تجريد اللباس
قال المصنف: فإن قال قائل تجويد اللباس هوى للنفس وقد أمرنا بمعاهدتها وتزين للخلق وقد أمرنا أن تكون أفعالنا لله لا للخلق فالجواب: أنه ليس كل ما تهواه النفس يذم ولا كل التزين للناس يكره وإنما ينهى عن ذلك إذا كان الشرع قد نهى عنه أو كان على وجه الرياء في باب الدين فإن الإنسان يجب أن يرى جميلا وذلك حظ النفس ولا يلام فيه ولهذا يسرح شعره وينظر في المرآة ويسوي عمامته ويلبس بطانة الثوب الخشن إلى داخل وظهارته الحسنة إلى خارج وليس في شيء من هذا ما يكره ولا يذم
أخبرنا المبارك بن علي الصيرفي نا علي بن محمد بن العلاف نا عبد الملك بن محمد بن بشران نا أحمد بن إبراهيم الكندي نا محمد بن جعفر الخرائطي ثنا بنان بن سليمان ثنا عبد الرحمن بن هانئ عن العلاء بن كثير عن مكحول عن عائشة قالت: [ كان نفر من أصحاب رسول الله ﷺ ينتظرونه على الباب فخرج يريدهم وفي الدار ركوة فيها ماء فجعل ينظر في الماء ويسوي شعره ولحيته فقلت: يا رسول الله وأنت تفعل هذا! قال نعم إذا خرج الرجل إلى أخوانه فليهيئ من نفسه فإن الله جميل يحب الجمال ]
أخبرنا محمد بن ناصر أنبأنا عبد المحسن بن محمد بن علي ثنا مسعود بن ناصر بن أبي زيد نا أبو إسحاق بن محمد بن أحمد نا أبو القاسم عبد الله بن أحمد الفقيه نا الحسن بن سفيان ثنا عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله العرزمي عن أبيه عن أم كلثوم عن عائشة قالت: [ خرج رسول الله ﷺ فمر بركوة لنا فيها ماء فنظر إلى ظله فيها ثم سوى لحيته ورأسه ثم مضى فلما رجع قلت له: يا رسول الله تفعل هذا؟ قال: وأي شيء فعلت؟ نظرت في ظل الماء فهيأت من لحيتي ورأسي إنه لا بأس أن يفعله الرجل المسلم إذا خرج إلى إخوانه أن يهيئ من نفسه ]
قال المصنف رحمه الله: فإن قيل فما وجه ما رويتم عن سري السقطي أنه قال: لو أحسست بإنسان يدخل علي فقلت كذا بلحيتي - وأمر يده على لحيته كأنه يريد أن يسويها من أجل دخول الداخل عليه - لخشيت أن يعذبني الله على ذلك بالنار فالجواب: إن هذا محمول منه على أنه كان يقصد بذلك الرياء في باب الدين من إظهار التخشع وغيره فأما إذا قصد تحسين صورته لئلا يرى منه ما لا يستحسن فإن ذلك غير مذموم فمن اعتقده مذموما فما عرف الرياء ولا فهم المذموم
أخبرنا سعد الخير بن محمد الأنصاري نا علي بن عبد الله بن محمد النيسابوري نا أبو الحسين عبد الغافر بن محمد الفارسي نا محمد بن عيسى بن عمرويه ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ثنا مسلم بن الحجاج ثنا محمد بن المثنى ثني يحيى بن حماد قال: أخبرنا شعبة عن أبان بن تغلب عن فضيل الفقيمي عن إبراهيم النخعي عن علقمة عن ابن مسعود عن النبي ﷺ قال: [ لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر فقال رجل: إن أحدنا يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة قال: إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس ] انفرد به مسلم ومعناه الكبر كبر من بطر الحق وغمط بمعنى ازدرى واحتقر
فصل
وقال المصنف رحمه الله: وقد كان في الصوفية من يلبس الثياب المرتفعة أخبرنا محمد بن ناصر نا أبو طاهر محمد بن أحمد بن أبي الصقر نا علي بن الحسن بن جحاف قال أبو عبد الله أحمد بن عطاء كان أبو العباس بن عطاء يلبس المرتفع من البز كالدبيقي ويسبح بسبح اللؤلؤ ويؤثر ما طال من الثياب
قال المصنف رحمه الله: قلت وهذا في الشهرة كالمرقعات وإنما ينبغي أن تكون ثياب أهل الخير وسطا فانظر إلى الشيطان كيف يتلاعب بهؤلاء بين طرفي نقيض
فصل
قال المصنف رحمه الله: وقد كان الصوفية من إذا لبس ثوبا خرق بعضه وربما أفسد الثوب الرفيع القدر أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد القزاز نا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت نا الحسن بن غالب المقري قال: سمعت عيسى بن علي الوزير يقول: كان ابن مجاهد يوما عن أبي فقيل له الشبلي فقال: يدخل فقال ابن مجاهد: سأسكته الساعة بين يديك وكان من عادة الشبلي إذا لبس شيئا خرق فيه موضعا فلما جلس قال له ابن مجاهد يا أبا بكر أين في العلم فساد ما ينتفع به؟ فقال له الشبلي: أين في العلم { فطفق مسحا بالسوق والأعناق } قال فسكت ابن مجاهد فقال له أبي: أردت أن تسكته فأسكتك ثم قال له: قد أجمع الناس أنك مقرئ الوقت فأين في القرآن إن الحبيب لا يعذب حبيبه؟ قال: فسكت ابن مجاهد فقال له أبي: قل يا أبا بكر فقال: قولته تعالى: { وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم } فقال ابن مجاهد: كأنني ما سمعتها قط
قال المصنف رحمه الله: قلت هذه الحكاية أنا مرتاب بصحتها لأن الحسن بن غالب كان لا يوثق به أخبرنا القزاز نا أبو بكر الخطيب قال: ادعى الحسن بن غالب أشياء تبين لنا فيها كذبه واختلافه فإن كانت صحيحة فقد أبانت عن قلة فهم الشبلي حين احتج بهذه الآية وقلة فهم ابن مجاهد حين سكت عن جوابه وذلك أن قوله: { فطفق مسحا بالسوق والأعناق } لأنه لا يجوز أن ينسب إلى نبي معصوم أنه فعل الفساد
والمفسرون قد اختلفوا في معنى الآية فمنهم من قال مسح على أعناقها وسوقها وقال: أنت في سبيل الله فهذا إصلاح ومنهم من قال: عقرها وذبح الخيل وأكل لحمها جائز فما فعل شيئا فيه جناح فأما إفساد ثوب صحيح لا لغرض صحيح فإن لا يجوز ومن الجائز أن يكون في شريعة سليمان جواز ما فعل ولا يكون في شرعنا أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ أنبأنا محمد بن أحمد بن أبي الصقر ثنا علي بن الحسن بن جحاف الدمشقي قال أبو عبد الله أحمد بن عطاء: كان مذهب أبي علي الروزبادي تخريف أكمامه وتفتيق قميصه قال: فكان يخرق الثوب المثمن فيرتدي بنصفه ويأتزر بنصفه حتى أنه دخل الحمام يوما وكان عليه ثوب ولم يكن مع أصحابه ما يأتزرون به فقطعه على عددهم فاتزروا به وتقدم إليهم أن يدفعوا الخرق إذا خرجوا للحمامي
قال ابن عطاء: قال لي أبو سعيد الكازروني: كنت معه في هذا اليوم وكان الرداء الذي قطعه يقوم بنحو ثلاثين دينارا
قال المصنف رحمه الله: ونظير هذا التفريط ما أنبأنا به زاهر بن طاهر قال: أنبأنا أبو بكر البيهقي نا أبو عبد الله الحاكم قال: سمعت عبد الله بن يوسف يقول: سمعت أبا الحسن البوشنجي يقول: كانت لي قبجة طلبت بمائة درهم فحظرني ليلة غريبان فقلت للوالدة: عندك شيء لضيفي؟ قالت: لا إلا الخبز فذبحت القبجة وقدمتها إليهما
قال المصنف رحمه الله: قد كان يمكنه أن يستقرض ثم يبيعها ويعطي فلقد فرط أخبرنا محمد بن عبد الباقي بن أحمد قال أنبأنا رزق الله بن عبد الوهاب قال أنبأنا أبو عبد الرحمن السلمي قال: سمعت جدي يقول: دخل أبو الحسن الدراج البغدادي الري وكان يحتاج إلى لفاف لرجله فدفع إليه رجل منديلا ديبقيا فشقه نصفين وتلفف به فقيل له: لو بعته واشتريت منه لفافا وأنفقت الباقي فقال رحمه الله: أنا لا أخون المذهب
قال المصنف: وقد كان أحمد الغزالي ببغداد فخرج إلى المحول فوقف على ناعورة تأن فرمى طيلسانه عليها فدارت فتقطع الطيلسان قال المصنف رجمه الله: قلت فانظر إلى هذا الجهل والتفريط والبعد من العلم فإنه قد صح عن رسول الله ﷺ أنه نهى عن إضاعة المال ولو أن رجلا قطع دينارا صحيحا وأنفقه كان عند الفقهاء مفرطا فكيف بهذا التبذير المحرم ونظير هذا تمزيقهم الثياب المطروحة عند الوجد على ما سيأتي ذكره إن شاء الله ثم يدعون أن هذه الحالة لا خير في حالة تنافي الشرع أفتراهم عبيد نفوسهم أن أمروا أن يعلموا بآرائهم فإن كانوا عرفوا أنهم يخالفون الشرع بفعلهم هذا ثم فعلوه إنه لعناد وإن كانوا لا يعرفون فلعمري إنه لجهل شديد
أخبرنا محمد بن أبي القاسم نا حمد بن أحمد نا أبو نعيم أحمد بن عبد ربه الحافظ قال: سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت عبد الله الرازي يقول: لما تغير الحال على أبي عثمان وقت وفاته مزق ابنه أبو بكر قميصا كان عليه ففتح أبو عثمان عينه وقال: يا بني خلاف السنة في الظاهر ورياء باطن في القلب