قوله: (ولا شيء يعجزه) |
شرح: لكمال قدرته.
قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [1]: (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرا) [2] (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيما قَدِيرا) [3] (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) [4].
لا يؤده أي: لا يكرثه ولا يثقله ولا يعجزه.
فهذا النفي لثبوت كمال ضده، وكذلك كل نفي يأتي في صفات الله تعالى في الكتاب والسنة إنما هو لثبوت كمال ضده.
كقوله تعالى: (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدا) [5]، لكمال عدله، (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) [6] لكمال علمه. وقوله تعالى: (وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ) [7] لكمال قدرته، (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) [8] لكمال حياته وقيوميته، (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ) [9] لكمال جلاله وعظمته وكبريائه، وإلا فالنفي الصرف لا مدح فيه، ألا ترى أن قول الشاعر:
قبيلة لا يغدرون بذمة | ولا يظلمون الناس حبة خردل |
لما اقترن بنفي الغدر والظلم عنهم ما ذكره قبل هذا البيت وبعده، وتصغيرهم بقوله قبيلة علم أن المراد عجزهم وضعفهم، لا كمال قدرتهم. وقول الآخر:
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد | ليسوا من الشر في شيء وإن هانا |
لما اقترن بنفي الشر عنهم ما يدل على ذمهم، علم أن المراد عجزهم وضعفهم أيضا.
ولهذا يأتي الإثبات للصفات في كتاب الله مفصلا، والنفي مجملا، عكس طريقة أهل الكلام المذموم: فإنهم يأتون بالنفي المفصل والإثبات المجمل، يقولون: ليس بجسم ولا شبح ولا جثة ولا صورة ولا لحم ولا دم ولا شخص ولا جوهر ولا عرض ولا بذي لون ولا رائحة ولا طعم، ولا مجسة ولا بذي حرارة ولا برودة ولا رطوبة ولا يبوسة ولا طول ولا عرض ولا عمق ولا اجتماع ولا افتراق، ولا يتحرك ولا يسكن ولا يتبعض، وليس بذي أبعاض وأجزاء وجوارح وأعضاء، وليس بذي جهات، ولا بذي يمين ولا شمال وأمام وخلف وفوق وتحت، ولا يحيط به مكان ولا يجري عليه زمان ولا يجوز عليه المماسة ولا العزلة ولا الحلول في الأماكن، ولا يوصف بشيء من صفات الخلق الدالة على حدوثهم، ولا يوصف بأنه متناه، ولا يوصف بمساحة ولا ذهاب في الجهات وليس بمحدود، ولا والد ولا مولود، ولا تحيط به الأقدار ولا تحجبه الأستار الى آخر ما نقله أبو الحسن الأشعري رحمه الله عن المعتزلة.
وفي هذه الجملة حق وباطل. ويظهر ذلك لمن يعرف الكتاب والسنة. وهذا النفي المجرد مع كونه لا مدح فيه، فيه إساءة أدب، فإنك لو قلت للسلطان: أنت لست بزبال ولا كساح ولا حجام ولا حائك! لأدبك على هذا الوصف وإن كنت صادقا، وإنما تكون مادحا إذا أجملت النفي فقلت: أنت لست مثل أحد من رعيتك، أنت أعلى منهم وأشرف وأجل. فإذا أجملت في النفي أجملت في الأدب.
والتعبير عن الحق بالألفاظ الشرعية النبوية الآلهية هو سبيل أهل السنة والجماعة.
والمعطلة يعرضون عما قاله الشارع من الأسماء والصفات، ولا يتدبرون معانيها، ويجعلون ما ابتعدوه من المعاني والألفاظ هو المحكم الذي يجب اعتقاده واعتماده.
وأما أهل الحق والسنة والإيمان فيجعلون ما قاله الله ورسوله هو الحق الذي يجب اعتقاده واعتماده.
والذي قاله هؤلاء إما أن يعرضوا عنه إعراضا جمليا، أو يبينوا حاله تفصيلا، ويحكم عليه بالكتاب والسنة، لا يحكم به على الكتاب والسنة.
والمقصود: أن غالب عقائدهم السلوب، ليس بكذا، ليس بكذا، وأما الإثبات فهو قليل، وهي أنه عالم قادر حي، وأكثر النفي المذكور ليس متلقى عن الكتاب والسنة، ولا عن الطرق العقلية التي سلكها غيرهم من مثبتة الصفات.
فإن الله تعالى قال: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [10]
ففي هذا الإثبات ما يقرر معنى النفي. ففهم أن المراد انفراده سبحانه بصفات الكمال، فهو سبحانه وتعالى موصوف بما وصف به نفسه، ووصفه به رسله، ليس كمثله شيء في صفاته ولا في أسمائه ولا في أفعاله، مما أخبرنا به من صفاته، وله صفات لم يطلع عليها أحد من خلقه، كما قال رسوله الصادق ﷺ في دعاء الكرب: اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي وغمي. وسيأتي التنبيه على فساد طريقتهم في الصفات إن شاء الله تعالى.
وليس قول الشيخ رحمه الله تعالى ولا شيء يعجزه من النفي المذموم، فإن الله تعالى قال: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيما قَدِيرا) [11]، فنبه سبحانه وتعالى في آخر الآية على دليل انتفاء العجز، وهو كمال العلم والقدرة، فإن العجز إنما ينشأ إما من الضعف عن القيام بما يريده الفاعل، وإما من عدم علمه به، والله تعالى لا يعزب عنه مثقال ذرة، وهو على كل شيء قدير، وقد علم ببدائه العقول والفطر كمال قدرته وعلمه، فانتفى العجز، لما بينه وبين القدرة من التضاد، ولأن العاجز لا يصلح أن يكون إلها، تعالى الله عن ذكر ذلك علوا كبيرا.
هامش