→ قوله: ( وقدر لهم أقدارا ) | شرح العقيدة الطحاوية المؤلف: ابن أبي العز الحنفي |
قوله: (ولم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم) ← |
قوله: ( وضرب لهم آجالا ) |
شرح: يعني: أن الله سبحانه وتعالى قدر آجال الخلائق، بحيث إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.
قال تعالى: ( إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) [1]
وقال تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابا مُؤَجَّلا) [2]
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: قالت أم حبيبة زوج النبي ﷺ ورضي الله عنها: اللهم أمتعني بزوجي رسول الله، و بأبي سفيان، و بأخي معاوية، قال: فقال النبي ﷺ، قد سألت الله لآجال مضروبة، وأيام معدودة، وأرزاق مقسومة، لن يعجل شيئا قبل أجله، ولن يؤخر شيئا عن أجله، ولو كنت سألت الله أن يعيذك من عذاب في النار وعذاب في القبر-: كان خيرا وأفضل فالمقتول ميت بأجله، فعلم الله تعالى وقدر وقضى أن هذا يموت بسبب المرض، وهذا بسبب القتل، وهذا بسبب الهدم، وهذا بسبب الحرق، وهذا بالغرق، إلى غير ذلك من الأسباب.
والله سبحانه خلق الموت والحياة، وخلق سبب الموت والحياة. وعند المعتزلة: المقتول مقطوع عليه أجله، ولو لم يقتل لعاش إلى أجله فكأن له أجلان وهذا باطل، لأنه لا يليق أن ينسب إلى الله تعالى أنه جعل له أجلا يعلم أنه لا يعيش إليه البتة، أو يجعل أجله أحد الأمرين، كفعل الجاهل بالعواقب، ووجوب القصاص والضمان على القاتل، لارتكابه المنهي عنه ومباشرته السبب المحظور.
وعلى هذا يخرج قوله ﷺ: صلة الرحم تزيد في العمر أي: سبب طول العمر. وقد قدر الله أن هذا يصل رحمه فيعيش بهذا السبب الى هذه الغاية، ولولا ذلك السبب لم يصل إلى هذه الغاية، ولكن قدر هذا السبب وقضاه، وكذلك قدر أن هذا يقطع رحمه فيعيش إلى كذا، كما قلنا في القتل وعدمه.
فإن قيل: هل يلزم من تأثير صلة الرحم في زيادة العمر ونقصانه تأثير الدعاء في ذلك أم لا؟
فالجواب: أن ذلك غير لازم، لقوله ﷺ لأم حبيبة رضي الله عنها: قد سألت الله تعالى لآجال مضروبة الحديث، كما تقدم. فعلم أن الأعمار مقدرة، لم يشرع الدعاء بتغيرها، بخلاف النجاة من عذاب الآخرة.
فإن الدعاء مشروع له نافع فيه، ألا ترى أن الدعاء بتغيير العمر لما تضمن النفع الآخروي - شرع كما في الدعاء من حديث عمار بن ياسر عن النبي ﷺ أنه قال: اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني اذا كانت الوفاة خيرا لي، إلى آخر الدعاء [3].
ويؤيد هذا ما رواه الحاكم في صحيحه من حديث ثوبان رضي الله عنه عن النبي ﷺ: لا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه.
وفي الحديث رد على من يظن أن النذر سبب في دفع البلاء وحصول النعماء، وقد ثبت [4] عن النبي ﷺ: أنه نهى عن النذر، وقال: انه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل.
واعلم أن الدعاء يكون مشروعا نافعا في بعض الأشياء دون بعض، وكذلك هو. وكذلك لا يجيب الله المعتدين في الدعاء.
وكان الامام أحمد رحمه الله يكره أن يدعى له بطول العمر، ويقول: هذا أمر قد فرغ منه.
وأما قوله تعالى: (وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ) [5]، فقد قيل في الضمير المذكور في قوله تعالى: من عمره أنه بمنزلة قولهم: عندي درهم ونصفه، أي: ونصف درهم آخر، فيكون المعنى: ولا ينقص من عمر معمر آخر، وقيل: الزيادة والنقصان في الصحف التي في أيدي الملائكة، وحمل قوله تعالى: (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ*يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) [6] على أن المحو والإثبات من الصحف التي في أيدي الملائكة، وأن قوله: (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) [7] اللوح المحفوظ.
ويدل على هذا الوجه سياق الآية وهو قوله: (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ)، ثم قال: (يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ) أي: من ذلك الكتاب، (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) [8]، أي: أصله، وهو اللوح المحفوظ.
وقيل: يمحو الله ما يشاء من الشرائع وينسخه ويثبت ما يشاء فلا ينسخه، والسياق أدل على هذا الوجه من الوجه الأول، وهو قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ) [9]
فأخبر تعالى أن الرسول لا يأتي بالآيات من قبل نفسه، بل من عند الله، ثم قال: (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) [10]، أي: أن الشرائع لها أجل وغاية تنتهي إليها، ثم تنسخ بالشريعة الأخرى، فينسخ الله ما يشاء من الشرائع عند انقضاء الأجل، ويثبت ما يشاء. وفي الآية أقوال آخرى، والله أعلم بالصواب.
هامش