→ قوله:(ولا تثبت قدم الإسلام الا على ظهر التسليم والاستسلام) | شرح العقيدة الطحاوية المؤلف: ابن أبي العز الحنفي |
قوله: (فيتذبذب بين الكفر والإيمان) ← |
قوله: (فمن رام علم ما حظر عنه علمه) |
فمن رام علم ما حظر عنه علمه، ولم يقنع بالتسليم فهمه، حجبه مرامه عن خالص التوحيد، وصافي المعرفة، وصحيح الإيمان
شرح: هذا تقرير للكلام الأول، وزيادة تحذير أن يتكلم في أصول الدين - بل وفي غيرها- بغير علم. وقال تعالى: { وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } [1] وقال تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيد، كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِير } [2]، وقال تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ، ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ } [3] وقال تعالى: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [4] وقال تعالى: { إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى } [5]. إلى غير ذلك من الآيات الدالة على هذا المعنى.
وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ: ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ثم تلا: { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً } [6]. [7].
وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله ﷺ: إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم. [8].
ولا شك أن من لم يسلم للرسول نقص توحيده، فإنه يقول برأيه وهواه، ويقلد ذا رأي وهوى بغير هدى من الله، فينقص من توحيده بقدر خروجه عما جاء به الرسول، فإنه قد اتخذه في ذلك إلهاً غير الله.
قال تعالى: { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ } [9]. أي: عبد ما تهواه نفسه. وإنما دخل الفساد في العالم من ثلاث فرق، كما قال عبد الله بن المبارك رحمه الله عليه:
رأيت الذنوب تميت القلوب | وقد يورث الذل إدمانها |
وترك الذنوب حياة القلوب | وخير لنفسك عصيانها |
وهل أفسد الدين إلا الملوك | وأحبار سوء ورهبانها |
فالملوك الجائرة يعترضون على الشريعة بالسياسات الجائرة، ويعارضونها بها، ويقدمونها على حكم الله ورسوله. وأحبار السوء، وهم العلماء الخارجون عن الشريعة بآرائهم وأقيستهم الفاسدة، المتضمنة تحليل ما حرم الله ورسوله، وتحريم ما أباحه، واعتبار ما ألغاه، وإلغاء ما اعتبره، وإطلاق ما قيده، وتقييد ما أطلقه، ونحو ذلك. والرهبان وهم جهال المتصوفة، المعترضون على حقائق الإيمان والشرع، بالأذواق والمواجيد والخيالات والكشوفات الباطلة الشيطانية، المتضمنة شرع دين لم يأذن به الله، وإبطال دينه الذي شرعه على لسان نبيه ﷺ، والتعوض عن حقائق الإيمان بخدع الشيطان وحظوظ النفس. فقال الأولون: إذا تعارضت السياسة والشرع قدمنا السياسة ! وقال الآخرون: إذا تعارض العقل والنقل قدمنا العقل ! وقال أصحاب الذوق إذا تعارض الذوق والكشف، وظاهر الشرع قدمنا الذوق والكشف.
ومن كلام أبي حامد الغزالي رحمه الله في كتابه الذي سماه إحياء علوم الدين وهومن أجل كتبه، أو أجلها: فإن قلت: فعلم الجدل والكلام مذموم كعلم النجوم أو هو مباح أو مندوب اليه ؟ فاعلم أن للناس في هذا غلواً وإسرافاً في أطراف. فمن قائل: أنه بدعة وحرام، وأن العبد أن يلقى الله بكل ذنب سوى الشرك خير له من أن يلقاه بالكلام. ومن قائل: إنه فرض، إما على الكفاية، وإما على الأعيان، وأنه أفضل الأعمال وأعلى القربات، فإنه تحقيق لعلم التوحيد ونضال عن دين الله. قال: وإلى التحريم ذهب الشافعي و مالك و أحمد بن حنبل و سفيان وجميع أئمة الحديث من السلف وساق الألفاظ عن هؤلاء. قال: وقد اتفق أهل الحديث من السلف على هذا. لا ينحصر ما نقل عنهم من التشديدات فيه، قالوا: ما سكت عنه الصحابة - مع أنهم أعرف بالحقائق وأفصح بترتيب الألفاظ من غيرهم - إلا لما يتولد منه من الشر. وكذلك قال ﷺ: هلك المتنطعون. أي المتعمقون في البحث والاستقصاء. واحتجوا أيضاً بأن ذلك لو كان من الدين لكان أهم ما يأمر به رسول الله ﷺ ويعلم طريقه ويثني على أربابه. ثم ذكر بقية استدلالهم، ثم ذكر استدلال الفريق الآخر. إلى أن قال: فإن قلت: فما المختار عندك ؟ فأجاب بالتفصيل، فقال: فيه منفعة، وفيه مضرة: فهو في وقت الانتفاع حلال أو مندوب أو واجب، كما يقتضيه الحال. وهو باعتبار مضرته في وقت الاستضرار ومحله حرام. قال: فأما مضرته، فإثارة الشبهات، وتحريف العقائد وإزالتها عن الجزم والتصميم، وذلك مما يحصل بالابتداء، ورجوعها بالدليل مشكوك فيه، ويختلف فيه الأشخاص. فهذا ضرره في اعتقاد الحق، وله ضرر في تأكيد اعتقاد البدعة، وتثبيتها في صدورهم، بحيث تنبعث دواعيهم ويشتد حرصهم على الإصرار عليه، ولكن هذا الضرر بواسطة التعصب الذي يثور من الجدل. قال: وأما منفعته، فقد يظن أن فائدته كشف الحقائق ومعرفتها على ما هي عليه وهيئتها، فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف، ولعل التخبيط والتضليل أكثر من الكشف والتعريف. قال: وهذا إذا سمعته من محدث أوحشوي ربما خطر ببالك أن الناس أعداء ما جهلوا، فاسمع هذا ممن خبر الكلام، ثم قاله بعد حقيقة الخبرة وبعد التغلغل فيه إلى منتهى درجة المتكلمين، وجاوز ذلك الى التعمق في علوم أخر سوى نوع الكلام، وتحقق أن الطريق إلى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود. ولعمري لا ينفك الكلام عن كشف وتعريف وإيضاح لبعض الأمور، ولكن على الندور. انتهى ما نقلته عن الغزالي رحمه الله.
وكلام مثله في ذلك حجة بالغة، والسلف لم يكرهوه لمجرد كونه اصطلاحاً جديدا على معان صحيحة، كالإصطلاح على ألفاظ العلوم الصحيحة، ولا كرهوا أيضاً الدلالة على الحق والمحاجة لأهل الباطل، بل كرهوه لاشتماله على أمور كاذبة مخالفة للحق.
ومن ذلك: مخالفتها للكتاب والسنة وما فيه من علوم صحيحة، فقد وعروا الطريق إلى تحصيلها، وأطالوا الكلام في إثباتها مع قلة نفعها، فهي لحم جمل غث على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقى. وأحسن ما عندهم فهو في القرآن أصح تقريراً، وأحسن تفسيراً، فليس عندهم إلا التكلف والتطويل والتعقيد.
كما قيل:
لولا التنافس في الدنيا لما وضعت | كتب التناظر لا المغني ولا العمد |
يحللون بـزعم منهـم عـــقدا | وبالذي وضعـوه زادت العـقد |
فهم يزعمون أنهم يدفعون بالذي وضعوه، الشبه والشكوك، والفاضل الذي يعلم أن الشبه والشكوك زادت بذلك.
ومن المحال أن لا يحصل الشفاء والهدى والعلم واليقين من كتاب الله وكلام رسوله، ويحصل من كلام هؤلاء المتحيرين. بل الواجب أن يجعل ما قاله الله ورسوله هو الأصل، ويتدبر معناه ويعقله، ويعرف برهانه ودليله العقلي والخبري السمعي، ويعرف دلالته على هذا وهذا، ويجعل أقوال الناس التي توافقه وتخالفه متشابهة مجملة، فيقال لأصحابها: هذه الألفاظ تحتمل كذا وكذا، فإن أرادوا بها ما يوافق خبر الرسول قبل، وإن أرادوا بها ما يخالفه رد.
وهذا مثل لفظ المركب والجسم والتحيز والجوهر والجهة والحيز والعرض، ونحو ذلك. فإن هذه الألفاظ لم تأت في الكتاب والسنة بالمعنى الذي يريده أهل الاصطلاح، بل ولا في اللغة، بل هم يخصون بالتعبير بها عن معان لم يعبر غيرهم عنها بها، فتفسر تلك المعاني بعبارات أخر، وينظر ما دل عليه القرآن من الأدلة العقلية والسمعية، وإذا وقع الاستفسار والتفصيل تبين الحق من الباطل.
مثال ذلك، في التركيب. فقد صار له معان:
أحدها. التركيب من متباينين فأكثر. ويسمى: تركيب مزج، كتركيب الحيوان من الطبائع الأربع والأعضاء ونحو ذلك، وهذا المعنى منفي عن الله سبحانه وتعالى، ولا يلزم من وصف الله تعالى بالعلو نحوه من صفات الكمال، أن يكون مركباً بهذا المعنى المذكور.
والثاني: تركيب الجوار، كمصراعي الباب ونحو ذلك، ولا يلزم أيضاً من ثبوت صفاته تعالى إثبات هذا التركيب.
الثالث: التركيب من الأجزاء المتماثلة، وتسمى: الجواهر المفردة.
الرابع: التركيب من الهيولى والصورة، كالخاتم مثلا، هيولاه: الفضة، وصورته معروفة. وأهل الكلام قالوا: إن الجسم يكون مركباً من الجواهر المفردة، ولهم كلام في ذلك يطول، ولا فائدة فيه، وهو أنه: هل يمكن التركيب من جزئين، أو من أربعة، أو ستة، أو ثمانية، أو ستة عشر ؟ وليس هذا التركيب لازماً لثبوت صفاته تعالى وعلوه على خلقه. والحق أن الجسم غير مركب من هذه الأشياء، وإنما قولهم مجرد دعوى، وهذا مبسوط في موضعه.
الخامس: التركيب من الذات والصفات، هم سموه تركيباً لينفوا به صفات الرب تعالى، وهذا اصطلاح منهم لا يعرف في اللغة، ولا في استعمال الشارع، فلسنا نوافقهم على هذه التسمة ولا كرامة. ولئن سموا إثبات الصفات تركيباً -: فنقول لهم: العبرة للمعاني لا للألفاظ، سموه ما شئتم، ولا يترتب على التسمية بدون المعنى حكم ! فلو اصطلح على تسمية اللبن خمراً، لم يحرم بهذه التسمية.
السادس: التركيب من الماهية ووجودها، وهذا يفرضه الذهن أنهما غيران، وأما في الخارج، هل يمكن ذات مجردة عن وجودها، ووجودها مجرد عنها ؟ هذا محال. فترى أهل الكلام يقولون: هل ذات الرب وجوده أم غير وجوده ؟ ولهم في ذلك خبط كثير. وأمثلهم طريقة رأي الوقف والشك في ذلك. وكم يزول بالاستفسار والتفصيل كثير من الأضاليل والأباطيل.
وسبب الإضلال الإعراض عن تدبر كلام الله وكلام رسوله، والإشتغال بكلام اليونان والآراء المختلفة. وإنما سمي هؤلاء: أهل الكلام، لأنهم لم يفيدوا علماً لم يكن معروفاً، وإنما أتوا بزيادة كلام قد لا يفيد، وهو ما يضربونه من القياس لإيضاح ما علم بالحس، وإن كان هذا القياس وأمثاله ينتفع به في موضع آخر، ومع من ينكر الحس. وكل من قال برأيه وذوقه وسياسته - مع وجود النص، أو عارض النص بالمعقول - فقد ضاهى إبليس، حيث لم يسلم لأمر ربه، بل قال: (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين)[10]، وقال تعالى: ( من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً)[11]، وقال تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم)، [12]، وقال تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً)[13]، أقسم سبحانه بنفسه أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا نبيه ويرضوا بحكمه ويسلموا.
هامش