☰ جدول المحتويات
ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في لباسهم
قال المصنف: لما سمع أوائل القوم أن النبي ﷺ كان يرقع ثوبه وأنه قال لعائشة رضي الله عنها: [ لا تخلعي ثوبا حتى ترقعيه ] وأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان في ثوبه رقاع وأن أويسا القرني كان يلتقط الرقاع من المزابل فيغسلها في الفرات ثم يخيطها فيلبسها اختاروا المرقعات وقد أبعدوا في القياس فإن رسول الله ﷺ وأصحابه كانوا يؤثرون البذاذة ويعرضون عن الدنيا زهذا وكان أكثرهم يفعل هذا لأجل الفقر كما روينا عن مسلمة بن عبد الملك أنه دخل على عمر بن العزيز وعليه قميص وسخ فقال لامرأته فاطمة: اغسلي قميص أمير المؤمنين فقالت: والله ماله قميص غيره فأما إذا لم يكن هذا لفقر وقصد البذاذة فما له من معنى
الزهد في اللباس
قال المصنف: فأما الصوفية زماننا فإنهم يعمدون إلى ثوبين أو ثلاثة كل واحد منها على لون فيجعلوها خرقا ويلفقونها فيجمع ذلك الثوب وصفين الشهرة والشهوة فإن لبس مثل هذه المرقعات أشهى عند خلق كثير من الديباج وبها يشتهر صاحبها أنه من الزهاد أفتراهم يصيرون بصورة الرقاع كالسلف كذا قد ظنوا وإن إبليس قد لبس عليهم وقال أنتم صوفية لأن الصوفية كانوا يلبسون المرقعات وأنتم كذلك أتراهم ما علموا أن التصوف معنى لا صورة وهؤلاء قد فاتهم التشبيه في الصورة والمعنى أما الصورة فإن القدماء كانوا يرقعون ضرورة ولا يقصدون التحسن بالمرقع ولا يأخذون أثوابا جددا مختلفة الألوان فيقطعون من كل ثوب قطعة ويلفقونها على أحسن التوقيع ويخيطونها ويسمونها مرقعة وأما عمر رضي الله عنه لما قدم بيت المقدس حين سأل القسيسون والرهبان عن أمير المسلمين فعرضوا عليهم أمراء العساكر مثل أبي عبيدة وخالد بن الوليد وغيرهما فقالوا: ليس هذا المصور عندنا ألكم أمير أو لا؟ فقالوا: لنا أمير غير هؤلاء فقالوا هو أمير هؤلاء قالوا نعم هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالوا أرسلوا إليه ننظره فإن كان هو سلمنا إليكم من غير قتال وإن لم يكن هو فلا فلو حاصرتمونا ما تقدرون علينا فأرسل المسلمين إلى عمر رضي الله عنه وأعلموه بذلك فقدم عليهم وعليه ثوب مرقع سبع عشرة رقعة بينها رقعة من أديم فلما رآه الروحانية والقسوس على هذه الصفة سلموا بيت المقدس إليه من غير قتال فأين هذا مما يفعله جهال الصوفية في زماننا فنسأل الله العفو والعافية وأما المعنى فإن أولئك كانوا أصحاب رياضة وزهد
فصل
قال المصنف: ومن هؤلاء المذمومين من يلبس الصوف تحت الثياب ويلوح بكمه حتى يرى لباسه وهذا لص ليلي ومنهم من يلبس الثياب اللينة على جسده ثم يلبس الصوف فوقها وهذا لص نهاري مكشوف وجاء آخرون فأرادوا التشبه بالصوفية وصعب عليهم البذاذة وأحبوا التنعم ولم يروا الخروج من صورة التصوف لئلا يتعطل المعاش فلبسوا الفوط الرفيعة واعتموا بالرومي الرفيع إلا أنه بغير طراز فالقميص والعمامة على أحدهم بثمن خمسة أثواب من الحرير
وقد لبس إبليس عليهم أنكم من صوفية بنفيس النفس وإنما أرادوا أن يجمعوا بين رسوم التصوف وتنعم أهل الدنيا ومن علاماتهم مصادفة الأمراء ومفارقة الفقراء كبرا وتعظيما وقد كان عيسى بن مريم صلوات الله وسلامه عليه يقول: يا بني إسرائيل ما لكم تأتونني وعليكم ثياب الرهبان وقلوبكم قلوب الذئاب الضواري البسوا لباس الملوك وألينوا قلوبكم بالخشية
وأخبرنا محمد بن أبي القاسم قال أخبرنا حمد بن أحمد الحداد قال أخبرنا أبو نعيم الحافظ ثنا أحمد بن جعفر بن معبد ثنا يحيى بن مطرف ثنا أبو ظفر ثنا جعفر بن سليمان عن مالك دينار قال: إن من الناس ناسا إذا لقوا القراء ضربوا معهم بسهم وإذا لقوا الجبابرة وأبناء الدنيا أخذوا معهم بسهم فكونوا من قراء الرحمن بارك الله فيكم
أخبرنا محمد نا حمد نا أبو نعيم ثنا الحسين بن محمد بن العباس الفقيه ثنا أحمد بن محمد اللالي ثنا أبو حاتم ثنا هدبة ثنا حزم قال سمعت مالك بن دينار يقول: إنكم في زمان أشهب لا يبصر زمانكم إلا البصير إنكم في زمان كثير تفاحشهم قد انتفخت ألسنتهم في أفواههم فطلبوا الدنيا بعمل الآخرة فاحذروهم على أنفسكم لا يوقعكم في شباكهم
أخبرنا المحمدان بن ناصر وابن عبد الباقي قالا أخبرنا حمد بن أحمد نا أحمد بن عبد الله الحافظ ثنا أحمد بن جعفر بن حمدان ثنا عبد الله بن أحمد ثني مهنى الشامي ثنا ضمرة عن سعيد بن شبل قال: نظر مالك بن دينار إلى شاب ملازم للمجسد فجلس إليه فقال له: هل لك أن أكلم بعض العشارين يجزون عليك شيئا وتكون معهم قال: ما شئت يا أبا يحيى: قال فأخذ كفا من تراب فجعله على رأسه
أخبرنا المحمدان قالا نا حمد نا أحمد ثنا قارون بن عبد الكبير الخطابي ثنا هشام بن علي السيرافي ثنا قطن بن حماد بن واقد ثنا أبي ثنا مالك بن دينار قال: كان فتى يتفرى فكان يأتيني فابتلي فولى الجسر فبينما هو يصلي إذ مرت سفينة فيها بط فنادى بعض أعوانه: قرب لنأخذ لعامل بطة فأشار بيده سبحان الله أي بطتين قال فكان أبي إذا حدث بهذا الحديث بكى وأضحك الجلساء
أخبرنا أبو بكر بن حبيب نا أبو سعيد بن أبي صادق ثنا ابن باكويه قال: سمعت محمد بن خفيف يقول: قلت لرويم أوصني فقال هو بذل الروح وإلا فلا تشتغل بترهات الصوفية
أخبرنا بن ناصر نا أبو عبد الله الحميدي نا أبو بكر أحمد بن محمد الأردستاني ثنا عبد الرحمن السلمي قال سمعت أبي يقول بلغني أن رجلا قال للشبلي: قد ورد جماعة من أصحابك وهم في الجامع فمضى فرأى عليهم المرقعات والفوط فأنشأ يقول:
( أما الحيام فإنها كخيامهم *** وأرى نساء الحي غير نسائها )
قال المصنف رحمه الله: قلت واعلم أن هذه البهرجة في تشبيه هؤلاء بأولئك لا تخفى إلا على كل غبي في الغاية فأما أهل الفطنة فيعلمون أنه تنميس بارد والأمر في ذلك على نحو قول الشاعر:
( تشبهت حور الظباء بهم *** إن سكنت فيك ولا مثل سكن )
( أصامت بناطق ونافر *** بآنس وذو خلا بذي شجن )
( مشتبه أعرفه وإنما *** مغالطا قلت لصحبي دار من )
لبس الفوط المرقعات
قال المصنف: وإنما إكراه لبس الفوط المرقعات لأربعة أوجه أحدها أنه ليس من لباس السلف وإنما كان السلف يرقعون ضرورة والثاني أنه يتضمن ادعاء الفقر وقد أمر الإنسان أن يظهر نعمة الله عليه والثالث إنه إظهار للزهد وقد أمرنا بسترة والرابع أنه تشبه بهؤلاء المتزحزحين عن الشريعة ومن تشبه بقوم فهو منهم
وقد أخبرنا ابن الحسين نا بن المذهب نا أحمد بن جعفر ثنا عبد الله بن أحمد ثني أبي ثنا أبو النصر ثنا عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان ثنا حسان بن عطية عن أبي منيب الحرسي عن ابن عمر قال قال رسول الله ﷺ: [ من تشبه بقوم فهو منهم ] وقد أنبأنا أبو زرعة طاهر قال أخبرني أبي قال: لما دخلت بغداد في رحلتي الثانية قصدت الشيخ أبا محمد عبد الله بن أحمد السكري لأقرأ عليه أحاديث - وكان من المنكرين على هذه الطائفة - فأخذت في القراءة فقال: أيها الشيخ إنك لو كنت من هؤلاء الجهال الصوفية لعذرتك أنت رجل من أهل العلم تشتغل بحديث رسول الله ﷺ وتسعى في طلبه فقلت: أيها الشيخ وأي شيء أنكرت علي حتى أنظر فإن كان له أصل في الشريعة لزمته وإن لم يكن له أصل في الشريعة تركته فقال: ما هذه الشوازك التي في مرقعتك؟ فقلت: أيها الشيخ هذه أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما تخبر أن رسول الله ﷺ كان له جبة مكفوفة الجيب والكمين والفرجين بالديباج وإنما وقع الإنكار لأن هذه الشوازك ليست من جنس الثوب والديباج ليس من الجبة فاستدللنا بذلك على أن لهذا أصلا في الشرع يجوز مثله
قال المصنف: قلت لقد أصاب السكري في إنكاره وقل فقه ابن طاهر في الرد عليه فإن الجبة المكفوفة الجيب والكمين قد جرت العادة بلبسها كذلك فلا شهرة في لبسها فأما الشوازك فتجمع شهرة الصورة وشهرة دعوى الزهد وقد أخبرتك أنهم يقطعون الثياب الصحاح ليجعلوها اشوازك لا عن ضرورة يقصدون الشهرة لحسن ذلك والشهرة بالزهد ولهذا وقعت الكراهية وقد كرهها جماعة من مشايخهم كما بينا
أخبرنا أبو بكر بن حبيب العامري نا أبو سعد بن أبي صادق ثنا أبو عبد الله بن باكويه قال سمعت الحسين بن أحمد الفارسي يقول سمعت الحسين بن هند يقول سمعت جعفر الحذاء يقول: لما فقد القوم الفوائد من القلوب اشتغلوا بالظواهر وتزيينها يعني بذلك - أصحاب المصبغات والفوط
أخبرنا ابن حبيب نا ابن صادق ثنا بن باكويه أخبرنا أبو يعقوب الخراط قال سمعت الثوري يقول: كانت المرقعات غطاء على الدر فصارت جيفا على مزابل قال ابن باكويه: وأخبرني أبو الحسن الحنظلي قال نظر محمد بن محمد بن علي الكتاني إلى أصحاب المرقعات فقال: إخواني إن كان لباسكم موافقا لسرائركم لقد أحببتم أن يطلع الناس عليها وإن كانت مخالفة لسرائركم فقد هلكتم ورب الكعبة أخبرنا محمد بن ناصر أنبأنا أبو بكر بن خلف ثنا محمد بن الحسين السلمي قال سمعت نصر بن أبي نصر يقول: قال أبو عبد الله محمد بن عبد الخالق الدينوري لبعض أصحابه: لا يعجبنك ما ترى من هذه اللبسة الظاهرة عليهم فما زينوا الظواهر إلا بعد أن خربوا البواطن وقال ابن عقيل: دخلت يوما الحمام فرأيت على بعض أوتاد السلخ جبة مشوزكة مرقعة بفوط فقلت للحمامي: أرى سلخ الحية فمن داخل فذكر لي بعض من يتصفف للبلاء حوشا للأموال
كثرة ترقيع المرقعة
قال المصنف: وفي الصوفية من يرقع المرقعة حتى تصير كثيفة خارجة عن الحد أخبرنا أبو منصور القزاز قال أخبرنا أحمد بن علي نا القاضي أبو محمد الحسن ين رامين الأسدآبادي نا أبو محمد عبد الله بن محمد الشيرازي نا جعفر الخالدي ثنا بن خباب أبو الحسين صاحب ابن الكريني قال: أوصى لي ابن الكريني بمرقعته فوزنت فردة كم من أكمامها فإذا فيه أحد عشر رطلا قال جعفر وكانت المرقعات تسمى في ذلك الوقت الكيل
فصل
وقد قرروا أن هذه المرقعة لا تلبس إلا من يد شيخ وجعلوا لها إسنادا متصلا كله كذب ومحال وقد ذكر محمد بن طاهر في كتابه فقال باب السنة لبس الخرقة من يد الشيخ فجعل هذا من السنة واحتج بحديث أم خالد أن النبي ﷺ أتى بثياب فيها خميصة سوداء فقال من ترون أكسو هذه فسكت القوم: فقال رسول الله ﷺ: « ائتوني بأم خالد » قالت فأتى بي فألبسنيها بيده وقال: أبلي وأخلقي
قال المصنف: وإنما ألبسها رسول الله ﷺ لكونها صبية وكان أبوها خالد بن سعيد بن العاص وأمها همينة بنت خلف قد هاجروا إلى أرض الحبشة فولدت لهما هناك أم خالد واسمها أمة ثم قدموا فأكرمها رسول الله ﷺ لصغر سنها وكما اتفق فلا يصير هذا سنة وما كان من عادة رسول الله ﷺ إلباس الناس ولا فعل هذا أحد من أصحابه ولا تابعيهم
ثم ليس من السنة عند الصوفية أن يلبس الصغير دون الكبير ولا أن تكون الخرقة سوداء بل مرقعة أو فوطة فهلا جعلوا السنة لبس الخرق السود كما جاء في حديث أم خالد وذكر محمد بن طاهر في كتابه فقال: باب السنة فيما شرط الشيخ على المريد في لبس المرقعة واحتج بحديث عبادة بايعنا رسول الله ﷺ على السمع والطاعة في العسر واليسر قال المصنف فانظر إلى هذا الفقه الدقيق وأين اشتراط الشيخ على المريد من اشتراط رسول الله ﷺ الواجب الطاعة على البيعة الإسلامية اللازمة
فصل
وأما لبسهم المصبغات فإنها كانت زرقاء فقد فاتهم فضيلة البياض وإن كانت فوطا فهو ثوب شهرة وشهرته أكثر من شهرة الأزرق وإن كانت مرقعة فهي أكثر شهرة وقد أمر الشرع بالثياب البيض ونهى عن لباس الشهرة فأما أمره بالثياب البيض فأخبرنا هبة الله بن محمد نا الحسن بن علي التميمي نا أحمد بن جعفر ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ثني أبي ثنا علي بن عاصم نا عبد الله بن عثمان بن حثيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: [ البسوا من ثيابكم البيض فإنها من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم ] قال عبد الله: وحدثني أبي ثنا يحيى بن سعيد عن سفيان ثني حبيب بن أبي ثابت عن ميمون بن أبي شبيب عن سمرة بن جندب عن النبي ﷺ قال: [ البسوا الثياب البيض فإنها أظهر وأطيب وكفنوا فيها موتاكم ] قال الترمذي: هذان حديثان صحيحان وفي الباب عن ابن عمر قال: وهذا يستحبه أهل العلم وقال أحمد بن حنبل وإسحاق: أحب الثياب إلينا أن نكفن فيها البياض وقد ذكر محمد بن طاهر في كتابه فقال: باب السنة في لبسهم المصبغات واحتج بأن النبي صلوات الله عليه وسلامه لبس حلة حمراء وأنه دخل يوم الفتح وعليه عمامة سوداء
قال المصنف: قلت ولا ينكر أن رسول الله ﷺ لبس هذا ولا أن لبسه غير جائز وقد روي أنه كان يعجبه الحبرة وإنما المسنون الذي يأمر به ويداوم عليه وقد كانوا يلبسون الأسود والأحمر فأما الفوط والمرقع فإنه لبس شهرة