☰ جدول المحتويات
ذكر تلبيس إبليس على الباطنية
قال المصنف: الباطنية قوم تستروا بالإسلام ومالوا إلى الرفض وعقائدهم وأعمالهم تباين الإسلام بالمرة فمحصول قولهم تعطيل الصانع وإبطال النبوة والعبادات وإنكار البعث ولكنهم لا يظهرون هذا في أول أمرهم بل يزعمون أن الله حق وأن محمدا رسول الله والدين الصحيح لكنهم يقولون لذلك سر غير ظاهر وقد تلاعب بهم إبليس فبالغ وحسن لهم مذاهب مختلفة ولهم ثمانية أسماء
الاسم الأول الباطنية: سموا بذلك لأنهم يدعون أن لظواهر القرآن والأحاديث بواطن تجري من الظواهر مجرى اللب من القشر وأنها بصورتها توهم الجهال صورا حلية وهي عند العقلاء رموز وإشارات إلى حقائق خفية وأن من تقاعد عقله من الغوص على الخفايا والأسرار والبواطن والأغوار وقنع بظواهرها كان تحت الأغلال التي هي تكليفات الشرع ومن ارتقى إلى علم الباطن انحط عنه التكليف واستراح من أعبائه قالوا وهم المرادون بقوله تعالى: { ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم } ومرادهم أن ينزعوا من العقائد موجب الظواهر ليقدروا بالتحكم بدعوى الباطل على أبطال الشرائع
الاسم الثاني الإسماعيلية: نسبوا إلى زعيم لهم يقال له محمد بن إسماعيل بن جعفر ويزعمون أن دور الإمامة انتهى إليه لأنه سابع واحتجوا بأن السموات سبع والأرضين سبع وأيام الأسبوع سبعة فدل على أن دور الأئمة يتم بسبعة وعلى هذا فيما يتعلق بالمنصور فيقولون العباس ثم ابنه عبد الله ثم ابنه علي ثم ابنه محمد بن علي ثم إبراهيم ثم السفاح ثم المنصور وذكر أبو جعفر الطبري في تاريخه قال: قال علي بن محمد عن أبيه إن رجلا من الراوندية كان يقال له الأبلق وكان أبرص فبكى بالعلو ودعا الراوندية إليه وزعم أن الروح التي كانت في عيسى بن مريم صارت إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ثم الأئمة واحدا بعد واحد إلى أن صارت إلى إبراهيم بن محمد واستحلوا الحرمات فكان الرجل منهم يدعو الجماعة إلى منزله فيطعمهم ويسقيهم ويحملهم على امرأته فبلغ ذلك أسد بن عبد الله فقتلهم وصلبهم فلم يزل ذلك فيهم إلى اليوم وعبدوا أبا جعفر وصعدوا الخضراء وألقوا نفوسهم كأنهم يطيرون فلا يبلغون الأرض إلا وقد هلكوا وخرج جماعتهم على الناس في السلاح وأقبلوا يصيحون يا أبا جعفر أنت أنت
الاسم الثالث السبعية: لقبوا بذلك لأمرين أحدهما اعتقادهم أن دور الإمامة سبعة سبعة على ما بينا وأن الانتهاء إلى السابع هو آخر الأدوار وهو المراد بالقيامة وأن تعاقب هذه الأدوار لا آخر له والثاني لقولهم أن تدبير العالم السفلي منوط بالكواكب السبعة: زحل ثم المشتري ثم المريخ ثم الزهرة ثم الشمس ثم عطارد ثم القمر
الاسم الرابع البابكية: قال المصنف وهو اسم لطائفة منهم تبعوا رجلا يقال له بابك الخرمي وكان من الباطنية وأصله أنه ولد زنى فظهر في بعض الجبال بناحية أذربيجان سنة إحدى ومائتين وتبعه خلق كثير واستفحل أمرهم واستباح المحظورات وكان إذا علم أن عند أحد بنتا جميلة أو أختا جميلة طلبها فإن بعثها إليه وإلا قتله وأخذها ومكث على هذا عشرين سنة فقتل ثمانين ألفا وقيل خمسة وخمسين ألفا وخمسمائة إنسان وحاربه السلطان وهزم خلقا من الجيوش حتى بعث المعتصم أفسين فحاربه فجاء ببابك وأخيه في سنة ثلاث وعشرين ومائتين فلما دخلا قال لبابك أخوه يا بابك قد عملت ما لم يعمله أحد فاصبر الآن صبرا لم يصبره أحد فقال سترى صبري فأمر المعتصم بقطع يديه ورجليه فلما قطعوا مسح بالدم وجهه فقال المعتصم أنت في الشجاعة كذا وكذا ما بالك قد مسحت وجهك بالدم أجزعا من الموت فقال لا ولكني لما قطعت أطرافي نزف الدم فخفت أن يقال عني إنه اصفر وجهه جزعا من الموت قال فيظن ذلك بي فسترت وجهي بالدم كيلا يرى ذلك مني ثم بعد ذلك ضربت عنقه وأضرمت عليه النار وفعل مثل ذلك بأخيه فما فيهما من صاح ولا تأوه ولا أظهر جزعا لعنهما الله وقد بقي من البابكية جماعة يقال أن لهم ليلة في السنة تجتمع فيها رجالهم ونساؤهم ويطفئون السرج ثم يتناهضون للنساء فيثب كل رجل منهم إلى امرأة ويزعمون أن من احتوى على امرأة يستحلها بالاصطياد لأن الصيد مباح
الاسم الخامس المحمرة: قال المصنف: سموا بذلك لأنهم صبغوا ثيابهم بالحمرة في أيام بابك ولبسوها
الاسم السادس القرامطة: قال المصنف وللمؤرخين في سبب تسميتهم بهذا قولان: أحدهما أن رجلا من ناحية خوزستان قدم سواد الكوفة فأظهر الزهد ودعا إلى إمام من أهل بيت الرسول ﷺ ونزل على رجل يقال له كرميته لقب بهذا لحمرة عينيه وهو بالنبطية حاد العين فأخذه أمير تلك الناحية فحبسه وترك مفتاح البيت تحت رأسه ونام فرقت له جارية فأخذت المفتاح ففتحت البيت وأخرجته وردت المفتاح إلى مكانه فلما طلب فلم يوجد زاد افتتان الناس به فخرج إلى الشام فسمي كرميته باسم الذي كان نازلا عليه ثم خفف فقيل قرمط ثم توارث مكانه أهله وأولاده
والثاني أن القوم قد لقبوا بهذا نسبة إلى رجل يقال له حمدان قرمط كان أحد دعاتهم في الابتداء فاستجاب له جماعة فسموا قرامطة وقرمطية وكان هذا الرجل من أهل الكوفة وكان يميل إلى الزهد فصادفه أحد دعاة الباطنية في فريق وهو متوجه إلى قرية وبين يديه بقر يسوقها فقال حمدان لذلك الراعي وهو لا يعرفه أين مقصدك فذكر قرية حمدان فقال له اركب بقرة من هذه لئلا تتعب فقال إني لم أؤمر بذلك فقال وكأنك لا تعمل إلا بأمر قال نعم قال وبأمر من تعمل قال بأمر مالكي ومالكك ومالك الدنيا والآخرة فقال ذلك إذن هو الله رب العالمين فقال صدقت قال له فما غرضك في هذه القرية التي تقصدها قال أمرت أن أدعو أهلها من الجهل إلى العلم ومن الضلالة إلى الهدى ومن الشقاء إلى السعادة وأن أستنقذهم من ورطات الذل والفقر وأملكهم ما يستغنون به عن الكد: فقال له حمدان أنقذني أنقذك الله وأفض علي من العلم ما تحييني به فما أشد احتياجي إلى مثل هذا فقال ما أمرت أن أخرج السر المخزون إلى كل أحد إلا بعد الثقة به والعهد إليه فقال اذكر عهدك فإني ملتزم به فقال له أن تجعل لي وللإمام على نفسك عهد الله وميثاقه ألا تخرج سر الإمام الذي ألقيه إليك ولا نفس سري أيضا فالتزم حمدان عهده ثم اندفع الداعي في تعليمه فنون جهله حتى استغواه فاستجاب له ثم انتدب للدعاء وصار أصلا من أصول هذه البدعة فسمي أتباعه القرامطة والقرمطية
ثم لم يزل بنوه وأهله يتوارثون مكانه وكان أشدهم بأسا رجل يقال له أبو سعيد ظهر في سنة ست وثمانين ومائتين وقوي أمره وقتل ما لا يحصى من المسلمين وخرب المساجد وأحرق المصاحف وفتك بالحاج وسن لأهله وأصحابه وأخبرهم بمحالات وكان إذا قاتل يقول وعدت النصر في هذه الساعة فلما مات بنوا على قبره قبة وجعلوا على رأسها طائرا من جص
وقالوا إذا طار هذا الطائر خرج أبو سعيد من قبره وجعلوا عند القبر فرسا وخلعة ثياب وسلاحا وقد سول إبليس لهذه الجماعة أنه من مات وعلى قبره فرس حشر راكبا وإن لم يكن له فرس حشر ماشيا وكان أصحاب أبي سعيد يصلون عليه إذا ذكروه ولا يصلون على رسول الله ﷺ فإذا سمعوا من يصلي على رسول الله ﷺ يقولون أتأكل رزق أبي سعيد وتصلي على أبي القاسم وخلف بعده ابنه أبا طاهر ففعل مثل فعله وهجم على الكعبة فأخذ ما فيها من الذخائر وقلع الحجر الأسود فحمله إلى بلده وأوهم الناس أنه الله تعالى
الاسم السابع الخرمية: وخرم لفظ أعجمي ينبي عن الشيء المستلذ المستطاب الذي يرتاح الإنسان له ومقصود هذا الاسم تسليط الناس على اتباع اللذات وطلب الشهوات كيف كانت وطي بساط التكليف وحط أعباء الشرع عن العباد وقد كان هذا الاسم لقبا للمزدكية وهم أهل الإباحة من المجوس الذين تبعوا في أيام قباذ وأباحوا النساء المحرمات وأحلوا كل محظور فسموا هؤلاء بهذا الاسم لمشابهتهم إياهم في نهاية هذا المذهب وإن خالفوهم في مقدماته
الاسم الثامن التعليمية: لقبوا بذلك لأن مبدأ مذهبهم إبطال الرأي وإفساد تصرف العقول ودعاء الخلق إلى التعليم من الإمام المعصوم وأنه لايدرك العلوم إلا بالتعليم
نقد مذهب الباطنية
في ذكر السبب الباعث لهم على الدخول في هذه البدعة قال المصنف اعلم أن القوم أرادوا الانسلال من الدين فشاوروا جماعة من المجوس والمزدكية والثنوية وملحدة الفلاسفة في استنباط تدبير يخفف عنهم ما نابهم من استيلاء أهل الدين عليهم حتى أخرسوهم عن النطق بما يعتقدونه من إنكار الصانع وتكذيب الرسل وجحد البعث وزعمهم أن الأنبياء ممخرقون ومنمسون ورأوا أمر محمد ﷺ قد استطار في الأقطار وأنهم عجزوا عن مقاومته فقالوا سبيلنا أن ننتحل عقيدة طائفة من فرقهم أزكاهم عقلا وأتحفهم رأيا وأقبلهم للمحالات والتصديق بالأكاذيب وهم الروافض فنتحصن بالانتساب إليهم ونتودد إليهم بالحزن على ما جرى على آل محمد من الظلم والذل ليمكننا شتم القدماء الذين نقلوا إليهم الشريعة فإذا هان أولئك عندهم لم يلتفتوا إلى ما نقلوا فأمكن استدراجهم إلى الانخداع عن الدين فإن بقي منهم معتصم بظواهر القرآن والأخبار أوهمناه أن تلك الظواهر لها أسرار وبواطن وأن المنخدع بظواهرها أحمق وإنما الفطنة في اعتقاد بواطنها ثم نبث إليهم عقائدنا ونزعم أنها المراد بظواهرها عندكم فإذا تكثرنا بهؤلاء سهل علينا استدراج باقي الفرق ثم قالوا وطريقنا أن نختار رجلا ممن يساعد على المذهب ويزعم أنه من أهل البيت وأنه يجب على كل الخلق كافة متابعته ويتعين عليهم طاعته لكونه خليفة رسول الله ﷺ والمعصوم من الخطأ والزلل من جهة الله تعالى: ثم لا تظهر هذه الدعوة على القرب من جوار هذا الخليفة الذي وسمناه بالعصمة: فإن قرب الدار يهتك الأستار
وإذا بعدت الشقة وطالت المسافة فمتى يقدر المستجيب للدعوة أن يفتش عن حال الإمام أو يطلع على حقيقة أمره وقصدهم بهذا كله الملك والاستيلاء على أموال الناس: والانتقال منهم لما عاملوههم به من سفك دمائهم ونهب أموالهم قديما فهذا غاية مقصودهم ومبدأ أمرهم
فصل
قال المصنف: وللقوم حيل في اسذلال الناس فهم يميزون من يجوز أن يطمع في استدراجه ممن لا يطمع فيه فإذا طمعوا في شخص نظروا في طبعه: فإن كان مائلا إلى الزهد دعوه إلى الأمانة والصدق وترك الشهوات وإن كان مائلا إلى الخلاعة قرروا في نفسه أن العبادة بله وأن الورع حماقة وإنما الفطنة في اتباع اللذات من هذه الدنيا الفانية ويثبتون عند كل ذي مذهب ما يليق بمذهبه ثم يشككونه فيما يعتقدون فيستجيب لهم أما رجل أبله أو رجل من أبناء الأكاسرة وأولاد المجوس ممن قد انقطعت دولة أسلافه بدولة بدولة الإسلام أو رجل يميل إلا الاستيلاء ولا يساعده الزمان فيعدونه بنيل آماله أو شخص يجب الترفع عن مقامات العوام ويروم بزعمه الاطلاع على الحقائق أو رافضي يتدين بسبب الصحابة رضي الله عنهم أو ملحد من الفلاسفة والثنوية والمتحيرين في الدين أو من قد غلبت عليه حب اللذات وثقل عليه التكليف
فصل
في ذكر نبذة من مذاهبهم قال أبو حامد الطوسي الباطنية قوم يدعون الإسلام ويميلون إلى الرفض وعقائدهم وأعمالهم تباين الإسلام فمن مذهبهم القول بإلهين قديمين لا أول لوجودهما من حيث الزمان إلا أن أحدهما علة لوجود الثاني قالوا: والسابق لا يوصف بوجود ولا عدم ولا هو موجود ولا هو معدوم ولا هو معلوم ولا هو مجهول ولا هو موصوف ولا غير موصوف وحدث عن السابق الثاني وهو أول مبدع ثم حديث النفس الكلية وعندهم أن النبي عليه السلام عبارة عن شخص فاضت عليه من السابق بواسطة الثاني قوة قدسية صافية وزعموا أن جبريل عليه السلام عبارة عن العقل الفائض عليه لا أنه شخص واتفقوا على أنه لا بد لكل عصر من إمام معصوم قائم بالحق يرجع إليه في تأويل الظواهر مساو للنبي عليه السلام في العصمة وأنكروا المعاد وقالوا معنى المعاد عود الشيء إلى أصله وتعود النفس إلى أصلها وأما التكليف فالمنقول عنهم الإباحة المطلقة واستباحة المحظورات وقد ينكرون هذا إذا حكى عنهم وإنما يقرون بأنه لا بد للإنسان من التكليف فإذا اطلع على بواطن الظواهر ارتفعت التكاليف
ولما عجزوا عن صرف الناس عن القرآن والسنة صرفوهم عن المراد بهما إلى مخاريق زخرفوها إذ لو صرحوا بالنفي المحض لقتلوا: فقالوا معنى الجنابة مبادرة المستجيب بإفشاء المستجيب بإفشاء السر ومعنى الغسل تجديد العهد على من فعل ذلك ومعنى الزنا إلقاء نطفة العلم الباطن في نفس من لم يسبق معه عقد العهد: والصيام الإمساك عن كشف السر والكعبة هي النبي والباب علي والطوفان طوفان العلم أعرق به المتمسكون بالشبهة والسفينة الحرز الذي يحصن به من استجاب لدعوته ونار إبراهيم عبارة عن غضب نمرود لا عن نار حقيقة وذبح إسحاق معناه أخذ العهد عليه وعصى موسى حجته ويأجوج ومأجوج هم أهل الظاهر وذكر غيره أنهم يقولون إن الله تعالى لما أوجد الأرواح ظهر لهم فيما بينهم كهم فلم يشكوا أنه واحد منهم فعرفوه فأول من عرفه سلمان الفارسي والمقداد وأبو ذر وأول المنكرين الذي يسمي إبليس: عمر بن الخطاب في خرافات ينبغي أن يصان الوقت العزيز عن التضييع بذكرها: ومثل هؤلاء لم يتمسكوا بشبهة فتكون معهم مناظرة وإنما اخترعوا بواقعاتهم ما أرادوا فإن اتفقت مناظرة لأحدهم فليقل له أعرفتم هذه الأشياء التي تذكرونها عن ضرورة أو عن نظر أو عن نقل عن الإمام المعصوم
فإن قلتم ضرورة فكيف حالفكم ذوو العقول السليمة ولو ساغ للإنسان أن يهدي بدعوى الضرورة في كل ما يهواه جاز لخصمه دعوى الضرورة في نقض ما ادعاه وإن قلتم بالنظر فالنظر عندكم باطل لأنه تصرف بالعقل وقضايا العقول عندكم لا يوثق بها وإن قلتم عن إمام معصوم قلنا فما الذي دعاكم إلى قبول قول بلا معجزة وترك قول محمد ﷺ مع المعجزات ثم ما يؤمنكم أن يكون ما سمع من الإمام المعصوم له باطن غير ظاهر ثم يقال لهم هذه البواطن والتأويلات يجب إخفاؤها أم إظهارها؟ فإن قالوا يجب إظهارها قلنا فلم كتمها محمد ﷺ وإن قالوا يجب إخفاؤها قلنا ما وجب على الرسول إخفاؤه كيف حل لكم إفشاؤه قال ابن عقيل هلك الإسلام بين طائفتين بين الباطنية والظاهرية فأما أهل البواطن فإنهم عطلوا ظواهر الشرع بما ادعوه من تفاسيرهم التي لا برهان لهم عليها حتى لم يبق في الشرع شيء إلا وقد وضعوا وراءه معنى حتى أسقطوا إيجاب الواجب والنهي عن المنهي وأما أهل الظاهر فإنهم أخذوا بكل ما ظهر مما لا بد من تأويله فحملوا الأسماء والصفات على ما عقلوه والحق بين المنزلتين وهو أن تأخذ بالظاهر ما لم يصرفنا عنه دليل ونرفض كل باطن لا يشهد به دليل من أدلة الشرع
قال المصنف: ولو لقيت مقدم هذه الطائفة المعروفة بالباطنية لم أكن سالكا معه طريق العلم بل التوبيخ والازدراء على عقله وعقول أتباعه بأن أقول أن للآمال طرقا تسلك ووجوها توصل ووضع الأمل في وجه اليأس حمق ومعلوم أن هذه الملل التي قد طبقت الأرض أقر بها شريعة الإسلام التي تتظاهرون بها وتطمعون في إفسادها قد تمكنت تمكنا يكون الطمع في تمحيقها فضلا عن إزالتها حمقا فلها مجمع كل سنة بعرفة ومجمع كل أسبوع في الجوامع ومجمع كل يوم في المساجد فمتى تحدثكم نفوسكم بتكدير هذا البحر الزاخر وتمحيق هذا الأمر الظاهر: في الآفاق يؤذن كل يوم على ما بين ألوف منابر بأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله وغاية ما أنتم عليه حديث في خلوة: أو متقدم في قلعة: إن نبس بكلمة يرمي رأسه وقتل الكلاب فمتى يحدث العاقل منكم نفسه بظهور ما أنتم عليه على هذا الأمر الكلي الذي طبق البلاد فما أعرف أحمق منكم إلى أن يجيء إلى باب المناظرة بالبراهين العقلية
قال المصنف: والتهبت جمرة الباطنية المتأخرين في سنة أربع وتسعين وأربعمائة فقتل جلال الدولة برقيارق خلقا منهم لما تحقق مذهبهم فبلغت عدة القتلى ثلثمائة ونيفا وتتبعت أموالهم فوجد لأحدهم سبعون بيتا من اللآلئ المحفور وكتب بذلك كتاب إلى الخليفة: فتقدم بالقبض على قوم يظن فيهم ذلك المذهب ولم يتجاسر أحد أن يشفع في أحد لئلا يظن ميله إلى ذلك المذهب: وزاد تتبع العوام لكل من أرادوا وصار كل من في نفسه شيء من إنسان يرميه بهذا المذهب فيقصيه وينتهب ماله وأول ما عرف من أحوال الباطنية في أيام الملك شاه جلال الدولة أنهم اجتمعوا فصلوا صلاة العيد في ساوة ففطن بهم الشحنة فأخذهم وحبسهم ثم أطلقهم ثم اغتالوا مؤذنا من أهل ساوة فاجتهدوا أن يدخل معهم فلم يفعل فخافوه أن ينم عليهم فاغتالوه فقتلوه فبلغ الخبر إلى نظام الملك فتقدم يأخذ من يتهم فيقتله فقتل المتهم وكان نجارا وكانت أول فتكة لهم فتكهم بنظام الملك وكانوا يقولون قتلتم منا نجارا فقتلنا به نظام الملك
واستفحل أمرهم بأصبهان فلما مات الملك شاه وآل الأمر إلى أنهم كانوا يسرقون الإنسان ويقتلونه ويلقونه في البئر وكان الإنسان إذا دنا وقت العصر ولم يعد إلى منزله أيسوا منه وفتش الناس المواضع فوجدوا امرأة في دار لا تبرح فوق الحصير فأزالوها فوجدوا تحت الحصير أربعين قتيلا فقتلوا المرأة وأحرقوا الدار والمحلة وكان يجلس رجل ضرير على باب الزقازق الذي فيه هذه الدار فإذا مر إنسان سأله أن يقوده خطوات إلى الزقاق فإذا حصل هناك جذبه من في الدار واستولوا عليه فجد المسلمون في طلبهم بأصبهان وقتلوا منهم خلقا كثيرا وأول قلعة تملكها الباطنية قلعة في ناحية يقال لها الروزباد من نواحي الديلم وكانت هذه القلعة لقماح صاحب ملكشاه وكان يستحفظها متهما بمذهب القوم فأخذ ألفا ومائتي دينار وسلم إليهم القلعة في سنة ثلاث وثمانين في أيام ملكشاه وكان مقدمتها الحسن بن الصباح وأصله من مرو وكان كاتبا للرئيس عبد الرزاق بن بهرام إذ كان صبيا ثم إلى مصر وتلقى من دعاتهم المذاهب وعاد داعية القوم ورأسا فيهم وحصلت له هذه القلعة وكانت سيرته في دعاته ألا يدعو إلا غبيا لا يفرق بين يمينه وشماله مثلا ومن لا يعرف أمور الدنيا ويطعمه الجوز والعسل والشونيز حتى ينبسط دماغه ثم يذكر له حينئذ ما تم على أهل بيت المصطفى صلوات الله وسلامه عليه وعليهم من الظلم والعدوان حتى يستقر ذلك في نفسه ثم يقول إذا كانت الأزارقة والخوارج سمحوا بنفوسهم في قتال بني أمية فما سبب بخلك بنفسك في نصرة إمامك فيتركه بهذه المقالة طعمة للسيف وكان ملكشاه قد أرسل إلى ابن الصباح ويدعوه إلى الطاعة ويتهدده أن خالفه ويأمره بالكف عن بث أصحابه لقتل العلماء والأمراء فقال في جواب الرسالة والرسول حاضر الجواب ما تراه ثم قال لجماعة وقوف بين يديه أريد أن أنقذكم إلى مولاكم في حاجة فمن ينهض لها باشرأب كل منهم لذلك فظن رسول السلطان أنها رسالة يحملها إياهم فأومأ إلى شاب منهم فقال له اقتل نفسك فجذب سكينه وضرب بها غلصمته فخر ميتا وقال لآخر ارم نفسك من القلعة فألقى نفسه فتمزق ثم التفت إلى رسول السلطان فقال أخبره أن عندي من هؤلاء عشرين ألفا هذا حد طاعتهم لي وهذا هو الجواب فعاد الرسول إلى السطان ملكشاه فأخبره بما رأى فعجب من ذلك وترك كلامهم وصارت بأيديهم قلاع كثيرة ثم قتلوا جماعة من الأمراء والوزراء قال المصنف: وقد ذكرنا من صفة القوم في التاريخ أحوالا عجيبة فلم نر التطويل بها هنا
وكم زنديق في قلبه حقد على الإسلام خرج فبالغ واجتهد فزخرف دعاوى يلقي بها من يصحبه: وكان غور مقصده في الاعتقاد الانسلال من ربقة الدين وفي العمل نيل الملذات واستباحة المحظورات فمنهم بابك الخرمي حصل له مقصوده من اللذات ولكن بعد أن قتل الناس وبالغ في الأذى ثم القرامطة وصاحب الزنج الذي خرج فاستغوى المماليك السودان ووعدهم الملك: فنهب وفتك وقتل وبالغ وكانت عواقبهم في الدنيا أقبح العواقب فما وفى ما نالوا بما نيل منهم ومنهم من لم يبرح على تعثيره ففاتته الدنيا والآخرة مثل ابن الراوندي والمعري
أنبأنا محمد بن أبي طاهر عن أبي القاسم علي بن المحسن التنوخي عن أبيه قال كان ابن الراوندي ملازم الرافضة وأهل الإلحاد فإذا عوتب قال إنما أريد أن أعرف مذاهبهم ثم كاشف وناظر
قال المصنف: من تأمل حال ابن الراوندي وجده من كبار الملحدة وصنف كتابا سماه الدامغ زعم أنه يدمغ به هذه الشريعة فسبحان من دمغة فأخذه وهو في شرخ الشباب وكان يعترض على القرآن ويدعي عليه التناقض وعدم الفصاحة: وهو يعلم أن فصحاء العرب تحيرت عند سماعه فكيف بالألكن وأما أبو العلاء المعري فأشعاره ظاهرة الإلحاد: وكان يبالغ في عداوة الأنبياء ولم يزل متخبطا في تعثيره خائفا من القتل إلى أن مات بخسرانه وما خلا زمان من خلف للفريقين إلا أن جمرة المنبسطين قد خبت بحمد الله فليس إلا باطني مستتر ومتفلسف متكاتم هو أعثر الناس وأخسأهم قدرا وأردأهم عيشا وقد شرحنا أحوال جماعة من الفريقين في التاريخ فلم نر التطويل بذلك والله الموفق