الرئيسيةبحث

العقد الفريد/الجزء الأول/3

ومن حديث زيد بن أسلم عن أبيه قال: بعث معاوية إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو على الشام بمال وأدهم وكتب إلى أبي سفيان أن يدفع ذلك إلى عمر - يعني بالأدهم القيد - وكتب إلى عمر يقول: إني وجدت في حصون الروم جماعة من أسارى المسلمين مقيدين بقيود حديد أنفذت منها هذا ليراه أمير المؤمنين - وكانت العرب قبل ذلك تقيد بالقيد. قال الفرزدق: أو لجدل الأداهم - فخرج الرسول حتى قدم على سفيان بالمال والأدهم قال: فذهب أبو سفيان بالأدهم والكتاب إلى عمر واحتبس المال لنفسه. فلما قرأ عمر الكتاب قال له: فأين المال يا أبا سفيان قال: كان علينا دين ومعونة ولنا في بيت المال حق فإذا أخرجت لنا شيئاً قاصصتنا به. فقال عمر: اطرحوه في الأدهم حتى يأتي بالمال. قال: فأرسل أبو سفيان من أتاه بالمال. فأمر عمر بإطلاقه من الأدهم. فلما قدم الرسول على معاوية قال له: رأيت أمير المؤمنين اعجب بالأدهم قال: نعم وطرح فيه أباك. قال: ولم قال جاءه بالأدهم وحبس المال قال: إي والله والخطاب لو كان لطرحه فيه. زار أبو سفيان معاوية بالشام فلما رجع من عنده دخل على عمر. فقال: أجزنا أبا سفيان. قال: ما أصبنا شيئاً فنجيزك منه. فأخذ عمر خاتمه فبعث به إلى هند وقال للرسول: قل لها: يقول لك أبو سفيان: انظري إلى الخرجين اللذين جئت بهما فأحضريهما. فما لبث عمر أن أتي بخرجين فيهما عشرة آلاف درهم. فطرحهما عمر في بيت المال. فلما ولي عثمان ردهماً عليه. فقال أبو سفيان: ما كنت لآخذ مالا عابه علي عمر. ولما ولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه عتبة بن أبي سفيان الطائف وصدقاتها ثم عزله تلقاه في بعض الطريق فوجد معه ثلاثين ألفاً فقال: أنى لك هذا قال: والله ما هو لك ولا للمسلمين ولكنه مال خرجت به لضيعة أشتريها. فقال عمر: عاملنا وجدنا معه مالاً ما سبيله إلا بيت المال ورفعه. فلما ولى عثمان قال لعتبة: هل لك في هذا المال فإني لم أر لأخذ ابن الخطاب فيه وجهاً قال: والله إن بنا إليه لحاجة ولكن لا ترد على من قبلك فيرد عليك من بعدك. القحذمي قال: ضرب عمر رجلاً بالدرة فنادى: يا لقصي. فقال أبو سفيان: يا بن أخي لو قبل اليوم تنادي قصياً لأتتك منها الغطاريف. فقال له عمر: اسكت لا أبالك. قال أبو سفيان: ها ووضع سبابته على فيه. خليفة بن خياط قال: كتب يزيد بن الوليد المعروف بالناقص - وإنما قيل له الناقص لفرط كماله - إلى مروان بن محمد - وبلغه عنه تلكؤ في بيعته -: أما بعد فإني أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيهما شئت والسلام. فأتته بيعته. ولما منع أهل مرو أبا غسان الماء وزجته إلى الصحارى كتب إليهم أبو غسان: إلى بني الأستاه من أهل مرو ليمسيني الماء أو لتصبحنكم الخيل. فما أمسى حتى أتاه الماء. فقال: الصدق ينبئ عنك لا الوعيد. وكتب عبد الله بن طاهر الخراساني إلى الحسن بن عمر التغلبي: أما بعد فقد بلغني ما كان من قطع الفسقة الطريق ما بلغ فلا الطريق تحمي ولا اللصوص تكفي ولا الرعية ترضي وتطمع بعد هذا في الزيادة! إنك لمنفسح الأمل! وأيم الله لتكفيني من قبلك أو لأوجهن إليك رجالا لا تعرف مرة من جهم ولا عدي من رهم ولا حول ولا قوة إلا بالله. وكتب الحجاج بن يوسف إلى قتيبة بن مسلم واليه بخراسان: أما بعد فإن وكيع بن حسان كان بالبصرة منه ما كان ثم صار لصاً بسجستان ثم صار إلى خراسان فإذا أتاك كتابي هذا فاهدم بناءه واحلل لواءه. وكان على شرطة قتيبة فعزله وولى الضبي عم مسعود بن الخطاب. وبلغ الحجاج أن قوماً من الأعراب يفسدون الطريق فكتب إليهم: أما بعد فإنكم قد استخفتكم الفتنة فلا عن حق تقاتلون ولا عن منكر تنهون وإني أهم أن ترد عليكم مني خيل تنسف الطارف والتالد وتدع النساء أيامى والأبناء يتامى والديار خراباً. فلما أتاهم كتابه كفوا عن الطريق.

التعرض للسلطان والرد عليه

قالت الحكماء: من تعرض للسلطان أرداه ومن تطامن له تخطاه وشبهوه في ذلك بالريح العاصفة التي لا تضر بما لان له من الشجر ومال معها من الحشيش وما استهدف لها من الدواح العظام قصفته. قال الشاعر: إن الرياح إذا ما أعصفت قصفت عيدان نبع ولا يعبأن بالرتم وقال حبيب بن أوس - وهو أحسن مل قيل في السلطان -: هو السيل إن واجهته انقدت طوعه وتقتاده من جانبيه فيتبع وقال آخر: هو السيف إن لاينته لان متنه وحداه إن خاشنته خشنان وقال معاوية لأبي الجهم العدوي: أنا أكبر أم أنت فقال: لقد أكلت في عرس أمك يا أمير المؤمنين. قال: عند أي أزواجها قال: عند حفص ابن المغيرة. قال: يا أبا الجهم إياك والسلطان فإنه يغضب غضب العصبي ويأخذ أخذ الأسد. وأبو الجهم هذا هو القائل في معاوية بن أبي سفيان: نميل على جوانبه كأنا نميل إذا نميل على أبينا وقدم عقيبة الأسدي على معاوية ورفع إليه رقعة فيها هذه الأبيات: معاوي إننا بشر فأسجح فلسنا بالجبال ولا الحديد أكلتم أرضنا فجردتمونا فهل من قائم أو من حصيد أتطمع بالخلود إذا هلكنا وليس لنا ولا لك من خلود فهبنا أمة هلكت ضياعا يزيد أميرها وأبو يزيد فدعا به معاوية فقال: ما جرأك علي قال: نصحتك إذ غشوك وصدقتك إذ كذبوك. فقال: ما أظنك إلا صادقاً وقضى حوائجه. ومن حديث زياد عن مالك بن أنس قال: خطب أبو جعفر المنصور فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس اتقوا الله. فقام إليه رجل من عرض الناس فقال: أذكرك الله الذي ذكرتنا به يا أمير المؤمنين. فأجابه أبو جعفر بلا فكرة ولا روية: سمعاً وطاعة لمن ذكر بالله وأعوذ بالله أن أذكر به وأنساه فتأخذني العزة بالإثم فقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين وأما أنت فوالله ما الله أردت بها ولكن ليقال: قال فعوقب فصبر وأهون بها لو كانت وأنا أحذركم أيها الناس أختها فإن الموعظة علينا نزلت ومنا أخذت. ثم رجع إلى موضعه من وقام رجل إلى هارون الرشيد وهو يخطب بمكة فقال: " كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ". فأمر به فضرب مائة سوط. فكان يئن الليل كله ويقول: الموت! الموت! فأخبر هارون الرشيد أنه رجل صالح فأرسل إليه فاستحله فأحله. المدائني قال: جلس الوليد بن عبد الملك على المنبر يوم الجمعة حتى اصفرت الشمس فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين إن الوقت لا ينتظرك وإن الرب لا يعذرك. قال صدقت: ومن قال مثل مقالتك فلا ينبغي له أن يقوم مثل مقامك. من ها هنا من أقرب الحرس يقوم إليه فيضرب عنقه الرياشي عن الأصمعي قال: خاطر رجل رجلاً أن يقوم إلى معاوية إذا سجد فيضع يده على كفله ويقول: سبحان الله يا أمير المؤمنين! ما أشبه عجيزتك بعجيزة أمك هند! ففعل ذلك. فلما انفتل معاوية عن صلاته قال: لا يا بن أخي إن أبا سفيان كان إلى ذلك منها أميل فخذ ما جعلوا لك فأخذه. ثم خاطر أيضاً أن يقوم إلى زياد وهو في الخطبة فيقول له: أيها أمير من أبوك ففعل. فقال له زياد: هذا يخبرك وأشار إلى صاحب الشرطة فقدمه فضرب عنقه. فلما بلغ معاوية قال: ما قتله غيري ولو أدبته على الأولى ما عاد إلى الثانية. وخاطر رجل إلى أن يقوم إلى عمرو بن العاص وهو في الخطبة فيقول: أيها الأمير من أمك ففعل. فقال له: النابغة بنت عبد الله أصابتها رماح العرب فبيعت بعكاظ فاشتراها عبد الله بن جدعان للعاص بن وائل فولدت فأنجبت فإن كانوا جعلوا شيئاً فخذه. دخل خريم الناعم على معاوية بن أبي سفيان فنظر معاوية إلى ساقيه فقال: أي ساقين لو أنهما على جارية! فقال له خريم: في مثل عجيزتك يا أمير المؤمنين. قال: واحدة بأخرى والبادئ أظلم.

تحلم السلطان على أهل الدين والفضل إذا اجترءوا عليه

زياد عن مالك بن أنس قال: بعث أبو جعفر المنصور إلي وإلى ابن طاوس فأتيناه فدخلنا عليه فإذا هو جالس على فرش قد نضدت وبين يديه أنطاع قد بسطت وجلاوزة بأيديهم السيوف يضربون الأعناق. فأموا إلينا: أن اجلسا. فجلسنا. فأطرق عنا طويلاً ثم رفع رأسه والتفت إلى ابن طاوس فقال له: حدثني عن أبيك. قال: نعم سمعت أبي يقول: قال رسول الله ﷺ: إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة رجل أشركه الله في حكمه فأدخل عليه الجور في عدله. فأمسك ساعة. قال مالك: فضممت ثيابي من ثيابه مخافة أن يملأني من دمه. ثم التفت إليه أبو جعفر فقال: عظني يا ابن طاوس. قال: نعم يا أمير المؤمنين إن الله تعالى يقول: " ألم تر كيف فعل ربك بعاد. إرم ذات العماد. التي لم يخلق مثلها في البلاد. وثمود الذين جابوا الصخر بالواد. وفرعون ذي الأوتاد. الذين طغوا في البلاد. فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد ". قال مالك: فضممت ثيابي مخافة أن يملأ ثيابي من دمه. فأمسك ساعة حتى اسود ما بيننا وبينه. ثم قال: يا ابن طاوس ناولني هذه الدواة. فأمسك عنه ثم قال: ناولني هذه الدواة: فأمسك عنه. فأمسك عنه. فقال: ما يمنعك أن تناولنيها قال: أخشى أن تكتب بها معصية الله فأكون شريكك فيها. فلما سمع ذلك قال: قوماً عني قال ابن طاوس: ذلك ما كنا نبغي منذ اليوم. قال مالك: فما زلت أعرف لا بن طاوس فضله. أبو بكر بن أبي شيبة قال: قام أبو هريرة إلى مروان بن الحكم وقد أبطأ بالجمعة فقال له: أتظل عن ابنة فلان تروحك بالمراوح وتسقيك الماء البارد وأبناء المهاجرين والأنصار يصهرون من الحر! لقد هممت أن أفعل وأفعل ثم قال: اسمعوا من أميركم. فرج بن سلام بن أبي حاتم عن الأصمعي قال: حدثني رجل من أهل المدينة كان ينزل بشق سمعت أبا جعفر بالمدينة وهو بنظر فيما بين رجل من قريش وأهل بيت من المهاجرين بالمدينة ليسوا من قريش فقالوا لأبي جعفر: اجعل بيننا وبينه ابن أبي ذئب. فقال أبو جعفر لابن أبي ذئب: ما تقول في بني فلان قال أشرار من أهل بيت أشرار. قالوا: اسأله يا أمير المؤمنين عن الحسن بن زيد وكان عامله على المدينة - قال: ما تقول في الحسن بن زيد قال: يأخذ بالإحنة ويقضي بالهوى. فقال الحسن: يا أمير المؤمنين والله لو سألته عن نفسك لرماك بداهية أو وصفك بشر. قال: ما تقول في قال: اعفني. قال: لا بد أن تقول. قال: لا تعدل في الرعية ولا تقسم بالسوية. قال: فتغير وجه أي جعفر. فقال إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي صاحب الموصل: طهرني بدمه يا أمير المؤمنين. قال: اقعد يا بني فليس في دم رجل يشهد أن لا إله إلا الله طهور. قال: ثم تدارك ابن أبي ذئب الكلام فقال: يا أمير المؤمنين دعنا مما نحن فيه بلغني أن لك ابنا صالحاً بالعراق يعني المهدي. قال: أما إنك قلت ذلك إنه الصوام القوام البعيد ما بين الطرفين. قال ثم قام ابن أبي ذئب فخرج. فقال أبو جعفر: أما والله ما هو بمستوثق العقل ولقد قال بذات نفسه. قال الأصمعي: ابن أبي ذئب من بني عامر بن لؤي من أنفسهم. قال: ودخل الحارث بن مسكين على المأمون فسأله عن مسألة فقال: أقول فيها كما قال مالك بن أنس لأبيك هارون الرشيد - وذكر قوله فلم يعجب المأمون - فقال: لقد تيست فيها وتيس مالك. قال الحارث بن مسكين: فالسامع يا أمير المؤمنين من التيسين أتيس. فتغير وجه المأمون. وقام الحارث بن مسكين فخرج وتندم على ما كان من قوله. فلم يستقر منزله حتى أتاه رسول المأمون فأيقن بالشر ولبس ثياب أكفانه ثم أقبل حتى دخل عليه فقربه المأمون من نفسه ثم أقبل عليه بوجهه فقال له: يا هذا إن الله تبارك وتعالى قد أمر من هو خير منك بإلانة القول لمن هو شر مني فقال لنبيه موسى ﷺ إذ أرسله إلى فرعون: " فقولا له قولاً لينا لعله يتذكر أو يخشى ". فقال: يا أمير المؤمنين أبوء بالذنب وأستغفر الرب. قال: عفا الله عنك انصرف إذا شئت. وأرسل أبو جعفر إلى سفيان الثوري فلما دخل عليه قال: عظني أبا عبد الله قال: وما عملت يا أمير المؤمنين فيما علمت فأعظك فيما جهلت فما وجد له المنصور جواباً. ودخل أبو النضر سالم مولى عمر بن عبد الله على عامل للخليفة فقال له: أبا النضر إنا تأتين كتب من عند الخليفة فيها وفيها ولا نجد بداً من إنفاذها فما ترى قال له أبو النضر: قد أتاك كتاب الله تعالى قبل كتاب الخليفة فأيهما اتبعت كنت من أهله. ونظير هذا القول ما رواه الأعمش عن الشعبي: أن زياداً كتب إلى الحكم بن عمرو الغفاري وكان على الصائفة: إن أمير المؤمنين معاوية كتب إلي يأمرني أن أصطفي له الصفراء والبيضاء فلا تقسم بين الناس ذهباً ولا فضة واقسم ما سوى ذلك. فكتب إليه: إني وجدت كتاب الله قبل كتاب أمير المؤمنين والله لو أن السموات والأرض كانتا رتقاً على عبد فاتقى الله لجعل له منهما مخرجاً. ثم نادى في الناس فقسم فيهم ما اجتمع له من الفيء. ومثله قول الحسن حين أرسل إليه ابن هبيرة وإلى الشعبي فقال له: ما ترى أبا سعيد في كتب تأتينا من عند يزيد بن عبد الملك فيها بعض ما فيها فإن أنفذتها وافقت سخط الله وإن لم أنفذها خشيت على دمي فقال له الحسن: هذا عندك الشعبي فقيه أهل الحجاز. فرقق له الشعبي وقال له: قارب وسدد فإنما أنت عبد مأمور. ثم التفت ابن هبيرة إلى الحسن وقال: ما تقول يا أبا سعيد فقال الحسن: يا ابن هبيرة خف الله في يزيد ولا تخف يزيد في الله. يا ابن هبيرة إن الله مانعك من يزيد وإن يزيد لا يمنعك من الله. يا ابن هبيرة لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق فانظر ما كتب إليك فيه يزيد فاعرضه على كتاب الله تعالى فما وافق كتاب الله تعالى فأنفذه وما خالف كتاب الله فلا تنفذه فإن الله أولى بك من يزيد وكتاب الله أولى بك من كتابه. فضرب ابن هبيرة بيده على كتف الحسن وقال: هذا الشيخ صدقني ورب الكعبة. وأمر للحسن بأربعة آلاف درهم وأمر للشعبي بألفين. فقال الشعبي: رققنا فرفق لنا. ونظير هذا قول الأحنف بن قيس لمعاوية حين شاوره في استخلاف يزيد فسكت عنه. فقال: ما لك لا تقول فقال: إن صدقناك أسخطناك وإن كذبناك أسخطنا الله فسخط أمير المؤمنين أهون علينا من سخط الله. فقال له: صدقت. وكتب أبو الدرداء إلى معاوية أما بعد: فإنه من يلتمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس. وكتبت عائشة رضي الله عنها إلى معاوية: أما بعد فإنه من يعمل بمساخط الله يصر حامده من الناس ذاماً له والسلام. أبو الحسن المدائني قال: خرج الزهري يوماً من عند هشام فقال: ما رأيت مثل أربع كلمات تكلم به اليوم إنسان عند هشام. قيل له: و ما هن قال: دخل رجل على هشام فقال: يا أمير المؤمنين احفظ عني أربع كلمات فيهن صلاح ملكك واستقامة رعيتك فقال هاتهن. فقال: لا تعدن عدة لا تثق من نفسك بإنجازها. قال: هذه واحدة فهات الثانية. قال: لا يغرنك المرتقى وإن كان سهلاً إذا كان المنحدر وعراً. قال: هات الثالثة. قال: إن للأعمال جزاء فاتق العواقب. قال هات الرابعة. قال: واعلم أن للأمور بغتات فكن على حذر. قعد معاوية بالكوفة يبايع الناس على البراءة من علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال له رجل: يا أمير المؤمنين نطيع أحياءكم ولا نتبرأ من موتاكم فالتفت إلى المغيرة فقال له: هذا رجل فاستوص به خيراً. وقال عبد الملك بن مروان للحارث بن عبد الله بي أبي ربيعة: ما كان يقول الكذاب في كذا وكذا - يعني ابن الزبير - فقال: ما كان كذاباً. فقال له يحيى بن الحكم: من أمك يا حار قال: هي التي تعلم. قال له عبد الملك: اسكت فهي أنجب من أمك. دخل الزهري على الوليد بن عبد الملك فقال له: ما حديث يحدثنا به أهل الشام قال: يحدثوننا أن الله إذا استرعى عبداً رعيته كتب له الحسنات ولم يكتب له السيئات. قال: باطل يا أمير المؤمنين أنبي خليفة أكرم على الله أم خليعة غير نبي قل: بل نبي خليفة. قال: فإن الله تعالى يقول لنبيه داور عليه السلام: " يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله. إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ". فهذا وعيد يا أمير المؤمنين لنبي خليفة فما ظنك بخليفة غير نبي قال: إن الناس ليغووننا عن ديننا. الأصمعي عن إسحاق بن يحيى عن عطاء بن يسار قال: قلت للوليد بن عبد الملك: قال عمر بن الخطاب: وددت أني خرجت من هذا الأمر كفافاً لا علي ولا لي. فقال: كذبت. فقلت: أو المشورة قال النبي ﷺ: ما ندم من استشار ولا خاب من استخار. وقدر أمر الله تبارك وتعالى نبيه عليه الصلاة والسلام بمشاورة من هو دونه في الرأي والحزم فقال: " وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله ". ولما هممت ثقيف بالارتداد بعد موت النبي ﷺ استشاروا عثمان بن أبي العاص وكان مطاعاً فيهم فقال لهم: لا تكونوا آخر العرب إسلاماً وأولهم ارتداداً. فنفعهم الله برأيه. وسئل بعض الحكماء: أي الأمور أشد تأييداً للفتى وأيتها أشد إضراراً به فقال: أشدها تأييداً له ثلاثة: مشاورة العلماء وتجربة الأمور وحسن التثبت. وأشدها إضراراً به ثلاثة أشياء: الاستبداد والتهاون والعجلة. وأشار حكيم على حكيم برأي فقبله منه. فقال له: لقد قلت بما يقول به الناصح الشفيق الذي يخلط حلو كلامه بمره وسهله بوعره ويحرك الإشفاق منه ما هو ساكن من غيره. وقد وعيت النصح وقبلته إذ كان مصدره من عند من لا يشك في مودته وصفاء غيبه ونصح جيبه وما وكان عبد الله بن وهب الراسي يقول: إياكم والرأي الفطير. وكان يستعيذ بالله من الرأي الدبري. وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: رأي الشيخ خير من مشهد الغلام.

وأوصى ابن هبيرة ولده فقال: لا تكن أول مشير وإياك والهوى والرأي الفطير ولا تشيرن على مستبد ولا على وغد ولا على متلون ولا لجوج وخف الله في موافقة هوى المستشير. فإن النماس موافقته لؤم وسوء الاستماع منه خيانة. وكان عامر بن الظرب حاكم العرب يقول: دعوا الرأي يغب حتى يختمر وإياكم والرأي الفطير. يريد الأناة في الرأي والتثبت فيه. ومن أمثالهم في هذا قولهم: لا رأي لمن لا يطاع. وكان المهلب يقول: إن من البلية أن يكون الرأي بيد من يملكه دون من يبصره. العتبي: قال: قيل لرجل من عبس: ما أكثر صوابكم! قال نحن ألف رجل وفينا حازم واحد فنحن نشاوره فكأنا ألف حازم. قال الشاعر: الرأي كالليل مسود جوانبه والليل لا ينجلي إلا بإصباح فاضمم مصابيح آراء الرجال إلى مصباح رأيك تزدد ضوء مصباح العتبي قال: أخبرني من رأى عبد الله بن عبد الأعلى وهو أول داخل على الخليفة وآخر خارج من عنده. قال: ثم رأيته وإنه ليتقى كما يتقى البعير الأجرب فقال لي: يا أخا العراق اتهمنا القوم في سريرتنا ولم يقبلوا منا علانيتنا ومن ورائهم وورائنا حكم عدل. ومن أحسن ما قيل فيمن أشير عليه فلم يقبل قول سبيع لأهل اليمامة بعد إيقاع خالد بهم: يا بني حنيفة بعدا لكم كما بعدت عاد وثمود. أما والله لقد أنبأتكم بالأمر قبل وقوعه كأني أسمع جرسه وأبصر غيبه ولكنكم أبيتم النصيحة فاجتنيتم الندامة وإني لما رأيتكم تتهمون النصيح وتسفهون الحليم استشعرت منكم اليأس وخفت عليكم البلاء. والله ما منعكم الله التوبة ولا أخذكم على غرة ولقد أمهلكم حتى مل الواعظ ووهن الموعوظ. وكنتم كأنما يعنى بما أتم فيه غيركم فأصبحتم وفي أيديكم من تكذيبي التصديق. ومن نصيحتي الندامة وأصبح في يدي من هلاككم البكاء ومن ذلكم الجزع وأصبح ما فات غير مردود وما بقي غير مأمون. وقال القطامي في هذا المعنى: ومعصية الشفيق عليك مما تزيدك مرة منه استماعا وخير الأمر ما استقبلت منه وليس بأن تتبعه اتباعا كذاك وما رأيت الناس إلا إلى ما جر غاويهم سراعا وكان يقال: لا تستشر معلماً ولا حائكاً ولا راعي غنم ولا كثير القعود مع النساء. وأنشد في المعلمين: وكيف يرجى العقل والرأي عند من يروح إلى أنثى ويغدو إلى طفل وكان يقال: لا تشاور صاحب حاجة يريد قضاءها. وكان يقال: لا رأي لحاقن ولا حازق وهو الذي ضغطه الخف ولا لحاقب وهو الذي يحد رزا في بطنه. وينشد في الرأي بعد فوته: وعاجز الرأي مضياع لفرصته حتى إذا فات أمر عاتب القدرا ومن قولنا في هذا المعنى: فلئن سمعت نصيحتي وعصيتها ما كنت أول ناصح معصي وقال حبيب في بني تغلب عند إيقاع مالك بن طوق بهم: لم يألكم مالك صفحاً ومغفرةً ولو ينفخ قين الحي في فحم