☰ جدول المحتويات
- الباب الثامن: ذكر تلبيس إبليس على العباد في العبادات
- ذكر تلبيسه عليهم في الاستطابة والحدث
- ذكر تلبيسه عليهم في الوضوء
- ذكر تلبيسه عليهم في الأذان
- ذكر تلبيسه عليهم في الصلاة
- فصل
- فصل
- ترك السنن
- فصل
- فصل
- الإكثار من صلاة الليل
- فصل
- تلبيسه عليهم في القرآن
- فصل
- فصل
- ذكر تلبيسه عليهم في قراءة القرآن
- ذكر تلبيسه عليهم في الصوم
- فصل
- ذكر تلبيسه عليهم في الحج
- تلبيسه عليهم في التوكل
- ذكر تلبيس إبليس على الغزاة
- فصل
- فصل
- ذكر تلبيسه على الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر
- فصل
- فصل
- فصل
- فصل
الباب الثامن: ذكر تلبيس إبليس على العباد في العبادات
قال المصنف: اعلم أن الباب الأعظم الذي يدخل منه إبليس على الناس هو الجهل فهو يدخل منه على الجهال بأمان وأما العالم فلا يدخل عليه إلا مسارقة وقد لبس إبليس على كثير من المتعبدين بقلة علمهم لأنت جمهورهم يشتغل بالتعبد ولم يحكم العلم وقد قال الربيع بن حثيم تفقه ثم اعتزل:
فأول تلبيسه عليهم إيثارهم التعبد على العلم والعلم أفضل من النوافل فأراهم أن المقصود من العلم العمل وما فهموا من العمل إلا عمل الجوارح وما علموا أن العمل عمل القلب وعمل القلب أفضل من عمل الجوارح قال مطرف بن عبد الله: فضل العلم خير من فضل العبادة وقال يوسف بن أسباط: باب من العلم تتعلمه أفضل من سبعين غزاة وقال المعافى بن عمران: كتابة حديث واحد أحب إلي من صلاة ليلة
قال المصنف: فلما مر عليهم هذا التلبيس وآثروا التعبد بالجوارح على العلم تمكن إبليس من التلبيس عليهم في فنون التعبد
ذكر تلبيسه عليهم في الاستطابة والحدث
من ذلك: أنه يأمرهم بطول المكث في الخلاء وذلك يؤذي الكبد وإنما ينبغي أن يكون بمقدار ومنهم من يقوم فيمشي ويتنحنح ويرفع قدما ويحط أخرى وعنده أنه يستنقي بهذا وكلما زاد في هذا نزل البول - وبيان هذا أن الماء يرشح إلى المثانة ويجمع فيها فإذا تهيأ الإنسان للبول خرج ما اجتمع فإذا مشى وتنحنح وتوقف رشح شيء آخر فالرشح لا ينقطع وإنما يكفيه أن يحتلب ما في الذكر بين أصبعيه ثم يتبعه الماء ومنهم من يحسن له استعمال الماء الكثير وإنما يجزيه بعد زوال العين سبع مرات على أشد المذاهب فإن استعمل الأحجار فيما لم يتعد المخرج أجزأه ثلاثة أحجار إذ أنقى بهن ومن لم يقنع بما قنع الشرع به فهو مبتدع شرعا لا متبع والله الموفق
ذكر تلبيسه عليهم في الوضوء
منهم من يلبس عليه في النية فتراه يقول: أرفع الحدث ثم يقول: أستبيح الصلاة ثم يعيد فيقول: أرفع الحدث وسبب هذا التلبيس الجهل بالشرع لأن النية بالقلب لا باللفظ فتكلف اللفظ أمر أملا يحتاج إليه ثم لا معنى لتكرار اللفظ ومنهم من يلبس عليه بالنظر في الماء المتوضأ به فيقول: من أين لك أنه طاهر ويقدر له فيه كل احتمال بعيد وفتوى الشرع يكفيه بأن أصل الماء الطهارة فلا يترك الأصل بالاحتمال
ومنهم من يلبس عليه بكثرة استعمال الماء وذلك يجمع أربعة أشياء مكروهة الإسراف في الماء وتضييع العمر القيم فيما ليس بواجب ولا مندوب والتعاطي على الشريعة إذا لم يقنع بما قنعت به من استعمال الماء القليل والدخول فيما نهت عنه من الزيادة على الثلاث وربما أطال الوضوء ففات وقت الصلاة أو فات أوله وهو الفضيلة أو فاتته الجماعة
وتلبيس إبليس على هذا: بأنك في عبادة ما لم تصح لا تصح الصلاة ولو تدبر أمره لعلم أنه مخالف وتفريط وقد رأينا من ينظر في هذه الوساوس ولا يبالي بمطعمه ومشربه ولا يحفظ لسانه من غيبة فليته قلب الأمر
وفي الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص [ أن النبي ﷺ مر بسعد وهو يتوضأ فقال: ما هذا السرف يا سعد قال: أفي الوضوء سرف قال نعم وإن كنت على نهر جار ] وفي الحديث عن أبي عن النبي ﷺ قال: للوضوء شيطان يقال له الولهان فاتقوه أو قال: فاحذروه وعن الحسن رضي الله عنه قال: شيطان الوضوء يدعى الولهان يضحك بالناس في الوضوء وبإسناد مرفوع إلى أبي نعامة إن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول اللهم إني أسألك الفردوس وأسألك فقال عبد الله سل الجنة وتعوذ من النار فإني سمعت النبي ﷺ يقول: سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الدعاء والطهور وعن أبي شوذب قال: كان الحسن يعرض بابن سيرين يقول: يتوضأ أحدهم بقربه ويغتسل بمزادة صبا صبا ودلكا دلكا تعذيبا لأنفسهم وخلافا لسنة نبيهم ﷺ وكان أبو الوفاء بن عقيل يقول: أجل محصول عند العقلاء الوقت وأقل متعبد به الماء وقد قال ﷺ صبوا على بول الأعرابي ذنوبا من ماء وقال في المني أمطه عنك بأذخره قال: وفي الحذاء طهوره بأن يدلك بالأرض وفي ذيل المرأة يطهره ما بعده وقال: يغسل بول الجارية وينضح بول الغلام وكان يحمل ابنة أبي العاص بت الربيع في الصلاة ونهى الراعي عن إعلام السائل له عن الماء وما يرده
وقال ما أبقيت لنا طهور: وقال: يا صاحب الماء لا تخبره وقد صالح رسول الله ﷺ الأعراب وركب الحمار معروريا وما عرف من خلقه التعبد بكثرة الماء وتوضأ من سقاية المسجد ومعلوم حال الأعراب الذين يأتي أحدهم من البادية كأنه بهيمة أو ما سمعت أن أحدهم أقدم على البول في المسجد كل ذلك لتعليمنا وإعلامنا أن الماء على أصل الطهارة وتوضأ من غدير كأن ماءه نقاعة الحناء فأما قوله استنزهوا البول فإن للتنزه حدا معلوما وهو أن لا يغفل عن محل قد أصابه حتى يتبعه الماء فأما الاستنثار فإنه إذا علق نما وانقطع الوقت بما لا يقضي بمثله الشرع
قال المصنف: وكان أسود بن سالم وهو من كبار الصالحين يستعمل ماءا كثيرا في وضوئه ثم ترك ذلك فسأله رجل عن سبب تركه فقال: نمت ليلة فإذا بهاتف يهتف بي يا أسود ما هذا يحيى بن سعيد الأنصاري حدثني عن سعيد بن المسيب قال: إذا جاوز الوضوء ثلاثا لم يرفع إلى السماء قال: قلت لا أعود لا أعود فأنا اليوم يكفيني كف ماء.
ذكر تلبيسه عليهم في الأذان
ومن ذلك التلحين في الأذان وقد كرهه مالك بن أنس وغيره من العلماء كراهية شديدة لأنه يخرجه عن موضع التعظيم إلى مشابهة الغناء ومنه أنهم يخلطون أذان الفجر بالتذكير والتسبيح والمواعظ ويجعلون الأذان وسطا فيختلط وقد كره العلماء كل ما يضاف إلى الأذان وقد رأينا من يقوم بالليل كثيرا على المنارة فيعظ ويذكر ومنهم من يقرأ سورا من القرآن بصوت مرتفع فيمنع الناس من نومهم ويخلط على المتهجدين قراءتهم وكل ذلك من المنكرات
ذكر تلبيسه عليهم في الصلاة
من ذلك تلبيسه عليهم في الثياب التي يستتر بها فترى أحدهم يغسل الثوب الطاهر مرارا وربما لمسه مسلم فيغسله ومنهم من يغسل ثيابه في دجلة لا يرى غسلها في البيت يجزئ ومنهم من يدليها في البئر كفعل اليهود وما كانت الصحابة تعمل هذا بل قد صلوا فغي ثياب فارس لما فتحوها واستعملوا أوطئتهم وأكسيتهم ومن الموسوسين من يقطر عليه قطرة ماء فيغسل الثوب كله وربما تأخر لذلك عن صلاة الجماعة ومنهم من ترك الصلاة جماعة لأجل مطر يسير يخاف أن ينتضح عليه - ولا يظن ظان أنني أمتنع من النظافة والورع ولكن المبالغة الخارجة عن حد الشرع المضيعة للزمان هي التي ننهي عنها
ومن ذلك تلبيسه عليهم في نية الصلاة فمنهم من يقول أصلي صلاة كذا ثم يعيد هذا ظنا منه أنه قد نقض النية والنية لا تنقض وإن لم يرض اللفظ ومنهم من يكبر ثم ينقض ثم يكبر ثم ينقض فإذا ركع الإمام كبر الموسوس وركع معه - فليت شعري ما الذي أحضر النية حينئذ وما ذاك إلا لأن إبليس أراد أن يفوته الفضيلة وفي الموسوسين من يحلف بالله لا كبرت غير هذه المرة وفيهم من يحلف بالله بالخروج من ماله أو بالطلاق وهذه كلها تلبيسات إبليس والشريعة سمحة سهلة سليمة من هذه الآفات وما جرى لرسول الله ﷺ ولا لأصحابه شيء من هذا وقد بلغنا عن أبي حازم أنه دخل المسجد فوسوس إليه إبليس أنك تصلي بغير وضوء فقال ما بلغ نصحك إلى هذا
وكشف هذا التلبيس أن يقال للموسوس: إن كنت تريد إحضار النية فالنية حاضرة لأنك قمت لتؤدي الفريضة وهذه هي النية ومحلها القلب لا اللفظ إن كنت تريد تصحيح اللفظ فاللفظ لا يجب ثم قد قلته صحيحا فما وجه الإعادة أفتراك تظن وقد قلت إنك ما قلت هذا مرض
قال المصنف: وقد حكى لي بعض الأشياخ عن ابن عقيل حكاية عجيبة أن رجلا لقيه فقال: إني أغسل العضو وأقول ما غسلته وأكبر وأقول ما كبرت فقال له ابن عقيل دع الصلاة فإنها ما تجب عليك فقال قوم لابن عقيل: كيف تقول هذا فقال لهم قال النبي ﷺ: [ رفع القلم عن المجنون حتى يفيق ومن يكبر ويقول ما كبرت فليس بعاقل والمجنون لا تجب عليه الصلاة ]
قال المصنف: واعلم أن الوسوسة في نية الصلاة سببها خبل في العقل وجهل بالتسرع ومعلوم أن من دخل عليه عالم فقام له وقال: نويت أن أنتصب قائما لدخول هذا العالم لأجل علمه مقبلا عليه بوجهي: صفة في عقله فإن هذا قد تصور في ذهنه منذ رأى العالم فقيام الإنسان إلى الصلاة ليؤدي الفرض أمر يتصور في النفس في حالة واحدة لا يطول زمانه وإنما يطول زمان نظم هذه الألفاظ والألفاظ لا تلزم والوسواس جهل محض وإن الموسوس يكلف نفسه أن يحضر في قلبه الظهرية والأدائية والفرضية في حالة واحدة مفصلة بألفاظها وهو يطالعها وذلك محال ولو كلف نفسه ذلك في القيام للعالم لتعذر عليه فمن عرف هذا عرف النية ثم إنه يجوز تقديمها على التكبير بزمان يسير ما لم يفسخها فما وجه هذا التعب في إلصاقها بالتكبير على أنه إذا حصلها ولم يفسخها فقد التصقت بالتكبير وعن مسور قال: أخرج إلي معن بن عبد الرحمن كتابا وحلف بالله أنه خط أبيه وإذا فيه قال عبد الله: والذي لا إله غيره ما رأيت أحدا كان أشد على المتنطعين من رسول الله ﷺ ولا رأيت بعده أشد خوفا عليهم من أبي بكر وإني لأظن عمر كان أشد أهل الأرض خوفا عليهم
فصل
ومن الموسوسين من إذا صحت له النية وكبر ذهل عن باقي صلاته كأن المقصود من الصلاة التكبير فقط وهذا تلبيس يكشفه أن التكبير يراد للدخول في العبادة فكيف تهمل العبادة وهي كالدار ويقتصر على التشاغل بحفظ الباب
فصل
ومن الموسوسين من تصح له التكبيرة خلف الإمام وقد بقي من الركعة يسير فيستفتح ويستعيذ فيركع الإمام وهذا تلبيس أيضا لأن الذي شرع فيه من التعوذ والاستفتاح مسنون والذي تركه من قراءة الفاتحة وهو لازم للمأموم عند جماعة من العلماء فلا ينبغي أن يقدم عليه سنة
قال المصنف: وقد كنت أصلي وراء شيخنا أبي بكر الدينوري الفقيه في زمان الصبا فرآني مرة أفعل هذا فقال: يا بني إن الفقهاء قد اختلفوا في وجوب قراءة الفاتحة خلف الإمام ولم يختلفوا في أن الاستفتاح سنة فاشتغل بالواجب ودع السنن
ترك السنن
وقد لبس إبليس على قوم فتركوا كثيرا من السنن لواقعات وقعت لهم فمنهم من كان يتخلف عن الصف الأول ويقول إنما أراد قرب القلوب ومنهم من لم ينزل يدا على يد في الصلاة وقال أكره أن أظهر من الخشوع ما ليس في قلبي - وقد روينا هذين الفعلين عن بعض أكابر الصالحين
وهذا أمر أوجبه قلة العلم ففي الناس ما لهم في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا وفي أفراد مسلم من حديثه عن النبي ﷺ أنه قال: [ خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها وأما وضع اليد على اليد فسنة ] روى أبو داود في سننه أن ابن الزبير قال: وضع اليد على اليد من السنة وإن ابن مسعود كان يصلي فوضع يده اليسرى على اليمنى فرآه النبي ﷺ فوضع يده اليمنى على اليسرى
قال المصنف: ولا يكبرن عليك إنكارنا على من قال: أراد قرب القلوب ولا أضع يدا على يد وإن كان من الأكابر فإن الشرع هو المنكر لا نحن وقد قيل لأحمد بن حنبل رحمة الله عليه أن ابن المبارك يقول: كذا وكذا فقال: إن ابن المبارك لم ينزل من المساء وقيل له قال: إبراهيم بن أدهم فقال: جئتموني ببينات الطريق عليكم بالأصل فلا ينبغي أن يترك الشرع لقول معظم في النفس فإن الشرع أعظم والخطأ في التأويل على الناس يجري ومن الجائز أن تكون الأحاديث لم تبلغه
فصل
وقد لبس إبليس على بعض المصلين في مخارج الحروف فتراه يقول الحمد الحمد فيخرج بإعادة الكلمة عن قانون أدب الصلاة وتارة يلبس عليه في تحقيق التشديد وتارة في إخراج ضاد المغضوب ولقد رأيت من يقول المغضوب فيخرج بصاقه مع إخراج الضاد لقوة تشديده وإنما المراد تحقيق الحرف فحسب: وإبليس يخرج هؤلاء بالزيادة عن حد التحقيق ويشغلهم بالمبالغة في الحروف عن فهم التلاوة وكل هذه الوساوس من إبليس وعن سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء أن سهل بن أبي أمامة حدثه: أنه دخل هو وأبوه على أنس بن مالك رضي الله عنه وهو يصلي صلاة خفيفة كأنها صلاة مسافر فلما سلم قال يرحمك الله أرأيت هذه الصلاة المكتوبة كصلاة رسول الله ﷺ أم شيء تنفلته قال: إنها لصلاة رسول الله ﷺ ما أخطأت إلا شيئا سهوت عنه أن رسول الله ﷺ كان يقول: [ لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديورات { رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم } ] وفي إفراد مسلم من حديث عثمان بن أبي العاص قال: [ قلت لرسول الله ﷺ إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها علي فقال رسول الله ﷺ: ذاك الشيطان يقال له خنزب فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه ثلاثا واتفل عن يسارك ففعلت ذلك فأذهبه عني ]
فصل
وقد لبس إبليس على خلق كثير من الجهالة المتعبدين فرأوا أن العبادة هي القيام والقعود فحسب وهم يدأبون في ذلك ويخلون في بعض واجباتهم ولا يعلمون وقد تأملت جماعة يسلمون إذا سلم الإمام وقد بقي عليهم من التشهد الواجب شيء وذلك لا يحمله الإمام عنهم ولبس على آخرين منهم فهم يطيلون الصلاة ويكثرون القراءة ويتركون المسنون في الصلاة ويرتكبون المكروه فيها وقد دخلت على بعض المتعبدين وهو يتنفل بالنهار ويجهر بالقراءة فقلت له إن الجهر بالقراءة مكروه فقال لي أنا أطرد النوم عني بالجهر فقلت له إن السنن لا تترك لأجل سهرك ومتى غلبك النوم فنم فإن للنفس عليك حقا وعن بريدة قال قال رسول الله ﷺ من جهر بالقراءة في النهار فارجموه بالبعر
الإكثار من صلاة الليل
وقد لبس إبليس على جماعة من المتعبدين فأكثروا من صلاة الليل وفيهم من يسهره كله ويفرح بقيام الليل وصلاة الضحى أكثر مما يفرح بأداء الفرائض ثم يقع قبيل الفجر فتفوته الفريضة أو يقم فيتهيأ لها فتفوته الجماعة أو يصبح كسلان فلا يقدر على الكسب لعائلته ولقد رأيت شيخا من المتعبدين يقال له حسين القزويني يمشي كثيرا من النهار في جامع المنصور فسألت عن سبب مشيه فقيل لي لئلا ينام فقلت: هذا جهل بمقتضى الشرع والعقل
أما الشرع فإن النبي ﷺ قال: [ إن لنفسك عليك حقا فقم ونم ] وكان يقول: [ عليكم هديا قصدا فإنه من يشاد هذا الدين يغلبه ] وعن أنس بن مالك قال: [ دخل رسول الله ﷺ المسجد وحبل ممدود بين ساريتين فقال ما هذا قالوا لزينب تصلي فإذا كسلت أو فترت أمسكت به فقال: حلوه ثم قال: ليصلي أحدكم نشاطه فإذا كسل أو فتر فليقعد ] وعن عائشة قالت: [ قال رسول الله ﷺ: إذا نعس أحدكم فليرقد حتى يذهب عنه النوم فإذا صلى وهو ينعس لعله يذهب ليستغفر فيذعب فيسب نفسه ]
قال المصنف: هذا حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم وانفرد بالذي قبله البخاري وأما العقل فإن النوم يجدد القوى التي قد كلت بالسهر فمتى دفعه الإنسان وقت الحاجة إليه أقر في بدنه وعقله فنعوذ بالله من الجهل ( فإن قال قائل ) فقد رويت لنا أن جماعة من السلف كانوا يحيون الليل فالجواب: أولئك تدرجوا حتى قدروا على ذلك وكانوا على ثقة من حفظ صلاة الفجر في الجماعة وكانوا يستعينون بالقائلة مع قلة المطعم وصح لهم ذلك ثم لم يبلغنا أن رسول الله ﷺ سهر ليلة لم ينم فيها فسنته هي المتبوعة
فصل
وقد لبس إبليس على جماعة من قوام الليل فتحدثوا بذلك بالنهار فربما قال أحدهم فلان المؤذن أذن بوقت ليعلم الناس أنه كان منتبها فأقل ما في هذا إن سلم من الرياء أن ينقل من ديوان السر إلى ديوان العلانية فيقل الثواب
تلبيسه عليهم في القرآن
وقد لبس على آخرين انفردوا في المساجد للصلاة والتعبد فعرفوا بذلك واجتمع إليهم ناس فصلوا بصلاتهم وشاع بين الناس حالهم وذلك من دسائس إبليس وبه تقوى النفس على التعبد لعلمها أن ذلك يشيع ويوجب المدح وعن زيد بن ثابت أن النبي ﷺ قال: [ إن أفضل صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة ] قال المصنف: أخرجاه في الصحيحين
وكان عامر بن عبد قيس يكره أن يروه يصلي وكان لا يتنقل في المسجد وكان يصلي كل يوم ألف ركعة وكان ابن أبي ليلى إذا صلى ودخل عليه داخل اضطجع
فصل
وقد لبس على قوم من المتعبدين وكانوا يبكون والناس حولهم وهذا قد يقع عليه فلا يمكن دفعه فمن قدر على ستره فأظهر فقد تعرض للرياء وعن عاصم قال كان أبو وائل إذا صلى في بيته نشج نشيجا ولو جعلت له الدنيا على أن يفعله وأحد يراه ما فعله وقد كان أيوب السختياني إذا غلبه البكاء قام
فصل
وقد لبس على جماعة من المتعبدين فتراهم يصلون الليل والنهار ولا ينظرون في إصلاح عيب باطن ولا في مطعم: والنظر في ذلك أولى بهم من كثرة التنفل
ذكر تلبيسه عليهم في قراءة القرآن
وقد لبس على قوم بكثرة التلاوة فهم يهزون هزا من غير ترتيل ولا تثبت وهذه حالة ليست بمحمودة وقد روي عن جماعة من السلف أنهم كانوا يقرأون القرآن في كل يوم أو في كل ركعة
وهذا يكون نادرا منهم ومن دوام عليه فإنه وإن كان جائزا إلا أن الترتيل والتثبت أحب إلى العلماء وقد قال رسول الله ﷺ لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث
قال المصنف: وقد لبس إبليس على قوم من القراء فهم يقرأون القرآن في منارة المسجد بالليل بالأصوات المجتمعة المرتفعة الجزء والجزأين فيجتمعون بين أذى الناس في منعهم من النوم وبين التعرض للرياء ومنهم من يقرأ في مسجده وقت الأذان لأنه حين اجتماع الناس في المسجد
قال المصنف: ومن أعجب ما رأيت فيهم رجلا كان يصلي بالناس صلاة الصبح يوم الجمعة ثم يلتفت فيقرأ المعوذتين ويدعو دعاء الختمة ليعلم الناس أني ختمت الختمة وما هذه طريقة السلف فإن السلف كانوا يسترون عبادتهم وكان عمل الربيع بن خثيم كله سرا فربما دخل عليه الداخل وقد نشر المصحف فيغطيه بثوبه وكان أحمد بن حنبل يقرأ القرآن كثيرا ولا يدري متى يختم
قال المصنف: قد سبق ذكر جملة من تلبيس إبليس على القراء والله أعلم بالصواب وهو الموفق
ذكر تلبيسه عليهم في الصوم
قال المصنف: وقد لبس على أقوام فحسن لهم الصوم الدائم وذلك جائز إذا أفطر الإنسان الأيام المحرم صومها إلا أن الآفة فيه من وجهين أحدهما أنه ربما عاد بضعف القوى فأعجز الإنسان عن الكسب لعائلته ومنعه من إعفاف زوجته وفي الصحيحين عن رسول الله ﷺ أنه قال: [ إن لزوجك عليك حقا ] فكم من فرض يضيع بهذا النفل والثاني أنه يفوت الفضيلة فإنه قد صح عن رسول الله ﷺ أنه قال: [ أفضل الصلاة صلاة داود ﷺ كان يصوم يوما ]
وبالإسناد عن عبد الله بن عمرو قال: لقيني رسول الله ﷺ فقال: [ ألم أحدث عنك أنك تقوم الليل وأنت الذي تقول لأقومن الليل ولأصومن النهار قال أحسبه قال: نعم يا رسول الله قد قلت ذلك فقال: فقم ونم وصم وأفطر وصم من كل شهر ثلاثة أيام ولك مثل صيام الدهر قال: قلت يا رسول الله إني أطيق أكثر من ذلك قال: فصم يوما وأفطر يومين قلت: إني أطيق أفضل من ذلك قال: فصم يوما وأفطر يوما وهو أعدل الصوم وهو صيام داود عليه السلام قلت: إني أطيق أفضل من ذلك فقال رسول الله ﷺ: لا أفضل من ذلك ] أخرجاه في الصحيحين
فإن قال قائل: فقد بلغنا عن جماعة من السلف أنهم كانوا يسردون الصوم فالجواب أنهم كانوا يقدرون على الجمع بين ذلك وبين القيام بحقوق العائلة ولعل أكثرهم لم تكن له عائلة ولا حاجة إلى الكسب ثم أن فيهم من فعل هذا في آخر عمره على أن قول رسول الله ﷺ لا أفضل من ذلك قطع هذا الحديث
وقد داوم جماعة من القدماء على الصوم مع خشونة المطعم وقلته ومنهم من ذهبت عينه ومنهم من نشف دماغه وهذا تفريط في حق النفس الواجب وحمل عليها ما لا تطيق فلا يجوز
فصل
وقد يشيع عن المتعبد أنه يصوم الدهر فيعلم بشياع ذلك فلا يفطر أصلا وإن أفطر أخفى إفطاره لئلا ينكسر جاهه وهذا من خفي الرياء ولو أراد الإخلاص وستر الحال لأفطر بين يدي من قد علم أنه يصوم ثم عاد إلى الصوم ولم يعلم به ومنهم من يخبر بما قد صام فيقول اليوم منذ عشرين سنة ما أفطرت ويلبس عليه بأنك إنما تخبر ليقتدي بك والله أعلم بالمقاصد
قال سفيان الثوري رضي الله عنه: إن العبد ليعمل العمل في السر فلا يزال به الشيطان حتى يتحدث به فينتقل من ديوان السر إلى ديوان العلانية وفيهم من عادته صوم الإثنين والخميس فإذا دعي إلى طعام قال: اليوم الخميس ولو قال أنا صائم كانت محنة وإنما قوله اليوم الخميس معناه أني أصوم كل خميس وفي هؤلاء من يرى الناس بعين الاحتقار لكونه صائما وهم مفطرون ومنهم من يلازم الصوم ولا يبالي على ماذا أفطر ولا يتحاشى في صومه عن غيبة ولا عن نظرة ولا عن فضول كلمة وقد خيل له إبليس أن صومك يدفع إثمك وكل هذا من التلبيس
ذكر تلبيسه عليهم في الحج
قال المصنف: قد يسقط الإنسان الفرض بالحج مرة ثم يعود لا عن رضاء الوالدين وهذا خطأ وربما خرج وعليه ديون أو مظالم وربما خرج للنزهة وربما حج بمال فيه شبهة ومنهم من يجب أن يتلقى ويقال الحاج وجمهورهم يضيع في الطريق فرائض الطهارة والصلاة ويجتمعون حول الكعبة بقلوب دنسة وبواطن غير نقية وإبليس يريهم صورة الحج فيغرهم وإنما المراد من الحج القرب بالقلوب لا بالأبدان وإنما يكون ذلك مع القيام بالتقوى
وكم من قاصد إلى مكة همته عدد حجاته فيقول لي عشرون وقفة وكم من مجاور قد طال مكثه ولم يشرع في تنقية باطنه وربما كانت همته متعلقة بفتوح يصل إليه ممن كان وربما قال أن لي اليوم عشرين سنة مجاورا وكم قد رأيت في طريق مكة من قاصد إلى الحج يضرب رفقاءه على الماء ويضايقهم في الطريق
وقد لبس إبليس على جماعة من القاصدين إلى مكة فهم يضيعون الصلوات ويطففون إذا باعوا ويظنون أن الحج يدفع عنهم وقد لبس إبليس على قوم منهم فابتدعوا في المناسك ما ليس منها فرأيت جماعة يتصنعون في إحرامهم فيكشفون عن كتف واحدة ويبقون في الشمس أياما فتكشط جلودهم وتنتفخ رؤوسهم ويتزينون بين الناس بذلك
وفي إفراد البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: [ أن النبي ﷺ رأى رجلا يطوف بالكعبة بزمام فقطعه ] وفي لفظ آخر [ رأى رجلا يقود إنسانا بخزامة في أنفه فقطعها بيده ثم أمر في أن يقوده بيده ]
قال المصنف: وهذا الحديث يتضمن النهي عن الابتداع في الدين وإن قصدت بذلك الطاعة
تلبيسه عليهم في التوكل
وقد لبس على قوم يدعون التوكل فخرجوا بلا زاد وظنوا أن هذا هو التوكل وهم على غاية الخطأ قال رجل للإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه أريد أن أخرج إلى مكة على التوكل من غير زاد فقال له أحمد فاخرج في غير القافلة قال لا إلا معهم: قال فعلى جراب الناس توكلت؟ فنسأل الله أن يوفقنا
ذكر تلبيس إبليس على الغزاة
قال المصنف: قد لبس إبليس على خلق كثير فخرجوا إلى الجهاد ونيتهم المباهاة والرياء ليقال فلان غاز وربما كان المقصود أن يقال شجاع أو كان طلب الغنيمة وإنما الأعمال بالنيات وعن أبي موسى قال: [ جاء إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله أرأيت الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء فأي ذلك في سبيل الله فقال رسول الله ﷺ: « من يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله » ] أخرجاه في الصحيحين وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إياكم أن تقولوا مات فلان شهيدا أو قتل فلان شهيدا فإن الرجل ليقاتل ليغنم ويقاتل ليذكر ويقاتل ليرى مكانه
وبالإسناد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: [ أول الناس يقضي فيه يوم القيامة ثلاثة رجل استشهد فأتى به فعرفه نعمه فعرفها فقال ما عملت فيها قال قاتلت فيك حتى قتلت قال كذبت ولكنك قاتلت ليقال هو جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتى به فعرفه نعمه فعرفها فقال: ما عملت فيها قال تعلمت فيك العلم وعلمته وقرأت القرآن فقال كذبت ولكنك تعملت ليقال هو عالم فقد قيل وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل وسع الله عليه فأعطاه من أصناف المال كله فأتى به فعرفه نعمه فعرفها فقال ما عملت فيها فقال ما تركت من سبيل أنت تحبه أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ] انفرد بإخراجه مسلم
وبإسناد مرفوع عن أبي حاتم الرازي قال سمعت عبدة بن سليمان يقول: كنا في سرية مع عبد الله بن المبارك في بلاد الروم فصادفنا العدو فلما التقى الصفان خرج رجل من العدو فدعا إلى البراز فخرج إليه رجل فطارده ساعة فطعنه فقتله ثم آخر فقتله ثم آخر فطعنه فقتله ثم آخر فقتله ثم دعا إلى البراز فخرج إليه رجل فطارده ساعة فطعنه الرجل فقتله فازدحم الناس عليه فكنت فيمن ازدحم عليه فإذا هو ملثم وجهه بكمه فأخذت بطرف كمه فمددته فإذا هو عبد الله بن المبارك فقال: وأنت يا أبا عمرو ممن يشنع علينا قلت فانظروا رحمكم الله إلى هذا السيد المخلص كيف خاف على إخلاصه برؤية الناس له ومدحهم إياه فستر نفسه وقد كان إبراهيم بن أدهم يقاتل فإذا غنموا لم يأخذ شيئا من الغنيمة ليوفر له الأجر
فصل
وقد لبس إبليس على المجاهد إذا غنم فربما أخذ من الغنيمة ما ليس له أخذه فأما أن يكون قليل العلم فيرى أن أموال الكفار مباحة لمن أخذها ولا يدري أن الغلول من الغنائم معصية
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: [ خرجنا مع رسول الله ﷺ إلى خيبر ففتح الله علينا فلم نغنم ذهبا ولا ورقا غنمنا المتاع والطعام والثياب ثم انطلقنا إلى الوادي ومع رسول الله ﷺ عبد له فلما نزلنا قام عبد رسول الله ﷺ يحل رحله فرمي بسهم فكان فيه حتفه فلما قلنا له هنيئا له الشهادة يا رسول الله فقال كلا والذي نفس محمد بيده إن الشملة لتلتهب عليه نارا أخذها من الغنائم يوم خيبر لم تصبها المقاسم قال ففزع الناس فجاء رجل بشراك أو شراكين فقال: أصبته يوم خيبر فقال رسول الله ﷺ شراك من نار أو شرا كان من نار ]
فصل
وقد يكون الغازي عالما بالتحريم إلا أنه يرى الشيء الكثير فلا يصبر عنه وربما ظن أن جهاده يدفع عنه ما فعل وها هنا يتبين أثر الإيمان والعلم روينا بإسناد عن هبيرة بن الأشعث عن أبي عبيدة العنبري قال: لما هبط المسلمون المداين وجمعوا الأقباض أقبل رجل بحق معه فدفعه إلى صاحب الأقباض فقال الذين معه: ما رأينا مثل هذا قط ما يعدله ما عندنا ولا ما يقاربه فقال له هل أخذت منه شيئا فقال: أما والله لولا الله ما أتيتكم به فعرفوا أن للرجل شأنا فقالوا: من أنت؟ فقال: والله لا أخبركم لتحمدوني ولا أغريكم لتقرظوني ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه فأتبعوه رجلا حتى انتهى إلى أصحابه فسأل عنه فإذا هو عامر بن قيس
ذكر تلبيسه على الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر
وهم قسمان عالم وجاهل فدخول إبليس على العالم من طريقين:
الطريق الأول: التزيين بذلك وطلب الذكر والعجب بذلك الفعل روينا بإسناد عن أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت أبا سلمان يقول: سمعت أبا جعفر المنصور يبكي في خطبته يوم الجمعة فاستقبلني الغضب وحضرتني نية أن أقوم فأعظه بما أعرف من فعله إذا نزل قال: فكرهت أن أقوم إلى خليفة فأعظه والناس جلوس يرمقونني بأبصارهم فيعرض لي تزين فيأمر بي فاقتل على غير صحيح فجلست وسكت
والطريق الثاني: الغضب للنفس: وربما كان ابتداء وربما عرض في حالة الآمر بالمعروف لأجل ما يلقى به المنكر من الإهانة فتصير خصومة لنفسه كما قال عمر بن عبد العزيز لرجل: « لولا أني غضبان لعاقبتك » وإنما أراد أنك أغضبتني فخفت أن تمتزج العقوبة من غضب الله ولي
فصل
فأما إذا كان الآمر بالمعروف جاهلا فإن الشيطان يتلاعب به وإنما كان إفساده في أمره أكثر من إصلاحه لأنه ربما نهى عن شيء جائز بالإجماع وربما أنكر ما تأول فيه صاحبه وتبع فيه بعض المذاهب وربما كسر الباب وتسور الحيطان وضرب أهل المنكر وقذفهم فإن أجابوه بكلمة تصعب عليه صار غضبه لنفسه: وربما كشف ما قد أمر الشرع بستره وقد سئل أحمد بن حنبل عن القوم يكون معهم المنكر مغطى مثل طنبور ومسكر قال: إذا كان مغطى فلا تكسره
وقال في رواية أخرى: اكسره وهذا محمول على أنه يكون مغطى بشيء خفيف يصفه فيتبين والأولى على أنه لا يتبين وسئل عن الرجل يسمع صوت الطبل والمزمار ولا يعرف مكانه فقال: ولا عليك ما غاب عنك فلا تفتش وربما رفع هذا المنكر أهل المنكر إلى من يظلمهم وقد قال أحمد بن حنبل: إن علمت أن السطان يقيم الحدود فارفع إليه
فصل
ومن تلبيس إبليس على المنكر أنه إذا أنكر جلس في مجمع يصف ما فعل ويتباهى به ويسب أصحاب المنكر سب الخلق عليهم ويلعنهم ولعل القوم قد تابوا وربما كانوا خيرا منه لندمهم وكبره ويندرج في ضمن حديثه كشف عورات المسلمين لأنه يعلم من لا يعلم والستر على المسلم واجب مهما أمكن وسمعت عن بعض الجهلة بالإنكار أنه يهجم على قوم ما يتيقن ما عندهم ويضربهم الضرب المبرح ويكسر الأواني وكل هذا يوجبه الجهل فأما العالم إذا أنكر فأنت منه على أمان
وقد كان السلف يتلطفون في الإنكار ورأى صلة بن أشيم رجلا يكلم امرأة فقال: إن الله يراكما سترنا الله وإياكما وكان يمر بقوم يلعبون فيقول: يا أخواني ما تقولون فيمن أراد سفرا فنام طول الليل ولعب طول النهار متى يقطع سفره فانتبه رجل منهم فقال: يا قوم إنما يعلمنا هذا فتاب وصحبه
فصل
وأولى الناس بالتلطف في الإنكار على الأمراء فيصلح أن يقال لهم: إن الله قد رفعكم فاعرفوا قدر نعمته فإن النعم تدوم بالشكر فلا يحسن أن تقابل بالمعاصي
فصل
وقد لبس إبليس على بعض المتعبدين فيرى منكرا فلا ينكره ويقول إنما يأمر وينهي من قد صلح وأنا ليس بصالح فكيف آمر غيري وهذا غلط لأنه يجب عليه أن يأمر وينهي ولو كانت تلك المعصية فيه إلا أنه متى أنكر متنزها عن المنكر أثر إنكاره وإذا لم يكن متنزها لم يكد يعمل إنكاره فينبغي للمنكر أن ينزه نفسه ليؤثر إنكاره قال ابن عقيل: رأينا في زماننا أبا بكر الاقفالي في أيام القائم إذا نهض لإنكار منكر استتبع معه مشايخ لا يأكلون إلا من صنعة أيديهم كأبي بكر الخباز شيخ صالح أضر من اطلاعه في التنور وتبعه: وجماعة ما فيهم من يأخذ صدقة ولا يدنس بقبول عطاء صوام النهار قوام الليل أرباب بكاء فإذا تبعه مخلط رده وقال متى لقينا الجيش بمخلط انهزم الجيش