الرئيسيةبحث

منهاج السنة النبوية/9


وأما قوله: إن الله منزه عن مشابهة المخلوقات

فيقال له

أهل السنة أحق بتنزيهه عن مشابهة المخلوقات من الشيعة فإن التشبيه والتجسيم المخالف للعقل والنقل لا يعرف في أحد من طوائف الأمة أكثر منه في طوائف الشيعة وهذه كتب المقالات كلها تخبر عن أئمة الشيعة المتقدمين من المقالات المخالفة للعقل والنقل في التشبيه والتجسيم بما لا يعرف نظيره عن أحد من سائر الطوائف ثم قدماء الإمامية ومتأخروهم متناقضون في هذا الباب فقد ماؤهم غلوا في التشبيه والتجسيم ومتأخروهم غلوا في النفى والتعطيل فشاركوا في ذلك الجهمية والمعتزلة دون سائر طوائف الأمة

وأما أهل السنة المثبتون لخلافة الثلاثة فجميع أئمتهم وطوائفهم المشهورة متفقون على نفي التمثيل عن الله تعالى والذين أطلقوا لفظ الجسم على الله من الطوائف المثبتين لخلافة الثلاثة كالكرامية هم أقرب إلى صحيح المنقول وصريح المعقول من الذين أطلقوا لفظ الجسم من الإمامية

وقد ذكر أقوال الإمامية في ذلك غير واحد منهم ومن غيرهم كما ذكرها ابن النوبختي في كتابه الكبير وكما ذكرها أبو الحسن الأشعري في كتابه المعروف في مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين وكما ذكرها الشهر ستاني في كتابه المعروف بالملل والنحل وكما ذكرها غير هؤلاء

وطوائف السنة والشيعة تحكى عن قدماء أئمة الإمامية من منكر التجسيم والتشبيه ما لا يعرف مثله عن الكرامية وأتباعهم ممن يثبت إمامة الثلاثة

وأما من لا يطلق على الله اسم الجسم كأئمة أهل الحديث والتفسير والتصوف والفقه مثل الأئمة الأربعة وأتباعهم وشيوخ المسلمين المشهورين في الأمة ومن قبلهم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان فهؤلاء ليس فيهم من يقول إن الله جسم وإن كان أيضا ليس من السلف والأئمة من قال إن الله ليس بجسم ولكن من نسب التجسيم إلى بعضهم فهو بحسب ما اعتقده من معنى الجسم ورآه لازما لغيره

فالمعتزلة والجهمية ونحوهم من نفاة الصفات يجعلون كل من أثبتها مجسما مشبها ومن هؤلاء من يعد من المجسمة والمشبهة من الأئمة المشهورين كمالك والشافعي وأحمد وأصحابهم كما ذكر ذلك أبو حاتم صاحب كتاب الزينة وغيره لما ذكر طوائف المشبهة فقال ومنهم طائفة يقال لهم المالكية ينتسبون إلى رجل يقال له مالك بن أنس ومنهم طائفة يقال لهم الشافعية ينتسبون إلى رجل يقال له الشافعي

وشبهة هؤلاء أن الأئمة المشهورين كلهم يثبتون الصفات لله تعالى ويقولون إن القرآن كلام الله ليس بمخلوق ويقولون إن الله يرى في الآخرة

هذا مذهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان من أهل البيت وغيرهم وهذا مذهب الأئمة المتبوعين مثل مالك بن أنس والثوري والليث بن سعد والأوزاعي وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وداود ومحمد بن خزيمة ومحمد بن نصر المروزي وأبي بكر بن المنذر ومحمد بن جرير الطبري وأصحابهم

والجهمية والمعتزلة يقولون من أثبت لله الصفات وقال إن الله يرى في الآخرة والقرآن كلام الله ليس بمخلوق فإنه مجسم مشبه والتجسيم باطل وشبهتهم في ذلك أن الصفات أعراض لا تقوم إلا بجسم وما قام به الكلام وغيره من الصفات لا يكون إلا جسما ولا يرى إلا ما هو جسم أو قائم بجسم

ولهذا صار مثبتة الصفات معهم ثلاث طوائف طائفة نازعتهم في المقدمة الأولى وطائفة نازعتهم في المقدمة الثانية وطائفة نازعتهم نزاعا مطلقا في واحدة من المقدمتين ولم تطلق في النفي والإثبات ألفاظا مجملة مبتدعة لا أصل لها في الشرع ولا هي صحيحة في العقل بل اعتصمت بالكتاب والسنة وأعطت العقل حقه فكانت موافقة لصريح المعقول وصحيح المنقول

فالطائفة الأولى الكلابية ومن وافقهم والطائفة الثانية الكرامية ومن وافقهم

فالأولى قالوا إنه تقوم به الصفات ويرى في الآخرة والقرآن كلام الله قائم بذاته وليست الصفات أعراضا ولا الموصوف جسما لم نسلم أن ذلك ممتنع ثم كثير من الناس يشنع على الطائفة الأولى بأنها مخالفة لصريح العقل والنقل بالضرورة حيث أثبتت رؤية لمرئى لا بمواجهة وأثبتت كلاما لمتكلم يتكلم لا بمشيئته وقدرته

وكثير منهم يشنع على الثانية بأنها مخالفة للنظر العقلي الصحيح ولكن مع هذا فأكثر الناس يقولون إن النفاة المخالفين للطائفتين من الجهمية والمعتزلة وأتباعهم من الشيعة أعظم مخالفة لصريح المعقول بل ولضرورة العقل من الطائفتين

وأما مخالفة هؤلاء لنصوص الكتاب والسنة وما استفاض عن سلف الأمة فهذا أظهر وأشهر من أن يخفى على عالم ولهذا أسسوا دينهم على أن باب التوحيد والصفات لا يتبع فيه ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع وإنما يتبع فيه ما رأوه بقياس عقولهم وأما نصوص الكتاب والسنة فإما أن يتأولوها وإما أن نفوضوها وإما أن يقولوا مقصود الرسول أن يخيل إلى الجمهور اعتقادا ينتفعون به في الدنيا وإن كان كذبا وباطلا كما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة وأتباعهم وحقيقة قولهم أن الرسل كذبت فيما أخبرت به عن الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر لأجل ما رآوه من مصلحة الجمهور في الدنيا

وأما الطائفة الثالثة فأطلقوا في النفي والإثبات ما جاء به الكتاب والسنة وما تنازع النظار في نفيه وإثباته من غير اعتصام بالكتاب والسنة لم توافقهم فيه على ما ابتدعوه في الشرع وخالفوا به العقل بل إما أن يمسكوا عن التكلم بالبدع نفيا وإثباتا وإما أن يفصلوا القول في اللفظ والملفوظ المجمل فما كان في إثباته من حق يوافق الشرع أو العقل أثبتوه وما كان من نفيه حق في الشرع أو العقل نفوه ولا يتصور عندهم تعارض الأدلة الصحيحة العلمية لا السمعية ولا العقلية

والكتاب والسنة يدل بالإخبار تارة ويدل بالتنبيه تارة والإرشاد والبيان للأدلة العقلية تارة وخلاصة ما عند أرباب النظر العقلي في الإلهيات من الأدلة اليقينية والمعارف الإلهية قد جاء به الكتاب والسنة مع زيادات وتكميلات لم يهتد إليها إلا من هداه الله بخطابه فكان فيما جاء به الرسول من الأدلة العقلية والمعارف اليقينية فوق ما في عقول جميع العقلاء من الأولين والآخرين

وهذه الجملة لها بسط عظيم قد بسط من ذلك ما بسط في مواضع متعددة والبسط التام لا يتحمله هذا المقام فإن لكل مقام مقالا

ولكن الرافضة لما اعتضدت بالمعتزلة وأخذوا يذمون أهل السنة بما هم فيه مفترون عمدا أو جهلا ذكرنا ما يناسب ذلك في هذا المقام

والمقصود هنا أن أهل السنة متفقون على أن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ولكن لفظ التشبيه في كلام هؤلاء النفاة المعطلة لفظ مجمل فإن أراد بلفظ التشبيه ما نفاه القرآن ودل عليه العقل فهذا حق فإن خصائص الرب تعالى لا يوصف بها شيء من المخلوقات ولا يماثله شيء من المخلوقات في شيء من صفاته

مذهب سلف الأمة وأئمتها أن يوصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل يثبتون لله ما أثبته من الصفات وينفون عن مماثلة المخلوقات يثبتون له صفات الكمال وينفون عنه ضروب الأمثال ينزهونه عن النقص والتعطيل وعن التشبيه والتمثيل إثبات بلا تشبيه وتنزيه بلا تعطيل ليس كمثله شيء رد على الممثلة وهو السميع البصير سورة الشورى 11 رد على المعطلة

ومن جعل صفات الخالق مثل صفات المخلوق فهو المشبه المبطل المذموم وإن أراد بالتشبيه أنه لا يثبت لله شيء من الصفات فلا يقال له علم ولا قدرة ولا حياة لأن العبد موصوف بهذه الصفات فلزمه أن لا يقال له حي عليم قدير لأن العبد يسمى بهذه الأسماء وكذلك في كلامه وسمعه وبصره ورؤيته وغير ذلك

وهم يوافقون أهل السنة على أن الله موجود حي عليم قادر والمخلوق يقال له موجود حي عليم قدير ولا يقال هذا تشبيه يجب نفيه

وهذا مما يدل عليه الكتاب والسنة وصريح العقل ولا يمكن أن يخالف فيه عاقل فإن الله تعالى سمى نفسه بأسماء وسمى بعض عباده بأسماء وكذلك سمي صفاته بأسماء وسمى بعضها صفات خلقه وليس المسمى كالمسمى فسمى نفسه حيا عليما قديرا رءوفا رحيما عزيزا حكيما سميعا بصيرا ملكا مؤمنا جبارا متكبرا كقوله الله لا إله إلا هو الحي القيوم سورة البقرة 255 وقوله إنه عليم قدير سورة الشورى 50 وقال ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم سورة البقرة 225 وقال والله عزيز حكيم سورة البقرة 228 240 وقال إن الله بالناس لرءوف رحيم سورة الحج 65 وقال إن الله كان سميعا بصيرا سورة النساء 58 وقال هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سورة الحشر 23

وقد سمي بعض عباده حيا فقال يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي سورة الروم 19 وبعضهم عليما بقوله وبشروه بغلام عليم سورة الذاريات 28 وبعضهم حليما بقوله فبشرناه بغلام حليم سورة الصافات 101 وبعضهم رءوفا رحيما بقوله بالمؤمنين رءوف رحيم سورة التوبة 128 وبعضهم سميعا بصيرا بقوله فجعلناه سميعا بصيرا سورة الإنسان 2 وبعضهم عزيزا بقوله وقالت امرأة العزيز سورة يوسف 51 وبعضهم ملكا بقوله وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا سورة الكهف 79 وبعضهم مؤمنا بقوله أفمن كان مؤمنا سورة السجدة 18 وبعضهم جبارا متكبرا بقوله كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار سورة غافر 3ومعلوم أنه لا يماثل الحي الحي ولا العليم العليم ولا العزيز العزيز ولا الرءوف الرءوف ولا الرحيم الرحيم ولا الملك الملك ولا الجبار الجبار ولا المتكبر المتكبر

وقال ولا يحيطون بشي من علمه إلا بما شاء سورة البقرة 255 وقال أنزله بعلمه سورة النساء 166 وقال وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه سورة فاطر 11 وقال إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين سورة الذاريات 58 وقال أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة سورة فصلت 1وفي الصحيحين عن جابر بن عبدالله قال كان رسول الله ﷺ يعلمنا الإستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن يقول إذا هم أحدكم بالأمر فيركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولاأقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر يسميه خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به

وفي حديث عما بن ياسر الذي رواه النسائي وغيره عن عمار بن ياسر أن النبي ﷺ كان يدعو بهذا الدعاء اللهم بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا وأسألك القصد في الفقر والغنى وأسألك نعيما لا ينفد وقرة عين لا تنقطع وأسألك الرضا بعد القضاء وأسألك برد العيش بعد الموت وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين

فقد سمى الله ورسوله صفات الله تعلى علما وقدرة وقوة وقد قال الله تعالى الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة سورة الروم 54 وقال وإنه لذوا علم لما علمناه سورة يوسف 68 ومعلوم أنه ليس العلم كالعلم ولا القوة كالقوة ونظائر هذا كثيرة

وهذا لازم لجميع العقلاء فإن من نفى بعض ما وصف الله به نفسه كالرضا والغضب والمحبة والبغض ونحو ذلك وزعم أن ذلك يستلزم التشبيه والتجسيم

قيل له

فأنت تثبت له الإرادة والكلام والسمع والبصر مع أن ما تثبته ليس مثل صفات المخلوقين فقل فيما أثبته مثل قولك فيما نفيته وأثبته الله ورسوله إذ لافرق بينهما

فإن قال

أنا لا أثبت شيئا من الصفات

قيل له

فأنت تثبت له الأسماء الحسنى مثل حي وعليم وقدير

والعبد يسمى بهذه الأسماء وليس ما تثبت للرب من هذه الأسماء مماثلا لما تثبت للعبد فقل في صفاته نظير قولك ذلك في مسمى أسمائه

فإن قال

وأنا لا أثبت له الأسماء الحسنى بل أقول هي مجاز أو هي أسماء لبعض مبتدعاته كقول غلاة الباطنية والمتفلسفة

قيل له

فلا بد أن تعتقد أنه حق قائم بنفسه والجسم موجود قائم بنفسه وليس هو مماثلا له

فإن قال

أنا لا أثبت شيئا بل أنكر وجود الواجب

قيل له

معلوم بصريح العقل أن الموجود إما واجب بنفسه وإما غير واجب بنفسه وإما قديم أزلي وإما حادث كائن بعد أن لم يكن وإما مخلوق مفتقر إلى خالق وإما غير مخلوق ولا مفتقر إلى خالق وإما فقير إلى ما سواه وإما غنى عما سواه

وغير الواجب بنفسه لا يكون إلا بالواجب بنفسه والحادث لا يكون إلا بقديم والمخلوق لا يكون إلا بخالق والفقير لا يكون إلا بغنى عنه فقد لزم على تقدير النقيضين وجود موجود واجب بنفسه قديم أزلي خالق غني عما سواه وما سواه بخلاف ذلك

وقد علم بالحس والضرورة وجود موجود حادث كائن بعد أن لم يكن والحادث لا يكون واجبا بنفسه ولا قديما أزليا ولا خالقا لما سواه ولا غنيا عما سواه فثبت بالضرورة وجود موجودين أحدهما غني والآخر فقير وأحدهما خالق والآخر مخلوق وهما متفقان في كون كل منهما شيئا موجودا ثابتا بل وإذا كان المحدث جسما فكل منهما قائم بنفسه ومن المعلوم أيضا أن أحدهما ليس مماثلا للآخر في حقيقته إذ لو كان كذلك لتماثلا فيما يجب ويجوز ويمتنع وأحدهما يجب قدمه وهو موجود بنفسه وأحدهما غنى عن كل ما سواه والآخر ليس بغنى وأحدهما خالق والآخر ليس بخالق فلو تماثلا للزم أن يكون كل منهما واجب القدم ليس بواجب القدم موجودا بنفسه ليس بموجود بنفسه غنيا عما سواه ليس بغنى عما سواه خالقا ليس بخالق فيلزم اجتماع النقيضين على تقدير تماثلهما وهو منتف بصريح العقل كما هو منتف بنصوص الشرع مع اتفاقهما في أمور أخرى كما أن كلا منهما موجود ثابت له حقيقة وذات هي نفسه والجسم قائم بنفسه وهو قائم بنفسه

فعلم بهذه البراهين البينة اتفاقهما من وجه واختلافهما من وجه فمن نفى ما اتفقا فيه كان معطلا قائلا للباطل ومن جعلهما متماثلين كان مشبها قائلا للباطل والله أعلم

وذلك لأنهما وإن اتفقا في مسمى ما اتفقا فيه فالله تعالى مختص بوجوده وعلمه وقدرته وسائر صفاته والعبد لا يشركه في شيء من ذلك والعبد أيضا مختص بوجوده وعلمه وقدرته والله تعالى منزه عن مشاركة العبد في خصائصه وإذا اتفقا في مسمى الوجود والعلم والقدرة فهذا المشترك مطلق كلي يوجد في الأذهان لا في الأعيان والموجود في الأعيان مختص لا اشتراك فيه

وهذا موضع اضطرب فيه كثير من النظار حيث توهموا أن الاتفاق في مسمى هذه الأشياء يوجب أن يكون الوجود الذي للرب هو الوجود الذي للعبد

وطائفة ظنت أن لفظ الوجود يقال بالاشتراك اللفظي وكابروا عقولهم فإن هذه الأسماء عامة قابلة للتقسيم كما يقال الموجود ينقسم إلى واجب وممكن وقديم وحادث ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام واللفظ المشترك كلفظ المشترى الواقع على المبتاع والكوكب لا ينقسم معناه ولكن يقال لفظ المشترى يقال على وكذا وعلى كذا

وطائفة ظنت أنها إذا سمت هذا اللفظ ونحوه مشككا لكون الوجود بالواجب أولى منه بالممكن خلصت من هذه الشبهة وليس كذلك فإن تفاضل المعنى المشترك الكلى لا يمنع أن يكون أصل المعنى مشتركا بين اثنين كما أن معنى السواد مشترك بين هذا السواد وهذا السواد وبعضه أشد من بعض وطائفة ظنت أن من قال الوجود متواطئ عام فإنه يقول وجود الخالق زائد على حقيقته ومن قال حقيقته هي وجوده قال إنه مشترك اشتراكا لفظيا وأمثال هذه المقالات التي قد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع

وأصل خطأ هؤلاء توهمهم أن هذه الأسماء العامة الكلية يكون مسماها المطلق الكلى هو بعينه ثابتا في هذا المعين وهذا المعين وليس كذلك فإن ما يوجد في الخارج لا يوجد مطلقا كليا لا يوجد إلا معينا مختصا وهذه الأسماء إذا سمي بها كان مسماها مختصا به وإذا سمى بها العبد كان مسماها مختصا به فوجود الله وحياته لا يشركه فيها غيره بل وجود هذا الموجود المعين لا يشركه فيه غيره فكيف بوجود الخالق

وإذا قيل

قد اشتركا في مسمى الوجود فلا بد أن يتميز أحدهما عن الآخر بما يخصه وهو الماهية والحقيقة التي تخصه

قيل

اشتراكا في الوجود المطلق الذهني لا اشتراكا في مسمى الحقيقة والماهية والذات والنفس وكما أن حقيقة هذا تخصه فكذلك وجوده يخصه والغلط نشأ من جهة أخذ الوجود مطلقا وأخذ الحقيقة مختصة وكل منهما يمكن أخذه مطلقا ومختصا فالمطلق مساو للمطلق والمختص مساو للمختص فالوجود المطلق مطابق للحقيقة المطلقة ووجوده المختص مطابق لحقيقته المختصة والمسمى بهذا وهذا واحد وإن تعددت جهة التسمية كما يقال هذا هو ذاك فالمشار إليه واحد لكن بوجهين مختلفين

وأيضا فإذا اشتركا في مسمى الوجود الكلي فإن أحدهما يمتاز عن الآخر بوجوده الذي يخصه كما أن الحيوانين والإنسانين إذا اشتركا في مسمى الحيوانية والإنسانية فإنه يمتاز أحدهما عن الآخر بحيوانية تخصه وإنسانية تخصه فلو قدر أن الوجود الكلى ثابت في الخارج لكان التمييز يحصل بوجود خاص لا يحتاج أن يقال هو مركب من وجود وماهية فكيف والأمر بخلاف ذلك

ومن قال إنه وجود مطلق بشرط سلب كل أمر ثبوتي فقوله أفسد من هذا الأقوال وهذه المعاني مبسوطة في غير هذا الموضع

والمقصود أن إثبات الأسماء والصفات لله لا يستلزم أن يكون سبحانه مشبها مماثلا لخلقه

وأما قوله

إنهم اعتقدوا أن الله هو المخصوص بالأزلية والقدم

فيقال أولا

جميع المسلمين يعتقدون أن كل ما سوى الله مخلوق حادث بعد أن لم يكن وهو المختص بالقدم والأزلية

ثم يقال

ثانيا الذي جاء به الكتاب والسنة هو توحيد الإليهة فلا إله إلا هو فهذا هو التوحيد الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه كما قال تعالى وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم سورة البقرة 163 وقال تعالى وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد سورة النحل 51 وقال وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون سورة الأنبياء 2ومثل هذا في القرآن كثير كقوله تعالى فاعلم أنه لا إله إلا الله سورة محمد 19 وقوله إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون سورة الصافات 3وبالجملة فهذا أول ما دعا إليه الرسول وآخره حيث قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وإني رسول الله وقال لعمه أبي طالب يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله

وقال من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة

وقال لقنوا موتاكم لا إله إلا الله

وكل هذه الأحاديث في الصحاح وهذا من أظهر ما يعلم بالاضطرار من دين النبي ﷺ وهو توحيد الإلهية أنه لا إله إلا الله

وأما كون القديم الأزلي واحدا فهذا اللفظ لا يوجد لا في كتاب الله ولا في سنة نبيه بل ولا جاء اسم القديم في أسماء الله تعالى وإن كان من أسمائه الأول

والأقوال نوعان فما كان منصوصا في الكتاب والسنة وجب الإقرار به على كل مسلم وما لهم يكن له أصل في النص والإجماع لم يجب قبوله ولا رده حتى يعرف معناه

فقول القائل القديم الأزلي واحد وإن الله مخصوص بالأزلية والقدم لفظ مجمل فإن أراد به أن الله بما يستحقه من صفاته اللازمة له هو القديم الأزلي دون مخلوقاته فهذا حق ولكن هذا مذهب أهل السنة والجماعة

وإن أراد به أن القديم الأزلي هو الذات التي لا صفات لها لا حياة ولا علم ولا قدرة لأنه لو كان لها صفات لكانت قد شاركتها في القدم ولكانت إلها مثلها فهذا الاسم هو اسم للرب الحي العليم القدير ويمتنع حي لا حياة له وعليم لا علم له وقدير لا قدرة له كما يمتنع مثل ذلك في نظائره

وإذا قال القائل صفاته زائدة على ذاته فالمراد أنها زائدة على ما أثبته النفاة لا أن في نفس الأمر ذاتا مجردة عن الصفات وصفات زائدة عليها فإن هذا باطل

ومن حكى عن أهل السنة أنهم يثبتون مع الله ذوات قديمة بقدمه وأنه مفتقر إلى تلك الذوات فقد كذب عليهم فإن للنظار في هذا المقام أربعة أقوال ثبوت الصفات وثبوت الأحوال ونفيهما جميعا وثبوت الأحوال دون الصفات فالأول قول جمهور نظار المثبتة الصفاتية يقولون إنه عالم بعلمه وقادر بقدرته وعلمه نفس عالميته وقدرته نفس قادريته

وعقلاء النفاة كأبي الحسين البصري وغيره يسلمون أن كونه حيا ليس هو كونه عالما وكونه عالما ليس هو كونه قادرا وكذلك مثبتة الأحوال منهم وهذا بعينه هو مذهب جمهور المثبتة للصفات دون الأحوال

ولكن من أثبت الأحوال مع الصفات كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وأبي المعالي في أول قوله فهؤلاء يتوجه رد النفاة إليهم

وأما من نفى الصفات والأحوال جميعا كأبي علي وغيره من المعترلة فهؤلاء يسلمون ثبوت الأسماء والأحكام فيقولون نقول إنه حي عليم قدير فيخبر عنه بذلك ويحكم بذلك ونسميه بذلك

فإذا قالوا لبعض الصفاتية أنتم توافقون على أنه خالق عادل وإن لم يقم بذاته خلق وعدل فكذلك حي عليم قدير

قيل موافقة هؤلاء لكم لا تدل على صحة قولكم فالسلف والأئمة وجمهور المثبتة يخالفونكم جميعا ويقولون إنه يقوم بذاته أفعاله سبحانه وتعالى

ثم هذه الأسماء دلت على خلق ورزق كما دل متكلم ومريد على كلام وإرادة ولكن هؤلاء النفاة جعلوا المتكلم والمريد والخالق والعادل يدل على معان منفصلة عنه وجعلوا الحي والعليم والقدير لا تدل على معان لا قائمة به ولا منفصلة عنه وجعلوا كل ما وصف الرب به نفسه من كلامه ومشيئته وحبه وبغضه ورضاه وغضبه إنما هي مخلوقات منفصلة عنه فجعلوه موصوفا بما هو منفصل عنه فخالفوا صريح العقل والشرع واللغة فإن العقل الصريح يحكم بأن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل لا على غيره فالمحل الذي قامت به الحركة والسواد والبياض كان متحركا أسود أبيض لا غيره وكذلك الذي قام به الكلام والإرادة والحب والبغض والرضا هو الموصوف بأنه المتكلم المريد المحب المبغض الراضي دون غيره وما لم يقم به الصفة لا يتصف بها فما لم يقم به كلام وإرادة وحركة وسواد وفعل لا يقال له متكلم ولا مريد ولا متحرك ولا أسود ولا فاعل وأما إذا لم يكن هناك معنى يتصف به فلا يسمى بأسماء المعاني

وهؤلاء سموه حيا عالما قادرا مع أنه عندهم لا حياة له ولا علم ولا قدرة وسموه مريدا متكلما مع أن الإرادة والكلام قائم بغيره وكذلك من سماه خالقا فاعلا مع أنه لم يقم به خلق ولا فعل فقوله من جنس قولهم

ونصوص الكتاب والسنة قد أثبتت اتصافه بالصفات القائمة به واللغة توجب أن صدق المشتق مستلزم لصدق المشتق منه فيوجب إذا صدق اسم الفاعل والصفة المشبهة أن يصدق مسمى المصدر فإذا قيل قائم وقاعد كان ذلك مستلزما للقيام والقعود وكذلك إذا قيل فاعل وخالق كان ذلك مستلزما للفعل والخلق وكذلك إذا قيل متكلم ومريد كان ذلك مستلزما للكلام والإرادة وكذلك إذا قيل حي عالم قادر كان ذلك مستلزما للحياة والعلم والقدرة

ومن نفى قيام الأفعال وقال لو كان خالقا بخلق لكان إن كان قديما لزم قدم المخلوق وإن كان حادثا لزم أن يكون له خلق آخر فيلزم التسلسل ويلزم قيام الحوادث

قد أجابه الناس بأجوبة متعددة كل على أصله فطائفة قالت بقدم الخلق دون المخلوق وعارضوه بالإرادة فإنه يقول إنها قديمة مع أن المراد محدث قالوا فكذلك الخلق وهذا جواب كثير من الحنفية والحنبلية والصوفية وأهل الحديث وغيرهم

وطائفة قالت بل الخلق لا يفتقر إلى خلق آخر كما أن المخلوق عنده كله لا يفتقر إلى خلق فإذا لم يفتقر شيء من الحوادث إلى خلق عنده فأن لا يفتقر الخلق الذي به خلق المخلوق إلى خلق أولى وهذا جواب كثير من المعتزلة والكرامية وأهل الحديث والصوفية وغيرهم

ثم من هؤلاء من يقول الخلق قائم به ومنهم من يقول قائم بالمخلوق ومنهم من يقول قائم لا في محل كما يقول البصريون من المعتزلة في الإرادة

وطائفة التزمت التسلسل

ثم هؤلاء صنفان منهم من قال بوجود معان لا نهاية لها في آن واحد وهذا قول ابن عباد وأصحابه

ومنهم من قال بل تكون شيئا بعد شيء وهو قول كثير من أئمة الحديث والسنة وأئمة الفلاسفة

وأما التسلسل فمن الناس من لم يلتزمه وقال كما أنه يجوز عندكم حوادث منفصلة لا ابتداء لها فكذلك يجوز قيام حوادث بذاته لا ابتداء لها وهذا قول كثير من الكرامية والمرجئة والهشامية وغيرهم

ومنهم من قال بل التسلسل جائز في الآثار دون المؤثرات والتزم أنه يقوم بذاته ما لا يتناهى شيئا بعد شيء ويقول إنه لم يزل متكلما بمشيئته ولا نهاية لكلماته وهذا قول أئمة الحديث وكثير من النظار

والكلام على قيام الأمور الإختيارية بذاته مبسوط في موضع آخر

فهذا قول المعتزلة والشيعة الموافقين لهم وهو قول باطل لأن صفة الإله لا يجب أن تكون إلها كما أن صفة النبي لا يجب أن تكون نبيا وإذا كانت صفة النبي المحدث موافقة له في الحدوث لم يلزم أن تكون نبيا مثله فكذلك صفة الرب اللازمة له إذا كانت قديمة بقدمه لم يلزم أن تكون إلها مثله

فهؤلاء مذهبهم نفى صفات الكمال اللازمة لذاته وشبهتهم التي أشار إليها أنها لو كانت قديمة لكان القديم أكثر من واحد كما يقول ابن سينا وأمثاله

وأخذ ذلك ابن سينا وأمثاله من المتفلسفة عن المعتزلة فقالوا لو كان له صفة واجبة لكان الواجب أكثر من واحد وهذا تلبيس فإنهم إن أرادوا أن يكون الإله القديم أو الإله الواجب أكثر من واحد فالتلازم باطل فليس يجب أن تكون صفة الإله إلها ولا صفة الإنسان إنسانا ولا صفة النبي نبيا ولا صفة الحيوان حيوانا

وإن أرادوا أن الصفة توصف بالقدم كما يوصف الموصوف بالقدم فهو كقول القائل توصف صفة المحدث بالحدوث كما يوصف الموصوف بالحدوث

وكذلك إذا قيل توصف بالوجوب كما يوصف الموصوف بالوجوب فليس المراد أنها توصف بوجوب أو قدم أو حدوث على سبيل الإستقلال فإن الصفة لا تقوم بنفسها ولا تستقل بذاتها ولكن المراد أنها قديمة واجبة بقدوم الموصوف ووجوبه إذا عني بالواجب ما لا فاعل له وعنى بالقديم ما لا أول له وهذا حق لا محذور فيه

وقد بسط الكلام على هذا بسطا مستوفى في مواضع بين ما في لفظ واجب الوجود والقديم من الإجمال وشبهة نفاة الصفات وهو لم يذكر هنا إلا شيئا مختصرا قد ذكرنا ما يناسب هذا الموضع

وبينا في موضع آخر أن لفظ القديم وواجب الوجود فيه أجمال فإذا أريد بالقديم القائم بنفسه أو الفاعل القديم أو الرب القديم ونحو ذلك فالصفة ليست قديمة بهذا الاعتبار بل هي صفة القديم وإذا أريد مالا ابتداء له ولم يسبقه عدم مطلقا فالصفة قديمة

وكذلك لفظ واجب الوجود إن أريد به القائم بنفسه الموجود بنفسه فالصفة ليست واجبة بل هي صفة واجب الوجود وإن أريد ما لا فاعل له أو ما ليس له علة فاعلة فالصفة واجبة الوجود وإن أريد به مالا تعلق له بغيره فليس في الوجود واجب الوجود بهذا الاعتبار فإن البارئ تعالى خالق لكل ما سواه فله تعلق بمخلوقاته وذاته ملازمة لصفاته وصفاته ملازمة لذاته وكل من صفاته اللازمة ملازمة لصفته الأخرى

وبينا أن واجب الوجود الذي دلت عليه الممكنات والقديم الذي دلت عليه المحدثات الذي هو الخالق الموجود بنفسه الذي لم يزل ولا يزال ويمتنع عدمه فإن تسمية الرب واجبا بذاته وجعل ما سواه ممكنا ليس هو قول أرسطو وقدماء الفلاسفة ولكن كانوا يسمونه مبدءا وعلة ويثبتونه من جهة الحركة الفلكية فيقولون إن الفلك يتحرك للتشبه به

فركب ابن سينا وأمثاله مذهبا من قول أولئك وقول المعتزلة فلما قالت المعتزلة الموجود ينقسم إلى قديم وحادث وإن القديم لا صفة له قال هؤلاء إنه ينقسم إلى واجب وممكن والواجب لا صفة له ولما قال أولئك يمتنع تعدد القديم قال هؤلاء يمتنع تعدد الواجب

وأما قوله

إن كل ما سواه محدث فهذا حق والضمير في ما سواه عائد إلى الله وهو إذا ذكر باسم مظهر أو مضمر دخل في مسمى اسمه صفاته فهي لا تخرج عن مسمى أسمائه فمن قال دعوت الله أو عبدته فهو إنما دعا الحي القيوم العليم القدير الموصوف بالعلم والقدرة وسائر صفات الكمال

وأما قوله

لأنه واحد وليس بجسم

فإن أراد بالواحد ما أراده الله ورسوله بمثل قوله وإلهكم إله واحد سورة البقرة 163 وقوله وهو الواحد القهار سورة الرعد 16 ونحو ذلك فهذا حق

وإن أراد بالواحد ما تريده الجهمية نفاة الصفات من أنه ذات مجردة عن الصفات فهذا الواحد لا حقيقة له في الخارج وإنما يقدر في الأذهان لا في الأعيان ويمتنع وجود ذات مجردة عن الصفات ويمتنع وجود حي عليم قدير لا حياة له ولا علم ولا قدرة فإثبات الأسماء دون الصفات سفسطة في العقليات وقرمطة في السمعيات

وكذلك قوله

ليس بجسم لفظ الجسم فيه إجمال

قد يراد به المركب الذي كانت أجزاؤه مفرقة فجمعت أو ما يقبل التفريق والإنفصال أو المركب من مادة وصورة أو المركب من الأجزاء المفردة التي تسمى الجواهر الفردة والله تعالى منزه عن ذلك كله عن أن يكون كان متفرقا فاجتمع أو أن يقبل التفريق والتجزئة التي هي مفارقة بعض الشيء بعضا وانفصاله عنه أو غير ذلك من التركيب الممتنع عليه

وقد يراد بالجسم ما يشار إليه أو ما يرى أو ما تقوم به الصفات والله تعالى يرى في الآخرة وتقوم به الصفات ويشير إليه الناس عند الدعاء بأيديهم وقلوبهم ووجوههم وأعينهم

فإن أراد بقوله ليس بجسم هذا المعنى

قيل له

هذا المعنى الذي قصدت نفيه بهذا اللفظ معنى ثابت بصحيح المنقول وصريح المعقول وأنت لم تقم دليلا على نفيه

وأما اللفظ فبدعة نفيا وإثباتا فليس في الكتاب ولا السنة ولا قول أحد من سلف الأمة وأئمتها إطلاق لفظ الجسم في صفات الله تعالى لا نفيا ولا إثباتا

وكذلك لفظ الجوهر والمتحيز ونحو ذلك من الألفاظ التي تنازع أهل الكلام المحدث فيها نفيا وإثباتا

وإن قال

كل ما يشار إليه ويرى وترفع إليه الأيدي فإنه لا يكون إلا جسما مركبا من الجواهر الفردة أو من المادة والصورة

قيل له

هذا محل نزاع فأكثر العقلاء ينفون ذلك وأنت لم تذكر على ذلك دليلا وهذا منتهى نظر النفاة فإن عامة ما عندهم أن تقوم به الصفات ويقوم به الكلام والإرادة والأفعال وما يمكن رؤيته بالأبصار لا يكون إلا جسما مركبا من الجواهر الفردة أو من المادة والصورة ومن يذكرونه من العبارة فإلى هذا يعود

وقد تنوعت طرق أهل الإثبات في الرد عليهم فمنهم من سلم لهم أنه يقوم به الأمور الإختيارية من الأفعال وغيرها ولا يكون إلا جسما ونازعهم فيما يقوم به من الصفات التي لا يتعلق منها شيء بالمشيئة والقدرة

ومنهم من نازعهم في هذا وهذا وقال بل لا يكون هذا جسما ولا هذا جسما

ومنهم من سلم لهم أنه جسم ونازعهم في كون القديم ليس بجسم

وحقيقة الأمر أن لفظ الجسم فيه منازعات لفظية ومعنوية

والمنازعات اللفظية غير معتبرة في المعاني العقلية

وأما المنازعات المعنوية فمثل تنازع الناس فيما يشار إليه إشارة حسية هل يجب أن يكون مركبا من الجواهر الفردة أو من المادة والصورة أو لا يجب واحد منهما

فذهب كثير من النظار من المعتزلة والأشعرية ومن وافقهم إلى أنه لا بد أن يكون مركبا من الجواهر الفردة ثم جمهور هؤلاء قالوا إنه مركب من جواهر متناهية وقال بعض النظار بل من جواهر غير متناهية

وذهب كثير من النظار من المتفلسفة إلى أنه يجب أن يكون مركبا من المادة والصورة ثم من الفلاسفة من طرد هذا في جميع الأجسام كابن سينا ومنهم من قال بل هذا في الأجسام العنصرية دون الفلكية وزعم أن هذا قول أرسطو والقدماء

وكثير من المصنفين لا يذكر إلا هذين القولين ولهذا كان من لم يعرف إلا هذه المصنفات لا يعرف إلا هذين القولين

والقول الثالث قول جماهير العقلاء وأكثر طوائف النظار أنه ليس مركبا لا من هذا ولا من هذا وهذا قول ابن كلاب إمام الأشعري وغيره وهو قول كثير من الكرامية وهو قول الهشامية والنجارية والضرارية

ثم هؤلاء منهم من قال ينتهي بالتقسيم إلى جزء لا يتجزأ كقول الشهرستاني وغيره ومنهم من قال بل لا يزال قابلا للإنقسام إلى أن يصغر فيستحيل معه تمييز بعضه عن بعض كما قال ذلك من قال من الكرامية وغيرهم من نظار المسلمين وهو قول من قاله من أساطين الفلاسفة مع قول بعضهم إنه مركب من المادة والصورة

وبعض المصنفين في الكلام يجعل إثبات الجوهر الفرد هو قول المسلمين وأن نفيه هو قول الملحدين

وهذا لأن هؤلاء لم يعرفوا من الأقوال المنسوبة إلى المسلمين إلا ما وجدوه في كتب شيوخهم أهل الكلام المحدث في الدين الذي ذمه السلف والأئمة كقول أبي يوسف من طلب العلم بالكلام تزندق وقول الشافعي حكمى في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في العشائر والقبائل ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام وكقول أحمد بن حنبل علماء الكلام زنادقة وقوله ما ارتدى أحد بالكلام فأفلح وأمثال ذلك

وإلا فالقول بأن الأجسام مركبة من الجواهر المنفردة قول لا يعرف عن أحد من أئمة المسلمين لا من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا من بعدهم من الأئمة المعروفين بل القائلون بذلك يقولون إن الله تعالى لم يخلق منذ خلق الجواهر المنفردة شيئا قائما بنفسه لا سماء ولا أرضا ولا حيوانا ولا نباتا ولا معادن ولا إنسانا ولا غير إنسان بل إنما يحدث تركيب تلك الجواهر القديمة فيجمعها ويفرقها فإنما يحدث أعراضا قائمة بتلك الجواهر لا أعيانا قائمة بأنفسها فيقولون إنه إذا خلق السحاب والمطر والإنسان وغيره من الحيوان والأشجار والنبات والثمار لم يخلق عينا قائمة بنفسها وإنما خلق أعراضا قائمة بغيرها وهذا خلاف ما دل عليه السمع والعقل والعيان ووجود جواهر لا تقبل القسمة منفردة عن الأجسام مما يعلم بطلانه بالعقل والحس فضلا عن أن يكون الله تعالى لم يخلق عينا قائمة بنفسها إلا ذلك وهؤلاء يقولون إن الأجسام لا يستحيل بعضها إلى بعض بل الجواهر التي كانت مثلا في الأول هي بعينها باقية في الثاني وإنما تغيرت أعراضها

وهذا خلاف ما أجمع عليه العلماء أئمة الدين وغيرهم من العقلاء من استحالة بعض الأجسام إلى بعض كاستحالة الإنسان وغيره من الحيوان بالموت ترابا واستحالة الدم والميتة والخنزير وغيرها من الأجسام النجسة ملحا أو رمادا واستحالة العذرات ترابا واستحالة العصير خمرا ثم استحالة الخمر خلا واستحالة ما يأكله الإنسان ويشربه بولا ودما وغائطا ونحو ذلك وقد تكلم علماء المسلمين في النجاسة هل تطهر بالاستحالة أم لا ولم ينكر أحد منهم الاستحالة ومثبتة الجوهر الفرد قد فرعوا عليه من المقالات التي يعلم العقلاء فسادها ببديهة العقل ما ليس هذا موضع بسطه مثل تفليك الرحى والدولاب والفلك وسائر الأجسام المستديرة المتحركة وقول من قال منهم إن الفاعل المختار يفعل كلما تحركت ومثل قول كثير منهم إن الإنسان إذا مات فجميع جواهره باقية قد تفرقت ثم عند الإعادة يجمعها الله تعالى

ولهذا صار كثير من حذاقهم إلى التوقف في آخر أمرهم كأبي الحسين البصري وأبي المعالي الجويني وأبي عبدالله الرازي وكذلك ابن عقيل والغزالي وأمثالهما من النظار الذين تبين لهم فساد أقوال هؤلاء يذمون أقوال هؤلاء يقولون إن أحسن أمرهم الشك وإن كانوا قد وافقوهم في كثير من مصنفاتهم على كثير مما قالوه من الباطل وبسط الكلام على فساد قول القائلين بتركيب الجواهر الفردة المحسوسة أو الجواهر المعقولة له موضع آخر

وكذلك ما يثبته المشاؤون من الجواهر العقلية كالعقول والنفوس المجردة كالمادة والمدة والمثل الأفلاطونية والأعداد المجردة التي يثبتها أو بعضها كثير من المشائين أتباع فيثاغورس وأفلاطون وأرسطو وإذا حقق الأمر عليهم لم يكن لما أثبتوه من العقليات وجود إلا في الأذهان لا في الأعيان وهذا لبسطه موصع آخر وهذا المصنف لم يذكر لقوله إلا مجرد الدعوى فلذلك لم نبسط القول فيه

وإنما المقصود التنبيه على أن آخر ما ينتهى إليه أصل هؤلاء الذي نفوا به ما ثبت بالكتاب والسنة وإجماع السلف بل ولما ثبت بالفطرة العقلية التي اشترك فيها جميع أهل الفطر التي لم تفسد فطرتهم بما تلقنوه من الأقوال الفاسدة بل ولما ثبت بالبراهين العقلية فالذي ينتهى إليه أصلهم هو أنه لو كان متصفا بالصفات أو متكلما بكلام يقوم به ومريدا بما يقوم به من الإرادة الحسية وكانت رؤيته ممكنة في الدنيا أو في الآخرة لكان مركبا من الجواهر المفردة الحسية أو الجواهر العقلية المادة والصورة

وهذا التلازم باطل عند جماهير العقلاء فيما نشاهد فإن الناس يرون الكواكب وغيرها من الأجسام وهي عند جماهير العقلاء ليست مركبة لا من هذا ولا من هذا

ولو قدر أن هذا التلازم حق فليس في حججهم حجة صحيحة يوجب انتفاؤها اللازم بل كل من الطائفتين تطعن في حجج الفريق الآخر وتبين فسادها فأولئك يقولون إن كل ما كان كذلك فهو محدث ومنازعوهم يطعنون في المقدمتين ويبينون فسادهما والآخرون يقولون إن كل مركب فهو مفتقر إلى أجزائه وأجزاؤه غيره فكل مركب مفتقر إلى غيره ومنازعوهم يثبتون فساد هذه الحجة وما فيها من الألفاظ المجملة والمعاني المتشابهة كما قد بسط في موضع آخر

ولهذا يقول من يقول من العقلاء العارفين بحقيقة قول هؤلاء وهؤلاء إن الواحد الذي يثبته هؤلاء لا يتحقق إلا في الأذهان لا في الأعيان

ولهذا لما بنى الفلاسفة الدهرية على قولهم بأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحدا كان من أول ما يبين فساد قولهم أو الواحد الذي ادعوا فيه ما ادعوا لا حقيقة له في الخارج بل يمتنع وجوده فيه وإنما يقدر في الأذهان كما يقدر سائر الممتنعات

وكذلك سائر الجهمية والمعتزلة نفاة الصفات لما أثبتوا واحدا لا يتصف بشيء من الصفات كانوا عند أئمة العلم الذين يعرفون حقيقة قولهم إنما توحيدهم تعطيل مستلزم لنفى الخالق وإن كانوا قد أثبتوه فهم متناقضون جمعوا بين ما يستلزم نفيه وما يستلزم إثباته

ولهذا وصفهم أئمة الإسلام بالتعطيل وأنهم دلاسون ولا يثبتون شيئا ولا يعبدون شيئا ونحو ذلك كما هو موجود في كلام غير واحد من أئمة الإسلام مثل عبد العزيز بن الماجشون وعبدالله بن المبارك وحماد بن زيد ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل وغير هؤلاء ولا بد للدعوى من دليل

وكذلك قوله: ولا في مكان

فقد يراد بالمكان ما يحوى الشيء ويحيط به وقد يراد به ما يستقر الشيء عليه بحيث يكون محتاجا إليه وقد يراد به ما كان الشيء فوقه وإن لم يكن محتاجا إليه وقد يراد به ما فوق العالم وإن لم يكن شيئا موجودا فإن قيل

هو في مكان بمعنى إحاطة غيره به وافتقاره إلى غيره

فالله منزه عن الحاجة إلى الغير وإحاطة الغير به ونحو ذلك

وإن أريد بالمكان ما فوق العالم وما هو الرب فوقه

قيل

إذا لم يكن إلا خالق أو مخلوق والخالق بائن من المخلوق كان هو الظاهر الذي ليس فوقه شيء

وإذا قال القائل

هو سبحانه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه فهذا المعنى حق سواء سميت ذلك مكانا أو لم تسمه

وإذا عرف المقصود فمذهب أهل السنة والجماعة ما دل عليه الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الأمة وهو القول المطابق لصحيح المنقول وصريح المعقول

وأما قوله

وإلا لكان محدثا

فمضمونه أنه لو كان جسما أو في مكان لكان محدثا

فيقال له

قد بينا ما ينفى عنه من معاني الجسم والمكان وبينا ما لا يجوز نفيه عنه وإن سماه بعض الناس جسما ومكانا لكن ما الدليل على أنه لو كان كذلك لكان محدثا وأنت لم تذكر دليلا على ذلك وكأنه اكتفى بالدليل المشهور الذي يذكره سلفه وشيوخه المعتزلة من أنه لو كان جسما لم يخل عن الحركة والسكون وما لم يخل عن الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها ثم يقولون ولو كان قام به علم وقدرة وحياة وكلام ونحو ذلك من الصفات لكان جسما

وهذا الدليل عنه جوابان

أحدهما

أن يقال له هو عندك حي عليم قدير ومع هذا فليس بجسم عندك مع أنك لا تعلم حيا عليما قديرا إلا جسما فإن كان قولك حقا أمكن أن يكون له حياة وعلم وقدرة وأن يكون مباينا للعالم عاليا عليه وليس بجسم

فإن قلت

لا أعقل مباينا عاليا إلا جسما

قيل لك

ولا يعقل حي عليم قدير إلا جسم فإن أمكن أن يكون مسمى بهذه الأسماء ما ليس بجسم أمكن أن يتصف بهذه الصفات ما ليس بجسم وإلا فلا لأن الاسم مستلزم للصفة وكذلك إذا قال

لو كان فوق العالم لكان جسما ولكان إما أكبر من العالم وإما أصغر وإما مساويا له وكل ذلك ممتنع

فيقال له

إن كثيرا من الناس يقولون إنه فوق العالم وليس بجسم

فإذا قال النافي

قوله هؤلاء معلوم فساده بضرورة العقل

قيل له

فأنت تقول إنه موجود قائم بنفسه وليس بداخل في العالم ولا خارج عنه ولا مباين له ولا محايث له وأنه لا يقرب منه شيء ولا يبعد منه شيء ولا يصعد إليه شيء ولا ينزل منه شيء وأمثال ذلك من النفى الذي إذا عرض على الفطرة السليمة جزمت جزما قاطعا أن هذا باطل وأن وجود مثل هذا ممتنع وكان جزمها ببطلان هذا أقوى من جزمها ببطلان كونه فوق العالم وليس بجسم

فإن كان حكم الفطرة السليمة مقبولا وجب بطلان مذهبك فلزم أن يكون فوق العالم وإن كان مردودا بطل ردك لقول من يقول إنه فوق العالم وليس بجسم فإن الفطرة الحاكمة بامتناع هذا هي الحاكمة بامتناع هذا فيمتنع قبول حكمها في أحد الموضعين دون الآخر

وذلك أن هؤلاء النفاة يزعمون أن الحكم بهذا المنع من حكم الوهم المردود لا من حكم العقل المقبول ويقولون إن الوهم هو أن يدرك في المحسوسات ما ليس بمحسوس كما تدرك الشاة عدواة الذئب وتدركا السخلة صداقة أمها ويقولون الحكم الفطري الموجود في قلوب بني آدم بامتناع وجود مثل هذا هو حكم الوهم لا حكم العقل فإن حكم الوهم إنما يقبل في المحسوسات لا فيما ليس بمحسوس

فيقال لهم إن كان هذا صحيحا فقولكم إنه يمتنع أن يكون فوق العالم وليس بجسم هو أيضا من حكم الوهم لأنه حكم فيما ليس بمحسوس عندكم وكذلك حكمه بأن كل ما يرى فلا بد أن يكون بجهة من الرائي هو حكم الوهم أيضا

وكذلك سائر ما يدعون امتناعه على الرب هو مثل دعوى امتناع كونه لا مباينا ولا محايثا فإن كان حكم الفطرة بهذا الإمتناع مقبولا في شيء من ذلك قبل في نظيره وإلا فقبوله في أحد المتماثلين ورده في الآخر تحكم

وهؤلاء بنوا كلامهم على أصول متناقضة فإن الوهم عندهم قوة في النفس تدرك في المحسوسات ما ليس بمحسوس وهذا الوهم لا يدرك إلا معنى جزئيا لا كليا كالحس والتخيل وأما الأحكام الكلية فهي عقلية فحكم الفطرة بأن كل موجودين إما متحايثان وإما متباينان وبأن ما لا يكون داخل العالم ولا خارجه لا يكون إلا معدوما وأنه يمتنع وجود ما هو كذلك ونحو ذلك أحكام كلية عقلية ليست أحكاما جزئية شخصية في جسم معين حتى يقال إنها من حكم الوهم

وأيضا فإنهم يقولون إن حكم الوهم فيما ليس بمحسوس باطل لأنه إنما يدرك ما في المحسوسات من المعاني التي ليست محسوسة أي لا يمكن إحساسها

ومعلوم أن كون رب العالمين لا تمكن رؤيته أو تمكن مسألة مشهورة فسلف الأمة وأئمتها وجمهور نظارها وعامتها على أن الله يمكن رؤيته ورؤية الملائكة والجن وسائر ما يقوم بنفسه فإذا ادعى المدعى أنه لا يمكن رؤيته ولا رؤية الملائكة التي يسميها هو المجردات والنفوس والعقول فهو يدعى وجود موجود قائم بنفسه لا يمكن الإحساس به بحال

فإذا احتج عليه بالقضايا الفطرية التي تحكم بها الفطرة كما تحكم بسائر القضايا الفطرية لم يكن له أن يقول هذا حكم الوهم فيما ليس بمحسوس فلا يقبل لأن الوهم إنما يدرك ما في المحسوس فإنه يقال له إنما يثبت أن هذا مما لا يمكن أن يرى ويحس به إذا ثبت أن هذا الحكم باطل وإنما يثبت أن هذا الحكم باطل إذا ثبت وجود موجود لا يمكن أن يرى ويحس به وأنت لم تثبت هذا الموجود إلا بدعواك أن هذا الحكم باطل ولم تثبت أن هذا الحكم باطل إلا بدعواك وجود هذا الموجود فصار حقيقة قولك دعوى مجردة بلا دليل

فإذا ثبت امتناع رؤيته بإبطال هذا الحكم كان هذا دورا ممتنعا وكنت قد جعلت الشيء مقدمة في إثبات نفسه فإنه يقال لك لم تثبت إمكان وجود غير محسوس إن لم تثبت بطلان هذا الحكم ولا تثبت بطلانه إن لم تثبت موجودا قائما بنفسه لا يمكن رؤيته ولا الإحساس به

فإذا قلت

الوهم يسلم مقدمات تستلزم ثبوت هذا

قيل لك

ليس الأمر كذلك فإنه لم يسلم مقدمة مستلزمة لهذا أصلا بل جميع ما ينبنى عليه ثبوت إمكان هذا وإمكان هذا وإمكان وجود ما لا يمكن رؤيته ولا يشار إليه مقدمات متنازع فيها بين العقلاء ليس فيها مقدمة واحدة متفق عليها فضلا عن أن تكون ضرورية أو حسية يسلمها الوهم

ثم يقال لك

إذا جوزت أن يكون في الفطرة حاكمان بديهيان أحدهما حكمه باطل والآخر حكمه حق لم يوثق بشيء من حكم الفطرة حتى يعلم أن ذلك من حكم الحاكم الحق ولا يعرف عن ذلك حتى يعرف أنه ليس من الحكم الباطل ولا يعرف أنه باطل حتى تعرف المقدمات البديهية الفطرية التي بها يعلم أن ذلك الحكم باطل فيلزم من هذا أن لا يعرف شيء بحكم الفطرة فإنه لا يعرف الحق حتى يعرف الباطل ولا يعرف الباطل حتى يعرف الحق فلا يعرف الحق بحال

وأيضا فالأقيسة القادحة في تلك الأحكام الفطرية البديهية أقيسة نظرية والنظريات مؤلفة من البديهيات فلو جاز القدح في البديهيات بالنظريات لزم فساد البديهيات والنظريات فإن فساد الأصل يستلزم فساد فرعه فتبين أن من سوغ القدح في القضايا البديهية الأولية الفطرية بقضايا نظرية فقوله باطل يستلزم فساد العلوم العقلية بل والسمعية

وأيضا لفظ الوهم في اللغة العامة يراد به الخطأ وأنت أردت به قوة تدرك ما في الأجسام من المعاني التي ليست محسوسة وحينئذ فالحاكم بهذا الإمتناع إن كان حكم به في غير جسم فليس هو الوهم وإن كان إنما حكم به في جسم فحكمه صادق فيه فلم قلت إن هذا هو حكم الوهم فيما لا يقبل حكمه فيه

ومعلوم أن ما تحكم به الفطرة السليمة من القضايا الكلية المعلومة لها ليس فيها ما يحصل بعضه من حكم الوهم الباطل وبعضه من حكم العقل الصادق وإنما يعلم أن الحكم من حكم الوهم الباطل إذا عرف بطلانه فأما أن يدعى بطلانه بدعوى كونه من حكم الوهم فهذا غير ممكن وبسط هذه الأمور له موضع آخر

والمقصود هنا أن هذا المبتدع وأمثاله من نفاة ما أثبته الله ورسوله لنفسه من معاني الأسماء والصفات من الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم من المتفلسفة والرافضة وغيرهم لا يعتمدون فيما يقولونه على دليل صحيح لا سمعي ولا عقلي

أما السمعيات فليس معهم نص واحد يدل على قولهم لا قطعا ولا ظاهرا ولكن نصوص الكتاب والسنة متظاهرة على نقيض قولهم ودالة على ذلك أعظم من دلالتها على المعاد والملائكة وغير ذلك مما أخبر الله به رسوله

ولهذا سلط الله عليهم الدهرية المنكرون للقيامة ولمعاد الأبدان وقالوا إذا جاز لكم أن تتأولوا ما ورد في الصفات جاز لنا أن نتأول ماورد في المعاد

وقد أجابوهم بأنا قد علمنا ذلك بالاضطرار من دين الرسول فقال لهم أهل الإثبات وهكذا العلم بالصفات في الجملة هو مما يعلم بالضرورة مجئ الرسول به وذكره في الكتاب والسنة أعظم من ذكر الملائكة والمعاد مع أن المشركين من العرب لم تكن تنازع فيه كما كانت تنازع في المعاد مع أن التوراة مملوءة من ذلك ولم ينكره الرسول على اليهود كما أنكر عليهم ما حرفوه وما وصفوا به الرب من النقائص كقولهم إن الله فقير ونحن أغنياء سورة آل عمران 181 ويد الله مغلولة سورة المائدة 64 ونحو ذلك وذلك مما يدل على أن الله أظهر في السمع والعقل من المعاد فإذا كانت نصوص المعاد لا يجوز تحريفها فهذا بطريق الأولى وهذه الأمور مبسوطة في موضع آخر

والجواب الثاني

أن يقال هذا الدليل قد عرف ضعفه لأنه إذا كان هذا الحادث ليس بدائم وهذا ليس بدائم باق يجب أن يكون نوع الحوادث ليست بدائمة باقية كما أنه إذا كان هذا الحادث ليس بباق وهذا الحادث ليس بباق يجب أن يكون نوع الحوادث ليس بباق بل هي باقية دائمة في المستقبل في الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وجمهورها كما قال تعالى أكلها دائم وظلها سورة الرعد 35 والمراد دوام نوعه لا دوام كل فرد فرد

قال تعالى لهم فيها نعيم مقيم سورة التوبة 21 والمقيم هو نوعه وقال إن هذا لرزقنا ماله من نفاد سورة ص 54 والمراد أن نوعه لا ينفد وإن كان كل جزء منه ينفد أي ينقضي وينصرم

وأيضا فإن ذلك يستلزم حدوث الحوادث بلا سبب وذلك ممتنع في صريح العقل وهذا الدليل هو أصل الكلام الذي ذمه السلف وعابوه لأنهم رأوه باطلا لا يقيم حقا ولا يهدم باطلا وقد تقدم الكلام على هذا في مسألة الحدوث

وتمام كشف ذلك أن نقول في

الوجه الخامس

إن الناس عليهم أن يؤمنوا بالله ورسوله فيصدقوه فيما أخبر ويطيعوه فيما أمر فهذا أصل السعادة وجماعها والقرآن كله يقرر هذا الأصل قال تعالى الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون سورة البقرة 1 5 فقد وصف سبحانه بالهدى والفلاح المؤمنين الموصوفين في هذه الآيات

وقال تعالى لما أهبط آدم من الجنة فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى سورة طه 123 126 فقد أخبر أن من اتبع الهدى الذي أتانا منه وهو ما جاءت به الرسل فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكره وهو الذكر الذي أنزله وهو كتبه التي بعث بها رسله بدليل أنه قال بعد ذلك كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى

والذكر مصدر يضاف تارة إلى الفاعل وتارة إلى المفعول كما يقال دق الثوب ودق القصار ويقال أكل زيد وأكل الطعام ويقال ذكر الله أي ذكر العبد ويقال ذكر الله أي ذكر الله الذي ذكره هو مثل ذكره عبده ومثل القرآن الذي هو ذكره

وقد يضاف الذكر إضافة الأسماء المحضة فقوله ذكرى إن أضيف إضافة المصادر كان المعنى الذكر الذي ذكرته وهو كلامه الذي أنزله وإن أضيف إضافة الأسماء المحضة فذكره هو ما اختص به من الذكر والقرآن مما اختص به من الذكر

قال تعالى وهذا ذكر مبارك أنزلناه سورة الأنبياء 50 وقال ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث سورة الأنبياء 2 وقال إن هو إلا ذكر وقرآن مبين سورة يس 69 وقال وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم سورة النحل 44 وقال فيما يذكره من ضمان الهدى والفلاح لمن اتبع الكتاب والرسول فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون سورة الأعراف 157 وقال آلر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد سورة إبراهيم 1 ونظائره في القرآن كثيرة

وإذا كان كذلك فالله سبحانه بعث الرسل بما يقتضى الكمال من إثبات أسمائه وصفاته على وجه التفصيل والنفي على طريق الإجمال للنقص والتمثيل فالرب تعالى موصوف بصفات الكمال التي لا غاية فوقها منزه عن النقص بكل وجه ممتنع وأن يكون له مثيل في شيء من صفات الكمال فأما صفات النقص فهو منزه عنها مطلقا وأما صفات الكمال فلا يماثله بل ولا يقاربه فيها شيء من الأشياء

والتنزيه يجمعه نوعان نفي النقص ونفي مماثلة غيره له في صفات الكمال كما دل على ذلك سورة قل هو الله أحد وغيرها من القرآن مع دلالة العقل على ذلك وإرشاد القرآن إلى ما يدل على ذلك من العقل

بل وقد أخبر الله أن في الآخرة من أنواع النعيم ما له شبه في الدنيا كأنواع المطاعم والمشارب والملابس والمناكح وغير ذلك وقد قال ابن عباس ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء فحقائق تلك أعظم من حقائق هذه بما لا يعرف قدره وكلاهما مخلوق والنعيم الذي لا يعرف جنسه قد أجمله الله سبحانه وتعالى بقوله فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين سورة السجدة 1وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر

فإذا كان هذان المخلوقان متفقين في الاسم مع أن بينهما في الحقيقة تباينا لا يعرف في الدنيا قدره فمن المعلوم أن ما يتصف به الرب من صفات الكمال مباين لصفات خلقه أعظم من مباينة مخلوق لمخلوق ولهذا قال أعلم الخلق بالله في الحديث الصحيح لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك

وقال في الدعاء المأثور الذي رواه أحمد وابن حبان في صحيحه عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال ما أصاب عبدا هم قط ولا حزن فقال اللهم إني عبدك ابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي وغمي إلا أذهب الله همه وغمه وأبدله مكان حزنه فرحا قالوا يا رسول الله أفلا نتعلمهن قال بلى ينبغي لكل من سمعهن أن يتعلمهن فبين أن لله أسماء استأثر بها في علم الغيب عنده لا يعلمها ملك ولا نبي

وأسماؤه تتضمن صفاته ليست أسماء أعلام محضة كاسمه العليم والقدير والرحيم والكريم والمجيد والسميع والبصير وسائر أسمائه الحسنى سبحانه وتعالى

وهو سبحانه مستحق للكمال المطلق لأنه واجب الوجود بنفسه يمتنع العدم عليه ويمتنع أن يكون مفتقرا إلى غيره بوجه من الوجوه إذ لو افتقر إلى غيره بوجه من الوجوه كان محتاجا إلى الغير والحاجة إما إلى حصول كمال له وإما إلى دفع ما ينقص كماله ومن احتاج في شيء من كماله إلى غيره لم يكن كماله موجودا بنفسه بل بذلك الغير وهو بدون ذلك الكمال ناقص والناقص لا يكون واجبا بنفسه بل ممكنا مفتقرا إلى غيره لأنه لو كان واجبا بنفسه مع كونه ناقصا مفتقرا إلى كمال من غيره لكان الذي يعطيه الكمال إن كان ممكنا فهو مفتقر إلى واجب آخر والقول في هذا كالقول في الأول وإن كان واجبا ناقصا فالقول فيه كالقول في الأول وإن كان واجبا كاملا فهذا هو الواجب بنفسه وذاك الذي قدر واجبا ناقصا فهو مفتقر إلى هذا في كماله وذاك غنى عنه فهذا هو رب ذاك وذاك عبده ويمتنع مع كونه مربوبا معبدا أن يكون واجبا ففرض كونه واجبا ناقصا محال

وأيضا فيمتنع أن يكون نفس ما هو واجب بنفسه فيه نقص يفتقر في زواله إلى غيره لأن ذلك النقص حينئذ يكون ممكن الوجود وإلا لما قبله وممكن العدم وإلا لكان لازما له لا يقبل الزوال والتقدير أنه ممكن زواله بحصول الكمال الممكن الوجود فإن ما هو ممتنع لا يكون كمالا وما هو ممكن فإما أن يكون للواجب أو من الواجب ويمتنع أن يكون المخلوق أكمل من الخالق فالخالق الواجب بنفسه أحق بالكمال الممكن الوجود الذي لا نقص فيه فلا تكون ذاته مستلزمة لذلك الكمال فيكون ذلك الكمال إذا وجد مفتقرا إليه وإلى ذلك الغير الآخر يحصل بهما جميعا وكل منهما واجب بنفسه فلا يكون ذلك الأثر لا من هذا ولا من هذا بل هو شيء منفصل عنهما

وتحقيق ذلك أن كمال الشيء هو من نفس الشيء وداخل فيه فالواجب بنفسه لا يكون واجبا إن لم يكن ما هو داخل في نفسه واجب الوجود لا يفتقر فيه إلى سبب منفصل عنه فمتى افتقر فيما هو داخل فيه إلى سبب منفصل عنه لم تكن نفسه واجبة بنفسه وما لا يكون داخلا في نفسه لا يكون من كماله أيضا بل يكون شيئا مباينا له وإنما يكون ذلك شيئين أحدهما واجب بنفسه والآخر شيء قرن به وضم إليه

وأيضا فنفس واجب الوجود هو أكمل الموجودات إذ الواجب أكمل من الممكن بالضرورة فكل كمال ممكن له إن كان لازما له امتنع أن يكون كماله مستفادا من غيره أو أن يحتاج فيه إلى غيره

وإن لم يكن لازما له فإن لم يكن قابلا له من قبول غيره من الممكنات له كان الممكن أكمل من الواجب وما لا يقبله لا واجب ولا ممكن ليس كمالا وإن كان قابلا له ولم تكن ذاته مستلزمة له كان غيره معطيا له إياه والمعطى للكمال هو أحق بالكمال فيكون ذلك المعطى أكمل منه وواجب الوجود لا يكون غيره أكمل منه

وإذا قيل

ذلك الغير واجب أيضا فإن لم يكن كاملا بنفسه كان كل منهما معطيا للآخر الكمال وهذا ممتنع لأنه يستلزم كون كل من الشيئين مؤثرا في الآخر أثرا لا يحصل إلا بعد تأثير الآخر فإن هذا لا يفيد ذلك الكمال للآخر حتى يكون كاملا ولا يكون كاملا حتى يفيده الآخر الكمال وهذا ممتنع كما يمتنع أن لا يوجد هذا حتى يوجده ذاك ولا يوجد ذاك حتى يوجده هذا

وإن كان ذلك الغير واجبا كاملا بنفسه مكملا لغيره والآخر واجب ناقص يحتاج في كماله إلى ذلك الكامل المكمل كان جزء منه مفتقرا إلى ذاك وما افتقر جزء منه إلى غيره لم تكن جملته واجبة بنفسها

وإيضاح ذلك أن الواجب بنفسه إما أن يكون شيئا واحدا لا جزء له أو يكون أجزاء فإن كان شيئا واحدا لا جزء له امتنع أن يكون له بعض فضلا عن أن يقال بعضه يفتقر إلى الغير وبعضه لا يفتقر إلى الغير وامتنع أن يكون شيئين أحدهما نفسه والآخر كماله

وإن قيل

هو جزءان أو أجزاء كان الواجب هو مجموع تلك الأجزاء فلا يكون واجبا بنفسه حتى يكون المجموع واجبا بنفسه فمتى كان البعض مفتقرا إلى سبب منفصل عن المجموع لم يكن واجبا بنفسه وهذا المقام برهان بين لمن تأمله وبيانه أن الناس متنازعون في إثبات الصفات لله فأهل السنة يثبتون الصفات لله وكثير من الفلاسفة والشيعة يوافقهم على ذلك وأما الجهمية وغيرهم كالمعتزلة ومن وافقهم من الشيعة والفلاسفة كابن سينا ونحوه فإنهم ينفون الصفات عن الله تعالى ويقولون إن إثباتها تجسيم وتشبيه وتركيب

وعمدة ابن سينا وأمثاله على نفيها هي حجة التركيب وهو أنه لو كان له صفة لكان مركبا والمركب مفتقر إلى جزئيه وجزاءه غيره والمفتقر إلى غيره لا يكون واجبا بنفسه

وقد تكلم الناس على إبطال هذه الحجة من وجوه كثيرة بسبب أن لفظ التركيب والجزء والإفتقار والغير ألفاظ مجملة

فيراد بالمركب ما ركبه غيره وما كان متفرقا فاجتمع وما يقبل التفريق والله سبحانه منزه عن هذا بالاتفاق وأما الذات الموصوفة بصفات لازمة لها فإذا سمى المسمى هذا تركيبا كان هذا اصطلاحا له ليس هو المفهوم من لفظ المركب

والبحث إذا كان في المعاني العقلية لم يلتفت فيه إلى اللفظ فيقال هب أنكم سميتم هذا تركيبا فلا دليل لكم على نفيه ومن هذا الوجه ناظرهم أبو حامد الغزالي في التهافت

وكذلك لفظ الجزء يراد به بعض الشيء الذي ركب منه كأجزاء المركبات من الأطعمة والنباتات والأبنية وبعضه الذي يمكن فصله عنه كأعضاء الإنسان ويراد به صفته اللازمة له كالحيوانية للحيوان والإنسانية للإنسان والناطقية للناطق ويراد به بعضه الذي لا يمكن تفريقه كجزء الجسم الذي لا يمكن مفارقته له إما الجوهر الفرد وإما المادة والصورة عند من يقول بثبوت ذلك ويقول إنه لا يوجد إلا بوجود الجسم وإما غير ذلك عند من لا يقول بذلك

فإن الناس متنازعون في الجسم هل هو مركب من المادة والصورة أو من الجواهر المنفردة أو لا من هذا ولا من هذا على ثلاثة أقوال وأكثر العقلاء على القول الثالث كالهشامية والنجارية والضرارية والكلابية والأشعرية وكثير من الكرامية وكثير من أهل الفقه والحديث والتصوف والمتفلسفة وغيرهم

والمقصود هنا أن لفظ الجزء له عدة معان بحسب الإصطلاحات وكذلك لفظ الغير يراد به ما باين الشيء فصفة الموصوف وجزؤه ليس غيرا له بهذا الإصطلاح وهذا هو الغالب على الكلابية والأشعرية وكثير من أهل الحديث والتصوف والفقهاء أتباع الأئمة الأربعة وكثير من الشيعة

وقد يقولون الغيران ما جاز مفارقة أحدهما الآخر بزمان أو مكان أو وجود وقد يراد بلفظ الغير ما لم يكن هو الآخر وهذا هو الغالب على اصطلاح المعتزلة والكرامية ومن وافقهم من الشيعة والفلاسفة

وكذلك لفظ الإفتقار يراد به التلازم ويراد به افتقار المعلوم إلى علته الفاعلة ويراد به افتقاره إلى محله وعلته القابلة

وهذا اصطلاح المتفلسفة الذين يقسمون لفظ العلة إلى فاعلية وغائية ومادية وصورية ويقولون المادة وهي القابل والصورة هما علتا الماهية والفاعل والغاية هما علتا وجود الحقيقة وأما سائر النظار فلا يسمون المحل الذي هو القابل علة

فهذه الحجة التي احتج بها هؤلاء الفلاسفة ومن وافقهم على نفي الصفات مؤلفة من ألفاظ مجملة

فإذا قالوا

لو كان موصوفا بالعلم والقدرة ونحو ذلك من الصفات لكان مركبا والمركب مفتقر إلى جزئه وجزؤه غيره والمفتقر إلى غيره لا يكون واجبا بنفسه

قيل لهم

قولكم لكان مركبا

إن أردتم به لكان غيره قد ركبه أو لكان مجتمعا بعد افتراقه أو لكان قابلا للتفريق فاللازم باطل فإن الكلام هو في الصفات اللازمة للموصوف التي يمتنع وجوده بدونها فإن الرب سبحانه يمتنع أن يكون موجودا وهو ليس بحي ولا عالم ولا قادر وحياته وعلمه وقدرته صفات لازمة لذاته

وإن أردتم بالمركب الموصوف أو ما يشبه ذلك

قيل لكم

ولم قلتم إن ذلك ممتنع

قولهم

والمركب مفتقر إلى غيره

قيل

أما المركب بالتفسير الأول فهو مفتقر إلى ما يباينه وهذا ممتنع على الله وأما الموصوف بصفات الكمال اللازمة لذاته الذي سميتموه أنتم مركبا فليس في اتصافه هنا بها ما يوجب كونه مفتقرا إلى مباين له

فإن قلتم

هي غيره وهو لا يوجد إلى بها وهذا افتقار إليها

قيل لكم

إن إردتم بقولكم هي غيره أنها مباينة له فذلك باطل وإن أردتم أنها ليست إياه قيل لكم وإذا لم تكن الصفة هي الموصوف فأي محذور في هذا

فإذا قلتم

هو مفتقر إليها

قيل

أتريدون بالإفتقار أنه مفتقر إلى فاعل يفعله أو محل يقبله أم تريدون أنه مستلزم لها فلا يكون موجودا إلا وهو متصف بها فإن أردتم الأول كان هذا باطلا وإن أردتم الثاني قيل وأي محذور في هذا

وإن قلتم

هي مفتقرة إليه

قيل

أتريدون أنها مفتقرة إلى فاعل يبدعها أو إلى محل تكون موصوفة به

أما الثاني فأي محذور فيه وأما الأول فهو باطل إذ الصفة اللازمة للموصوف لا يكون فاعلا لها

وإن قلتم

هو موجب لها أو علة لها أو مقتض لها فالصفة إن كانت واجبة فالواجب لا يكون معلولا ويلزم تعدد الواجب وهو الصفة والموصوف وإن كانت ممكنة بنفسها فالممكن بنفسه لا يوجد إلا بموجب فتكون الذات هي الموجبة والشيء الواحد لا يكون فاعلا وقابلا

قيل لكم

لفظ الواجب بنفسه والممكن بنفسه قد صار فيه اشتراك في خطابكم فقد يراد بالواجب بنفسه ما لا مبدع له ولا علة فاعلة ويراد بالواجب بنفسه ما لا مبدع له ولا محل ويراد بالواجب بنفسه ما لا يكون له صفة لازمة ولا يكون موصوفا ملزوما

فإن أردتم بالواجب بنفسه ما لا مبدع له ولا علة فاعلة فالصفة واجبة بنفسها وإن أردتم ما لا محل له يقوم به فالصفة ليست واجبة بنفسها بل الموصوف هو الواجب بنفسه وإن أردتم بالواجب ما ليس بملزوم لصفة ولا لازم فهذا لا حقيقة له بل هذا لا يوجد إلا في الأذهان لا في الأعيان وأنتم قدرتم شيئا في أذهانكم ووصفتموه بصفات يمتنع معها وجوده فجعلتم ما هو واجب الوجود بنفسه ممتنع الوجود وهذه الأمور قد بسطت في غير هذا الموضع


منهاج السنة النبوية
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55 | 56 | 57