→ قوله: ( لايفنى ولايبيد ) | شرح العقيدة الطحاوية المؤلف: ابن أبي العز الحنفي |
قوله: ( لا تبلغه الأوهام، ولا تدركه الأفهام ) ← |
قوله: (ولا يكون إلا ما يريد) |
شرح: هذا رد لقول القدرية والمعتزلة، فإنهم زعموا أن الله أراد الإيمان من الناس كلهم والكافر أراد الكفر. وقولهم فاسد مردود، لمخالفته الكتاب والسنة والمعقول الصحيح، وهي مسألة القدر المشهورة، وسيأتي لها زيادة بيان إن شاء الله تعالى.
وسموا قدرية لإنكارهم القدر، وكذلك تسمى الجبرية المحتجون بالقدر قدرية أيضا.
والتسمية على الطائفة الأولى أغلب.
أما أهل السنة فيقولون: إن الله وإن كان يريد المعاصي قدرا - فهو لا يحبها ولا يرضاها ولا يأمر بها، بل يبغضها ويسخطها ويكرهها وينهى عنها. وهذا قول السلف قاطبة، فيقولون: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
ولهذا اتفق الفقهاء على أن الحالف لو قال: والله لأفعلن كذا إن شاء الله - لم يحنث - إذا لم يفعله وإن كان واجبا أو مستحبا. ولو قال: أن أحب الله - حنث - إذا كان واجبا أو مستحبا.
والمحققون من أهل السنة يقولون: الإرادة في كتاب الله نوعان: إرادة قدرية كونية خلقية، وإرادة دينية أمرية شرعية، فالإرادة الشرعية هي المتضمنة للمحبة والرضى، والكونية هي المشيئة الشاملة لجميع الموجودات.
وهذا كقوله تعالى: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقا حَرَجا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) [1] وقوله تعالى عن نوح عليه السلام: (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) [2] وقوله تعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) [3]
وأما الإرادة الدينية الشرعية الأمرية، فكقوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [4] وقوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [5] وقوله تعالى: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيمايُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفا) [6] وقوله تعالى: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [7] وقوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرا) [8]
فهذه الإرادة هي المذكورة في مثل قول الناس لمن يفعل القبائح: هذا يفعل ما لا يريده الله، أي: لا يحبه ولا يرضاه ولا يأمر به.
وأما الإرادة الكونية فهي الإرادة المذكورة في قول المسلمين: ما شاء الله كان ولم يشأ لم يكن.
والفرق ثابت بين إرادة المريد أن يفعل، وبين إرادته من غيره أن يفعل.
فإذا أراد الفاعل أن يفعل فعلا فهذه الإرادة معلقة بفعله، وإذا أراد من غيره أن يفعل فعلا فهذه الإرادة لفعل الغير، وكلا النوعين معقول للناس، والأمر يستلزم الإرادة الثانية دون الأولى، فالله تعالى إذا أمر العباد بأمر فقد يريد إعانة المأمور على ما أمر به وقد لا يريد ذلك، وإن كان مريدا منه فعله.
وتحقيق هذا مما يبين فصل النزاع في أمر الله تعالى: هل هو مستلزم لإرادته أم لا؟ فهو سبحانه أمر الخلق على ألسن رسله عليهم السلام بما ينفعهم ونهاهم عما يضرهم، ولكن منهم من أراد أن يخلق فعله، فأراد سبحانه أن يخلق ذلك الفعل ويجعله فاعلا له.
ومنهم من لم يرد أن يخلق فعله، فجهة خلقه سبحانه لأفعال العباد وغيرها من المخلوقات، غير جهة أمره للعبد على وجه البيان لما هو مصلحة للعبد أو مفسدة، وهو سبحانه - إذ أمر فرعون وأبا لهب وغيرهما بالإيمان - كان قد بين لهم ما ينفعهم ويصلحهم إذا فعلوه، ولا يلزم إذا أمرهم أن يعينهم، بل قد يكون في خلقه لهم ذلك الفعل وإعانتهم عليه وجه مفسدة من حيث هو فعل له، فإنه يخلق ما يخلق لحكمة، ولا يلزم إذا كان الفعل المأمور به مصلحة للمأمور، إذا فعله - أن يكون مصلحة للأمر إذا فعله هو أو جعل المأمور فاعلا له.
فأين جهة الخلق من جهة الأمر؟ فالواحد من الناس يأمر غيره وينهاه مريدا النصيحة ومبينا لما ينفعه، وإن كان مع ذلك لا يريد أن يعينه على ذلك الفعل، اذ ليس كل ما كان مصلحتي في أن آمر به غيري وأنصحه - يكون مصلحتي في أن أعاونه أنا عليه، بل قد تكون مصلحتي إرادة ما يضاده. فجهة أمره لغيره نصحا غير جهة فعله لنفسه، وإذا أمكن الفرق في حق المخلوقين فهو في حق الله أولى بالإمكان.
والقدرية تضرب مثلا بمن أمر غيره بأمره، فإنه لا بد أن يفعل ما يكون المأمور أقرب الى فعله، كالبشر والطلاقة وتهيئة المساند والمقاعد ونحو ذلك.
فيقال لهم: هذا يكون على وجهين: أحدهما: أن تكون مصلحة الأمر تعود الى الآمر، كأمر الملك جنده بما يؤيد ملكه، وأمر السيد عبده بما يصلح ملكه، وأمر الإنسان شريكه بما يصلح الأمر المشترك بينهما، ونحو ذلك.
الثاني: أن يكون الآمر يرى الإعانة للمأمور مصلحة له، كالأمر بالمعروف، وإذا أعان المأمور على البر والتقوى فإنه قد علم أن الله يثيبه على إعانته على الطاعة، وأنه في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.
فأما إذا قدر أن الآمر إنما أمر المأمور لمصلحة المأمور، لا لنفع يعود على الآمر من فعل المأمور، كالناصح المشير، وقدر أنه إذا أعانه لم يكن ذلك مصلحة للآمر، وأن في حصول مصلحة المأمور مضرة على الآمر، مثل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى وقال لموسى عليه السلام: (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) [9]
فهذا مصلحته في أن يأمر موسى عليه السلام بالخروج، لا في أن يعينه على ذلك، إذ لو أعانه لضره قومه. ومثل هذا كثير.
وإذا قيل: أن الله أمر العباد بما يصلحهم، لم يلزم من ذلك أن يعينهم على ما أمرهم به، لا سيما وعند القدرية لا يقدر أن يعين أحدا على ما به يصير فاعلا.
وإذا عللت أفعاله بالحكمة، فهي ثابتة في نفس الأمر، وإن كنا نحن لا نعلمها.
فلا يلزم إذا كان نفس الآمر له حكمة في الأمر أن يكون في الإعانة على فعل المأمور به حكمة، بل قد تكون الحكمة تقتضي أن لا يعينه على ذلك، فإنه إذا أمكن في المخلوق أن يكون مقتضى الحكمة والمصلحة أن يأمر لمصلحة المأمور، وأن تكون الحكمة والمصلحة للآمر أن لا يعينه على ذلك -: فإمكان ذلك في حق الرب أولى وأحرى.
والمقصود: أنه يمكن في حق المخلوق الحكيم أن يأمر غيره بأمر ولا يعينه عليه، فالخالق أولى بإمكان ذلك في حقه مع حكمته. فمن أمره وأعانه على فعل المأمور كان ذلك المأمور به قد تعلق به خلقه وأمره إنشاء وخلقا ومحبة، فكان مرادا بجهة الخلق ومرادا بجهة الأمر.
ومن لم يعنه على فعل المأمور كان ذلك المأمور قد تعلق به أمره ولم يتعلق به خلقه، لعدم الحكمة المقتضية لتعلق الخلق به، ولحصول الحكمة المقتضية لخلق ضده.
وخلق أحد الضدين ينافي خلق الضد الآخر، فإن خلق المرض - الذي يحصل به ذل العبد لربه ودعاؤه وتوبته وتكفير خطاياه ويرق به قلبه ويذهب عنه الكبرياء والعظمة والعدوان -يضاد خلق الصحة التي لا تحصل معها هذه المصالح.
ولذلك كان خلق ظلم الظالم - الذي يحصل به للمظلوم من جنس ما يحصل بالمرض - يضاد خلق عدله الذي لا يحصل به هذه المصالح، وإن كانت مصلحته هو في أن يعدل.
وتفصيل حكمة الله عز وجل في خلقه وأمره، يعجز عن معرفته عقول البشر، والقدرية دخلوا في التعليل على طريقة فاسدة: مثلوا الله فيها يخلقه، ولم يثبتوا حكمة تعود إليه.
هامش