الرئيسيةبحث

شرح العقيدة الطحاوية/وقوله والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبداً ولا تبيدان

وقوله والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبداً ولا تبيدان


فإن الله تعالى خلق الجنة والنار قبل الخلق ، وخلق لهما أهلاً ، فمن شاء منهم إلى الجنة فضلاً منه ، ومن شاء منهم إلى النار عدلاً منه ، وكل يعمل لما قد فرغ له ، وصائر إلى ما خلق له ، والخير والشر مقدران على العباد .

شرح : أما قوله : إن الجنة والنار مخلوقتان ، فاتفق أهل السنة على أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن ، ولم يزل أهل السنة على ذلك ، حتى نبغت نابغة من المعتزلة والقدرية ، فأنكرت ذلك ، وقالت : بل ينشئهما الله يوم القيامة ! ! وحملهم على ذلك أصلهم الفاسد الذي وضعوا به شريعة لما يفعله الله ، وأنه ينبغي أن يفعل كذا ، ولا ينبغي له أن يفعل كذا ! ! وقاسوه على خلقه في أفعالهم ، فهم مشبهة في الأفعال ، ودخل التجهم فيهم ، فصاروا مع ذلك معطلة ! وقالوا : خلق الجنة قبل الجراء عبث ! لأنها تصير معطلة مدداً متطاولة ! ! فردوا من النصوص ما خالف هذه الشريعة الباطلة التي وضعوها للرب تعالى ، وحرفوا النصوص عن مواضعها ، وضللوا وبدعوا من خالف شريعتهم .

فمن نصوص الكتاب : قوله تعالى عن الجنة : أعدت للمتقين . أعدت للذين آمنوا بالله ورسله . وعن النار : أعدت للكافرين . إن جهنم كانت مرصادا * للطاغين مآبا . وقال تعالى : ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى . وقد رأى النبي ﷺ سدرة المنتهى ، ورأى عندها جنة المأوى . كما في الصحيحين ، من حديث أنس رضي الله عنه ، في قصة الإسراء ، وفي آخره : ثم انطلق بي جبرائيل ، حتى أتى سدرة المنتهى ، فغشيها ألوان لا أدري ما هي ، قال : ثم دخلت الجنة ، فإذا هي جنابذ اللؤلؤ ، واذا ترابها المسك وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، أن رسول الله ﷺ قال : إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي ، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة ، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار ، يقال : هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة . وتقدم حديث البراء بن عازب ، وفيه : ينادي مناد من السماء : أن صدق عبدي ، فأفرشوه من الجنة ، وافتحوا له باباً إلى الجنة ، قال : فيأتيه من روحها وطيبها . وتقدم حديث أنس بمعنى حديث البراء . وفي صحيح مسلم ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : خسفت الشمس على عهد رسول الله ﷺ ، فذكرت الحديث ، وفيه : وقال رسول الله ﷺ : رأيت في مقامي هذا كل شيء وعدتم به ، حتى لقد رأيتني آخذ قطفاً من الجنة حين رأيتموني تقدمت ولقد رأيت النار يحطم بعضها بعضاً حين رأيتموني تأخرت . وفي الصحيحين ، واللفظ للبخاري ، عن عبد الله ابن عباس ، قال : انخسفت الشمس على عهد رسول الله ﷺ ، فذكر الحديث ، وفيه : فقالوا: يا رسول الله رأيناك تناولت شيئاً في مقامك ، ثم رأيناك تكعكعت ؟ فقال : إني رأيت الجنة ، وتناولت عنقوداً ، ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا ، ورأيت النار ، فلم أر منظراً كاليوم قط أفظع ، ورأيت أكثر أهلها النساء ، قالوا : بم ، يا رسول الله ؟ قال : بكفرهن ، قيل : أيكفرن بالله ؟ قال : يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان ، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ، ثم رأت منك شيئاً ، قالت : ما رأيت خيراً قط ! ! وفي صحيح مسلم من حديث أنس : وايم الذي نفسي بيده ، لو رأيتم ما رأيت ، لضحكتم قليلاً وبكيتم كثيراً . قالوا : وما رأيت يا رسول الله ؟ قال : رأيت الجنة والنار وفي الموطأ والسنن ، من حديث كعب ابن مالك ، قال : قال رسول الله ﷺ : إنما نسمة المؤمن طير تعلق في شجر الجنة ، حتى يرجعها الله إلى جسده يوم القيامة . وهذا صريح في دخول الروح الجنة قبل يوم القيامة . وفي صحيح مسلم و السنن و المسند . من حديث أبي هريرة رضي الله عنهما ، أن رسول الله ﷺ قال : لما خلق الله الجنة والنار ، أرسل جبرائيل إلى الجنة ، فقال : اذهب فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها ، فذهب فنظر إليها وإلى ما أعد الله لأهلها فيها ، فرجع فقال : وعزتك ، لا يسمع بها أحد إلا دخلها ، فأمر بالجنة ، فحفت بالمكاره ، فقال : ارجع فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها ، قال : فنظر إليها ، ثم رجع فقال : وعزتك ، لقد خشيت أن لا يدخلها أحد ، قال : ثم أرسله إلى النار ، قال : اذهب فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها ، قال : فنظر إليها ، فإذا هي يركب بعضها بعضاً ، ثم رجع فقال : وعزتك ، لا يدخلها أحد سمع بها ، فأمر بها فحفت بالشهوات ، ثم قال : اذهب فانظر إلى ما أعددت لأهلها فيها ، فذهب فنظر إليها ، فرجع فقال : وعزتك ، لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد إلا دخلها .

ونظائر ذلك في السنة كثيرة .

وأما على قول من قال : إن الجنة الموعود بها هي الجنة التي كان فيها آدم ثم أخرج منها ، فالقول بوجودها الآن ظاهر ، والخلاف في ذلك معروف .

وأما شبهة من قال : إنها لم تخلق بعد ، وهي : أنها لو كانت مخلوقة الآن لوجب اضطراراً أن تفنى يوم القيامة وأن يهلك كل من فيها ويموت ، لقوله تعالى : كل شيء هالك إلا وجهه . و كل نفس ذائقة الموت ، وقد روى الترمذي في جامعه ، من حديث ابن مسعود رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله ﷺ : لقيت إبراهيم ليلة أسري بي ، فقال : يا محمد ، أقرىء أمتك مني السلام ، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة ، عذبة الماء ، وأنها قيعان ، وأن غراسها سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، قال : هذا حديث حسن غريب . وفيه أيضاً من حديث أبي الزبير ، عن جابر ، عن النبي ﷺ ، أنه قال : من قال سبحان الله وبحمده ، غرست له نخلة في الجنة ، قال : هذا حديث حسن صحيح ، قالوا : فلو كانت مخلوقة مفروغاً منها لم تكن قيعاناً ، ولم يكن لهذا الغراس معنى . قالوا : وكذا قوله تعالى عن امرأة فرعون أنها قالت : رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة فالجواب : إنكم إن أردتم بقولكم إنها الآن معدومة بمنزلة النفخ في الصور وقيام الناس من القبور ، فهذا باطل ، يرده ما تقدم من الأدلة وأمثالها مما لم يذكر ، وإن أردتم أنها لم يكمل خلق جميع ما أعد الله فيها لأهلها ، وأنها لا يزال الله يحدث فيها شيئاً بعد شيء ، وإذا دخلها المؤمنون أحدث الله فيها عند دخولهم أموراً أخر- فهذا حق لا يمكن رده ، وأدلتكم هذه إنما تدل على هذا القدر . وأما احتجاجكم بقوله تعالى : كل شيء هالك إلا وجهه ، فأتيتم من سوء فهمكم معنى الآية، واحتجاجكم بها على عدم وجود الجنة والنار الآن - نظير احتجاج إخوانكم على فنائهما وخرابهما وموت أهلهما ! ! فلم توفقوا أنتم لا إخوانكم لفهم معنى الآية ، وإنما وفق لذلك أئمة الاسلام . فمن كلامهم : أن المراد كل شيء مما كتب الله عليه الفناء والهلاك هالك ، والجنة والنار خلقتا للبقاء لا للفناء ، وكذلك العرش ، فإنه سقف الجنة . وقيل : المراد إلا ملكه . وقيل : إلا ما أريد به وجهه . وقيل : إن الله تعالى أنزل : كل من عليها فان ، فقالت الملائكة : هلك أهل الأرض ، وطمعوا في البقاء ، فأخبر تعالى عن أهل السماء والأرض أنهم يموتون ، فقال : كل شيء هالك إلا وجهه ، لأنه حي لا يموت ، فأيقنت الملائكة عند ذلك بالموت . وإنما قالوا ذلك توفيقاً بينها وبين النصوص المحكمة ، الدالة على بقاء الجنة ، وعلى بقاء النار أيضاً ، على ما يذكر عن قريب ، إن شاء الله تعالى .

وقوله : لا تفنيان أبدا ولا تبيدان - هذا قول جمهور الأئمة من السلف والخلف . وقال ببقاء الجنة وبفناء النار جماعة من السلف والخلف ، والقولان مذكوران في كثير من كتب التفسير وغيرها . قال بفناء الجنة والنار الجهم بن صفوان إمام المعطلة ، وليس له سلف قط ، لا من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان ، ولا من أئمة المسلمين ، ولا من أهل السنة . وأنكره عليه عامة أهل السنة ، وكفروه به ، وصاحوا به وبأتباعه من أقطار الأرض . وهذا قاله لأصله الفاسد الذي اعتقده ، وهو امتناع وجود ما لا يتناهى من الحوادث ! وهو عمدة أهل الكلام المذموم ، التي استدلوا بها على حدوث الأجسام ، وحدوث ما لم يخل من الحوادث ، وجعلوا ذلك عمدتهم في حدوث العالم . فرأى جهم أن ما يمنع من حوادث لا أول لها في الماضي ، يمنعه في المستقبل ! ! فدوام الفعل عنده على الرب في المستقبل ممتنع ، كما هو ممتنع عنده عليه في الماضي! ! وأبو الهذيل العلاف شيخ المعتزلة ، وافقه على هذا الأصل ، لكن قال : إن هذا يقتضي فناء الحركات ، فقال بفناء حركات أهل الجنة والنار ، حتى يصيروا في سكون دائم ، لا يقدر أحد منهم على حركة ! ! وقد تقدم الإشارة إلى اختلاف النار في تسلسل الحوادث في الماضي والمستقبل ، وهي مسألة دوام فاعلية الرب تعالى ، وهو لم يزل رباً قادراً فعالاً لما يريد ، فإنه لم يزل حياً عليماً قديراً . ومن المحال أن يكون الفعل ممتنعا عليه لذاته ، ثم ينقلب فيصير ممكناً لذاته ، من غير تجدد شيء ، وليس للأول حد محدود حتى يصير الفعل ممكناً له عند ذلك الحد، ويكون قبله ممتنعاً عليه . فهذا القول تصوره كاف في الجزم بفساده .

فأما أبدية الجنة ، وأنها لا تفنى ولا تبيد ، فهذا مما يعلم بالضرورة أن الرسول ﷺ أخبر به ، قال تعالى : وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ ، أي غير مقطوع ، ولا ينافي ذلك قوله : إلا ما شاء ربك . واختلف السلف في هذا الإستثناء : فقيل : معناه إلا مدة مكثهم في النار ، وهذا يكون لمن دخل منهم إلى النار ثم أخرج منها ، لا لكلهم . وقيل : إلا مده مقامهم في الموقف . وقيل : إلا مدة مقامهم في القبور والموقف. وقيل : هو استثناء الرب ولا يفعله ، كما تقول : والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك ، وأنت لا تراه ، بل تجزم بضربه . وقيل : إلا بمعنى الواو ، وهذا على قول بعض النحاة ، وهو ضعيف . وسيبويه يجعل إلا بمعنى لكن ، فيكون الاستثناء منقطعاً ، ورجحه ابن جرير وقال : إن الله تعالى لا خلف لوعده ، وقد وصل الاستثناء بقوله : عطاء غير مجذوذ . قالوا : ونظيره أن تقول : أسكنتك داري حولاً إلا ما شئت ، أي سوى ما شئت ، ولكن ما شئت من الزيادة عليه . وقيل : الاستثناء لإعلامهم ، بأنهم مع خلودهم في مشيئة الله ، لأنهم يخرجون عن مشيئته ، ولا ينافي ذلك عزيمته وجزمه لهم بالخلود ، كما في قوله تعالى : ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلًا ، وقوله تعالى : فإن يشإ الله يختم على قلبك ، وقوله : قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به . ونظائره كثيرة ، يخبر عباده سبحانه أن الأمور كلها بمشيئته ، ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن . وقيل : إن ما بمعنى من أي : إلا من شاء الله دخوله النار بذنوبه من السعداء . وقيل غير ذلك . وعلى كل تقدير ، فهذا الاستثناء من المتشابه ، وقوله : عطاء غير مجذوذ ، محكم . وكذلك قوله تعالى : إن هذا لرزقنا ما له من نفاد . وقوله : أكلها دائم وظلها . وقوله : وما هم منها بمخرجين . وقد أكد الله خلود أهل الجنة بالتأبيد في عدة مواضع من القرآن ، وأخبر أنهم : لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ، وهذا الاستثناء منقطع ، وإذا ضممته إلى الإستثناء في قوله تعالى : إلا ما شاء ربك - تبين أن المراد من الآيتين استثناء الوقت الذي لم يكونوا فيه في الجنة من مدة الخلود ، كاستثناء الموتة الأولى من جملة الموت ، فهذه موتة تقدمت على حياتهم الأبدية ، وذلك مفارقة للجنة تقدمت على خلودهم فيها .

والأدلة من السنة على أبدية الجنة ودوامها كثيره : كقوله ﷺ : من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس ويخلد ولا يموت . وقوله : ينادي مناد : يا أهل الجنة ، إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً ، وأن تشبوا فلا تهرموا أبداً ، وأن تحيوا فلا تموتوا أبداً . وتقدم ذكر ذبح الموت بين الجنة والنار ، ويقال : يا أهل الجنة ، خلود فلا موت ، ويا أهل النار ، خلود فلا موت .

وأما أبدية النار ودوامها ، فللناس في ذلك ثمانية أقوال : أحدها : أن من دخلها لا يخرج منها أبد الآباد ، وهذا قول الخوارج والمعتزلة . والثاني : أن أهلها يعذبون فيها ، ثم تنقلب طبيعتهم وتبقى طبيعة النارية يتلذذون بها لموافقتها لطبعهم ! وهذا قول إمام الاتحادية ابن عربي الطائي ! ! الثالث : أن أهلها يعذبون فيها إلى وقت محدود ، ثم يخرجون منها ، ويخلفهم فيها قوم آخرون ، وهذا القول حكاه اليهود للنبي ﷺ ، وأكذبهم فيه ، وقد أكذبهم الله تعالى ، فقال عز من قائل : وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة قل أتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون * بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون . الرابع : يخرجون منها ، وتبقى على حالها ليس فيها أحد . الخامس : أنها تفنى بنفسها ، لأنها حادثة وما ثبت حدوثه استحال بقاؤه !! وهذا قول الجهم وشيعته ، ولا فرق عنده في ذلك بين الجنة والنار ، كما تقدم . السادس : تفنى حركات أهلها ويصيرون جماداً ، لا يحسون بألم ، وهذا قول أبي الهذيل العلاف كما تقدم . السابع : أن الله يخرج منها من يشاء ، كما ورد في الحديث ، ثم يبقيها شيئاً ، ثم يفنيها ، فإنه جعل لها أمداً تنتهي إليه . الثامن : أن الله تعالى يخرج منها من شاء ، كما ورد في السنة ، ويبقى فيها الكفار، بقاء لا انقضاء له ، كما قال الشيخ رحمه الله . وما عدا هذين القولين الأخيرين ظاهر البطلان .

وهذان القولان لأهل السنة ينظر في أدلتهما . فمن أدلة القول الأول منهما : قوله تعالى : قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم . وقوله تعالى . فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق * خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد . ولم يأت بعد هذين الاستثناءين ما أتى بعد الاستثناء المذكور لأهل الجنة ، وهو قوله : عطاء غير مجذوذ . وقوله تعالى : لابثين فيها أحقابا . وهذا القول ، أعني القول بفناء النار دون الجنة - منقول عن عمر ، و ابن مسعود ، و أبي هريرة ، و أبي سعيد ، وغيرهم . وقد روى عبد بن حميد في تفسيره المشهور ، بسنده إلى عمر رضي الله عنه ، أنه قال : لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج ، لكان لهم على ذلك وقت يخرجون فيه ، ذكر ذلك في تفسير قوله تعالى : لابثين فيها أحقاباً . قالوا : والنار موجب غضبه ، والجنة موجب رحمته . وقد قال ﷺ : لما قضى الله الخلق ، كتب كتاباً ، فهو عنده فوق العرش : إن رحمتي سبقت غضبي . وفي رواية : تغلب غضبي . رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه . قالوا : والله سبحانه يخبر عن العذاب أنه : عذاب يوم عظيم . و أليم . و عقيم . ولم يخبر ولا في موضع واحد عن النعيم أنه نعيم يوم . وقد قال تعالى : عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء . وقال تعالى حكاية عن الملائكة : ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً . فلا بد أن تسع رحمته هؤلاء المعذبين ، فلو بقوا في العذاب لا إلى غاية لم تسعهم رحمته . وقد ثبت في الصحيح تقدير يوم القيامة بخمسين ألف سنة ، والمعذبون فيها متفاوتون في مدة لبثهم في العذاب بحسب جرائمهم ، وليس في حكمة أحكم الحاكيمن ورحمة أرحم الراحمين أن يخلق خلقاً يعذبهم أبد الآباد عذاباً سرمداً لا نهاية له . وأما أنه يخلق خلقاً ينعم عليهم ويحسن إليهم نعيماً سرمداً ، فمن مقتضى الحكمة . والإحسان مراد لذاته ، والانتقام مراد بالعرض . قالوا : وما ورد من الخلود فيها ، والتأبيد ، وعدم الخروج ، وأن عذابها مقيم ، وأنه غرام - : كله حق مسلم ، لا نزاع فيه ، وذلك يقتضي الخلود في دار العذاب ما دامت باقية ، وإنما يخرج منها في حال بقائها أهل التوحيد . ففرق بين من يخرج من الحبس وهو حبس على حاله ، وبين من يبطل حبسه بخراب الحبس وانتقاضه .

ومن أدلة القائلين ببقائها وعدم فنائها : قوله : ولهم عذاب مقيم . لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون . فلن نزيدكم إلا عذاباً . خالدين فيها أبداً . وما هم منها بمخرجين . وما هم بخارجين من النار . لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط . لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها . إن عذابها كان غراماً ، أي مقيماً لازماً . وقد دلت السنة المستفيضة أنه يخرج من النار من قال : لا إله إلا الله : وأحاديث الشفاعة صريحة في خروج عصاة الموحدين من النار، وأن هذا حكم مختص بهم ، فلو خرج الكفار منها لكانوا بمنزلتهم ، ولم يختص الخروج بأهل الإيمان . وبقاء الجنة والنار ليس لذاتهما ، بل بإبقاء الله لهما .

وقوله : وخلق لهما أهلاً - قال تعالى : ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس ، الآية . وعن عائشة رضي الله عنها ، قالت : دعي رسول الله ﷺ إلى جنازة صبي من الأنصار ، فقلت : يا رسول الله ، طوبى لهذا ، عصفور من عصافير الجنة ، لم يعمل سوءاً ولم يدركه ، فقال : أو غير ذلك يا عائشة ، إن الله خلق للجنة أهلاً ، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم ، وخلق للنار أهلاً ، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم . رواه مسلم و أبو داود و النسائي . وقال تعالى : إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً * إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً . والمراد الهداية العامة ، وأعم منها الهداية المذكورة في قوله تعالى : الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى . فالموجودات نوعان : أحدهما مسخر بطبعه ، والثاني متحرك بإرادته فهدى الأول لما سخره له طبيعة ، وهدى الثاني هداية إرادية تابعة لشعوره وعلمه بما ينفعه ويضره . ثم قسم هذا النوع إلى ثلاثة أنواع : نوع لا يريد إلا الخير ولا يتأتى منه إرادة سواه ، كالملائكة ، ونوع لا يريد إلا الشر ولا يتأتى منه إرادة سواه ، كالشياطين ، ونوع يتأتى منه إرادة القسمين ، كالإنسان . ثم جعله ثلاثة أصناف : صنفاً يغلب إيمانه ومعرفته وعقله هواه وشهوته ، فيلتحق بالملائكة . وصنفاً عكسه ، فيلتحق بالشياطين . وصنفاً تغلب شهوته البهيمية عقله ، فيلتحق بالبهائم . والمقصود : أنه سبحانه أعطى الوجودين : العيني والعلمي ، فكما أنه لا موجود إلا بإيجاده ، فلا هداية إلا بتعليمه ، وذلك كله من الأدلة على كمال قدرته ، وثبوت وحدانيته ، وتحقيق ربوبيته ، سبحانه وتعالى .

وقوله : فمن شاء منهم إلى الجنة فضلاً منه ، ومن شاء منهم إلى النار عدلاً منه ، إلخ - مما يجب أن يعلم : أن الله تعالى لا يمنع الثواب إلا إذا منع سببه ، وهو العمل الصالح ، فإنه : من يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما . وكذلك لا يعاقب أحداً إلا بعد حصول سبب العقاب ، فإن الله تعالى يقول : وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير . وهو سبحانه المعطي المانع ، لا مانع لما أعطى ، ولا معطي لما منع .

لكن إذا من على الإنسان بالإيمان والعمل الصالح ، فلا يمنعه موجب ذلك أصلاً ، بل يعطيه من الثواب والقرب ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر . وحيث منعه ذلك فلانتفاء سببه ، وهو العمل الصالح . ولا ريب أنه يهدي من يشاء ، ويضل من يشاء ، لكن ذلك كله حكمة منه وعدل ، فمنعه للأسباب التي هي الأعمال الصالحة من حكمته وعدله . وأما المسببات بعد وجود أسبابها ، فلا يمنعها بحال ، إذا لم تكن أسباباً غير صالحة ، إما لفساد في العمل ، وإما لسبب يعارض موجبه ومقتضاه ، فيكون ذلك لعدم المقتضي ، أو لوجود المانع . وإذا كان منعه وعقوبته من عدم الإيمان والعمل الصالح ، وهو لم يعط ذلك ابتلاء وابتداء إلا حكمة منه وعدلاً . فله الحمد في الحالين ، وهو المحمود على كل حال ، كل عطاء منه فضل ، وكل عقوبة منه عدل ، فإن الله تعالى حكيم يضع الأشياء في مواضعها التي تصلح لها ، كما قال تعالى : وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته . وكما قال تعالى : وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين . ونحو ذلك . وسيأتي لذلك زيادة ، إن شاء الله تعالى .


شرح العقيدة الطحاوية
المقدمة | قوله: (نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله أن الله واحد لا شريك له) | (انواع التوحيد الذي دعت إليه الرسل) | قوله: (ولاشيء مثله) | قوله: (ولا شيء يعجزه) | قوله: (ولا إله غيره) | قوله:(قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء) | قوله: ( لايفنى ولايبيد ) | قوله: (ولا يكون إلا ما يريد) | قوله: ( لا تبلغه الأوهام، ولا تدركه الأفهام ) | قوله: (ولا يشبهه الأنام) | قوله: (حي لا يموت قيوم لا ينام) | قوله: (خالق بلا حاجة، رازق بلا مؤنة) | قوله: (مميت بلا مخافة، باعث بلا مشقة) | قوله: (ما زال بصفاته قديما قبل خلقه) | قوله: (ليس بعد خلق الخلق استفاد اسم الخالق ولا بأحداثه البرية استفاد اسم الباري) | قوله: (له معنى الربوبية ولا مربوب، ومعنى الخالق ولا مخلوق) | قوله: (وكما أنه محيي الموتى بعد ما أحيا) | قوله: (ذلك بأنه على كل شيء قدير) | قوله: (خلق الخلق بعلمه) | قوله: ( وقدر لهم أقدارا ) | قوله: ( وضرب لهم آجالا ) | قوله: (ولم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم) | قوله: (وأمرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته) | قوله: (وكل شيء يجري بتقديره ومشيئته) | قوله: (يهدي من يشاء، ويعصم ويعافي، فضلا. ويضل من يشاء، ويخذل ويبتلي، عدلا) | قوله: ( وكلهم يتقلبون في مشيئته، بين فضله وعدله ) | قوله: ( وهو متعال عن الأضداد والأنداد ) | قوله: ( لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا غالب لأمره) | قوله: ( آمنا بذلك كله، وأيقنا أن كلا من عنده) | قوله:(وإن محمدا عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، ورسوله المرتضى) | قوله: (وإنه خاتم الانبياء) | قوله: ( وإمام الاتقياء ) | قوله: ( وسيد المرسلين ) | قوله: (وحبيب رب العالمين) | قوله: (وكل دعوى النبوة بعده فغي وهوى) | قوله:(وهو المبعوث إلى عامة الجن وكافة الورى، بالحق والهدى، وبالنور والضياء) | قوله: (وإن القرآن كلام الله ) | قوله: (ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر، فقد كفر) | قوله: (والرؤية حق لأهل الجنة، بغير إحاطة ولا كيفية) | قوله:(ولا تثبت قدم الإسلام الا على ظهر التسليم والاستسلام) | قوله: (فمن رام علم ما حظر عنه علمه) | قوله: (فيتذبذب بين الكفر والإيمان) | قوله:(ولا يصح الإيمان بالرؤية لأهل دار السلام لمن اعتبرها منهم بوهم، أو تأولها بفهم) | قوله: (ومن لم يتوق النفي والتشبيه، زل ولم يصب التنزيه) | قوله: (فإن ربنا جل وعلا موصوف بصفات الوحدانية) | قوله: ( وتعالى عن الحدود والغايات) | قوله: ( والمعراج حق) | قوله:( والحوض - الذي أكرمه الله تعالى به غياثاً لأمته - حق) | قوله: (والشفاعة التي ادخرها لهم حق، كما روي في الأخبار) | قوله: ( والميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته حق ) | قوله: (وقد علم الله تعالى فيما لم يزل عدد من يدخل الجنة، وعدد من يدخل النار) | قوله: (وكل ميسر لما خلق له، والأعمال بالخواتيم) | وقوله: (وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه) | قوله: (فهذا جملة ما يحتاج إليه من هو منور قلبه من أولياء الله تعالى) | قوله: ( ونؤمن باللوح والقلم، وبجميع ما فيه قد رقم ) | قوله: ( فلو اجتمع الخلق كلهم على شيء كتبه الله تعالى فيه أنه كائن) | قوله: (وما أخطأ العبد لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه) | قوله: (وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه) | قوله:(وذلك من عقد الإيمان وأصول المعرفة والإعتراف بتوحيد الله تعالى وربوبيته) | قوله:(فويل لمن صار لله تعالى في القدر خصيماً) | وقوله : ( والعرش والكرسي حق ) | قوله:(وهو مستغن عن العرش وما دونه) | قوله:(ونقول: ان الله اتخذ إبراهيم خليلاً ،وكلم الله موسى تكليماً) | قوله:(ونؤمن بالملائكة والنبيين ،والكتب المنزلة على المرسلين) | قوله:(ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين) | قوله : ( ولا نخوض في الله ، ولا نماري في دين الله ) | قوله:(ولا نجادل في القرآن ، ونشهد أنه كلام رب العالمين) | قوله:(ولا نكفرأحداً من أهل القبلة بذنب ، ما لم يستحله) | قوله ونرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم ويدخلهم الجنة برحمته | قوله والأمن والإياس ينقلان عن ملة الاسلام وسبيل الحق بينهما لأهل القبلة | قوله ولا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه | قوله والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان | تابع قوله والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان | تابع أيضا قوله والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان | قوله والمؤمنون كلهم أولياء الرحمن | قوله وأكرمهم عند الله أطوعهم وأتبعهم للقرآن | قوله والايمان هو الايمان بالله | قوله ونحن مؤمنون بذلك كله لا نفرق بين أحد من رسله | قوله وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون | قوله ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة وعلى من مات منهم | قوله ولا ننزل أحداً منهم جنة ولا ناراً | قوله ولا نشهد عليهم بكفر ولا بشرك ولا بنفاق | قوله ولا نرى السيف على أحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا من وجب عليه السيف | قوله ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا | قوله ونتبع السنة والجماعة ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة | قوله ونحب أهل العدل والأمانة ونبغض أهل الجور والخيانة | قوله ونقول الله أعلم فيما اشتبه علينا علمه | قوله ونرى المسح على الخفين في السفر والحضر كما جاء في الاثر | قوله والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين | قوله ونؤمن بالكرام الكاتبين فإن الله قد جعلهم علينا حافظين | قوله ونؤمن بملك الموت الموكل بقبض أرواح العالمين | قوله وبعذاب القبر لمن كان له أهلاً | قوله ونؤمن بالبعث وجزاء الأعمال يوم القيامة | وقوله والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبداً ولا تبيدان | قوله والاستطاعة التي يجب بها الفعل | قوله وأفعال العباد هي خلق الله وكسب من العباد | قوله ولم يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون ولا يطيقون إلا ماكلفهم | قوله وفي دعاء الأحياء وصدقاتهم للأموات | قوله والله تعالى يستجيب الدعوات ويقضي الحاجات | قوله ويملك كل شيء ولا يملكه شيء | قوله والله يغضب ويرضى لا كأحد من الورى | وقوله ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم | قوله ونثبت الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً لأبي بكر الصديق | قوله ثم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه | قوله ثم لعثمان رضي الله عنه | قوله ثم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه | قوله وهم الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون | قوله وأن العشرة الذين سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبشرهم بالجنة | قوله ومن أحسن القول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه الطاهرات من كل دنس | قوله وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين أهل الخير والأثر | قوله ولا نفضل أحداً من الأولياء على أحد من الأنبياء عليهم السلام | قوله ونؤمن بما جاء من كراماتهم وصح عن الثقات من رواياتهم | قوله ونؤمن بأشراط الساعة | قوله ولا نصدق كاهناً ولا عرافاً ولا من يدعي شيئاً يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة | قوله ونرى الجماعة حقاً وصواباً والفرقة زيغاً وعذاباً | قوله ودين الله في الأرض والسماء واحد وهو دين الإسلام | قوله فهذا ديننا واعتقادنا ظاهراً وباطناً