وأنشد الأصمعي: لما أتيت الحي في متنه كأن عرجوناً بمثنى يدي أقبل يختال على شأوه يضرب في الأقرب والأبعد كأنه سكران أو عابس أو ابن رب حدث المولد وقال غيره: أما إذا استقبلته فكأنه جذع سما فوق النخيل مشذب وإذا اعترضت له استوت أقطاره وكأنه - مستدبراً - متصوب وقال ابن المعتز: وقد يحضر الهيجاء بي شنج النسا تكامل في أسنانه فهو قارح له عنق يغتال طول عنانه وصدر إذا أعطيته الجري سابح إذا مال عن أعطافه قلت شارب عناه بتصرف المدامة طافح وقال أيضاً: ولقد وطئت الغيث يحملني طرف كلون الصبح حين وقد يمشي فيعرض في العنان كما صدف المعشق ذو الدلال وصد الحلبة والرهان والحلبة: مجمع الخيل. ويقال: مجتمع الخيل. ويقال: مجتمع الناس للرهان. وهو من قولك: حلب بنو فلان على بني فلان وأحلبوا إذا اجتمعوا. ويقال منه: حلب الحالب اللبن في القدح أي جمعه فيه. والمقوس: الحبل الذي يمد في صدور الخيل عند الإرسال للسباق. والمنصبة: الخيل حين تنصب للإرسال. وأصل الرهان من الرهن لأن الرجل يراهن يصاحبه في المسابقة يضع هذا رهناً وهذا رهناً فأيهما سبق فرسه أخذ رهنه ورهن صاحبه. والرهان: مصدر راهنته مراهنة ورهاناً كما تقول: قاتلته مقاتلة وقتالاً. وهذا كان من أمر الجاهلية وهو القمار المنهي عنه فإن كان الرهن من أحدهما بشيء مسمى على أنه إن سبق لم يكن له شيء وإن سبقه صاحبه أخذ الرهن فهذا حلال لأن الرهن إنما هو من أحدهما دون الآخر. وكذلك إن جعل كل واحد منهما رهناً وأدخلا بينهما محللاً وهو فرس ثالث يكون مع الأولين ويسمى أيضاً الدخيل ولا يجعل لصاحب الثالث شيء ثم يرسلون الأفراس الثلاثة فإن سبق أحد الأولين أخذ رهنه ورهن صاحبه فكان له طيباً وإن سبق الدخيل أخذ الرهنين معاً وإن سبق هو لم يكن عليه شيء. ولا يكون الدخيل إلا رائعاً جواداً لا يأمنان أن يسبقهما وإلا فهذا قمار لأنهما كأنهما لم يدخلا بينهما محللاً. قال الأصمعي: السابق من الخيل: الأول والمصلي: الثاني الذي يتلوه. قال: وإنما قيل له مصل لأنه يكون عند صلوي السابق وهما جانبا ذنبه عن يمينه وشماله. ثم الثالث والرابع لا اسم لواحد منهما إلى العاشر فإنه يسمى سكيتاً. قال أبو عبيدة: لم نسمع في سوابق الخيل ممن يوثق بعلمه اسما لشيء منها إلا الثاني والعاشر فإن الثاني اسمه المصلي والعاشر السكيت وما سوى ذينك يقال: الثالث والرابع وكذلك إلى التاسع ثم السكيت. ويقال السكيت بالتشديد والتخفيف. فما جاء بعد ذلك لم يعتد به. والفسكل بالكسر: الذي يجيء آخر الليل والعامة تسميه الفسكل بالضم. وقال أبو عبيدة: القاشور: الذي يجيء في الحلبة آخر الخيل وهو الفسكل وإنما قيل للسكيت سكيت لأنه آخر العدد الذي يقف العاد عليه. والسكت: الوقوف. هكذا كانوا يقولون فأما اليوم فقد غيروا. وكان من شأنهم أن يمسحوا على وجه السابق قال جرير: إذا شئتم أن تمسحوا وجه سابق جواد فمدوا في الرهان عنانيا ومن قولنا في هذا المعنى: خلوا عناني في الرهان ومسحوا مني بغرة أبلق مشهور وصف السلاح كانت درع علي صدراً لا ظهر لها. فقيل له في ذلك. فقال: إذا استمكن دعوي من ظهري فلا يبقي. ورئي الجراح بن عبد الله قد ظاهر بين درعين. فقيل له في ذلك. فقال: لست أقي بدني وإنما أقي صبري. واشترى زيد بن حاتم أدراعاً وقال: إني لست أشتري أدراعاً وإنما أشتري أعماراً. وقال حبيب بن المهلب لبنيه لا يقعدن أحدكم في السوق فإن كنتم لا بد فاعلين فإلى زراد أو سراج أو وراق. العتبي قال: بعث عمر بن الخطاب إلى عمرو بن معد يكرب أن يبعث إليه بسيفه المعروف بالصمصامة. فبعث به إليه. فلما ضرب به وجده دون ما كان يبلغه عنه فكتب إليه في ذلك. فرد عليه: إنما بعثت إلى أمير المؤمنين بالسيف ولم أبعث إليه بالساعد الذي يضرب به. وسأله عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوماً عن السلام: فقال: يسأل أمير المؤمنين عما بدا له قال: ما تقول في الترس قال: هو المجن الدائر. وعليه تدور الدوائر. قال: فما تقول في الرمح قال: أخوك وربما خانك فانقصف. قال: فالنبل قال: منايا تخطئ وتصيب. قال: فما تقول في الدرع قال: مثقلة للراجل متعبة للفارس وإنها الحصن الحصين. قال فما تقول في السيف قال: هناك لا أم لك يا أمير المؤمنين. فضربه عمر بالدرة وقال: بل لا أم لك. قال: الحمى أضرعتني لك. الهيثم بن عدي قال: وصف سيف عمرو بن معد يكرب الذي يقال له الصمصامة لموسى الهادي. فدعا به فوضع بين يديه مجرداً ثم قال لحاجبه: إيذن للشعراء. فلما دخلوا أمرهم أن يقولوا فيه. فبدرهم ابن يامين فقال: حاز صمصامة الزبيدي عمرو من جميع الأنام مواسي الأمين سيف عمرو وكان فيما سمعنا خبر ما أغمدت عليه الجفون أخضر المتن بين حديه نور من فرند تمتد فيه العيون أوقدت فوقه الصواعق ناراً ثم شابت به الذعاف القيون فإذا ما سللته بهر الشم س فلم تكد تستبين فكائن الفرند والرونق الجا ري في صفحتيه ماء معين نعم مخراق ذي الحفيظة في الهي جاء يسطو به أم يمين فأمر له ببدرة وخرجوا. وضرب الزبير بن العوام يوم الخندق عثمان بن عبد الله بن المغيرة فقطه إلى القربوس. فقالوا: ما أجود سيفك! فغضب. يريد أن العمل ليده لا لسيفه. وقال: متى تلقني يعدو ببزي مقلص كميت بهيم أو أغر محجل تلاق أمراً إن تلقه فبسيفه تعلمك الأيام ما كنت تجهل وقال أبو الشيص: ختلته المنون بعد اختيال بين صفين من قناً ونصال في رداء من الصفيح صقيل وقميص من الحديد مذال وبلغ أبا الأغر التميمي أن أصحابه بالبادية قد وقع بينهم شر فوجه إليهم ابنه الأغر وقال: يا بني كن يداً لأصحابك على من قاتلهم وإياك والسيف فإنه ظل الموت واتق الرمح فإنه رشاء المنية ولا تقرب السهام فإنها رسل لا تؤامر مرسلها. قال: فبماذا أقاتل قال: بما قال الشاعر: جلاميد يملأن الأكف كأنها رءوس رجال حلقت في المواسم أقبلت الفحول تمشي مشي الوعول فلما تصافحوا بالسيوف فغرت المنايا أفواهها. وقال آخر يذكر قوماً أسروا: استنزلوهم عن الجياد بلينة الخرصان ونزعوهم نزع الدلاء بالاشطان. وقال أعرابي في آخرين ابتغوا قوما أغاروا عليهم: احتثوا كل جمالية عيرانة كيما يخصفون أخفاف المطي بحوافر الخيل. حتى أدركوهم بعد ثالثة فجعلوا المران أرشية المنايا فاستقوا بها أرواحهم. ومن أحسن ما قيل في السيف قول حبيب: ونبهن مثل السيف لو لم تسله يدان لسلته ظباه من الغمد وقال في صفة الرماح: مثقفات سلبن الروم زرقتها والعرب سمرتها والعاشق القضفا ومن الإفراط القبيح قول النابغة في وصف السيف: يقد السلوقي المضاعف نسجه ويوقد في الصفاح نار الحباحب فذكر أنه يقد الدرع المضاعف نسجها والفارس والفرس ويقع بها في الأرض فيقدح النار من الحجارة. تظل تحفر عنه إن ضرب به بعد الذراعين والساقين والهادي وقد جمع العلوي وصف الخيل والسلاح كله فأحسن وجود حيث يقول: بحسبي من مالي من الخيل أعيط سليم الشطي عاري النواهق أمعط وأبيض من ماء الحديد مهند وأسمر عسال الكعوب عنطنط وبيضاء كالضحضاح زعف مفاضة يكفتها عني نجاد مخطط ومعطوفة الأطراف كبداء سمحة منفجة الأعضاد صفراء شوحط فيا ليت مالي غير ما قد جمعته على لجة تيارها يتغطغط ويا ليتني أمسي على الدهر ليلة وليس على نفسي أمير مسلط ومن قولنا في وصف الرمح والسيف: بكل رديني كأن سنانه شهاب بدا في ظلمة الليل ساطع تقاصرت الآجال في طول متنه وعادت به الآمال وهي فجائع وساءت ظنون الحرب في حسن ظنه فهن ظبات للقلوب قوارع وذي شطب تقضي المنايا بحكمه وليس لما تقضي المنية دافع إذا ما التقت أمثاله في وقيعة هنالك ظن النفس بالنفس واقع ومن قولنا في وصف السيف: بكل مأثور على متنه مثل مدب النمل بالقاع يرتد طرف العين من حده عن كوكب للموت لماع وقال إسحاق بن خلف البهراني في صفة السيف: ألقى بجانب خصره أمضى من الأجل المتاح وكأنما ذر الهبا ء عليه أنفاس الرياح ومن جيد صفات السيف قول الغنوي: حسام غداة الروع ماض كأنه من الله في قبض النفوس رسول كأن على إفرنده موج لجة تقاصر في ضحضاحه وتطول كأن جيوش الذركسرن فوقه قرون جراد بينهن ذحول النزع بالقوس إبراهيم الشيباني قال: كان رجل من أهل الكوفة قد بلغه عن رجل من أهل السلطان أنه يعرض ضيعة له بواسط في مغرم لزمه للخليفة فحمل وكيلاً له على بغل وأترع له خرجاً بدنانير وقال له: اذهب إلى واسط فاشتر هذه الضيعة المعروضة فإن كفاك ما في هذا الخرج وإلا فاكتب إلي أمدك بالمال. فخرج فلما أصحر عن البيوت لحق به أعرابي راكب على حمار معه قوس وكنانة فقال له: إلى أين تتوجه فقال: إلى واسط. قال: فهل لك في الصحبة قال: نعم. فسارا حتى فوزا فعنت لهما ظباء فقال له الأعرابي: أي هذه الظباء أحب إليك المتقدم منها أم المتأخر فأزكيه لك قال له: المتقدم. فرماه فخرمه بالسهم فاقتنصه فاشتويا وأكلا. فاغتبط الرجل بصحبة الأعرابي. ثم عنت لهما زفة قطا فقال: أيها تريد فأصرعها لك فأشار إلى واحدة منها. فرماها فأقصدها ثم اشتويا وأكلا. فلما انقضى طعامهما فوق له الأعرابي سهماً ثم قال له: أين تريد أن أصيبك فقال له: اتق الله عز وجل واحفظ زمام الصحبة. قال: لا بد منه. قال: اتق الله ربك واستبقني ودونك البغل والخرج فإنه مترع مالاً. قال: فاخلع ثيابك. فانسلخ من ثيابه ثوباً ثوباً حتى بقي مجرداً. قال له: اخلع أمواقك وكان لابساً خفين مطابقين. فقال له: اتق الله في ودع الخفين أتبلغ بهما من الحر فإن الرمضاء تحرق قدمي. قال: لا بد منه. قال: فدونك الخف فأخلعه. فلما تناول الخف ذكر الرجل خنجراً كان معه في الخف فاستخرجه ثم ضرب به صدره فشقه إلى عانته وقال له: الاستقصاء فرقة: فذهبت مثلاً. وكان هذا الأعرابي من رماة الحدق. وحدث العتبي عن بعض أشياخه قال: كنت عند المهاجر بن عبد الله والي اليمامة. فأتي بأعرابي كان معروفاً بالسرق فقال له: أخبرني عن بعض عجائبك. قال: عجائبي كثيرة. ومن أعجبها أنه كان لي بعير لا يسبق وكانت لي خيل لا تلحق فكنت أخرج فلا أرجع خائباً فخرجت يوما فاحترشت ضبا فعلقته على قتبي ثم مررت بخباء ليس فيه إلا عجوز ليس معها غيرها فقلت: يجب أن يكون لهذه رائحة من غنم وإبل. فلما أمسيت إذا بإبل وإذا شيخ عظيم البطن شثن الكفين ومعه عبد أسود وغد. فلما رآني رحب بي ثم قام إلى ناقة فاحتلبها وناولني العلبة فشربت ما يشرب الرجل فتناول الباقي فضرب بها جبهته ثم احتلب تسع أينق فشرب ألبانهن ثم نحر حواراً فطبخه فأكلت شيئاً وأكل الجميع حتى ألقى عظامه بيضاً. وجثا على كومة من البطحاء وتوسدها ثم غط غطيط البكر. فقلت: هذه والله الغنيمة ثم قمت إلى فحل إبله فخطمته ثم قرنته ببعيري وصحت به فاتبعني الفحل واتبعته الإبل إرباباً به في قطار فصارت خلفي كأنها حبل ممدود. فمضيت أبادر ثنية بيني وبينها مسيرة ليلة للمسرع ولم أزل أضرب بعيري مرة بيدي ومرة برجلي حتى طلع الفجر فأبصرت الثنية وإذا عليها سواد فلما دنوت منه إذا الشيخ قاعد وقوسه في حجره. فقال: أضيفنا قلت: نعم. قال: أتسخو نفسك عن هذه الإبل قلت: لا. فأخرج سهماً كأنه لسان كلب ثم قال: انظره بين أذني الضب المعلق في القتب ثم رماه فصدع عظمه عن دماغه فقال لي: ما تقول قلت: أنا على رأيي الأول قال: انظر هذا السهم الثاني في فقرة ظهره الوسطى ثم رمى به فكأنما قدره بيده ثم وضعه بإصبعه. ثم قال: رأيك فقلت: إني أحب أن أستثبت. قال: انظر هذا السهم الثالث في عكوة. ذنبه والرابع والله في بطنك. ثم رماه فلم يخطئ العكوة. قلت: أنزل آمناً قال: نعم. فدفعت إليه خطام فحله وقلت: هذه إبلك لم يذهب منها وبرة وأنا متى يرميني بسهم يقصد به قلبي. فلما تباعدت قال: أقبل فأقبلت والله فرقاً من شره لا طمعاً في خيره. فقال: ما أحسبك تجشمت الليلة ما تجشمت إلا من حاجة. قلت نعم. قال فاقرن من هذه الإبل بعيرين وامض لطيتك. قال: قلت: أما والله لا أمضي حتى أخبرك عن نفسك فلا والله ما رأيت أعرابياً قط أشد ضرساً ولا أعدى رجلاً ولا أرمى يداً ولا أكرم عفواً ولا أسخى نفساً منك. فصرف وجهه عني حياء وقال: خذ الإبل برمتها مباركاً لك وقال النبي ﷺ: اركبوا وارموا. وأن ترموا أحب إلى من أن تركبوا. وقال: كل لهو المؤمن باطل إلا ثلاث: تأديبه فرسه ورميه عن كبد قوسه وملاعبته امرأته فإنه حق. إن الله ليدخل الجنة بالسهم الواحد: عامله المحتسب والقوي به سبيل الله أي والرامي به في سبيل الله. وروي عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول وهو قائم على المنبر: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي. وكان أرمى أصحاب رسول الله ﷺ سعد بن أبي وقاص لأن رسول الله ﷺ دعا له فقال " اللهم سدد رميته وأجب دعوته " فكان لا يرد له دعاء ولا يخيب له سهم. وذكر أسامة بن زيد أن شيوخاً من أسلم حدثوه: أن رسول الله ﷺ جاءهم وهم يرمون ببطحان. فقال رسول الله ﷺ: ارموا يا بني إسماعيل فقد كان أبوكم رامياً وأنا مع ابن الأدرع. فتعدى القوم فقالوا: يا رسول الله من كنت معه فقد نضل. قال رسول الله ﷺ: ارموا وأنا معكم كلكم. فانتضلوا ذلك اليوم ثم رجعوا بالسواء ليس لأحد على أحد منهم فضل. وقال عمر: ائتزروا وارتدوا وانتعلوا واحتفوا وارموا الأغراض وألقوا الركب وانزوا على الخيل نزوا وعليكم بالمعدية - أو قال بالعربية - ودعوا التنعم وزي العجم. وقال أيضاً: لن تخور قواكم ما نزوتم ونزعتم. يعني نزوتم على ظهور الخيل ونزعتم بالقسي. وجنى قوم من أهل اليمامة جناية فأرسل السلطان إليهم جنداً من محاربة ابن زياد. فقام رجل من أهل البادية يذمر أصحابه فقال: يا معشر العرب ويا بني المحصنات. قاتلوا عن أحسابكم وأنسابكم فوالله إن ظهر هؤلاء عليكم لا يدعون بها لبنة حمراء ولا نخلة خضراء إلا وضعوها بالأرض ولاعتراكم من نشاب معهم في جعاب كأنها أيور الفيلة ينزعون في قسى كأنها الغبط تئط إحداهن أطيط الزرنوق يمعط أحدهم فيها حتى يتفرق شعر إبطيه ثم يرسل نشابة كأنها رشاء منقطع فما بين أحدكم وبين أن تنفضخ عينه أو ينصدع قلبه منزلة. فخلع قلوبهم فطاروا رعباً. مشاورة المهدي لأهل بيته في حرب خراسان هذا ما تراجع فيه المهدي ووزراؤه وما دار بينهم من تدبير الرأي في حرب خراسان أيام تحاملت عليهم العمال وأعنفت فحملتهم الدالة وما تقدم لهم من المكانة على أن نكثوا ببيعتهم ونقضوا موثقهم وطردوا العمال والتواوا بما عليهم من الخراج وحمل المهدي ما يحب من مصلحتهم ويكره من عنتهم على أن أقال عثرتهم واغتفر زلتهم واحتمل دالتهم تطولا بالفضل واتساعاً بالعفو وأخذا بالحجة ورفقاً بالسياسة. ولذلك لم يزل منذ حمله الله أعباء الخلافة وقلده أمور الرعية رفيقا بمدار سلطانه بصيراً بأهل زمانه باسطاً للمعدلة في رعيته تسكن إلى كنفه وتأنس بعفوه وتثق بحلمه. فإذا وقعت الأقضية اللازمة والحقوق الواجبة فليس عنده هوادة ولا إغضاء ولا مداهنة أثرة للحق وقياما بالعدل وأخذا بالحرم. فدعا أهل خراسان الاغترار بحلمه والثقة بعفوه أن كسروا الخراج وطردوا العمال وسألوا ما ليس لهم من الحق. ثم خلطوا احتجاجاً باعتذار وخصومه بإقرار وتنصلاً باعتلال. فلما انتهى ذلك إلى المهدي خرج إلى مجلس خلائه وبعث إلى نفر من لحمته ووزرائه فأعلمهم الحال واستنصحهم للرعية ثم أمر الموالى بالابتداء وقال للعباس بن محمد أي عم تعقب قولنا وكن حكماً بيننا. وأرسل إلى ولديه موسى وهارون فأحضرهما الأمر وشاركهما في الرأي وأمر محمد بن الليث بحفظ مراجعتهم وإثبات مقالتهم في كتاب. فقال سلام صاحب دار المظالم: أيها المهدي: إن في كل أمر غاية ولكل قوم صناعة استفرغت رأيهم واستغرقت أشغالهم واستنفذت أعمارهم وذهبوا بها معونتنا عليها أقوام من أبناء الحرب وساسة الأمور وقادة الجنود وفرسان الهزاهز وإخوان التجارب وأبطال الوقائع الذين رشحتهم سحالها وفيأتهم ظلالها وعضتهم شدائدها وقرمتهم نواجذها. فلو عجمت ما قبلهم وكشعت ما عندهم لوجدت نظائر تؤيد أمرك وتجارب توافق نظرك وأحاديث تقوي قلبك. فأما نحن معاشر عمالك وأصحاب دواوينك فحسن بنا وكثير منا أن نقوم بثقل ما حملتنا من عملك واستودعتنا من أمانتك وشغلتنا به من إمضاء عدلك وإنفاذ حكمك وإظهار حقك. فأجابه المهدي: إن في كل قوم حكمة ولكل زمان سياسة وفي كل حال تدبيراً يبطل الآخر الأول ونحن أعلم بزماننا وتدبير سلطاننا. قال: نعم أيها المهدي أنت متسع الرأي وثيق العقدة قوي المنة بليغ الفطنة معصوم النية محضور الروية مؤيد البديهة موفق العزيمة معان بالظفر مهدي إلى الخير. إن هممت ففي عزمك مواقع الظن وإن أجمعت صدع فعلك ملتبس الشك. فاعزم يهد الله إلى الصواب قلبك وقل ينطق الله بالحق لسانك فإن جنودك جمة وخزائنك عامرة ونفسك سخية وأمرك نافذ. فأجابه المهدي: إن المشاورة والمناظرة باباً رحمة ومفتاحاً بركة لا يهلك عليهما رأي ولا يتفيل معهما حزم فأشيروا برأيكم وقولوا بما يحضركم فإني من ورائكم وتوفيق الله من وراء ذلك. قال الربيع: أيها المهدي أن تصاريف وجوه الرأي كثيرة وإن الإشارة ببعض معاريض القول يسيرة. ولكن خراسان أرض بعيدة المسافة متراخية الشقة متفاوتة السبل. فإذا ارتأيت من محكم التدبير ومبرم التقدير ولباب الصواب رأيا قد احكمه نظرك وقلبه تدبيرك فليس وراءه مذهب الحجة طاعن ولا دونه معلق لخصومة عائب ثم خبت البرد به وانطوت الرسل عليه كان بالحري أن لا يصل إليهم محكمه إلا وقد حدث منهم ما ينقضه. فما أيسر أن ترجع إليك الرسل وترد عليك الكتب بحقائق أخبارهم وشوارد آثارهم ومصاده أمورهم فتحدث رأياً غيره وتبتدع تدبيراً سواه وقد انفرجت الحلق وتحللت العقد واسترخى الحقاب وامتد الزمان. ثم لعلما موقع الآخرة كمصدر الأولى. ولكن الرأي لك أيها المهدي - وفقك الله - أن تصرف إجالة النظر وتقليب الفطر فيما جمعتنا له واستشرتنا فيه من التدبير لحربهم والحيل في أمرهم إلى الطلب لرجل ذي دين فاضل وعقل كامل وورع واسع ليس موصوفاً بهوى في سواك ولا متهماً في أثره عليك ولا ظنيناً على دخلة مكروهة ولا منسوبا إلى بدعة محظورة فيقدح في ملكك ويربض الأمور لغيرك ثم تسند إليه أمورهم وتفوض إليه حربهم وتأمره في عهدك ووصيتك إياه بلزوم أمرك ما لزمه الحزم وخلاف نهيك إذا خالفه الرأي عند استحالة الأمور واستدارة الأحوال التي ينقض أمر الغائب عنها ويثبت رأي الشاهد لها فإنه إذا فعل ذلك فواثب أمرهم من قريب وسقط عنه ما يأتي من بعيد تمت الحيلة وقويت المكيدة ونفذ العمل وأحد النظر. إن شاء الله. قال الفضل بن العباس: أيها المهدي إن ولي الأمور وسائس الحروب ربما جند جنوده وفرق أمواله في غير ما ضيق أمر حزبه ولا ضغطة حال اضطرته فيقعد عند الحاجة إليها وبعد التفرقة لها عديماً منها فاقداً لها لا يثق بقوة ولا يصول بعدة ولا يفزع إلى ثقة. فالرأي لك أيها المهدي - وفقك الله - أن تعفى خزائنك من الإنفاق للأموال وجنودك من مكابدة الأسفار ومقارعة الأخطار وتغرير القتال ولا تسرع للقوم في الإجابة إلى ما يطلبون والإعطاء لما يسألون فيفسد عليك أدبهم وتجرئ من رعيتك غيرهم. ولكن اغزهم بالحيلة وقاتلهم بالمكيدة وصارعهم باللين وخاتلهم بالرفق وأبرق لهم وأرعد نحوهم بالفعل وابعث البعوث وجند الجنود وكتب الكتائب واعقد الألوية وانصب الرايات وأظهر أنك موجه إليهم الجيوش مع أحنق قوادك عليهم وأسوئهم أثراً فيهم. ثم ادسس الرسل وابثث الكتب وضع بعضهم على طمع من وعدك وبعضاً على خوف من وعيدك. وأوقد بذلك وأشباهه نيران التحاسد فيهم وأغرض أشجار التنافس بينهم حتى تملأ القلوب من الوحشة وتنطوي الصدور على البغضة ويدخل كلا من كل الحذر والهيبة فإن مرام الظفر بالغيلة والقتال بالحيلة والمناصبة بالكتب والمكايدة بالرسل والمقارعة بالكلام اللطيف المدخل في القلوب القوي الموقع من النفوس المعقود بالحجج الموصول بالحيل المبني على اللين الذي يستلب العقول ويسترق القلوب ويسبى الآراء ويستميل الأهواء ويستدعي المواتاة أنفذ من القتال بظبات السيوف وأسنة الرماح. كما أن الوالي الذي يستنزل طاعة رعيته بالحيل ويفرق كلمة عدوه بالمكايدة أحكم عملاً وألطف نظراً وأحسن سياسة من الذي لا ينال ذلك إلا بالقتال وإتلاف الأموال والتغرير والخطار. وليعلم المهدي - وفقه الله - أنه إن وجه لقتالهم رجلاً لم يسر لقتالهم إلا بجنود كثيفة تخرج عن حال شديدة وتقدم على أسفار صعبة وأموال متفرقة وقواد غششة إن ائتمنهم استنفذوا ماله وإن استنصحهم كانوا عليه لا له. قال المهدي: هذا رأي قد أسفر نوره وبرق ضوؤه وتمثل صوابه للعيون وتجسد حقه في قال علي: أيها المهدي إن أهل خراسان لم يخلعوا من طاعتك يداً ولم ينصبوا من دونك أحداً يكدح في تغيير ملكك ويربض الأمور لفساد دولتك ولو فعلوا لكان الخطب أيسر والشأن أصغر والحال أذل لأن الله مع حقه الذي لا يخذله وعند موعده الذي لا يخلفه. ولكنه قوم من رعيتك وطائفة من شيعتك الذين جعلك الله عليهم والياً وجعل العدل بينك وبينهم حاكماً. طلبوا حقاً وسألوا إنصافاً فإن أجبت إلى دعوتهم ونفست عنهم قبل أن تتلاحم منهم حالاً أو يحدث من عندهم فتق أطعت أمر الرب وأطفأت نائرة الحرب ووفرت خزائن المال وطرحت تغرير القتال وحمل الناس محمل ذلك على طبيعة جودك وسجية حلمك وإسجاح خليقتك ومعدلة نظرك. فأمنت أن تنسب إلى ضعف. وأن يكون ذلك لهم فيما بقى دربة. وإن منعتهم ما طلبوا ولم تجبهم إلى ما سألوا اعتدلت بك وبهم الحال وساويتهم في ميدان الخطاب. فما أرب المهدي أن يعمد إلى طائفة من رعيته مقرين بمملكته مذعنين لطاعته لا يخرجون أنفسهم عن قدرته ولا يبرئونها من عبوديته فيملكهم أنفسهم ويخلع نفسه عنهم ويقف على الجدل معهم ثم يجازيهم السوء في جد المقارعة ومضمار المخاطرة أيريد المهدي - وفقه الله - الأموال فلعمري لا ينالها ولا يظفر بها إلا بإنفاق أكثر مما يطلب منهم وأضعاف ما يدعي قبلهم. ولو نالها فحملت إليه ووضعت بخرائطها بين يديه ثم تجافى لهم عنها وطال عليهم بها لكان ذلك مما إليه ينسب وبه يعرف من الجود الذي طبعه الله عليه وجعل قرة عينه ونهمة نفسه فيه فإن قال المهدي: هذا رأي مستقيم سديد في أهل الخراج الذين شكوا ظلم عمالنا وتحامل ولاتنا فأما الجنود الذين نقضوا مواثيق العهود وأنطقوا لسان الإرجاف وفتحوا باب المعصية وكسروا قيد الفتنة فقد ينبغي لهم أن أجعلهم نكالاً لغيرهم وعظة لسواهم فيعلم المهدي أنه لو أتي بهم مغلولين في الحديد مقرنين في الأصفاد ثم اتسع لحقن دمائهم عفوه ولإقامة عثرتهم صفحه واستقبالهم لما هم فيه من حربه أو لمن بإزائهم من عدوه لما كان بدعاً من رأيه ولا مستنكراً من نظره. لقد علمت العرب أنه أعظم الخلفاء والملوك عفواً وأشدها وقعاً وأصدقها صولة وأنه لا يتعاظمه عفو ولا يتكاءده صفح وإن عظم الذنب وجل الخطب. فالرأي للمهدي - وفقه الله تعالى - أن يحل عقدة الغيظ بالرجاء لحسن ثواب الله في العفو عنهم وأن يذكر أولى حالاتهم وضيعة عيالاتهم براً بهم وتوسعاً لهم فإنهم إخوان دولته وأركان دعوته وأساس حقه الذين بعزتهم يصول وبحجتهم يقول. إنما مثلهم فيما دخلوا فيه من مساخطه وتعرضوا له من معاصيه وانطووا فيه عن إجابته ومثله في قلة ما غير ذلك من رأيه فيهم أو نقل من حاله لهم أو تغير من نعمته عليهم كمثل رجلين أخوين متناصرين متوازرين أصاب أحدهما خبل عارض ولمم حادث فنهض إلى أخيه بالأذى وتحامل عليه بالمكروه فلم يزد ذلك أخاه إلا رقة له ولطفا به واحتيالاً لمداواة مرضه ومراجعة حاله عطفاً عليه وبراً به ومرحمة له. فقال المهدي: أما علي فقد نوى سمت الليان وفض القلوب عن أهل خراسان ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون. ثم قال: ما ترى يا أبا محمد يعني موسى ابنه. فقال موسى: أيها المهدي لا تسكن إلى حلاوة ما يجري من القول على ألسنتهم وأنت ترى الدماء تسيل من خلل فعلهم. الحال من القوم تنادى بمضرة شر وخفية حقد قد جعلوا المعاذير عليه ستراً واتخذوا العلل من دونها حجاباً رجاء أن يدافعوا الأيام بالتأخير والأمور بالتطويل فيكسروا حيل المهدي فيهم ويثنوا جنوده عنهم حتى يتلاحم أمرهم وتتلاحق مادتهم وتستفحل حربهم وتستمر الأمور بهم. والمهدي من قولهم في حال غرة ولباس أمنة قد فتر لها وأنس بها وسكن إليها. ولولا ما اجتمعت به قلوبهم وبردت عليه جلودهم من المناصبة بالقتال والإضمار للقراع عن داعية ضلال أو شيطان فساد لرهبوا عواقب أحوال الولاة وغب سكون الأمور. فليشدد المهدي - وفقه الله - أزره لهم ويكتب كتائبه نحوهم وليضع الأمر على أشد ما يحضره فيهم وليوقن أنه لا يعطيهم خطة يريد بها صلاحهم إلا كانت دربة لفسادهم وقوة على معصيتهم وداعية إلى عودتهم وسببا لفساد من بحضرته من الجنود ومن ببابه من الوفود الذين أقرهم على تلك العادة وأجراهم على ذلك الأدب لم يبرح في فتق حادث وخلاف حاضر لا يصلح عليه دين ولا تستقيم به دنيا. وإن طلب تغييره بعد استحكام العادة واستمرار الدربة لم يصل إلى ذلك إلا بالعقوبة المفرطة والمؤونة الشديدة. والرأي للمهدي - وفقه الله - أن لا يقيل عثرتهم ولا يقبل معذرتهم حتى تطأهم الجيوش وتأخذهم السيوف ويستحر بهم القتل ويحدق بهم الموت ويحيط بهم البلاء ويطبق عليهم الذل. فإن فعل المهدي بهم ذلك كان مقطعة لكل عادة سوء فيهم وهزيمة لكل بادرة شر منهم. واحتمال المهدي مؤونة غزوتهم هذه يضع عنه مؤونة غزوات كثيرة ونفقات عظيمة. قال المهدي: قد قال القوم فاحكم يا أبا الفضل. فقال العباس بن محمد: أيها المهدي أما الموالي فأخذوا بفروع الرأي وسلكوا جنبات الصواب وتعدوا أموراً قصر نظرهم عنها لأنه لم تأت تجاربهم عليها. وأما الفضل فأشار بالأموال أن لا تنفق والجنود أن لا تفرق وبأن لا يعطى القوم ما طلبوا ولا يبذل لهم ما سألوا وجاء بأمر بين ذلك استصغاراً لأمرهم واستهانة بحربهم وإنما يهيج جسيمات الأمور صغارها. وأما علي فأشار باللين وإفراط الرفق. وإذا جرد الوالي لمن غمط أمره وسيفه حقه اللين بحتاً والخير محضاً لم يخلطهما بشدة تعطف القلوب على لينه ولا بشر يحيشهم إلى خيره فقد ملكهم الخلع لعذرهم ووسع لهم الفرجة لثني أعناقهم. فإن أجابوا دعوته وقبلوا لينه من غير ما خوف اضطرهم ولا شدة حال أخرجتهم لم يزل ذلك يهيج عزة في نفوسهم ونزوة في رؤوسهم يستعدون بها البلاء إلى أنفسهم ويصرفون بها رأي المهدي فيهم. وإن لم يقبلوا دعوته ويسرعوا لإجابته باللين المحض والخير الصراح فذلك ما عليه الظن بهم والرأي فيهم وما قد يشبه أن يكون من مثلهم لأن الله تعالى خلق الجنة وجعل فيها من النعيم المقيم والملك الكبير ما لا يخطر على قلب بشر ولا تدركه الفكر ولا تعلمه النفوس ثم دعا الناس إليها ورغبهم فيها. فلولا أنه خلق ناراً لهم رحمة يسوقهم بها إلى الجنة لما أجابوا ولا قبلوا. وأما موسى فأشار بأن يعصبوا بشدة لا لين فيها وأن يرموا بشر لا خير معه. وإذا أضمر الوالي لما فارق طاعته وخالف جماعته الخوف مفرداً والشر مجرداً ليس معهما طمع يكسرهم ولا لين يثنيهم امتدت الأمور بهم وانقطعت الحال منهم إلى أحد أمرين: إما أن تدخلهم الحمية من الشدة والأنفة من الذلة والامتعاض من القهر فيدعوهم ذلك إلى التمادي في الخلاف الاستبسال في القتال والاستسلام للموت وإما أن ينقادوا بالكره ويذعنوا بالقهر على بغضة لازمة وعداوة باقية تورث النفاق وتعقب الشقاق فإذا أمكنتهم فرصة أو ثابت لهم قدرة وقال: في قول الفضل أيها المهدي أكفى دليل وأوضح برهان وأبين خبر بان قد اجتمع رأيه وحزم نظره على الإرشاد ببعثة الجيوش إليهم وتوجيه البعوث نحوهم مع إعطائهم ما سألوا من الحق وإجابتهم إلى ما سألوا من العدل. قال المهدي: ذلك رأى. قال هارون: خلطت الشدة أيها المهدي باللين فصارت الشدة أمر فطام لما تكره وعاد اللين أهدى قائد إلى ما تحب ولكن أرى غير ذلك. قال المهدي: لقد قلت قولاً بديعاً خالفت به أهل بيتك جميعاً والمرء متهم بما قال وظنين بما ادعى حتى يأتي ببينة عادلة وحجة ظاهرة فاخرج عما قلت. قال هارون: أيها المهدي إن الحرب خدعة والأعاجم قوم مكرة وربما اعتدلت الحال بهم واتفقت الأهواء منهم فكان باطن ما يسرون على ظاهر ما يعلنون وربما افترقت الحالان وخالف القلب اللسان فانطوى القلب على محجوبة تبطن واستسر بمدخوله لا تعلن. والطبيب الرفيق بطبه البصير بأمره العالم بمقدم يده وموضع ميسمه لا يتعجل بالدواء حتى يقع على معرفة الداء. فالرأي للمهدي - وفقه الله - أن يفر باطن أمرهم فر المسنة ويمخض ظاهر حالهم مخض السقاء بمتابعة الكتب ومظاهرة الرسل وموالاة العيون حتى تهتك حجب غيوبهم وتكشف أغطية أمورهم فإن انكشفت الحال له وأفضت الأمور به إلى تغيير حال أو داعية ضلال اشتملت الأهواء عليه وانقاد الرجال إليه وامتدت الأعناق نحوه بدين يعتقدونه وإثم يستحلونه عصبهم بشدة لا لين فيها ورماهم بعقوبة لا عفو معها. وإن انفرجت الغيوب واهتصرت الستور ورفعت الحجب والحال فيهم مريعة والأمور بهم معتدلة عن أرزاق يطلبونها وأعمال ينكرونها وظلامات يدعونها وحقوق يسألونها بماتة سابقتهم ودالة مناصحتهم فالرأي للمهدي - وفقه الله - أن يتسع لهم بما طلبوا ويتجافى لهم عما كرهوا ويشعب من أمرهم ما صدعوا ويرتق من فتقهم ما فتقوا ويولي عليهم من أحبوا ويداوي بذلك مرض قلوبهم وفساد أمورهم فإنما المهدي وأمته وسواد أهل مملكته بمنزلة الطبيب الرفيق والوالد الشفيق والراعي الحدب الذي يحتال لمرابض غنمه وضوال رعيته. حتى يبرئ المريضة من داء علتها ويرد الضالة إلى أنس جماعتها. ثم إن خراسان بخاصة لهم دالة محمولة وماتة مقبولة ووسيلة معروفة وحقوق واجبة لأنهم أيدي دولته وسيوف دعوته وأنصار حقه وأعوان عدله فليس من شأن المهدي الاضطغان عليهم ولا المؤاخذة لهم ولا التوعر بهم ولا المكافأة بإساءتهم لأن مبادرة حسم الأمور ضعيفة قبل أن تقوى ومحاولة قطع الأصول ضئيلة قبل أن تغلظ أحزم في الرأي. وأصح في التدبير من التأخير لها والتهاون بها حتى يلتئم قليلها قال المهدي: ما زال هارون يقع وقع الحيا حتى خرج خروج القدح مما قال وانسل انسلال السيف فيما ادعى. فدعوا ما قد سبق موسى فيه أنه هو الرأي وثنى بعده هارون. ولكن من لأعنه الخيل وسياسة الحرب وقادة الناس إن أمعن بهم اللجاج وأفرطت بهم الدالة قال الصالح: لسنا نبلغ أيها المهدي بدوام البحث وطول الفكر أدنى فراسة رأيك وبعض لحظات نظرك وليس ينفض عنك من بيوتات العرب ورجالات العجم ذو دين فاضل ورأي كامل وتدبير قوي تقلده حربك وتستودعه جندك ممن يحتمل الأمانة العظيمة ويضطلع بالأعباء الثقيلة. وأنت بحمد الله ميمون النقيبة مبارك العزيمة مخبور التجارب محمود العواقب معصوم العزم فليس يقع اختيارك ولا يقف نظرك على أحد توليه أمرك وتسند إليه ثغرك إلا أراك الله منه ما تحب وجمع لك منه ما تريد. قال المهدي: إني لأرجو ذلك لقديم عادة الله فيه وحسن معونته عليه. ولكن أحب الموافقة على الرأي والاعتبار بالمشاورة في الأمر المهم. قال محمد بن الليث: أهل خراسان أيها المهدي قوم ذو عزة ومنعة وشياطين خدعة زروع الحمية فيهم نابتة وملابس الأنفة عليهم ظاهرة. فالروية عنهم عازبة والعجلة فيهم حاضرة تسبق سيولهم مطرهم وسيوفهم عذلهم لأنهم بين سفلة لا يعدو مبلغ عقولهم منظر عيونهم وبين رؤساء لا يلجمون إلا بالشدة ولا يفطمون إلا بالقهر. وإن ولى المهدي عليهم وضيعاً لم تنقد له العظماء وإن ولى أمرهم شريفاً تحامل على الضعفاء.