قد تقاصر عن إيوائه وصغر في عينه ما شيد من بناءه ولولا ما وتر به من يليه من العرب لمال إلى مجال ولوجد من يجيد الطعان ويغضب للأحرار من غلبة العبيد الأشرار. قال: فعجب كسرى لما أجابه النعمان به وقال: إنك لأهل لموضعك من الرياسة في أهل إقليمك ولما هو أفضل. ثم كساه كسوته وسرحه إلى موضعه من الحيرة. فلما قدم النعمان الحيرة وفي نفسه ما فيهم مما سمع من كسرى من تنقص العرب وتهجين أمرهم بعث إلى أكثم بن صيفي وحاجب بن زرارة التميميين وإلى الحارث بن عباد وقيس بن مسعود البكريين وإلى خالد بن جعفر وعلقمة ابن علاثة وعامر بن الطفيل العامريين وإلى عمرو بن الشريد السلمي وعمرو ابن معد يكرب الزبيدي والحارث بن ظالم المري. فلما قدموا عليه في الخورنق قال لهم: قد عرفتم هذه الأعاجم وقرب جوار العرب منها وقد سمعت من كسرى مقالات تخوفت أن يكون لها غور أو يكون إنما أظهرها لأمر أراد أن يتخذ به العرب خولاً كبعض طماطمته في تأديتهم الخراج إليه كما يفعل بملوك الأمم الذين حوله فاقتص مقالات كسرى وما رد عليه. فقالوا: أيها الملك وفقك الله ما أحسن ما رددت وأبلغ ما حججته به! فمرنا بأمرك وادعنا إلى ما شئت. قال: إنما أنا رجل منكم وإنما ملكت وعززت بمكانكم وما يتخوف من ناحيتكم وليس شيء أحب إلي مما سدد الله أمركم وأصلح به شأنكم وأدام به عزكم والرأي أن تسيروا بجماعتكم أيها الرهط وتنطلقوا إلى كسرى فإذا دخلتم نطق كل رجل منكم بما حضره ليعلم أن العرب على غير ما ظن أو حدثته نفسه ولا ينطق رجل منكم بما يغضبه فإنه ملك عظيم السلطان كثير الأعوان مترف معجب بنفسه ولا تنخزلوا له انخزال الخاضع الذليل وليكن أمر بين ذلك تظهر به وثاقة حلومكم وفضل منزلتكم وعظمة أخطاركم وليكن أول من يبدأ منكم بالكلام أكثم بن صيفي لسني محله ثم تتابعوا على الأمر من منازلكم التي وضعتكم بها وإنما دعاني إلى التقدمة بينكم علمي بميل كل رجل منكم إلى التقدم قبل صاحبه فلا يكونن ذلك منكم فيجد في آدابكم مطعناً فإنه ملك مترف وقادر مسلط. ثم دعا لهم بما في خزانته من طرائف حلل الملوك كل رجل منهم حلة وعممه عمامة وختمه بياقوته وأمر لكل رجل منهم بنجيبة مهرية وفرس نجيبة وكتب معهم كتاباً: أما بعد فإن الملك ألقى إلي من أمر العرب ما قد علم وأجبته بما قد فهم بما أحببت أن يكون منه على علم ولا يتلجلج في نفسه أن أمة من الأمم التي احتجزت دونه بمملكتها وحمت ما يليها بفضل قوتها تبلغها في شيء من الأمور التي يتعزز بها ذوو الحزم والقوة والتدبير والمكيدة وقد أوفدت أيها الملك رهطاً من العرب لهم فضل في أحسابهم وأنسابهم وعقولهم وآدابهم فليسمع الملك وليغمض عن جفاء إن ظهر من منطقهم وليكرمني بإكرامهم وتعجيل سراحهم وقد نسبتهم في أسفل كتابي هذا إلى عشائرهم. فخرج القوم في أهبتهم حتى وقفوا بباب كسرى بالمدائن فدفعوا إليه كتاب النعمان فقرأه وأمر بإنزالهم إلى أن يجلس لهم مجلساً يسمع منهم. فلما أن كان بعد ذلك بأيام أمر مرازبته ووجوه أهل مملكته فحضروا وجلسوا على كراسي عن يمينه وشماله ثم دعا بهم على الولاء والمراتب التي وصفهم النعمان بها في كتابه وأقام الترجمان ليؤدي إليه كلامهم ثم أذن لهم في الكلام. فقام أكثم بن صيفي فقال: إن أفضل الأشياء أعاليها وأعلى الرجال ملوكها وأفضل الملوك أعمها نفعاً وخير الأزمنة أخصبها وأفضل الخطباء أصدقها. الصدق منجاة والكذب مهواة والشر لجاجة والحزم مركب صعب والعجز مركب وطيء آفة الرأي الهوى والعجز مفتاح الفقر وخير الأمور الصبر. حسن الظن ورطة وسوء الظن عصمة. إصلاح فساد الرعية خير من إصلاح فساد الراعي. من فسدت بطانته كان الغاص بالماء. شر البلاد بلاد لا أمير بها. شر الملوك من خافه البريء. المرء يعجز لا المحالة. أفضل الأولاد البررة. خير الأعوان من لم يراء بالنصيحة. أحق الجنود بالنصر من حسنت سريرته. يكفيك من الزاد ما بلغك المحل. حسبك من شر سماعه. الصمت حكم وقليل فاعله. البلاغة الإيجاز. من شدد نفر ومن تراخى تألف. فتعجب كسرى من أكثم ثم قال: ويحك يا أكثم! ما أحكمك وأوثق كلامك لولا وضعك كلامك في غير موضعه! قال أكثم: الصدق ينبئ عند لا الوعيد قال كسرى: لو لم يكن للعرب غيرك لكفى قال أكثم: رب قول أنفذ من صول. ثم قام حاجب بن زرارة التميمي فقال: ورى زندك وعلت يدك وهيب سلطانك إن العرب أمة قد غلظت أكبادها واستحصدت مرتها ومنعت درتها وهي لك وامقة ما تألفتها مسترسلة ما لا ينتها سامعة ما سامحتها وهي العلقم مرارة والصاب غضاضة والعسل حلاوة والماء الزلال سلاسة نحن وفودها إليك وألسنتها لديك ذمتنا محفوظة وأحسابنا ممنوعة وعشائرنا فينا سامعة مطيعة وإن نؤب لك حامدين خيراً فلك بذلك عموم محمدتنا وإن نذم لم نختص بالذم دونها. قال كسرى: يا حاجب ما أشبه حجر التلال بألوان صخرها قال حاجب: بل زئير الأسد بصولتها قال كسرى: وذلك. ثم قام الحارث بن عباد البكري فقال: دامت لك المملكة باستكمال جزيل حظها وعلو سنائها. من طال رشاؤه كثر متحه ومن ذهب ماله قل منحه. تناقل الأقاويل يعرف به اللب وهذا مقام سيوجف بما ينطق فيه الركب وتعرف به كنه حالنا العجم والعرب ونحن جيرانك الأدنون وأعوانك المعينون خيولنا جمة وجيوشنا فخمة إن استنجدتنا فغير ربض وإن استطرقتنا فغير جهض وإن طلبتنا فغير غمض لا ننثني لذعر ولا نتنكر لدهر رمحنا طوال وأعمارنا قصار. قال كسرى: أنفس عزيزة وأمة والله ضعيفة. قال الحارث: أيها الملك وأنى يكون لضعيف عزة أو لصغير مرة. قال كسرى: لو قصر عمرك لم تستول على لسانك نفسك. قال الحارث: أيها الملك إن الفارس إذا حمل نفسه على الكتيبة مغرراً بنفسه على الموت فهي منية استقبلها وحياة استدبرها والعرب تعلم أني أبعث الحرب قدماً وأحسبها وهي تصرف بهم حتى إذا جاشت نارها وسعرت لظاها وكشفت عن ساقها جعلت مقادها رمحي وبرقها سيفي ورعدها زئيري ولم أقصر عن خوض خضاخضها حتى انغمس في غمرات لججها وأكون فلكاً لفرساني إلى بحبوحة كبشها فأستمطرها دماً وأترك حماتها جزر السباع وكل نسر قشعم. ثم قال كسرى لمن حضره من العرب: أكذلك هو قالوا: فعاله أنطق من لسانه. قال كسرى: ما رأيت كاليوم وفداً أحشد ولا شهوداً أوفد. ثم قام عمرو بن الشريد السلمي فقال: أيها الملك نعم بالك ودام في السرور حالك إن عاقبة الكلام متدبرة وأشكال الأمور معتبرة وفي كثير ثقلة وفي قليل بلغة وفي الملك سورة العز. وهذا موطن له ما بعده شرف فيه من شرف وخمل فيه من خمل. لم نأت لضيمك ولم نفد لسخطك ولم نتعرض لرفدك إن في أموالنا مرتقداً وعلى عزنا معتمداً إن أورينا ناراً أثقبنا وإن أود دهر بنا اعتدلنا إلا أنا مع هذا لجوارك حافظون ولمن رامك مكافحون حتى يحمد الصدر ويستطاب الخبر. قال كسرى: ما يقوم قصد منطقك بإفراطك ولا مدحك بذمك. قال عمرو: كفى بقليل قصدي هادياً وبأيسر إفراطي مخبراً. ولم يلم من عزفت نفسه عما يعلم ورضي من القصد بما بلغ. قال كسرى: ما كل ما يعرف المرء ينطق به اجلس. ثم قام خالد بن جعفر الكلابي فقال: أحضر الله الملك إسعاداً وأرشده إرشاداً إن لكل منطق فرصة ولكل جابة غصة وعي المنطق أشد عي السكوت وعثار القول أنكى من عثار الوعث وما فرصة المنطق عندنا إلا بما نهوي وغصة المنطق بما لا نهوي غير مستساغة وتركي ما أعلم من نفسي ويعلم من سمعني أنني له مطيق أحب إلي من تكلفي ما أتخوف ويتخوف مني وقد أوفدنا إليك ملكنا النعمان وهو لك من خير الأعوان ونعم حامل المعروف والإحسان أنفسنا بالطاقة لك باخعة ورقابنا بالنصيحة خاضعة وأيدينا لك بالوفاء رهينة. قال له كسرى: نطقت بعقل وسموت بفضل وعلوت بنبل. ثم قام علقمة بن علانة العامري فقال: أنهجت لك سبل الرشاد وخضعت لك رقاب العباد إن للأقاويل مناهج وللآراء موالج وللعويص مخارج وخير القول أصدقه وأفضل الطلب أنجحه إنا وإن كانت المحبة أحضرتنا والوفادة قربتنا فليس من حضرك منا بأفضل ممن عزب عنك بل لو قست كل رجل منهم وعلمت منهم ما علمنا لوجدت له في آبائه دنياً أنداداً وأكفاء كلهم إلى الفضل منسوب وبالشرف والسودد موصوف وبالرأي الفاضل والأدب النافد معروف يحمي حماه ويروي نداماه ويذود أعده لا تخمد ناره ولا يحترز منه جاره. أيها الملك من يبل العرب يعرف فضلهم فاصطنع العرب فإنها الجبال الرواسي عزاً والبحور طمياً والنجوم الزواهر شرفاً والحصى عدداً فإن تعرف لهم فضلهم يعزوك وإن تستصرخهم لا يخذلوك. قال كسرى - وخشي أن يأتي منه كلام يحمله على السخط عليه -: حسبك أبلغت ثم قام قيس بن مسعود الشيباني فقال: أطاب الله بك المراشد وجنبك المصائب ووقاك مكروه الشصائب ما أحقنا إذا أتيناك بإسماعك ما لا يحنق صدرك ولا يزرع لنا حقداً في قلبك. لم نقدم أيها الملك لمساماة ولم ننتسب لمعاداة ولكن لتعلم أنت ورعيتك ومن حضرك من وفود الأمم أنا في المنطق غير محجمين وفي البأس غير مقصرين إن جورينا فغير مسبوقين وإن سومينا فغير مغلوبين. قال كسرى: غير أنكم إذا عاهدتم غير وافين وهو يعرض به في تركه الوفاء بضمانه السواد. قال قيس: أيها الملك ما كنت في ذلك إلا كواف غدر به أو كخافر أخفر بذمته. قال كسرى: ما يكون لضعيف ضمان ولا لذليل خفارة. قال قيس: أيها الملك ما أنا فيها خفر من ذمتي أحق بإلزامي العار منك فيما قتل من رعيتك وانتهك من حرمتك. قال كسرى: ذلك لأن من ائتمن الخانة واستنجد الأثمة ناله من الخطأ ما نالني وليس كل الناس سواء كيف رأيت حاجب بن زرارة لم يحكم قواه فيبرم ويعهد فيوفي ويعد فينجز قال: وما أحقه بذلك وما رأيته إلا لي. قال كسرى: القوم بزل فأفضلها أشدها. ثم قام عامر بن الطفيل العامري فقال: كثر فنون المنطق ولبس القول أعمى من حندس الظلماء وإنما الفخر في الفعال والعز في النجدة والسودد مطاوعة القدرة وما أعلمك بقدرنا وأبصرك بفضلنا وبالحري إن أدالت الأيام وثابت الأحلام أن تحدث لنا أموراً لها أعلام. قال كسرى: وما تلك الأعلام قال: مجتمع الأحياء من ربيعة ومضر على أمر يذكر. قال كسرى: وما الأمر الذي يذكر قال: ما لي علم بأكثر مما خبرني به مخبر. قال كسرى: متى تكاهنت يا بن الطفيل قال: لست بكاهن ولكني الرمح طاعن. قال كسرى: فإن أتاك آت من جهة عينك العوراء ما أنت صانع قال ما هيبتي في قفاي بدون هيبتي في وجهي وما أذهب عيني عيث ولكن مطاوعة العبث. ثم قام عمرو بن معد يكرب الزبيدي فقال: إنما المرء بأصغريه: قلبه ولسانه فبلاغ المنطق الصواب وملاك النجعة الارتياد وعفو الرأي خير من استكراه الفكرة وتوقف الخبرة خير من اعتساف الحيرة فاجتبذ طاعتنا بلفظك واكتظم بادرتنا بحلمك وألن لنا كنفك يسلس لك قيادنا فإنا أناس لم يوقس صفاتنا قراع مناقير من أراد لنا قضماً ولكن منعنا حمانا من كل من رام لنا هضماً. ثم قام الحارث بن ظالم المري فقال: إن من آفة المنطق الكذب ومن لؤم الأخلاق الملق وانقيادنا لك عن تصاف فما أنت لقبول ذلك منا بخليق ولا للاعتماد عليه بحقيق ولكن الوفاء بالعهود وإحكام ولث العقود والأمر بيننا وبينك معتدل ما لم يأت من قبلك ميل أو زلل. قال كسرى: من أنت قال: الحارث بن ظالم قال: إن في أسماء آبائك لدليلاً على قلة وفائك وأن تكون أولى بالغدر وأقرب من الوزر. قال الحارث: إن في الحق مغضبة والسرو التغافل ولن يستوجب أحد الحلم إلا مع القدرة فلتشبه أفعالك مجلسك. قال كسرى: هذا فتى قوم. ثم قال كسرى: قد فهمت ما نطقت به خطباؤكم وتفنن فيه متكلموكم ولولا أني أعلم أن الأدب لم يثقف فيه أودكم ولم يحكم أمركم وأنه ليس لكم ملك يجمعكم فتنطقون عنده منطق الرعية الخاضعة الباخعة فنطقتم بما استولى على ألسنتكم وغلب على طباعكم لم أجز لكم كثيراً مما تكلمتم به وإني لأكره أن أجبه وفودي أو أخنق صدورهم والذي أحب هو إصلاح مداركم وتألف شواذكم والإعذار إلى الله فيما بيني وبينكم وقد قبلت ما كان في منطقهم من صواب وصفحت عما كان فيه من خلل فانصرفوا إلى ملككم فأحسنوا موازرته والتزموا طاعته واردعوا سفهاءكم وأقيموا أودهم وأحسنوا أدبهم فإن في ذلك صلاح العامة.
☰ جدول المحتويات
وفود حاجب بن زرارة على كسرى
العتبي عن أبيه: إن حاجب بن زرارة وفد على كسرى لما منع تميماً من ريف العراق فاستأذن عليه فأوصل إليه: أسيد العرب أنت قال: لا قال: فسيد مضر قال: لا قال: فسيد بني أبيك أنت قال: لا. ثم أذن له فلما دخل عليه قال له: من أنت قال: سيد العرب قال: أليس قد أوصلت إليك أسيد العرب فقلت لا حتى اقتصرت بك على بني أبيك فقلت لا قال له: أيها الملك لم أكن كذلك حتى دخلت عليك فلما دخلت عليك صرت سيد العرب قال كسرى: آه املئوا فاه دراً. ثم قال: إنكم معشر العرب غدر فإن أذنت لكم أفسدتم البلاد وأغرتم على العباد وآذيتموني. قال حاجب: فإني ضامن للملك أن لا يفعلوا قال: فمن لي بأن تفي أنت قال أرهنك قوسي. فلما جاء بها ضحك من حوله وقالوا: لهذه العصا يفي! قال كسرى: ما كان ليسلمها لي لشيء أبداً فقبضها منه وأذن لهم أن يدخلوا الريف. ومات حاجب بن زرارة فارتحل عطارد بن حاجب إلى كسرى يطلب قوس أبيه فقال له: فلما وفد إلى النبي ﷺ عطارد بن حاجب وهو رئيس تميم وأسلم على يديه أهداها للنبي ﷺ فلم يقبلها فقالوا: يا رسول الله هلك قومك وأكلتهم الضبع يريدون الجوع - والعرب يسمون السنة الضبع والذئب. قال جرير: من ساقه السنة الحصاء والذيب - فدعا لهم النبي ﷺ فأحيوا وقد كان دعا عليهم فقال: اللهم اشدد وطأتك على مضر وابعث عليهم سنين كسني يوسف.
وفود أبي سفيان إلى كسرى
الأصمعي قال: حدثنا عبد الله بن دينار عن عبد الله بن بكر المري قال: قال أبو سفيان: أهديت لكسرى خيلاً وأدماً فقبل الخيل ورد الأدم وأدخلت عليه فكان وجهه وجهين من عظمه فألقى إلي مخدة كانت عنده فقلت: وا جوعاه! أهذه حظي من كسرى بن هرمز قال: فخرجت من عنده فما أمر على أحد من حشمة إلا أعظمها حتى دفعت إلى خازن له فأخذها وأعطاني ثمانمائة إناء من فضة وذهب. قال الأصمعي: فحدثت بهذا الحديث النوشجان الفارسي فقال: كانت وظيفة المخدة ألفاً أن الخازن اقتطع منها مائتين.
وفود حسان بن ثابت على النعمان بن المنذر
قال: وفد حسان بن ثابت على النعمان بن المنذر قال: فلقيت رجلاً ببعض الطريق فقال لي: أين تريد قلت: هذا الملك قال: فإنك إذا جئته متروك شهراً ثم تترك شهراً آخراً ثم عسى أن يأذن لك فإن أنت خلوت به وأعجبته فأنت مصيب منه خيراً وإن رأيت أبا أمامة النابغة فاظغن فإنه لا شيء لك. قال: فقدمت عليه ففعل بي ما قال: ثم خلوت به وأصبت مالاً كثيراً ونادمته. فبينما أنا معه إذا رجل يرتجز حول القبة ويقول: أنام أم يسمح رب القبة يا أوهب الناس لعنس صلبه ضرابة بالمشفر الأذبة ذات نجاء في يديها جذبه فقال النعمان: أبو أمامة! ائذنوا له. فدخل فحياه وشرب معه ووردت النعم السود ولم يكن لأحد من العرب بعير أسود غيره ولا يفتحل أحد فحلاً أسود. فاستأذنه النابغة في الإنشاد فأذن له فأنشده قصيدته التي يقول فيها: فأمر له بمائة ناقة من الإبل السود برعاتها. فما حسدت أحداً قط حسدي له في شعره وجزيل عطائه.
وفود قريش على سيف بن ذي يزن بعد قتله الحبشة
نعيم بن حماد قال: أخبرنا عبد الله بن المبارك عن سفيان الثوري قال: قال ابن عباس: لما ظفر سيف بن ذي يزن بالحبشة وذلك بعد مولد النبي ﷺ أتته وفود العرب وأشرافها وشعراؤها تهنئه وتمدحه وتذكر ما كان من بلائه وطلبه بثأر قومه. فأتاه وفد قريش فيهم: عبد المطلب بن هاشم وأمية بن عبد شمس وأسد بن عبد العزى وعبد الله بن جدعان فقدموا عليه وهو في قصر له يقال غمدان - وله يقول أبو الصلت والد أمية بن أبي الصلت: ليطلب الثأر أمثال ابن ذي يزن لجج في البحر للأعداء أحوالا أني هرقل وقد شالت نعامته فلم يجد عنده القول الذي قالا ثم انثنى نحو كسرى بعد تاسعة من السنين لقد أبعدت إيغالا من مثل كسرى وبهرام الجنود له ومثل وهرز يوم الجيش إذ جالا لله درهم من عصبة خرجوا ما إن رأينا لهم في الناس أمثالا صيداً جحاجحة بيضاً خضارمة أسداً تربب في الغابات أشبالا أرسلت أسداً على سود الكلاب فقد غادرت أوجههم في الأرض أفلالا اشرب هنيئاً عليك التاج مرتفقاً في رأس غمدان داراً منك محلالا ثم اطل بالمسك إذ شالت نعامتهم وأسبل اليوم في برديك إسبالا تلك المكارم لا قعبان من لبن شيبا بماء فعادا بعد أبوالا فطلبوا الإذن عليه فإذن لهم فدخلوا فوجدوه متضمخاً بالعنبر يلمع وبيص المسك في مفرق رأسه وعليه بردان أخضران قد ائتزر بأحدهما وارتدى بالآخر وسيفه بين يديه والملوك عن يمينه وشماله وأبناء الملوك والمقاول. فدنا عبد المطلب فاستأذنه في الكلام فقال له: قل فقال إن الله تعالى أيها الملك أحلك محلاً رفيعاً صعباً منيعاً باذجاً شامخاً وأنبتك منبتاً طابت أرومته وعزت جرثومته ونبل أصله وبسق فرعه في أكرم معدن وأطيب موطن فأنت - أبيت اللعن - رأس العرب وربيعها الذي به تخصب وملكها الذي له تنقاد وعمودها الذي عليه العماد ومعقلها الذي إليه يلجأ العباد سلفك خير سلف وأنت لنا بعدهم خير خلف ولن يهلك من أنت خلفه ولن يخمل من أنت سلفه. نحن أيها الملك أهل حرم الله وذمته وسدنة بيته أشخصنا إليك الذي أنهجك لكشفك الكرب الذي فدحنا فنحن وفد التهنئة لا وفود المرزئة. قال: من أنت أيها المتكلم قال: أنا عبد المطلب بن هاشم قال: ابن أختنا قال: نعم. فأدناه وقربه ثم أقبل عليه وعلى القوم وقال: مرحباً وأهلا وناقة ورحلا ومستناخاً سهلا وملكاً ربحلا يعطى عطاء جزلا فذهبت مثلا. وكان أول ما تكلم به: قد سمع الملك مقالتكم وعرف قرابتكم وقبل وسيلتكم فأهل الشرف والنباهة أنتم ولكم القربى ما أقمتم والحباء إذا ظعنتم. قال: ثم استنهضوا إلى دار الضيافة والوفود وأجريت عليهم الأنزال فأقاموا ببابه شهراً لا يصلون إليه ولا يأذن لهم في الانصراف. ثم انتبه إليهم انتباهة فدعا بعبد المطلب من بينهم فخلا به وأدنى مجلسه وقال: يا عبد المطلب إني مفوض إليك من سر علمي أمراً لو غيرك كان لم أبح له به ولكني رأيتك موضعه فأطلعتك عليه فليكن مصوناً حتى يأذن الله فيه فإن الله بالغ أمره: إني أجد في العلم المخزون والكتاب المكنون الذي ادخرناه لأنفسنا واحتجبناه دون غيرنا خبراً عظيماً وخطراً جسيماً فيه شرف الحياة وفضيلة الوفاة للناس كافة ولرهطك عامة ولنفسك خاصة. قال عبد المطلب: مثلك يا أيها الملك من بر وسر وبشر ما هو فداك أهل الوبر زمراً بعد قال ابن ذي يزن: إذا ولد مولود بتهامة بين كتفيه شامة كانت له الإمامة إلى يوم القيامة. قال عبد المطلب: أبيت اللعن. لقد أبت بخير ما آب به أحد فلولا إجلال الملك لسألته أن يزيدني في البشارة ما أزداد به سروراً. قال ابن ذي يزن: هذا حينه الذي يولد فيه أو قد ولد يموت أبوه وأمه ويكفله جده وعمه قد ولدناه مراراً والله باعثه جهاراً وجاعل له منا أنصاراً يعز بهم أولياءه ويذل بهم أعداءه ويفتتح كرائم الأرض ويضرب بهم الناس عن عرض يخمد الأديان ويدحر الشيطان ويكسر الأوثان ويعبد الرحمن قوله حكم وفصل وأمره حزم وعدل يأمر بالمعروف ويفعله وينهى عن المنكر ويبطله. فقال عبد المطلب: طال عمرك ودام جدك وعز فخرك فهل الملك يسرني بأن يوضح فيه بعض الإيضاح فقال ابن ذي يزن: والبيت ذي الطنب والعلامات والنصب إنك يا عبد المطلب لجده من غير كذب. فخر عبد المطلب ساجداً. قال ابن ذي يزن: ارفع رأسك ثلج صدرك وعلا أمرك فهل أحسست شيئاً مما ذكرت لك قال عبد المطلب: أيها الملك كان لي ابن كنت له محباً وعليه حدباً مشفقاً فزوجته كريمة من كرائم قومه يقال لها آمنة بنت وهب بن عبد مناف فجاءت بغلام بين كتفيه شامة فيه كل ما ذكرت من علامة مات أبوه وأمه وكفلته أنا وعمه. قال ابن ذي يزن: إن الذي قلت لك كما قلت فاحفظ ابنك واحذر عليه اليهود فإنهم له أعداء ولن يجعل الله لهم عليه سبيلاً اطو ما ذكرت لك دون هؤلاء الرهط الذين معك فإني لست آمن أن تدخلهم النفاسة من أن تكون لكم الرياسة فيبغون له الغوائل وينصبون له الحبائل وهم فاعلون وأبناؤهم. ولولا أني أعلم أن الموت مجتاحي قبل مبعثه لسرت بخيلي ورجلي حتى أصير بيثرب دار مهاجر. فإني أجد في الكتاب الناطق والعلم السابق أن يثرب دار هجرته وبيت نصرته ولولا أني أتوقى عليه الآفات وأحذر عليه العاهات لأعلنت على حداثة سنة أمره وأوطأت أقدام العرب عقبه ولكني صارف ذلك إليك عن غير تقصير مني بمن معك. ثم أمر لكل رجل منهم بعشرة أعبد وعشر إماء سود وخمسة أرطال فضة وحلتين من حلل اليمن وكرش مملوءة عنبراً. وأمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك وقال: إذا حال الحول فأنبئني بما يكون من أمره. فما حول الحول حتى مات ابن ذي يزن فكان عبد المطلب بن هاشم يقول: يا معشر قريش لا يغبطني رجل منكم بجزيل عطاء الملك فإنه إلى نفاذ ولكن يغبطني بما يبقى لي ذكره وفخره لعقبي فإذا قالوا له: وما ذاك قال سيظهر بعد حين.