رد المأمون على الملحدين وأهل الأهواء
قال المأمون للثَّنوي الذي تكلّم عنده: أَسألك عن حَرْفين لا أَزيد عليهما هل نَدِم مُسيء قط على إساءته قال: بلى قال: فالندَّم على الإساءة إساءةٌ أم إحسان قال: بل إحسان قال: فالذي نَدِم هو الذي أساء أم غَيْره قال: بل هو الذي أساء قال: فأرَى صاحبَ الخَيْر هو صاحبُ الشر قال: فإني أقول: إن الذي نَدِم غير الذي أساء قال: فنَدِم على شيء كان منه أم على شيء كان من غَيْره فسكت.
قال له أيضاً: أخبرني عن قولك باثنين هل يَستطيع أحدُهما أن يَخلُق خلقاً لا يَستعين فيه بصاحبه قال: نعم قال: فما تَصنع باثنين واحدٌ يَخلق كلَّ شيء خيرٌ لك وأصح.
وقال المأمون للمُرتد الخراسانيّ الذي أسلم على يَدَيه وحمله معه إلى العِراق فارتدَ عن الإسلام: أَخبرني ما الذي أَوْحَشك مما كنتَ به آنساً من دِيننا فوالله لأن أستحييك بحق أحبّ إليَّ من أن أقتلُك بحق وقد صِرْتَ مُسلماً بعد أن كنت كافراً ثم عُدت كافراً بعد أن صِرْت مُسلماً وإن وجدتَ عندنا دواءً لدائك تداويتَ به وإن أخطأك الشفاء وتَباعد عنك كنتَ قد أبليتَ العُذْر في نَفْسك ولم تُقَصرِّ في الاجتهاد لها فإن قتلناك قَتَلْناك في الشَّريعة وترجع أنت في نفسك إلى الاستبصار واليَقين ولم تُفَرِّط في الدُّخول من باب الحزْم قال المرتد: أوْحشني منكم ما رأيتُ من كثرة الاختلاف في دِينكم قال المأمون: لنا اختلافان: أحدُهما كاختلافِنا في الآذان وتكبير الجنائز وصلاة العِيدين والتشهّد والتَّسليم من الصلاة ووُجوه القراآت واختلاف وُجوه الفُتيا وما أشبه ذلك وهذا ليس باختلاف وإنما هو تخيير وتَوْسعة وتخفيف من السنَّة فمن أذِّن مَثنى وأقام مَثْنى لم يَأثم ومَن ربع لم يأثم.
والاختلاف الآخر كنَحْو اختلافنا في تأويل الآية من كتاب الله وتأويل الحديث عن نبيّنا مع اجتماعنا على أصل التنزيل واتفاقنا على عَينْ الخبر فإن كان إنما أوْحشك هذا فينبغي أن يكون اللفظُ بجميع التوراة والإنجيل متفقاً على تأويله كما يكون متفقاً على تَنزيله ولا يكون بين اليهود والنَّصارى اختلافٌ في شيء من التأويلات ولو شاء الله أن يُنزِّل كًتبه مُفَسَرة ويجعل كلامَ أنبيائه ورسله لا يُختلف في تأويله لفَعل ولَكنَّا لم نجد شيئاً من أمور الدَين والدُنيا وقع إلينا على الكِفاية إلا معِ طُولِ البحث والتَحْصيل والنَّظر ولو كان الأمر كذلك لسَقَطت البَلْوى والمِحن وذهَب التفاضل والتبايُن ولمَا عُرف الحازم من العاجز ولا الجاهل مِن العالم وليس على " هذا " بُنِيت الدنيا.
قال المُرتد: أشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له وأن المَسيح عبدُ الله وأنَّ محمداً صادق وأنك أمير المؤمنين " حقّا ".
وقال المأمون لعليّ بن موسى الرِّضا: بِمَ تَدَّعون هذَا الأمر قال: بقرابة عليّ مِن رسول الله ﷺ " وعلى آله وبقرابة فاطمة منه " فقال له المأمون: إنْ لم يكن ها هنا إلا القرابة فقد خَلف رسول الله ﷺ من أهل بَيته مَن كان أقربَ إليه من عليّ أو مَن في مِثل قُعْدُده وإن كان بقرابة فاطمة من رسول الله ﷺ فإن الحق بعد فاطمة للحسن والحسين وليس لعلي في هذا الأمر حق وهما حيان فإذا كان الأمر كذلك فإن عليًا قد ابتزَهما حقهما وهما صحيحان واستولى على ما لا يَجب له.
فما أجابه علي بن موسى بشيء.
كتب واصل بنُ عَطاء الغزّال إلى عمرو بن عُبيد: أما بعد فإنّ استلاب نِعمة العبد وتَعْجيل المُعاقبة بيد الله ومهما يكن ذلك فباستكمال الآثام والمُجاوَرة للجِدال الذي يحُول بين المرء وقَلْبه وقد عرفتَ ما كان يُطعن به عليك وُينسب إليك ونحن بين ظَهْراني الحسن بن أبي الحسن رحمه الله لاسْتِبْشاع قُبْح مَذْهبك نحن ومَن قد عرفتَه من جميع أصحابنا وُلمَّة إخواننا الحاملين الواعين عن الحسن فللّه تلكم لمَّة وأوْعياء وحَفَظة ما أدمثَ الطبائع وأرزن المجالس وأبينَ الزُّهد وأصدقَ الألسنة اقتدَوْا والله بمن مَضى شَبهًا بهم وأخذوا بهَدْيهم.
عَهدي واللهّ بالحسن وعَهدكم به أمس في مَسْجد رسول الله ﷺ بشرقيّ الأجنحة وآخر حديث حدَّثنا إذ ذَكر الموت وهول المُطَّلع فأسف على نفسه واعترف بذنبه ثم التفت والله يَمنة ويسرة مُعتبرًا باكيًا فكأني أنظر إليه يمسَح مُرْفَض العَرق عن جبينه ثم قال: اللهم إني قد شَددْت وَضِين راحلتي وأخذت في أَهبة سَفَري إلى محلّ القبر وفَرْش العَفْر فلا تؤاخذني بما ينسبون إليَّ من بعدي اللهم إني قد بلَّغْت ما بَلغني عن رسولك وفسَّرت من مُحْكم تأويلك ما قد صَدًقه حديثُ نبيّك ألا وإني خائفٌ عَمْرا ألا وإني خائف عَمْرا شكاية لك إلى ربِّه جَهراً وأنت عن يمين أبي حُذيفة أقر بنا إليه وفد يلغني كبير ما حمّلته نفسَك وقَلّدته عنقك من تَفسير التنزيل وعبارة التأويل ثم نظرتُ في كتبك وما أدّته إلينا روايتك من تنقيص المعاني وتفريق المَباني فدلَت شكاية الحسن عليك بالتَّحقيق بظهور ما ابتَدَعت وعظيم ما تحمَّلت فلا يَغْرْرك " أي أخي " تَدْبيرُ مَن حولك وتعظيمهم طولَك وخَفضهم أعينهم عنك إجلالاً لك غداً والله تمضي الخُيلاء والتفاخر وتُجْزى كلّ نَفْس بما تَسعى ولم يكُن كتابي إليك وتَجليبي عليك إلا لتَذْكيرك بحديث الحسن رحمه اللهّ وهو آخر حَديث حدّثناه فأَدِّ المَسموع وانطق
باب من أخبار الخوارج
لما خرجت الخوارجُ عَلَى عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وكانوا من أصحابه وكان مِن أمر الحَكمين ما كان واختِداع عمرو لأبي مُوسى " الأشعريّ " قالوا: لا حُكْم إلا للهّ.
فلما سمع عليٌ رضي اللهّ عنه نِداءهم قال: كلمة حق يراد بها باطل وإنما مَذْهبهم أن لا يكون أمير ولا بُدَ من أمير بَرًّا كان أو فاجرًا.
وقالوا لعليّ: شككتَ في أمرك وحكَّمت عدوّك في نَفْسك.
وخرجوا إلى حَرُوراء وخرج إليهم عليٌّ رضي الله عنه فخَطَبهم متوكِّئاً على قوْسه وقال: هذا مَقام مَن أفلح فيه أَفلح يومَ القيامة أنْشُدكم اللهّ هل عَلِمتم أنّ أحداً كان أكرَه للحكومة منِّي قالوا: اللهم لا " قال: أفعلتم أنكم أكرهتموني عليها حتِى قبِلْتُها قالوا: اللهم نعم " قال: فعلامَ خالفتُموني ونابذتموني قالوا: إنَّا أتينا ذنباَ عظيما فتُبْنا إلى اللهّ منه فتُب إلى اللهّ منه واْستغفره نُعدْ إليك.
فقال عليٌ: إني أستغفر الله من كلّ ذنب فرَجَعوا معه وهم في ستّة آلاف.
فلما استقرُّوا بالكوفة أشاعُوا أن عليَاً رَجع عن التحكيم وتاب منه ورآه ضلالاً.
فأتى الأشعثُ بن قيس عليَاً رضي اللهّ عنه فقال: يا أمير المؤمنين إنّ الناس قد تحدثوا أنك رأيتَ الحكومة ضلالاً والإقامة عليها كُفْراً وتُبْت.
فخطب عليٌ الناس فقال: مَن زَعم أني رجعتُ عن الحكومة فقد كذَب ومَن رآها ضلالاً فهو أضلّ منها.
فخرجت الخوارج من المسجد فحكّمت فقيل لعليّ: إنهم خارجون " عليك " فقال: لا أقاتلهم حتى يقاتلوني وسيَفعلون.
فوَجّه إليهمٍ عبدَ الله بن العبّاس فلما سار إليهم رحَّبوا به وأكرموه فرأى لهم جباهًا قَرِحة لطول السجود وأيديًا كثَفِنات الإبل وعليهم قمُص مُرْحَضة وهم مُشمِّرُون فقالوا: ما جاء بك يا بن عبّاس قال: جِئتكم من عند صِهر رسول الله ﷺ وابن عمه وأَعْلمنا برّبه وسنة نبيّه ومن عند المهاجرين والأنصار فقالوا: إنا أتينا عظيماَ حين حَكّمنا الرجالَ في دين الله فإن تاب كما تُبْنا ونهض لمًجَاهدة عدوّنا رَجعنا.
فقال ابن عبّاس: نَشدتكم الله إلا ما صَدَقتم أنفسَكم أمَا عَلمتم أنَّ الله أمر بتَحْكيم الرِّجال في أَرْنب تُساوي رُبع درْهم تًصَاد في الحَرَم وفي شِقاق رجل وامرأته فقالوا: اللهم نعم قال: فأنشُدكم الله هل علمتم أن رسول الله ﷺ أمْسك عن القِتال للهُدنة بينه وبين أهل الحُدَيبية قالوا: نعم ولكن عليًّا مَحا نفسَه من خِلافة المسلمين قال ابن عبّاس: ليس ذلك يُزِيلها عنه وقد مَحا رسول الله ﷺ " اسمه " من النبوَّة وقال سُهَيل بن عمرو: لو عَلمتُ أنك رسول الله ما حاربتُك فقال للكاتب: اكتُب: محمد بن عبد الله.
وقد أخذ على الحَكَمين أن لا يَجُورا " وإِن يَجُورا " فعليٌّ أوْلى من مُعاوية وغيره قالوا: إنّ مُعاويةَ يدَّعي مثلَ دعوى عليّ قال فأيُّهما رأيتُموه أوْلى فولُوه قالوا: صدقتَ.
قال ابن عباس: ومتى جار الحَكَمان فلا طاعة لهما ولا قَبُول لقولهما.
فاتَّبعه منهم ألفان وبَقي أربعة آلاف.
فصلّى بهم صلاتَهُم ابن الكَوّاء وقال: متى كانت حرب فرئيسُكم شَبَث بن رِبْعِيّ الرِّياحي.
فلم يَزالوا على ذلك حتى أجْمعوا على البَيعة لعَبد الله بن وَهْب الرَّاسبيّ فخرج بهم إلى النَّهروان فأوْقع بهم عليّ فقَتل منهم ألفين وثمانمائة وكان عددُهم ستةَ آلاف وكان منهم بالكوفة زُهاء ألفين ممن يُسِرّ أمره فخرج منهم رجلٌ بعد أن قال عليٌّ رضي اللهّ عنه: ارجعوا وادفعوا إلينا قاتلَ عبد الله بن خَبّاب قالوا: كلّنا قَتله وشرك في دَمه وذلك أنهمٍ لما خرجوا إلى النَّهْروان لقُوا مُسْلمًا ونَصرانيا فقتلوا المُسْلم وأوْصَو! بالنصرانيّ خَيرا وقالوا: احفظًوا ذمّة نبيّكم.
ولقُوا عبدَ الله بن خبّاب وفي عُنقه المُصحف ومعه امرأته وهي حامل فقالوا: إنّ هذا الذي في عنقك يأمرنا بقَتلك فقال لهم: أحْيوا ما أحْيا القُرآن وأميتوا ما أمات القرآن قالوا: حَدِّثنا عن أبيك قال: حدَّثني أبي قال: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: تكون فتنة يموت فيها قلبُ الرجل كما يموت بدنه يمسى مؤمناً ويُصبح كافرًا فكُن عبدَ اللهّ المقتول ولا تكن عبدَ اللهّ القاتلَ قالوا: فما تَقول في أبي بكر وعمر فأثنى خيراً " قالوا: فما تقول في عليّ قبل التحكيم وفي عثمان فأثنى خيراً " قالوا: فما تقول في الحكومة والتحكيم قال: أقول: إنَّ عليًّا أعلمُ بكتاب اللهّ منكم وأشد تَوقِّيا على دينه وأبعد بصيرةً قالوا: إنك لستَ تتَّيع الهدى بل الرجالَ على أسمائها ثم قَرَّبوه إلى شاطئ البَحر فذَبحوه فا مذَقَرَّ دمُه أي جَرى مستقيماً على دقة وسامُوا رجلاً نَصْرانيا بنَخْلة فقال: هي لكم هِبَة قالوا: ما كُنَّا نأخذها إلا بثَمن فقال: ما أَعجبَ هذا! أتقتلون مثلَ عبد الله بن خبّاب ولا تَقبلون منا " جنَى " نخْلة إلا بثَمن! ثم افترقت الخوارج على أربعة أضرب: الإباضية أصحاب عبد اللهّ بن إباض والصُّفرية واختلفوا في نَسبهم فقال قوم: سُمُّوا بابن الصفار وقال قوم: نهكتهم العبادة فاصفرّت وجوهُهم ومنهم البَيْهسية وهم أصحاب ابن بَيْهس ومنهم الأزارقة أصحاب نافع بن الأزرق الحنفي وكانوا قبلُ على رَأْيٍ واحد لا يختلفون إلا في الشيء الشاذّ.
فبلغهم خروج مُسلم بن عُقبة إلى المدينة وقَتْلُهُ أَهلَ حَرَّة وأنه مُقبل إلى مكة فقالوا: يجب علينا أن نمنعَ حَرَم الله منهم ونمْتَحن ابن الزبير فإن كان على رأينا تابعناه.
فلما صاروا إلى ابن الزبير عرَّفوه أنفسهم وما قَدِموا له فأظهر لهم أنه على رأْيهم حتى أتاهم مُسلم بن عُقبة وأهل الشام فدافعوه إلى أن يأتي رأْيُ يزيدَ بنِ مُعاوية ولم يُتابعوا ابن الزُّبير ثم تناظَروا فيما بينهم فقالوا: نَدخل إلى هذا الرجل فنْظر ما عنده فإن قَدّم أبا بكر وعمر وبَرِىء من عُثمان وعليّ وكَفر أباه وطَلْحة بايعناه وإن تكُن الأخرى ظَهر لنا ما عنده وتَشاغلنا بما يجديِ علينا.
فدخلوا على ابن الزًّبير وهو مُتَبذل وأصحابه مُتفرقون عنه فقالوا له: إنَا جِئناك لتُخْبرنا رأْيَكَ فإن كنتَ على صواب بايعناك وإن كنتَ على خلافة دَعَوْناك إلى الحق ما تقولُ في الشَّيخين قال: خيرًا قالوا: فما تقول في عُثمان الذي حَمَى الحِمَى وآوى الطَّريد وأظهر لأهل مِصرْ شيئاً وكَتب بخلافه وأوطأ آلَ بني مُعيط رِقابَ الناس وآثرهم بَفيْء المُسلمين وفي الذي بعده الذي حكّم " في دين الله " الرجالَ وأقام على ذلك عيرَ تائب ولا نادم وفي أبيك وصاحبه وقد بايعا عليًّا وهو إمام عادل مَرْضي لم يَظْهر منه كُفر ثم نكَثَا بَيْعته وأخرجا عائشة تُقاتل وقد أمرها الله وصَواحبَها أن يَقرنْ في بُيوتهن وكان لك في ذلك ما يَدْعوك إلى التَّوْبة فإن أنتَ قبِلت كلّ ما نقول " لك " فلك الزُّلفي عند اللهّ والنصر على أيدينا إن شاء الله ونَسألُ الله لك التوفيقَ وإن أبَيتَ خَذلك الله والنصر منك بأيدينا.
فقال ابن الزبير: إنّ الله أمر وله العِزّة والقُدرة في مخاطبة أكْفر الكافرين وأَعتَى العانين بأَرقَّ من هذا القول فقال لموسى وأخيه صلى الله عليهما: " اذهبا إلى فِرْعَوْنَ إنِّهُ طَغَى فقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعًلّهُ يَتذكَّر أَوْ يَخْشىَ ".
وقال رسول الله ﷺ: " لا تُؤذوا الأحياء بسَبّ المَوْتىَ ".
فنهى عن سبّ أبي جَهل من أجل عِكْرمة ابنه وأبو جهل عدوّ الله وعدوّ رسوله والمُقيم على الشِّرك والجادّ في محاربة رسول الله ﷺ قَبل الهجرة والمُحارب له بعدَها وكفي بالشِّرك ذَنْبًا وقد كان يُغْنيكم عن هذا القول الذي سمَّيتم فيه طلحة وأَبي أن تقُولُوا: أتَبرأ من الظالمين فإن كانا منهم دخَلا في غُمَار الناس وإن لم يكونا منهم لم تُحْفِظوني بسبّ أبي وصاحبه وأنتم تَعلمون أنّ اللهّ جلّ وعزّ قال للمُؤْمن في أبويه: " وَإنْ جاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصاحِبْهُمَا في الدًّنْيَا مَعْرًوفاً ".
وقال: " وَقُولُوا للَنَّاس حُسْنًا ".
وهذا الذي دعوتُم إليه أمرٌ له ما بعده وليس يُقْنعكم إلا التَّوقيف والتَّصْريح ولَعَمْري إنّ ذلك أحرَى بِقَطْع الْحجج وأَوْضَح لمنهاج الحقّ وأوْلَى بأن يَعرف كلٌّ صاحبَه من عدوِّه فَرُوحوا إليَّ من عَشِيَّتكم هذه أكْشف لكم ما أنا عليه إن شاء الله تعالى.
فلمَّا كان العشي راحُوا إليه فخَرج إليهم وقد لبِس سلاحه فلما رأى ذلك نَجْدةُ قال: هذا خُروج منا بذلكم فجلس على رَفَع من الأرض فحمد الله وأثنى عليه وصلىّ على نبيّه ثم ذكراً أبا بكر وعُمر أحسنَ ذِكْر ثم ذكر عُثمان في السِّنين الأوائل من خِلافته ثم وصلهنّ بالسّنين التي أنكروا سِيرتَه فيها فجعلها كالماضية وأخبر أنه آوى الحَكَم بن أبي العاصي بإذن رسول الله ﷺ وذَكر الحِمَى ومما كان فيه من الصَّلاح وأن القومَ آستعتبوه " من أمور " ما كان له أن يَفعلها أوّلاً مصيِبِا ثم أعتبهم بعد ذلك مُحسناً وأن أهل مصر لما أتوه بكتاب ذكروا أنه منه بعد أن ضمِن لهم العُتْبى ثم كُتب ذلك الكتابُ بقَتْلهم فدَفعوا الكتابَ إليه فَحَلف بالله أنه لم يكتبه ولم يأْمر به وقد أَمر الله عزّ وجلّ بقبول اليمين ممَّن ليس له مثل سابقته مع ما اجتَمع له من صِهْر رسول الله ﷺ ومكانه " من " الإمامة وأنّ بَيعة الرِّضوان تحت الشجرة إنما كانت بِسبَبه وعثمان الرجل الذي لَزِمَتْه يمينٌ لو حَلَف عليها لَحَلَف على حقّ فافتَدَاها بمائة ألف ولم يَحْلِف وقد قال رسول الله ﷺ جميع: " مَن حَلَف بالله فلْيَصدُق ومن حُلِف له بالله فليقْبل ".
وعُثمان أمير المؤمنين " كصاحبيه " وأنا وليّ وليّه وعدوّ عدوّه وأبي وصاحبه صاحبَا رسول الله ﷺ " ورسول الله " يقول " عن الله " عزّ وجلّ يومَ أُحد لما قُطعت إصْبع طَلْحَة: " سَبَقته إلى الجنة ".
وقال: " أوْجب طلحة ".
وكان الصِّديق إذا ذُكر يومَ أُحد قال: ذلك يوم كلّه " أو جُلّه " لطلحة.
والزُّبير حواريَ رسول الله ﷺ وصَفْوته وقد ذكر أنه في الجنّة وقال عزّ وجلّ: " لَقَدْ رَضيَ الله عَنِ المؤمنينَ إذْ يُبَايعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَة ".
وما أخبرَنا بعدُ أنه سَخِط عليهم وإن يكن ما صَنعوا حقًّا فأهل ذلك هم وإن يكن زلّة ففي عَفو الله تَمحِيصُها وفيما وَفَّقهم له من السابقة مع نبيّهم ﷺ ومهما ذَكَرتموهما به فقد بَدَأْتم بأًمِّكم عائشة فإن أبَى آبٍ أن تكون له أمًّا نَبَذ اسم الإيمان عنه وقد قال جلّ ذِكْره: " النَّبِيُّ أَوْلَى باْلمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِم وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ".
فنظر بعضهم إلى بعض ثم انصرفوا عنه.
وكتب بعد ذلك نافعُ بن الأزرق إلى عبد الله بن الزُّبير يَدْعوه إلى أمره: أمّا بعد فإني أحذِّرك من الله يومَ تَجد كلُّ نفس ما عَمِلَت من خَيْر مُحْضَرًا وما عَمِلَت من سُوء توَدّ لو أنّ بينها وبَينه أَمدًا بعيداً " ويُحَذِّركم الله نفسه ".
فاتّق الله ربَّك ولا تَتَوَلّ الظالمين فإنّ الله يقول: " وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنّهُ مِنْهُمْ ".
وقال: لا يَتَّخِذ المُؤْمِنون الكافِرِينَ أوْليَاءَ مِنْ دونِ المُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْس مِنَ الله في شيَء ".
وقد حضرتُ عثمانَ يومَ قُتِل فَلَعمري لئن كان قُتل مظلومًا لقد كفر قاتلوه وخاذِلُوه وإن كان قاتلوه مُهْتدين وإنهم لمُهْتدون لقد كفَر مَن تولاّه ونصرَه.
ولقد علمتَ أنّ أباك وطَلْحة وعليّاً كانوا أشدَّ الناس عليه وكانوا في أمره بين قاتل وخاذِل وأنت تتولى أباك وطلحة وعثمان فكيف ولاية قاتل مُتَعَمِّد ومَقتول في دين واحد ولقد ملك علىّ بعده فَنَفي الشُّبهات وأقام الحُدود وأَجْرى الأحكام مجاريها وأَعطى الأمور حقّها فيما عليه وله فبايَعه أبوك وطَلْحة ثم خَلعا بَيْعته ظالمين له وإن القَول فيك وفيهما لكما قال ابنُ عباس رحمه الله: إن يكُن علِيّ في وقت مَعْصِيتكم ومُحاربتكم له كان مؤمنَاَ لقد كفَرتم بقتال المؤمنين وائمة العَدْل وإن كان كافراً كما زَعمتم وفي الحُكم جائراً فقد بُؤْتم بغضب من الله لفراركم من الزَّحف.
ولقد كنتَ له عدوًّا ولسيرته عائباً فكيف توليته بعد مَوته.
وكتب نجدةُ وكان من الصُّفرية القَعَديّة إلى نافع بن الأزرق لما بلغه عنه استعراضُه للناس وقَتْله الأطفال واستحلاله الأمانة: بسم اللهّ الرحمن الرحيم ﷺ أمّا بعد فإنّ عَهْدي بك وأنت لليتيم كالأب الرَّحيم وللضعيف كالأخ البَرّ لا تأخذك في الله لومةُ لائم ولا ترى معونة ظالم " كذلك كنتَ أنت وأصحابك أما تذكر قولَكَ: لولا أني أعلمِ أنّ للإمام العاذل مِثلَ أجر جميع رعيّته ما تولّيت أمر رجلين من المسلمين " فلما شَرَيْتَ نفسك في طاعة ربّك ابتغاءَ رضوانه وأصبتَ من الحق فصَّه " وركبتَ مُرَّة " تَجَرّد لك الشيطانُ فلم يكن أحدٌ أثقلَ وطأةً عليه منك ومن أصحابك فاستمالك واستغواك فعَوِيتَ وأكفرت الذين عَذرهم الله في كتابه من قَعَدة المسلمين وَضعفتهمِ فقال جلَّ ثناؤه وقوله الحق ووعدُه الصِّدق: " لَيْسَ عَلَى الضعفاءِ وَلاَ على المَرْضى وَلا عَلَى الذينَ لا يَجدُونَ مَا يُنْفِقونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لله وَرَسُوله " ثم سمَّاهم أحسنَ الأسماء فقال: " مَا عَلَى المحسِنِينَ مِنْ سَبِيل ".
ثم استحللت قتلَ الأطفال وقد نَهى رسولُ الله ﷺ عن قَتْلهم وقال جلَّ ثناؤه: " وَلاَ تَزِرً وَازِرَةٌ وِزْرَ أًخْرَى ".
وقال في القَعَد خيراً وفَضّل الله من جاهد عليهم ولا يدفع منزلةُ أكثر الناس عملاً منزلةَ مَن هو دُونه إلا إذا اشتركا في أصلٍ أو ما سمعتَ قوله تبارك وتعالى: " لا يَسْتَوِى القَاعِدُون مِن المؤمِنين غيرُ أولَي الضّرَرِ والمُجَاهِدُونَ في سَبِيل الله " فجعلهم الله من المؤمنين وفَضّل عليهم المَجاهدين بأعمالهم ورأيتَ من رأيك أن لا تؤَدِّي الأمانة إلى مَن يُخالفك والله يأمرك أن تؤدي الأماناتِ إلى أهلها فإتق الله وانظُرْ لنفسك واتَّقَ يومًا لا يجزى والدٌ عن ولده ولا مَوْلود هو جازٍ عن والده شيئاً فإن الله بالمِرْصاد وحُكمه العدل وقوله الفصل والسلام.
فكتب إليه نافعُ بن الأزرق: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد: فقد أتاني كتابُك تَعِظُني فيه وتُذكِّرني وتَنصحُ لي وتزجرُني وتصِفُ ما كنتُ عليه من الحق وما كنتُ أُوثرهُ من الصواب وأنا أسألُ الله أن يجعلني من الذين يَسْتمعون القولَ فيتبعون أحسنه.
وعِبْتَ على ما دِنْتُ به من إكفار القَعد وقَتل الأطْفال واستحلال الأمانة وسأفسِّر لك " لِمَ " ذلك إن شاء الله: أما هؤلاء القَعد فليسوا كمن ذكرتَ ممن كان بِعَهْد رسول الله ﷺ لأنهم كانوا بمكة مَقْهورين مَحْصورين لا يجدون إلى الهرب سَبيلاً ولا إلى الاتصال بالمُسلمين طريقاً وهؤلاء قد فَقُهوا في الدين وقرءوا القرآن والطريقُ لهم نَهَج واضح وقد عرفتَ ما يقول الله فيمن كان مِثْلهم إذ قال: " إنَّ الّذَينَ تَوَفَّاهُمُ الملائِكةُ ظالمي أنْفُسِهِم قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ.
قَالوا كنا مُسْتَضْعَفينَ فيِ الأرْض.
قالوا أَلم تَكُنْ أرضُ الله وَاسعةَ فتُهاجرُوا فيها ".
وقال: فَرحَ المُخَلَّفُون بمقعدهم خِلاف رسول الله وقال: " وَجَاء الْمُعَذِّرًونَ مِنَ الأعرابِ لِيُؤْذَن لَهُمْ.
وَقَعَد الّذِين كَذَبُوا الله وَرَسُولَه " " فخبَّر بتَعْذِيرهم وأنهم كذبوا الله ورسولَه ".
وقال: " سَيُصِيبُ الذينَ كَفَروا منهُمْ عَذابٌ أَليم " فانظر إلى أسمائهم وسِمَاتهم.
وأما أمر الأطفال فإنّ نبيّ الله نُوحًا كان أَعرفَ باللهّ يا نَجْدةُ منّي ومنك قال: " رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرْض منَ الكافِرينَ دَيَّارًا.
إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إلاَّ فَاجِراً كَفَّارًا " فسماهم بالكفر وهم أطفال وقبل أن يُولَدُوا فكيف جاز ذلك في قوم نُوح ولا يجوز في قومنا والله يقول: " أَكُفَّارُكم خَيْرٌ مِنْ أولَئِكُم أَمْ لَكُم بَرَاءَةٌ في الزُّبُر ".
وهؤلاء كمشركي العرب لا تُقْبل منهم جِزْية وليس بيننا وبينهم إلا السيف أو الإسلام.
وأما استحلال الأمانات ممَّن خالفنا فإن الله عز وجلَّ أحلَّ لنا أموالهم كما أحل لنا دماءَهم فدماؤهم حَلال طِلْق وأموالهُم فَيْء للمُسْلمين فاتَّق اللهّ وراجِع نفسك فإنه لا عُذْر لك إلا بالتوبة ولا يَسَعك خِذْلانُنا والقُعود دوننا " وتَرْك ما نهجناه لك من طريقتنا ومقالتنا " والسلام على مَن أَقرَّ بالحق وعمل به.
وكان مِرْداس أبو بلال من الخوارج وكان مُستتراَ فلما رأى جِدَّ ابن زياد في قَتْل الخوارج وحَبْسهم قال لأصحابه: إنه واللهّ لا يَسعنا المُقام بين هؤلاء الظالمين تَجْري علينا أحكامُهم! مُجانبين للعدل مفارقين للعقل والله إنّ الصبرَ على هذا لَعَظيم وإنّ تَجريد السيف وإخافةَ السبيل لعظيم ولكنّا لا نَبْتدئهم ولا نُجرِّد سيفاً ولا نُقاتل إلا مَن قاتلنا.
فاجتمعِ عليه أصحابُه وهم ثلاثون رجلاً فأرادوا أن يُولّوا أمرَهم حُرَيث بن حَجْل فأبى فولّوا أمرَهم مِرداساً أبا بلال.
فلما مضى بأصحابه لَقِيه عبدُ الله بن رَبَاح الأنْصاري وكان له صديقاَ فقال له: يا أخي أين تُريد قال: أريد أن أهْرُب بديني ودين أصحابي هؤلاء من أَحكام هؤلاء الجَوَرة والظَّلمَة فقال له: أَعَلِم بكم أحد قال: لا قال: فارجع قال أَوَ تخاف عليّ مكروهاً قال: نعم " وأن يُؤْتى بك " قال: فلا تَخَف فإنّي لا أجرِّد سيفاً ولا أخيف أحَداً ولا أقاتل إلا مَن قاتلني.
ثم مَضى حتى نزل آسَك وهوِ مَوْضع دون خُراسان فمرّ به مالٌ يُحمل إلى ابن زِيَاد وقد بلغ أصحابُه أربعين رجلاَ فحطَّ ذلك المالَ وأخذ منه عطاءَه وأعْطيات أصحابه وردّ الباقي على الرُّسل فقال: قُولوا لصاحبكم إنّا قبضنا أعطياتِنا فقال بعضُ أصحابه: فعلامَ نَدع الباقي فقال: إنّهم يَقْسمون هذا الفَيْء كما يُقيمون الصلاة فلا نقاتلهم.
ولأبي بلال مِرْداس هذا أشعارٌ في الخُروجِ منها قولُه: أبعدَ ابن وَهْب ذي النزاهة والتُّقىِ ومن خاضَ في تلك الحُروب المَهالِكَا أحِبّ بقاءً أو أُرَجِّي سَلامةً وقد قَتلوا زيدَ بن حِصْنٍ ومالكا فيا رَبِّ سَلِّمْ نِيّتي وبَصيرتي وهَبْ لي التّقَى حتى ألاقِي أولئكا وقالوا: إنََّ رجلا من أصحاب زياد قال: خرجنا في جَيْش نُريد خُراسان فمرَرْنا بآسَك فإذا نحن بمرْداس وأصحابه وهم أربعون رجلاً فقال: أقاصدُون لقتالنا أنتم قُلْنا: لا إنما نريد خُراسان قال: فأبْلِغوا مَن لَقِيتم أنَّا لم نَخْرج لنُفْسد في الأرض ولا لنُروِّع أحداً ولكن هَرَبنا من الظُّلم ولَسْنا نُقاتل إلا مَن قاتَلنا ولا نأخذ من الفَيْء إلا أعطياتنا ثم قال: أَنُدِب لنا أحد فقُلْنا: نعم أسْلَم بن زُرْعة الكلابيّ قال: فمتى تَرَوْنه يَصلُ إلينا قُلنا له: يومَ كذا وكذا فقال أبو بلال: حَسْبنا الله ونعم الوكيل.
ونَدَب عُبيد الله بن زياد أسلم بن زُرعة الكِلاَبيّ ووجّهه إليهم فيِ ألفين فلما صار إليهم صاح به أبو بلال: اتق الله يا أسلم فإنا لا نُريد قتالا ولا نحْتجز مالا فما الذي تُريد قال: أريد أن أردَّكم إلى ابن زياد قال: إذاً يقتلنا قال: وإنْ قَتلكم قال: أفَتَشْركه في دمائنا قال: نعم إنه مُحق وأنتم مُبْطلون قال أبو بلال: وكيف هو مُحق وهو فاجر يُطيع الظَّلمة.
ثم حَملوا عليه حملةَ رجل واحد فانهزم هو وأصحابه.