تفريع ما يمنع من أهل الذمة |
[أخبرنا الربيع] قال: [قال الشافعي] رحمه الله تعالى: إذا كان علينا أن نمنع أهل الذمة إذا كانوا معنا في الدار وأموالهم التي يحل لهم أن يتمولوها مما نمنع منه أنفسنا وأموالنا من عدوهم إن أرادهم أو ظلم ظالم لهم وأن نستنقذهم من عدوهم لو أصابهم وأموالهم التي تحل لهم لو قدرنا، فإذا قدرنا استنقذناهم وما حل لهم ملكه ولم نأخذ لهم خمرا ولا خنزيرا فإن قال قائل كيف تستنقذهم وأموالهم التي يحل لهم ملكها ولا تستنقذ لهم الخمر والخنزير وأنت تقرهم على ملكها؟ قلت إنما منعتهم بتحريم دمائهم فإن الله عز وجل جعل في دمائهم دية وكفارة، وأما منعي ما يحل من أموالهم فبذمتهم وأما ما أقررتهم عليه فمباح لي بأن الله عز وجل أذن بقتالهم حتى يعطوا الجزية فكان في ذلك دليل على تحريم دمائهم بعد ما أعطوها وهم صاغرون ولم يكن في إقراري لهم عليها معونة عليها، ألا ترى أنه لو امتنع عليهم عبد أو ولد من الشرك فأرادوا إكراههم لم أقرهم على إكراهه بل منعتهم منه وكما لم أكن بإقرارهم على الشرك معينا لهم بإقرارهم عليه ولا يمنعهم من العدو معينا عليه فكذلك لم يكن إقرارهم على الخمر والخنزير عونا لهم عليه ولا أكون عونا لهم على أخذ الخمر والخنزير وإن أقررتهم على ملكه فإن قال فلم لم تحكم لهم بقيمته على من استهلكه قلت أمرني الله عز وجل أن أحكم بينهم بما أنزل الله ولم يكن فيما أنزل الله تبارك وتعالى ولا ما دل عليه رسول الله ﷺ المنزل عليه المبين عن الله عز وجل ولا فيما بين المسلمين أن يكون للمحرم ثمن، فمن حكم لهم بثمن محرم حكم بخلاف حكم الإسلام ولم يأذن الله تعالى لأحد أن يحكم بخلاف حكم الإسلام وأنا مسئول عما حكمت به ولست مسئولا عما عملوا مما حرم عليهم مما لم أكلف منعه منهم، ومن سرق لهم من بلاد المسلمين أو أهل الذمة ما يجب فيه القطع قطعته وإذا سرقوا فجاءني المسروق قطعتهم وكذلك أحدهم إن قذفوا وحدانا لهم من قذفهم وأؤدب لهم من ظلمهم من المسلمين وآخذ لهم منه جميع ما يجب لهم مما يحل أخذه وأنهاه عن العرض له وإذا عرض لهم بما يوجب عليه في ماله أو بدنه شيئا أخذته منه إذا عرض لهم بأذى لا يوجب ذلك عليه زجرته عنه فإن عاد حبسته أو عاقبته عليه وذلك مثل أن يهريق خمرهم أو يقتل خنازيرهم وما أشبه هذا فإن قال قائل فكيف لا تجيز شهادة بعضهم على بعض وفي ذلك إبطال الحكم عنهم؟ قيل قال الله عز وجل: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} وقال {ممن ترضون من الشهداء} فلم يكونوا من رجالنا ولا ممن نرضى من الشهداء فلما وصف الشهود منا دل على أنه لا يجوز أن يقضى بشهادة شهود من غيرنا لم يجز أن نقبل شهادة غير مسلم وأما إبطال حقوقهم فلم نبطلها إلا إذا لم يأتنا ما يجوز فيه وكذلك يصنع بأهل البادية والشجر والبحر والصناعات لا يكون منهم من يعرف عدله وهم مسلمون فلا يجوز شهادة بعضهم على بعض وقد تجري بينهم المظالم والتداعي والتباعات كما تجري بين أهل الذمة ولسنا آثمين فيما جنى جانيهم ومن أجاز شهادة من لم يؤمر بإجازة شهادته أثم بذلك لأنه عمل نهي عن عمله فإن قال: فإن الله عز وجل يقول {شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت} قرأ الربيع إلى {فيقسمان بالله} فما معناه؟ قيل والله تعالى أعلم.
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: أخبرنا أبو سعيد معاذ بن موسى الجعفري عن بكير بن معروف عن مقاتل بن حبان قال بكير قال مقاتل أخذت هذا التفسير عن مجاهد والحسن والضحاك في قوله تبارك وتعالى {اثنان ذوا عدل منكم} الآية. (أن رجلين نصرانيين من أهل دارين أحدهما تميمي والآخر يماني صحبهما مولى لقريش في تجارة فركبوا البحر ومع القرشي مال معلوم قد علمه أولياؤه من بين آنية وبز ورقة فمرض القرشي فجعل وصيته إلى الداريين فمات وقبض الداريان المال والوصية فدفعاه إلى أولياء الميت وجاء ببعض ماله وأنكر القوم قلة المال فقالوا للداريين إن صاحبنا قد خرج ومعه مال أكثر مما أتيتمانا به فهل باع شيئا أو اشترى شيئا فوضع فيه؟ أو هل طال مرضه فأنفق على نفسه؟ قالا: لا قالوا فإنكما خنتمانا فقبضوا المال ورفعوا أمرهما إلى رسول الله ﷺ فأنزل الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت} إلى آخر الآية فلما نزلت أن يحبسا من بعد الصلاة أمر النبي ﷺ فقاما بعد الصلاة فحلفا بالله رب السموات ما ترك مولاكم من المال إلا ما أتيناكم به وأنا لا نشتري بإيماننا ثمنا قليلا من الدنيا {ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين} فلما حلفا خلى سبيلهما ثم إنهم وجدوا بعد ذلك إناء من آنية الميت فأخذوا الداريين فقالا اشتريناه منه في حياته وكذبا فكلفا البينة فلم يقدرا عليها فرفعوا ذلك إلى رسول الله ﷺ فأنزل الله عز وجل: {فإن عثر} يقول فإن اطلع {على أنهما استحقا إثما} يعني الداريين أي كتما حقا {فآخران} من أولياء الميت {يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله} فيحلفان بالله إن مال صاحبنا كان كذا وكذا وإن الذي نطلب قبل الداريين لحق {وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين} هذا قول الشاهدين أولياء الميت {ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها} يعني الداريين والناس أن يعودوا لمثل ذلك).
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: يعني من كان في مثل حال الداريين من الناس ولا أعلم الآية تحتمل معنى غير حمله على ما قال وإن كان لم يوضح بعضه لأن الرجلين اللذين كشاهدي الوصية كانا أميني الميت فيشبه أن يكون إذا كان شاهدان منكم أو من غيركم أمينين على ما شهدا عليه فطلب ورثة الميت أيمانهما أحلفا بأنهما أمينان لا في الشهود فإن قال فكيف تسمى في هذا الوضع شهادة؟ قيل كما سميت أيمان المتلاعنين شهادة وإنما معنى شهادة بينكم أيمان بينكم إذا كان هذا المعنى والله تعالى أعلم فإن قال قائل فكيف لم تحتمل الشهادة؟ قيل ولا نعلم المسلمين اختلفوا في أنه ليس على شاهد يمين قبلت شهادته أو ردت ولا يجوز أن يكون إجماعهما خلافا لكتاب الله عز وجل ويشبه قول الله تبارك وتعالى {فإن عثر على أنهما استحقا إثما} يوجد من مال الميت في أيديهما ولم يذكرا قبل وجوده أنه في أيديهما فلما وجد ادعيا ابتياعه فأحلف أولياء الميت على مال الميت فصار مالا من مال الميت بإقرارهما وادعيا لأنفسهما شراءه فلم تقبل دعواهما بلا بينة فأحلف وارثاه على ما ادعيا وإن كان أبو سعيد لم يبينه في حديثه هذا التبيين فقد جاء بمعناه.
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وليس في هذا رد اليمين إنما كانت يمين الداريين على ادعاء الورثة من الخيانة ويمين ورثة الميت على ما ادعى الداريان مما وجد في أيديهما وأقرا أنه للميت وأنه صار لهما من قبله وإنما أجزنا رد اليمين من غير هذه الآية فإن قال قائل فإن الله عز وجل يقول {أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم} فذلك والله تعالى أعلم أن الأيمان كانت عليهم بدعوى الورثة أنهم اختانوا ثم صار الورثة حالفين بإقرارهم أن هذا كان للميت وادعائهم شراءه منه فجاز أن يقال أن ترد أيمان تثنى عليهم الأيمان بما يجب عليهم إن صارت لهم الأيمان كما يجب على من حلف لهم وذلك قول الله، والله تعالى أعلم {يقومان مقامهما} يحلفان كما أحلفا وإذا كان هذا كما وصفت فليست هذه الآية بناسخة ولا منسوخة لأمر الله عز وجل بإشهاد ذوي عدل منكم ومن نرضى من الشهداء.