم يا عبد الله بن عمرو إن لك في رسول الله أسوة حَسنة فرسول الله يَصوم ويُفطر ويأكل اللَّحم ويُؤدِّي إلى أهله حقوقَهم.

يا عبد الله بن عمرو إنَ لله عليك حقّا وإنَ لبدنك عليك حقّا وإن لأهلك عليك حقّا.

فقال: يا رسول الله ما تأمرني أن أصوم خمسة أيام وأفطر يوماً قال: لا قال: فأصوم أربعة وأفطر يوماً قال: لا قال: فأصوم ثلاثة وأفطر يوماً قال: لا قال: فيومين وأفطر يوماً قال: لا قال: فيوماً " وأفْطِر يوماً " قال: ذلك صيام أخي داود يا عبد الله بن عمرو كيف بك إذا بَقِيت في حُثالة من الناس قد مَرِجَتْ عهودُهم ومواثيقُهم فكانوا هكذا - وخالف بين أصابعه قال: فما تأمرني " به " يا رسول اللهّ قال: تأخذ ما تَعرف وتَدَع ما تُنكر وتَعمل بخاصَّة نَفْسك وتَدع الناس وعوامَّ أمرهم.

قال: ثم أخذه بيده وجعل يمشي به حتى وضعَ يده في يد أبيه وقال له.

أطِع أباك.

فلما كان يومُ صِفّين قال له أبوه عمرو: يا عبد الله اخرج فقاتل فقال: يا أبتاه أتأمُرني أن أخرج فأقاتل وقد سمعتُ من رسول الله ﷺ ما سمعت وعَهِد إليَ " ما عهد " قال: أنشدك الله ألم يكن آخر ما قال لك أن أخذ بيدك فوضعها في يدي وقال لك: أطِع أباك ٍ قال: اللهم بلى قال: فإني أعزم عليك أن تَخْرج فتقاتل.

قال: فخرج فقاتل متقلَداً بسيفين.

القول في القدر أتى قومٌ من أهل القَدر محمد بن المُنْكدر.

فقالوا له: أنت الذي تقول: إن الله يُعذِّب الخلق على ما قدَّر عليهم فصرف وجهه عنهم ولم يُجبهم.

فقالوا له: أصلحك الله إن كنت لا تُجيبنا فلا تُخْلِنا من بركة دعائك فقال: اللهم لا تُرْدِنا بعُقوبتك ولا تَمكر بنا حِيلتك ولا تُؤاخذنا بتَقْصيرنا عن رِضاك قليلَ أعمالنا تقَبّل وعظيمَ خطايانا اغفر أنت الله الذي لم يكن شيء قبلك ولا يكونُ شيء بعدك وليّ الأشياء ترفع بالهُدى من تشاء لا مَن أحسن استغنى عن عَونك ولا مَن أساء غَلَبك ولا استبدّ شيء عن حُكومتك وقُدرتك " لا ملجأ إلا إليك " فكيف لنا بالمغفرة وليست إلا في يديك وكيف لنا بالرحمة وليست إلا عندك حفيظ لا ينسى قديم لا يَبلى حيّ لا يموت بك عرفناك وبك اهتدينا إليك ولولا أنت لم نَدْرِ ما أنت سُبحانك وتعاليت.

فقال القوم: قد والله أخبر وما قَصرّ.

وقال: ذُكر القَدر في مجلس الحسن البصريّ فقال: إن الله خلق الخلق للابتلاء لم يُطيعوه بإكراه ولم يَعْصوه بغَلبة لم يُهْملهم من الملْك وهو القادر على ما أقدرهم عليه والمالك لما ملّكهم إياه فإن يأتمر العِباد بطاعة الله لم يكن اللهّ مُثَبِّطاً " لهم " بل يَزيدهم هُدىً إلى هُداهم وتَقوَى إلى تَقْواهم وإن يأتمروا بمعْصية الله كان الله قادراً على صرفهم إن شاء وإن خَلّى بينهم وبين المَعْصية فمن بعد إعذار وإنذار.

مروان بن موسى قال: حدّثنا أبو ضَمْرة أنّ غَيْلان قَدِم بكلمة قد صاغها حتى وقف على ربيعة فقال له: أنت الذي تزعم أنّ الله أحبَّ أن يُعْصىَ فقال له رَبيعة: أنت الذي تزعم أن الله يُعصى كَرها فكأَنما أَلقمه حجراً.

قيل لطاوس: هذا قَتادة يُحب أن يأتيك فقال: إن جاء لأقُومنّ قيل له: إنه فقيه قال: إِبليس أفقه منه قال: " رَبِّ بما أَغْوَيْتَني ".

وقيل للشعبّى: رأيتَ قتادة قال: نعم رأيت كُناسة بين حَشَّين القَدَر هو العِلْم والكِتاب والكَلِمة والإذْن والمشيئة.

قال الأصمعي: سألتُ أعرابياً فقلت له: ما فَضلُ بَني فُلان على بَني فلان قال: الكِتاب يعني القَدَر.

وقال الله عزّ وجلّ: " إنَّا كُلّ شيءِ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر ".

وقال: " كُلُّ في كِتَاب مُبِين ".

وقال: " ولَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لعِبَادِنَا اْلمًرْسَلِين " يعني القَدَر.

وقال: " وَلَوْلاً كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزَاما ".

قال الخُشني أبو عبد الله محمد بن السَّلام: شاعران من فُحُول الجاهلية لهما " بَيْتان " ذَهب " أحدهما في بيته " مَذْهب العَدْلية والآخر ذَهب مَذْهب الجَبْرية فالذي ذهب مَذْهب العَدْلية أعشى بَكْر حيثُ يقول: آسْتأثر الله بالوَفَاء وبالعَدْل وَوَلًى اللامة الرَّجلاَ إنّ تَقْوَى ربِّنَا خَيْرُ نَفَل وبإذْن الله رَيثي وعَجَلْ مَن هَداه سُبلَ الخْير اهتدى ناعِمَ البال ومَن شاءَ أَضَل وقال إِياس بن مُعاوية: كلَّمتُ الفِرَق كلها ببعض عَقْلي وكلًمتُ القَدَرِيّ بعَقْلي كلِّه فقلت له: دُخولك فيما ليس لك ظُلْم منك قال: نعم قلت: فإنّ الأمر كله للّه.

ومن قوْل اللهّ عز وجل في القدر: " قُلْ فَلّلهِ الْحُجًةُ البَالِغةُ فَلَوْ شَاء لهَدَاكمْ أجْمَعين ".

وقال: " يَمُنُّون عَلَيْكَ أنْ أسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَّلَيَ إِسْلامَكُمْ بَل الله يَمُنَّ عَلَيْكُمْ أنْ هَدَاكُمْ لِإيمَان إِنْ كنْتمْ صَادِقينَ " ابن شِهاب قال: أنزل الله على نبيه آية في القَدرِيَّة: " الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين وقال: " قُلْ لَوْ كُنْتُمْ في بُيُوتِكُمْ لبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إلى مَضَاجِعِهِمْ ".

وقال محمد بنُ سِيرين: ما يُنْكر القَدَرية أن يكونَ الله " قد " عَلِم مِن خَلْقه عِلْماً فكَتبه عليهم.

وقال رجلٌ لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: ما تَقول في القَدَر قال: وَيْحك! أخبرني عن رحمة الله أكانَتْ قبلَ طاعة العباد قال نعم قال علي: أسْلَم صاحبًكم وقد كان كافراً فقال الرجلً له: أليس بالمَشيئة الأولى التي أنشأني بها " وقَوَّم خَلقي " أقوم وأقعد وأقْبِضً وأبْسُط قال له " علي " إنك بعدُ في المشيئة أمَا إني أسألك عن ثلاث فإن قلتَ في واحدة منهن لا كفرت وإن قلت نعم فأنت أنت فمدَ القومُ أعناقهم ليسمعوا ما يقول فقال له عليّ: أخبرني عنك أخلقك اللهّ كما شِئت أو كما شاء قال: بل كما شاء قال: فَخَلقَك الله لما شِئْت أو لما شاء قال: بل لما شاء قال: فيومَ القيامة تأتيه بما شئت أو بما شاء قال: بل بما شاء قال: قُمْ فلا مَشيئة لك.

قال هشام بن محمد بن السائب الكَلْبي: كان هِشام بن عبد الملك قد أنكر على غَيلان التكلم في القَدَر وتقدَّم إليه في ذلك أشدَّ التقدّم وقال له في بعض ما توعده به من الكلام: ما أحسبك تَنْتهي حتى تَنْزِل بك دعوةُ عمرَ بن عبد العزيز إِذا احتجَ عليك في المَشيئة بقول الله عزّ وجل: " وَمَا تشاءُونَ إلا أنْ يَشَاء الله " فزعمتَ أنك لم تُلْقِ الا بالاً فقال عمر: اللهم ان كان كاذباً فاقطع يده وِرجله ولسانه واضرب عُنُقه فانْتَهِ أولى لك ودعَ عنك ما ضَرُه إليك أقربُ من نفْعه فقال له غَيْلان لِحَيْنه وشَقْوته: ابعث إليَّ يا أمير المؤمنين من يُكلّمني ويحتجّ عليّ فإن أخذتْه حُجَّتي أمسكتَ عنّي فلا سبيلَ لك إليَّ وإن أخذتنى حجتُه فسألتك بالذي أكرمَك بالخِلافة إلاّ نفَذت فيّ ما دعا به عمرُ عليّ.

فغاظ قوله هشاماً فعبث إلى الأوْزاعيّ فحكى له ما قال لغَيلان وما ردَّ غيلان: فالتفت إليه الأوزاعيّ فقال له: اسألك عن خمس أو عن ثلاث فقال غيلان: بل عن ثلاث قال الأوزاعيّ: هل علمتَ أنّ الله أعان على ما حَرَّم قال غيلان: ما علِمت " وعَظُمت عنده ".

قال: فهل علمتَ أن اللهّ قَضى على ما نهى قال غيلان: هذه أعظمُ! ما لي بهذا من عِلْم قال: فهل علمتَ أنّ الله حال دون ما أمر قال غيلان -: حال دون ما أمر ما علمتُ قال الأوزاعي: هذا مرتاب من أهل الزَّيع.

فأمر هشامُ بقَطع يده ورِجْله ثم ألقي في الكُناسة.

فاحْتَوشه الناسُ يَعجبون من عظيم ما أنزل اللهّ به من نِقمته.

ثم أقبل رجلٌ كان كثيراً ما يُنْكر عليه التكلّم في القَدَر فتخلّل الناس حتى وَصل إليه فقال يا غيلانُ اذكُر دُعاء عمر رحمه اللهّ فقال غيلان: أفلح إذاً هشام إن كان الذي نَزَل بي بدعاء عمر أو بقضاء سابق فإنه لا حَرج على هشام فيما أمر به فبلغت كلمته هشاما فأمر بقَطْع لسانه وضَرب عُنقه لتمام دَعْوة عمر.

ثم التفت هشام إلى الأوزاعيّ وقال له: قد قلتَ يا أبا عمرو فَفَسِّر فقال: نعم قَضى على ما نَهى عنه نَهى آدم عن أكل الشجرة وقضى عليه بأكلها وحال دُون ما أَمر أمر إبليس بالسُجود لآدم وحال بينه وبين ذلك وأعان على ما حرَّم المَيْتة وأعان المُضطر على أكلها.

الرَّياشي عن سعيد بن عامر بن جُوَيرية عن سَعيد بن أبي عَرُوبة قال: لما سألتُ قتادةَ عن القَدَر فقال: رأى العرب تريد فيه أم رأيَ العَجم فقلت: بل رَأْيَ العرب: قال: فإنه لم يكن أحدٌ من العرب إلا وهو يُثبت " القدر " وأنشد: وقال أعرابيّ: الناظًر في قَدَر الله كالناظر في عَين الشمس يعرف ضَوْءها ولا يَختم على حدودها.

وقال كعب بن زُهَير: لو كنتُ أعجبُ من شيء لأعجَبني سَعْيُ الفَتَى وهو مخْبُوءٌ له القَدَرُ يَسْعى الفتَى لأمور ليس يُدْرِكها فالنَّفْس واحدةٌ وآلهمّ منْتشِر والمَرْءُ ما عاش مَمْدُودٌ له أمل لا تَنْتَهي العينُ حتى يَنْتهي الأثر وقال آخر: والجَدّ أنهض بالفتَى من عَقْله فانهضْ بجَدٍّ في الحَوادث أو ذَرِ ما أقربَ الأشْياء حين يَسُوقها قَدَرٌ وأبعدَها إذا لم تُقْدَرِ عبد الرحمن القَصِير قال: حدّثنا يونس بن بلال عن يَزيد بن أبي حَبيب أنّ رجلاً قال للنبيّ ﷺ: يا رسول الله أيقدّر الله عليِّ الشرّ ثم يُعذَبني عليه قال: نعم وأنت أظْلم.

وحدّث أبو عبد الرحمن المُقْرىء يَرْفعه إلى أبي هُريرة عن عمر بن الخطاب رضي اللهّ عنه عن رسول الله ﷺ قال: لا تجَالسوا أهلَ القَدَر ولا تُفاتحوهم.

ومن حديث عبد الله بن مَسعود قال: ما كان كُفْر بعد نُبوَّة قط إلا كان مِفْتاحه التَّكْذيب بالقَدَر.

ثُمَامة بن أَشْرَس قال: دَخل أبو العَتاهية على المأمون لما قَدِم العراق فأَمر له بمال وجَعل يُحادثه فقال له يومًا: ما في الناس أجهل من القَدرِيَّة فقال له المأمون: أنت بصناعتك أَبصر فلا تَتَخَطَّها إلى غيرها قال له: يا أميرَ المؤمنين اجمع بيني وبين من شئتَ منهم.

فأَرْسَلَ إليِّ فدخلتُ عليه فقال لي: هذا يَزعم أنّك وأصحابَك لا حُجَّة عندكم.

قلت: فلْيَسأَل عمّا بدا له.

فحرَّك أبو العتاهية يدَه وقال: مَن حَرَّك هذه قلتُ مَن ناك أُمّه فقال: يا أميرَ المؤمنين شتَمني قلت له: نَقضت أصلَك يا ماصّ بَظْر أمّه فَضَحك المأمونُ فقلت له: يا جاهل تحرك يدَك ثم تقول: مَن حَرَّكها " فإن كان اللهّ حَرَّكها " فلم أَشْتُمك وإِن كنتَ أنت المُحَرّك لها فهو قَوْلي قال له المأمون: عندك زيادةٌ في المسألة.

قال الكندي في الفَنّ التاسع من التّوحيد: اعلم أن العالَم كله مَسوس بالقضاء والقَدَر - أعنى بالقضاء - ما قُسم لكل مَعْلول مما هو أَصلح وأَحْكم وأَتقن في بِنْية الكُل لأنه - جل ثناؤه - خَلَق وأبدع مُضطرًّا ومُختارًا بتمام القُدْرة فلما كان المختار غيرَ تامّ الحكمة لأن تمام آلحِكمة لِمبدع الكل كان لوِ أطلق واختيارَه لاختار كثيراً مما فيه فَسادُ الكل فقَدّر - جلّ ثناؤه - بِنْيةً للكلّ تقديراَ محْكَمًا.

فصيّر بعضه سوانحَ لبعض يَختار بإرادته ومَشيئته غيرَ مقْهور مما هو أَصْلح وأحكم في بِنْية اكل فتقدير هذه السَّوانح هو القَدَر فبالقضاء والقَدَر ساسَ - جل ثناؤه - جميع ما أَبدع بهذه السِّياسة المُحكمة المُنظمة التي لا يَدْخلها زَلَل ولا نَقْص فاتْضَح أنّ كل مَعْلوِل فيما قسم له ربه من الأحْوال لا خارج عنها وأنّ بعضَ ذلك باضطرار وبعضه باختيار وأنّ المُختار عن سَوانح قَدَره " اختار " وبإرادته لا بالكَرْه " منه " فَعل.

سُئل أعرابيّ عن القَدَر فقال: ذاك عِلْم اختَصَمت فيه الظُّنون وكثر فيه المُختلفون والواجب علينا أن نَرد ما أتشكل من حُكْمه إلى ما سبق في عِلْمه.

واصطحب مَجوسي وقَدَري في سَفَر فقال القدريّ للمجوسيّ: مالَك لا تُسلم قال: إن أَذِن الله في ذلك كان قال: إن الله قد أذن إلا أنَّ الشيطان لا يدَعك قال: فأنا مع أَقْواهما.

وقال رجلٌ لهشام بن الحَكَم: أنت تَزعُم أن اللهّ في فضْله وكَرمه وعَدْله كَلَّفنا ما لا نُطِيقه ثم يًعذِّبنا عليه قال هشام: قد والله فَعل ولكن لا نَسْتطيع أن نتكلَّم.

اجتمع عمرو بن عُبيد مع الحارث بن مِسْكين بمنىَ فقال له: إنّ مِثلى ومثلك لا يَجْتمعان في مثل هذا المَوْضع فيَفترقان من غير فائدةَ فإن شِئتَ فقُلْ وإن شئتَ فأنا أقول قال له: قل قال: هل تَعلم أحداً أقبلَ للعُذر من الله عز وجل قال: لا قال: فهل تَعْلم عذراً أبينَ من عذر مَنْ قال لا أقدر فيما تَعلم أنت أنه لا يَقدر عليه قال: لا قال: فلمَ لا يَقْبَلُ - مَن لا أَقبلِ للعُذر منه - عُذْرَ مَن لا أبينَ من عُذْره فانقطع الحارث بن مِسْكين فلم يرُدّ شيئاَ.