ومن جملة أسباب ذلك أن رمضان يشترك في صومه جميع الناس والوقت مطابق للعبادة لا يفصل عنها وليس له شروط كالصلاة والصلاة وقتها موسع فيصلي بعض الناس في أول الوقت وبعضهم في
آخره وكلاهما جائز وفيها واجبات يظن الجهال أنه لا يجوز فعلها إلا مع تلك الواجبات مطلقا فيقولون نفعلها بعد الوقت فهو خير من فعلها في الوقت بدون تلك الواجبات
فهذا الجهل أوجب تفويت الصلاة التفويت المحرم بالإجماع ولا يجوز أن يقال لمن فوتها لا شيء عليك أو تسقط عنك الصلاة وإن قال هذا فهو كافر ولكن يبين له أنك بمنزلة من زنى وقتل النفس وبمنزلة من أفطر رمضان عمدا إذ أذنبت ذنبا ما بقي له جبران يقوم مقامه فإنه من الكبائر بل قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجمع بين الصلاتين من غير عذر من الكبائر
فإذا كان هذا في الجمع من غير عذر فكيف بالتفويت من غير عذر وحينئذ فعليك بالتوبة والاجتهاد في أعمال صحالحة أكثر من قضائها فصل صلوات كثيرة لعله أن يكفر بها عنك ما فوته وأنت مع ذلك على خطر وتصدق فإن بعض الصحابة ألهاه بستانه عن صلاة المغرب فتصدق ببستانه
وسليمان بن داود لما فاتته صلاة العصر بسبب الخيل طفق مسحا بالسوق والأعناق فعقرها كفارة لما صنع
فمن فوت صلاة واحدة عمدا فقد أتى كبيرة عظيمة فليستدرك بما أمكن من توبة وأعمال صالحة ولو قضاها لم يكن مجرد القضاء رافعا إثم ما فعل بإجماع المسلمين والذين يقولون لا يقبل منه القضاء يقولون نأمره بأضعاف القضاء لعل الله أن يعفو عنه وإذا قالوا لا يجب القضاء إلا بأمر جديد فلأن القضاء تخفيف ورحمة كما في حق المريض والمسافر في رمضان والرحمة والتخفيف تكون للمعذور والعاجز لا تكون لأصحاب الكبائر المتعمدين لها المفرطين في عمود الإسلام
والصلاة عمود الإسلام ألا ترى إلى ما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ من غير وجه أنه لما سئل عمن وجب عليه الحج فعجز عنه أو نذر صياما أو حجا فمات هل يفعل عنه فقال أرأيت لو كان على أبيك أو أمك دين فقضيته أما كان يجزي عنه قال بلى قال فالله أحق بالقضاء ومراده بذلك أن الله أحق بقبول القضاء عن المعذور من بني آدم فإن الله أرحم وأكرم فإذا كان الآدميون يقبلون القضاء عمن مات فالله أحق بقبوله أيضا لم يرد بذلك أن الله يحب أن تقضى حقوقه التي كانت على الميت وهي أوجب ما يقضى من الدين فإن دين الميت لا يجب على الورثة قضاؤه لكن يقضى من تركته ولا يجب على أحد فعل ما وجب على الميت من نذر
والسائل إنما سأل عن الإجزاء والقبول لم يسأل عن الوجوب فلا بد أن يجاب عن سؤاله فعلم أن الأمر بقضاء العبادات وقبول القضاء من باب الإحسان والرحمة وذلك مناسب للمعذور وأما صاحب الكبيرة المفوت عمدا فلا يستحق تخفيفا ولا رحمة لكن إذا تاب فله أسوة بسائر التائبين من الكبائر فيجتهد في طاعة الله وعباداته بما أمكن والذين أمروه بالقضاء من العلماء لا يقولون إنه بمجرد القضاء يسقط عنه الإثم بل يقولون بالقضاء يخف عنه الإثم وأما إثم التفويت وتأخير الصلاة عن وقتها فهو كسائر الذنوب التي تحتاج إما إلى توبة وإما إلى حسنات ماحية وإما غير ذلك مما يسقط به العقاب
وهذه المسائل لبسطها موضع آخر والمقصود هنا أن ما كان من الشيطان مما لا يدخل تحت الطاقة فهو معفو عنه كالنوم والنسيان والخطأ في الاجتهاد ونحو ذلك وأن كل من مدح من الأمة أولهم وآخرهم على شيء أثابه الله عليه ورفع به قدره فهو مما جاء به الرسول ﷺ فالثواب على ما جاء به الرسول والنصرة لمن نصره والسعادة لمن اتبعه وصلوات الله وملائكته على المؤمنين به والمعلمين للناس دينه والحق يدور معه حيثما دار وأعلم الخلق بالحق وأتبعهم له أعملهم بسنته وأتبعهم لها وكل قول خالف قوله فهو إما دين منسوخ وإما دين مبدل لم يشرع قط
وقد قال علي رضي الله عنه في مفاوضة جرت بينه وبين عثمان رضي الله عنه خيرنا أتبعنا لهذا الدين وعثمان يوافقه على ذلك وسائر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين
فصل
ولما قال السلف إن الله أمر بالاستغفار لأصحاب محمد فسبهم الرافضة كان هذا كلاما حقا وكذلك قوله ﷺ في الحديث الصحيح لا تسبوا أصحابي يقتضي تحريم سبهم مع أن الأمر بالاستغفار للمؤمنين والنهي عن سبهم عام
ففي الصحيحين عن ابن مسعود عن النبي ﷺ قال سباب المسلم فسوق وقتاله كفر وقد قال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون سورة الحجرات 11 فقد نهى عن السخرية واللمز والتنابز بالألقاب، واللمز العيب والطعن ومنه قوله تعالى ومنهم من يلمزك في الصدقات سورة التوبة 58 أي يعيبك ويطعن عليك وقوله الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات سورة التوبة 79 وقوله لا تلمزوا أنفسكم سورة الحجرات 49 أي لا يلمز بعضكم بعضا كقوله لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا سورة النور 12 وقوله فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم سورة البقرة 54 وقد قال تعالى ويل لكل همزة لمزة الآية سورة الهمزة 1 والهمز العيب والطعن بشدة وعنف ومنه همز الأرض بعقبة ومنه الهمزة وهي نبرة من الصدر
وأما الاستغفار للمؤمنين عموما فقد قال تعالى واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات سورة محمد 1وقد أمر الله بالصلاة على من يموت وكان النبي ﷺ يستغفر للمنافقين حتى نهى عن ذلك فكل مسلم لم يعلم أنه منافق جاز الاستغفار له والصلاة عليه وإن كان فيه بدعة أو فسق لكن لا يجب على كل أحد أن يصلى عليه وإذا كان في ترك الصلاة على الداعي إلى البدعة والمظهر للفجور مصلحة من جهة انزجار الناس فالكف عن الصلاة كان مشروعا لمن كان يؤثر ترك صلاته في الزجر بأن لا يصلى عليه كما قال النبي ﷺ فيمن قتل نفسه صلوا على صاحبكم وكذلك قال في الغال صلوا على صاحبكم وقد قيل لسمرة بن جندب إن ابنك لم ينم البارحة فقال أبشما قالوا بشما قال لو مات لم أصل عليه يعني لأنه يكون قد قتل نفسه
وللعلماء هنا نزاع هل يترك الصلاة على مثل هذا الإمام فقط لقوله ﷺ صلوا على صاحبكم أم هذا الترك يختص بالنبي ﷺ أم مشروع لمن تطلب صلاته وهل الإمام هو الخليفة أو الإمام الراتب وهل هذا مختص بهذين أم هو ثابت لغيرهما فهذه كلها مسائل تذكر في غير هذا الموضع
لكن بكل حال المسلمون المظهرون للإسلام قسمان إما مؤمن وإما منافق فمن علم نفاقه لم تجز الصلاة عليه والاستغفار له ومن لم يعلم ذلك منه صلى عليه وإذا علم شخص نفاق شخص لم يصل هو عليه وصلى عليه من لم يعلم نفاقه
وكان عمر رضي الله عنه لا يصلي على من لم يصل عليه حذيفة لأنه كان في غزوة تبوك قد عرف المنافقين الذين عزموا على الفتك برسول الله ﷺ
واعلم أنه لا منافاة بين عقوبة الإنسان في الدنيا على ذنبه وبين الصلاة عليه والاستغفار له فإن الزاني والسارق والشارب وغيرهم من العصاة تقام عليهم الحدود ومع هذا فيحسن إليهم بالدعاء لهم في دينهم ودنياهم فإن العقوبات الشرعية إنما شرعت رحمة من الله بعباده فهي صادرة عن رحمة الله وإرادة الإحسان إليهم
ولهذا ينبغي لمن يعاقب الناس على الذنوب أن يقصد بذلك الإحسان إليهم والرحمة لهم كما يقصد الوالد تأديب ولده وكما يقصد الطبيب معالجة المريض فإن النبي ﷺ قال إنما أنا لكم بمنزلة الوالد وقد قال تعالى النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم سورة الأحزاب 6 وفي قراءة أبي وهو أب لهم والقراءة المشهورة تدل على ذلك فإن نساءه إنما كن أمهات المؤمنين تبعا له فلولا أنه كالأب لم يكن نساؤه كالأمهات والأنبياء أطباء الدين والقرآن أنزله الله شفاء لما في الصدور فالذي يعاقب الناس عقوبة شرعية إنما هو نائب عنه وخليفة له فعليه أن يفعل كما يفعل على الوجه الذي فعل
ولهذا قال تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله سورة آل عمران 110 قال أبو هريرة كنتم خير الناس للناس تأتون بهم في الأقياد والسلاسل تدخلونهم الجنة أخبر أن هذه الأمة خير الأمم لبني آدم فإنهم يعاقبونهم بالقتل والأسر ومقصودهم بذلك الإحسان إليهم وسوقهم إلى كرامة الله ورضوانه وإلى دخول الجنة
وهكذا الرد على أهل البدع من الرافضة وغيرهم إن لم يقصد فيه بيان الحق وهدى الخلق ورحمتهم والإحسان إليهم لم يكن عمله صالحا وإذا غلظ في ذم بدعة ومعصية كان قصده بيان ما فيها من الفساد ليحذرها العباد كما في نصوص الوعيد وغيرها وقد يهجر الرجل عقوبة وتعزيزا والمقصود بذلك ردعه وردع أمثاله للرحمة والإحسان لا للتشفى والانتقام
كما هجر النبي ﷺ أصحابه الثلاثة الذي خلفوا لما جاء المتخلفون عن الغزاة يعتذرون ويحلفون وكانوا يكذبون وهؤلاء الثلاثة صدقوا وعوقبوا بالهجر ثم تاب الله عليهم ببركة الصدق
وهذا مبني على مسألتين إحداهما أن الذنب لا يوجب كفر صاحبه كما تقوله الخوارج بل ولا تخليده في النار ومنع الشفاعة فيه كما يقوله المعتزلة
الثاني أن المتأول الذي قصده متابعة الرسول لا يكفر بل ولا يفسق إذا اجتهد فأخطأ وهذا مشهور عند الناس في المسائل العملية وأما مسائل العقائد فكثير من الناس كفر المخطئين فيها
وهذا القول لا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا عن أحد من أئمة المسلمين وإنما هو في الأصل من أقوال أهل البدع الذين يبتدعون بدعة ويكفرون من خالفهم كالخوارج والمعتزلة والجهمية ووقع ذلك في كثير من أتباع الأئمة كبعض أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم
وقد يسلكون في التكفير ذلك فمنهم من يكفر أهل البدع مطلقا ثم يجعل كل من خرج عما هو عليه من أهل البدع وهذا بعينه قول الخوارج والمعتزلة الجهمية وهذا القول أيضا يوجد في طائفة من أصحاب الأئمة الأربعة وليس هو قول الأئمة الأربعة ولا غيرهم وليس فيهم من كفر كل مبتدع بل المنقولات الصريحة عنهم تناقض ذلك ولكن قد ينقل عن أحدهم أنه كفر من قال بعض الأقوال ويكون مقصوده أن هذا القول كفر ليحذر ولا يلزم إذا كان القول كفرا أن يكفر كل من قاله مع الجهل والتأويل فإن ثبوت الكفر في حق الشخص المعين كثبوت الوعيد في الآخرة في حقه وذلك له شروط وموانع كما بسطناه في موضعه
وإذا لم يكونوا في نفس الأمر كفارا لم يكونوا منافقين فيكونون من المؤمنين فيستغفر لهم ويترحم عليهم وإذا قال المؤمن ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان سورة الحشر 10 يقصد كل من سبقه من قرون الأمة بالإيمان وإن كان قد أخطأ في تأويل تأوله فخالف السنة أو أذنب ذنبا فإنه من إخوانه الذين سبقوه بالإيمان فيدخل في العموم وإن كان من الثنتين والسبعين فرقة فإنه ما من فرقة إلا وفيها خلق كثير ليسوا كفارا بل مؤمنين فيهم ضلال وذنب يستحقون به الوعيد كما يستحقه عصاة المؤمنين
والنبي ﷺ لم يخرجهم من الإسلام بل جعلهم من أمته ولم يقل إنهم يخلدون في النار فهذا أصل عظيم ينبغي مراعاته فإن كثيرا من المنتسبين إلى السنة فيهم بدعة من جنس بدع الرافضة والخوارج وأصحاب الرسول ﷺ على بن أبي طالب وغيره لم يكفروا الخوارج الذين قاتلوهم بل أول ما خرجوا عليه وتحيزوا بحروراء وخرجوا عن الطاعة والجماعة قال لهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه إن لكم علينا أن لا نمنعكم مساجدنا ولا حقكم من الفيء ثم أرسل إليهم ابن عباس فناظرهم فرجع نحو نصفهم ثم قاتل الباقي وغلبهم ومع هذا لم يسب لهم ذرية ولا غنم لهم مالا ولا سار فيهم سيرة الصحابة في المرتدين كمسيلمة الكذاب وأمثاله بلك كانت سيرة علي والصحابة في الخوارج مخالفة لسيرة الصحابة في أهل الردة ولم ينكر أحد على علي ذلك فعلم اتفاق الصحابة على أنهم لم يكونوا مرتدين عن دين الإسلام قال الإمام محمد بن نصر المروزي وقد ولى علي رضي الله عنه قتال أهل البغي وروى عن النبي ﷺ فيهم ما روى وسماهم مؤمنين وحكم فيهم بأحكام المؤمنين وكذلك عمار بن ياسر
وقال محمد بن نصر أيضا حدثنا إسحاق بن راهويه حدثنا يحيى ين آدم عن مفضل بن مهلهل عن الشيباني عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال كنت عند على حين فرغ من قتال أهل النهروان فقيل له أمشركون هم قال من الشرك فروا فقيل فمنافقون قال المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلا قيل فما هم قال قوم بغوا علينا فقاتلناهم
وقال محمد بن نصر أيضا حدثنا إسحاق حدثنا وكيع عن مسعر عن عامر بن سفيان عن أبي وائل قال قال رجل من دعي إلى البغلة الشهباء يوم قتل المشركون فقال علي من الشرك فروا قال المنافقون قال إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا قال فما هم قال قوم بغوا علينا فقاتلناهم فنصرنا عليهم
قال حدثنا إسحاق حدثنا وكيع عن أبي خالدة عن حكيم بن جابر قال قالوا لعلي حين قتل أهل النهروان أمشركون هم قال من الشرك فروا قيل فمنافقون قال المنافقون لا يذكرون الله إلا قليل قيل فما هم قال قوم حاربونا فحاربناهم وقاتلونا فقاتلناهم
قلت الحديث الأول وهذا الحديث صريحان في أن عليا قال هذا القول في الخوارج الحرورية أهل النهروان الذين استفاضت الأحاديث الصحيحة عن النبي ﷺ في ذمهم والأمر بقتالهم وهم يكفرون عثمان وعليا ومن تولاهما فمن لم يكن معهم كان عندهم كافرا ودارهم دار كفر فإنما دار الإسلام عندهم هي دارهم
قال الأشعرى وغيره أجمعت الخوارج على تكفير علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومع هذا علي قاتلهم لما بدؤوه بالقتال فقتلوا عبد الله بن خباب وطلب علي منهم قاتله فقالوا كلنا قتلة وأغاروا على ماشية الناس ولهذا قال فيهم قوم قاتلونا فقاتلناهم وحاربونا فحاربناهم وقال قوم بغوا علينا فقاتلناهم
وقد اتفق الصحابة العلماء بعدهم على قتال هؤلاء فإنهم بغاة على جميع المسلمين سوى من وافقهم على مذهبهم وهم يبدؤون المسلمين بالقتال ولا يندفع شرهم إلا بالقتال فكانوا أضر على المسلمين من قطاع الطريق فإن إولئك إنما مقصودهم المال فلو أعطوه لم يقاتلوا وإنما يتعرضون لبعض الناس وهؤلاء يقاتلون الناس على الدين حتى يرجعوا عما ثبت بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة إلى ما ابتدعه هؤلاء بتأويلهم الباطل وفهمهم الفاسد للقرآن ومع هذا فقد صرح علي رضي الله عنه بأنهم مؤمنون ليسوا كفارا ولا منافقين
وهذا بخلاف ما كان يقوله بعض الناس كأبي إسحاق الإسفراييني ومن اتبعه يقولون لا نكفر إلا من يكفر فإن الكفر ليس حقا لهم بل هو حق لله وليس للإنسان أن يكذب على من يكذب عليه ولا يفعل الفاحشة بأهل من فعل الفاحشة بأهله بل ولو استكرهه رجل على اللواطة لم يكن له أن يستكرهه على ذلك ولو قتله بتجريع خمر أو تلوط به لم يجز قتله بمثل ذلك لأن هذا حرام لحق الله تعالى ولو سب النصارى نبينا لم يكن لنا أن نسب المسيح
والرافضة إذا كفروا أبا بكر وعمر فليس لنا أن نكفر عليا وحديث أبي وائل يوافق ذينك الحديثين فالظاهر أنه كان يوم النهروان أيضا وقد روى عنه في أهل الجمل وصفين قول أحسن من هذا قال إسحاق بن راهويه حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن جعفر بن محمد عن أبيه قال سمع علي يوم الجمل أو يوم صفين رجلا يغلو في القول فقال لا تقولوا إلا خيرا إنما هم قوم زعموا إنا بغينا عليهم وزعمنا أنهم بغوا علينا فقاتلناهم فذكر لأبي جعفر أنه أخذ منهم السلاح فقال ما كان أغناه عن ذلك
وقال محمد بن نصر حدثنا محمد بن يحيى حدثنا أحمد بن خالد حدثنا محمد بن راشد عن مكحول أن أصحاب علي سألوه عمن قتل من أصحاب معاوية ما هم قال هم مؤمنون وبه قال أحمد بن خالد حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة عن عبد الواحد بن أبي عون قال مر علي وهو متكىء على الأشتر على قتلى صفين فإذا حابس اليماني مقتول فقال الأشتر إنا لله وإنا اليه راجعون هذا حابس اليماني معهم يا أمير المؤمنين عليه علامة معاوية أما والله لقد عهدته مؤمنا قال علي والآن هو مؤمن
قال وكان حابس رجلا من أهل اليمن من أهل العبادة والاجتهاد قال محمد بن يحيى حدثنا محمد بن عبيد حدثنا مختار بن نافع عن أبي مطر قال قال علي متى ينبعث أشقاها قيل من أشقاها قال الذي يقتلني فضربه ابن ملجم بالسيف فوقع برأس علي رضي الله عنه وهم المسلمون بقتله فقال لا تقتلوا الرجل فإن برئت فالجروح قصاص وإن مت فاقتلوه فقال إنك ميت قال وما يدريك قال كان سيفي مسموما وبه قال محمد بن عبيد حدثنا الحسن وهو ابن الحكم النخعي عن رباح بن الحارث قال إنا لبواد وإن ركبتي لتكاد تمس ركبة عمار بن ياسر إذ أقبل رجل فقال كفر والله أهل الشام فقال عمار لا تقل ذلك فقبلتنا واحدة ونبينا واحد ولكنهم قوم مفتونون فحق علينا قتالهم حتى يرجعوا إلى الحق
وبه قال ابن يحيى حدثنا قبيصة حدثنا سفيان عن الحسن بن الحكم عن رباح بن الحرث عن عمار بن ياسر قال ديننا واحد وقبلتنا واحدة ودعوتنا واحدة ولكنهم قوم بغوا علينا فقاتلناهم قال ابن يحيى حدثنا يعلى حدثنا مسعر عن عبد الله بن رباح عن رباح بن الحارث قال قال عمار بن ياسر لا تقولوا كفر أهل الشام قولوا فسقوا قولوا ظلموا
قال محمد بن نصر وهذا يدل على أن الخبر الذي روي عن عمار ابن ياسر أنه قال لعثمان بن عفان هو كافر خبر باطل لا يصح لأنه إذا أنكر كفر أصحاب معاوية وهم إنما كانوا يظهرون أنهم يقاتلون في دعم عثمان فهو لتكفير عثمان أشد إنكارا
قلت والمروي في حديث عمار أنه لما قال ذلك أنكر عليه علي رضي الله عنه وقال أتكفر برب آمن به عثمان وحدثه بما يبين بطلان ذلك القول فيكون عمار إن كان قال ذلك متأولا فقد رجع عنه حين بين له علي رضي الله عنه أنه قول باطل
ومما يدل على أن الصحابة لم يكفروا الخوارج أنهم كانوا يصلون خلفهم وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنه وغيره من الصحابة يصلون خلف نجدة الحروري وكانوا أيضا يحدثونهم ويفتونهم ويخاطبونهم كما يخاطب المسلم المسلم كما كان عبد الله بن عباس يجيب نجدة الحروري لما أرسل إليه يسأله عن مسائل وحديثه في البخاري وكما أجاب نافع بن الأزرق عن مسائل مشهورة وكان نافع يناظره في أشياء بالقرآن كما يتناظر المسلمان
وما زالت سيرة المسلمين على هذا ما جعلوهم مرتدين كالذين قاتلهم الصديق رضي الله عنه هذا مع أمر رسول الله ﷺ بقتالهم في الأحاديث الصحيحة وما روي من أنهم شر قتلى تحت أديم السماء خير قتيل من قتلوه في الحديث الذي رواه أبو أمامة رواه الترمذي وغيره أي أنهم شر على المسلمين من غيرهم فإنهم لم يكن أحد شرا على المسلمين منهم لا اليهود ولا النصارى فإنهم كانوا مجتهدين في قتل كل مسلم لم يوافقهم مستحلين لدماء المسلمين وأموالهم وقتل أولادهم مكفرين لهم وكانوا متدينين بذلك لعظم جهلهم وبدعتهم المضلة
ومع هذا فالصحابة رضي الله عنهم والتابعون لهم بإحسان لم يكفروهم ولا جعلوهم مرتدين ولا اعتدوا عليهم بقول ولا فعل بل اتقوا الله فيهم وساروا فيهم السيرة العادلة وهكذا سائر فرق أهل البدع والأهواء من الشيعة والمعتزلة وغيرهم فمن كفر الثنتين والسبعين فرقة كلهم فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان مع أن حديث الثنتين والسبعين فرقة ليس في الصحيحين وقد ضعفه ابن حزم وغيره لكن حسنه غيره أو صححه كما صححه الحاكم وغيره وقد رواه أهل السنن وروي من طرق
وليس قوله ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة بأعظم من قوله تعالى إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا سورة النساء 10 وقوله ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوق نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا سورة النساء 30 وأمثال ذلك من النصوص الصريحة بدخول من فعل ذلك النار
ومع هذا فلا نشهد لمعين بالنار لإمكان أنه تاب أو كانت له حسنات محت سيئاته أو كفر الله عنه بمصائب أو غير ذلك كما تقدم بل المؤمن بالله ورسوله باطنا وظاهرا الذي قصد اتباع الحق وما جاء به الرسول إذا أخطأ ولم يعرف الحق كان أولى أن يعذره الله في الآخرة من المتعمد العالم بالذنب فإن هذا عاص مستحق للعذاب بلا ريب وأما ذلك فليس متعمدا للذنب بل هو مخطىء والله قد تجاوز لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان
والعقوبة في الدنيا تكون لدفع ضرره عن المسلمين وإن كان في الآخرة خيرا ممن لم يعاقب كما يعاقب المسلم المتعدي للحدود ولا يعاقب أهل الذمة من اليهود والنصارى والمسلم في الآخرة خير منهم
وأيضا فصاحب البدعة يبقى صاحب هوى يعمل لهواه لا ديانة ويصدر عن الحق الذي يخالفه هواه فهذا يعاقبه الله على هواه ومثل هذا يستحق العقوبة في الدنيا والآخرة ومن فسق من السلف الخوارج ونحوهم كما روي عن سعد بن أبي وقاص أنه قال فيهم قوله تعالى وما يضل به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون سورة البقرة 26 27 فقد يكون هذا قصده لا سيما إذا تفرق الناس فكان ممن يطلب الرياسة له ولأصحابه
وإذا كان المسلم الذي يقاتل الكفار قد يقاتلهم شجاعة وحمية ورياء وذلك ليس في سبيل الله فكيف بأهل البدع الذين يخاصمون ويقاتلون عليها فإنهم يفعلون ذلك شجاعة وحمية وربما يعاقبون لما اتبعوا أهواءهم بغير هدى من الله لا لمجرد الخطأ الذي اجتهدوا فيه
ولهذا قال الشافعي لأن أتكلم في علم يقال لي فيه أخطأت أحب إلي من أن أتكلم في علم يقال لي فيه كفرت، فمن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضا ومن ممادح أهل العلم أنهم يخطئون ولا يكفرون وسبب ذلك أن أحدهم قد يظن ما ليس بكفر كفرا وقد يكون كفرا لأنه تبين له أنه تكذيب للرسول وسب للخالق والآخر لم يتبين له ذلك فلا يلزم إذا كان هذا العالم بحاله يكفر إذا قاله أن يكفر من لم يعلم بحاله
والناس لهم فيما يجعلونه كفرا طرق متعددة فمنهم من يقول الكفر تكذيب ما علم بالاضطرار من دين الرسول ثم الناس متفاوتون في العلم الضروري بذلك
ومنهم من يقول الكفر هو الجهل بالله تعالى ثم قد يجعل الجهل بالصفة كالجهل بالموصوف وقد لا يجعلها وهم مختلفون في الصفات نفيا وإثباتا
ومنهم من لا يحده بحد بل كل ما تبين أنه تكذيب لما جاء به الرسول من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر جعله كفرا إلى طرق أخر
ولا ريب أن الكفر متعلق بالرسالة فتكذيب الرسول كفر وبغضه وسبه وعداوته مع العلم بصدقه في الباطن كفر عند الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة العلم وسائر الطوائف إلا الجهم ومن وافقه كالصالحي والأشعري وغيرهم فإنهم قالوا هذا كفر في الظاهر وأما في الباطن فلا يكون كفرا إلا إذا استلزم الجهل بحيث لا يبقى في القلب شيء من التصديق بالرب وهذا بناء على أن الإيمان في القلب لا يتفاضل ولا يكون في القلب بعض من الإيمان وهو خلاف النصوص الصريحة وخلاف الواقع ولبسط هذا موضع آخر
والمقصود هنا أن كل من تاب من أهل البدع تاب الله عليه وإذا كان الذنب متعلقا بالله ورسوله فهو حق محض لله فيجب أن يكون الإنسان في هذا الباب قاصدا لوجه الله متبعا لرسوله ليكون عمله خالصا صوابا
قال تعالى وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون سورة البقرة 111 11وقال تعالى ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا سورة النساء 125 قال المفسرون وأهل اللغة معنى الآية أخلص دينه وعمله لله وهو محسن في عمله
وقال الفراء في قوله فقل أسلمت وجهي لله سورة آل عمران 20 أخلصت عملي وقال الزجاج قصدت بعبادتي إلى الله وهو كما قالوا كما قد ذكر توجيهه في موضع آخر
وهذا المعنى يدور عليه القرآن فإن الله تعالى أمر أن لا يعبد إلا إياه وعبادته فعل ما أمر وترك ما حظر والأول هو إخلاص الدين والعمل لله والثاني هو الإحسان وهو العمل الصالح ولهذا كان عمر يقول في دعائه اللهم أجعل عملي كله صالحا واجعله لوجهك خالصا ولا تجعل لأحد فيه شيئا
وهذا هو الخالص الصواب كما قال الفضيل بن عياض في قوله ليبلوكم أيكم أحسن عملا سورة هود 7 قال أخلصه وأصوبه قالوا يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه قال إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة
والأمر بالسنة والنهي عن البدعة هو أمر بمعروف ونهي عن منكر وهو من أفضل الأعمال الصالحة فيجب أن يبتغي به وجه الله وإن يكون مطابقا للأمر
وفي الحديث من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فينبغي أن يكون عليما بما يأمر به عليما بما ينهى عنه رفيقا فيما يأمر به رفيقا فيما ينهى عنه حليما فيما يأمر به حليما فيما ينهى عنه فالعلم قبل الأمر والرفق مع الأمر والحلم بعد الأمر فإن لم يكن عالما لم يكن له أن يقفو ما ليس له به علم وإن كان عالما ولم يكن رفيقا كان كالطبيب الذي لا رفق فيه فيغلظ على المريض فلا يقبل منه وكالمؤدب الغليظ الذي لا يقبل منه الولد
وقد قال تعالى لموسى وهارون فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى سورة طه 4ثم إذا أمر ونهى فلا بد أن يؤذى في العادة فعليه أن يصبر ويحلم كما قال تعالى وأمر بالمعروف وأنه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور سورة لقمان 1وقد أمر الله نبيه بالصبر على أذى المشركين في غير موضع وهو إمام الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر فإن الإنسان عليه أولا أن يكون أمره لله وقصده طاعة الله فيما أمره به وهو يحب صلاح المأمور أو إقامة الحجة عليه فإن فعل ذلك لطلب الرياسة لنفسه ولطائفته وتنقيص غيره كان ذلك حمية لا يقبله الله وكذلك إذا فعل ذلك لطلب السمعة والرياء كان عمله حابطا ثم إذا رد عليه ذلك وأوذي أو نسب إلى أنه مخطىء وغرضه فاسد طلبت نفسه الانتصار لنفسه وأتاه الشيطان فكان مبدأ عمله لله ثم صار له هوى يطلب به أن ينتصر على من آذاه وربما اعتدى على ذلك المؤذي
وهكذا يصيب أصحاب المقالات المختلفة إذا كان كل منهم يعتقد أن الحق معه وأنه على السنة فإن أكثرهم قد صار لهم في ذلك هوى أن ينتصر جاههم أو رياستهم وما نسب إليهم لا يقصدون أن تكون كلمة الله هي العليا وأن يكون الدين كله لله بل يغضبون على من خالفهم وإن كان مجتهدا معذورا لا يغضب الله عليه ويرضون عمن يوافقهم وإن كان جاهلا سيىء القصد ليس له علم ولا حسن قصد فيفضي هذا إلى أن يحمدوا من لم يحمده الله ورسوله ويذموا من لم يذمه الله ورسوله وتصير موالاتهم ومعاداتهم على أهواء أنفسهم لا على دين الله ورسوله
وهذا حال الكفار الذين لا يطلبون إلا أهواءهم ويقولون هذا صديقنا وهذا عدونا وبلغة المغل هذا بال هذا باغي لا ينظرون إلى موالاة الله ورسوله ومعاداة الله ورسوله
ومن هنا تنشأ الفتن بين الناس قال الله تعالى وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله سورة الأنفال 39 فإذا لم يكن الدين كله لله وكانت فتنة
وأصل الدين أن يكون الحب لله والبغض لله والموالاة لله والمعاداة لله والعبادة لله والإستعانة بالله والخوف من الله والرجاء لله والإعطاء لله والمنع لله وهذا إنما يكون بمتابعة رسول الله الذي أمره أمر الله ونهيه نهي الله ومعاداته معاداة الله وطاعته طاعة الله ومعصيته معصية الله
وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك ولا يطلبه ولا يرضى لرضا الله ورسوله ولا يغضب لغضب الله ورسوله بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه ويغضب إذا حصل ما يغضب له بهواه ويكون مع ذلك معه شبهة دين أن الذي يرضى له ويغضب له أنه السنة وهو الحق وهو الدين فإذا قدر أن الذي معه هوالحق المحض دين الإسلام ولم يكن قصده أن يكون الدين كله لله وأن تكون كلمة الله هي العليا بل قصد الحمية لنفسه وطائفته أو الرياء ليعظم هو ويثنى عليه أو فعل ذلك شجاعة وطبعا أو لغرض من الدنيا لم يكن لله ولم يكن مجاهدا في سبيل الله فكيف إذا كان الذي يدعي الحق والسنة هو كنظيره معه حق وباطل وسنة وبدعة ومع خصمه حق وباطل وسنة وبدعة
وهذا حال المختلفين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا وكفر بعضهم بعضا وفسق بعضهم بعضا ولهذا قال تعالى فيهم وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة سورة البينة 4 وقال تعالى كان الناس أمة واحدة سورة البقرة 213 يعني فاختلفوا كما في سورة يونس وكذلك في قراءة بعض الصحابة وهذا على قراءة الجمهور من الصحابة والتابعين أنهم كانوا على دين الإسلام وفي تفسير ابن عطية عن ابن عباس أنهم كانوا على الكفر وهذا ليس بشيء وتفسير ابن عطية عن ابن عباس ليس بثابت عن ابن عباس بل قد ثبت عنه أنه قال كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام
وقد قال في سورة يونس وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا سورة يونس 19 فذمهم على الاختلاف بعد أن كانوا على دين واحد فعلم أنه كان حقا
والاختلاف في كتاب الله على وجهين أحدهما أن يكون كله مذموما كقوله وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد سورة البقرة 17والثاني أن يكون بعضهم على الحق وبعضهم على الباطل كقوله تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد سورة البقرة 253 لكن إذا أطلق الاختلاف فالجميع مذموم كقوله ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذ لك خلقهم سورة هود 118 119 وقول النبي ﷺ إنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم
ولهذا فسروا الاختلاف في هذا الموضع بأنه كله مذموم قال الفراء في اختلافهم وجهان أحدهما كفر بعضهم بكتاب بعض والثاني تبديل ما بدلوا وهو كما قال فإن المختلفين كل منهم يكون معه حق وباطل فيكفر بالحق الذي مع الآخر ويصدق بالباطل الذي معه وهو تبديل ما بدل
فالاختلاف لا بد أن يجمع النوعين ولهذا ذكر كل من السلف أنواعا من هذا أحدها الاختلاف في اليوم الذي يكون فيه الإجتماع فاليوم الذي أمروا به يوم الجمعة فعدلت عنه الطائفتان فهذه أخذت السبت وهذه أخذت الأحد
وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له الناس لنا فيه تبع اليوم لنا وغدا لليهود وبعد غد للنصارى
وهذا الحديث يطابق قوله تعالى فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه سورة البقرة 203
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ كان إذا قام من الليل يصلي يقول اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلفوا فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم
والحديث الأول يبين أن الله تعالى هدى المؤمني لغير ما كان فيه المختلفون فلا كانوا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء وهو مما يبين أن الاختلاف كله مذموم
والنوع الثاني القبلة فمنهم من يصلي إلى المشرق ومنهم من يصلي إلى المغرب وكلاهما مذموم لم يشرعه الله
والثالث إبراهيم قالت اليهود كان يهوديا وقالت النصارى كان نصرانيا وكلاهما كان من الاختلاف المذموم ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين سورة آل عمران 6
والرابع عيسى جعلته اليهود لغية وجعلته النصارى إلها
والخامس الكتب المنزلة آمن هؤلاء ببعض وهؤلاء ببعض
والسادس الدين أخذ هؤلاء بدين وهؤلاء بدين ومن هذا الباب قوله تعالى وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء سورة البقرة 113 وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال اختصمت يهود المدينة ونصارى نجران عند النبي ﷺ فقالت اليهود ليست النصارى على شيء ولا يدخل الجنة إلا من كان يهوديا وكفروا بالإنجيل وعيسى وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وكفروا بالتوراة وموسى فأنزل الله هذه الآية والتي قبلها
واختلاف أهل البدع هو من هذا النمط فالخارجي يقول ليس الشيعي على شيء والشيعي يقول ليس الخارجي على شيء والقدري النافي يقول ليس المثبت على شيء والقدري الجبري المثبت يقول ليس النافي على شيء والوعيدية تقول ليست المرجئة على شيء والمرجئة تقول ليست الوعيدية على شيء
بل ويوجد شيء من هذا بين أهل المذاهب الأصولية والفروعية المنتسبين إلى السنة فالكلابي يقول ليس الكرامى على شيء والكرامي يقول ليس الكلابي على شيء والأشعري يقول ليس السالمي على شيء والسلمي يقول ليس الأشعري على شيء
ويصنف السالمي كأبي على الأهوازي كتابا في مثالب الأشعري ويصنف الأشعري كابن عساكر كتابا يناقض ذلك من كل وجه وذكر فيه مثالب السالمية
وكذلك أهل المذاهب الأربعة وغيرها لا سيما وكثير منهم قد تلبس ببعض المقالات الأصولية وخلط هذا بهذا فالحنبلي والشافعي والمالكي يخلط بمذهب مالك والشافعي وأحمد شيئا من أصول الأشعرية والسالمية وغير ذلك ويضيفه إلى مذهب مالك والشافعي وأحمد وكذلك الحنفي يخلط بمذاهب أبي حنيفة شيئا من أصول المعتزلة والكرامية والكلابية ويضيفه إلى مذهب أبي حنيفة
وهذا من جنس الرفض والتشيع لكنه تشيع في تفضيل بعض الطوائف والعلماء لا تشيع في تفضيل بعض الصحابة
والواجب على كل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله أن يكون أصل قصده توحيد الله بعبادته وحده لا شريك له وطاعة رسوله يدور على ذلك ويتبعه أين وجده ويعلم أن أفضل الخلق بعد الأنبياء هم الصحابة فلا ينتصر لشخص انتصارا مطلقا عاما إلا لرسول الله ﷺ ولا لطائفة انتصارا مطلقا عاما إلا للصحابة رضي الله عنهم أجمعين فإن الهدى يدور مع الرسول حيث دار ويدور مع أصحابه دون أصحاب غيره حيث داروا فإذا أجمعوا لم يجمعوا على خطأ قط بخلاف أصحاب عالم من العلماء قد فإنهم قد يجمعون على خطأ بل كل قول قالوه ولم يقله غيرهم من الأمة لا يكون إلا خطأ فإن الدين الذي بعث الله به رسوله ليس مسلما إلى عالم واحد وأصحابه ولو كان كذلك لكان ذلك الشخص نظيرا لرسول الله ﷺ وهو شبيه بقول الرافضة في الإمام المعصوم
ولا بد أن يكون الصحابة والتابعون يعرفون ذلك الحق الذي بعث الله به الرسول قبل وجود المتبوعين الذين تنسب إليهم المذاهب في الأصول والفروع ويمتنع أن يكون هؤلاء جاءوا بحق يخالف ما جاء به الرسول فإن كل ما خالف الرسول فهو باطل ويمتنع أن يكون أحدهم علم من جهة الرسول ما يخالف الصحابة والتابعين لهم بإحسان فإن أولئك لم يجتمعوا على ضلالة فلابد أن يكون قوله إن كان حقا مأخوذا عما جاء به الرسول موجودا فيمن قبله وكل قول قيل في دين الإسلام مخالف لما مضى عليه الصحابة والتابعون لم يقله أحد منهم بل قالوا خلافه فإنه قول باطل
والمقصود هنا أن الله تعالى ذكر أن المختلفين جاءتهم البينة وجاءهم العلم وإنما اختلفوا بغيا ولهذا ذمهم الله وعاقبهم فإنهم لم يكونوا مجتهدين مخطئين بل كانوا قاصدين البغي عالمين بالحق معرضين عن القول وعن العمل به
ونظير هذا قوله إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم سورة آل عمران 19 قال الزجاج اختلفوا للبغي لا لقصد البرهان
وقال تعالى ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون سورة يونس 93
وقال تعالى ولقد أتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين * وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون * ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون * إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين * هذا بصائر للناس وهدى ورحمة ... سورة الجاثية 16 20
فهذه المواضع من القرآن تبين أن المختلفين ما اختلفوا حتى جاءهم العلم والبينات فاختلفوا للبغي والظلم لا لأجل اشتباه الحق بالباطل عليهم وهذ حال أهل الاختلاف المذموم من أهل الأهواء كلهم لا يختلفون إلا من بعد أن يظهر لهم الحق ويجيئهم العلم فيبغى بعضهم على بعض ثم المختلفون المذمومون كل منهم يبغى على الآخر فيكذب بما معه من الحق مع علمه أنه حق ويصدق بما مع نفسه من الباطل مع العلم أنه باطل
وهؤلاء كلهم مذمومون ولهذا كان أهل الاختلاف المطلق كلهم مذمومين في الكتاب والسنة فإنه ما منهم إلا من خالف حقا واتبع باطلا ولهذا أمر الله الرسل أن تدعوا إلى دين واحد وهو دين الإسلام ولا يتفرقوا فيه وهو دين الأولين والآخرين من الرسل وأتباعهم
قال تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه سورة الشورى 13
وقال في الآية الأخرى يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون سورة المؤمنون 51 53 أي كتبا اتبع كل قوم كتابا مبتدعا غير كتاب الله فصاروا متفرقين مختلفين لأن أهل التفرق والاختلاف ليسوا على الحنيفية المحضة التي هي الإسلام المحض الذي هو إخلاص الدين لله الذي ذكره الله في قوله وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيمو الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة سورة البينة 5
وقال في الآية الأخرى فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون سورة الروم 30 32 فنهاه أن يكون من المشركين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا وأعاد حرف من ليبين أن الثاني بدل من الأول والبدل هو المقصود بالكلام وما قبله توطئة له وقال تعالى ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم سورة هود 110 إلى قوله ولو شاء ربك جعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم سورة هود 18 119 فأخبر أن أهل الرحمة لا يختلفون
وقد ذكر في غير موضع أن دين الأنبياء كلهم الإسلام كما قال تعالى عن نوح وأمرت أن أكون من المسلمين سورة النمل 91 وقال عن إبراهيم إذا قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بينه ويعقوب يابني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون سورة البقرة 131 132
وقال يوسف فاطر السموات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما والحقني بالصالحين سورة يوسف 101 وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين سورة يونس 84
وقال عن السحرة ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين سورة الأعراف 12
وقال عن بلقيس رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين سورة النمل 4
وقال يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار سورة المائدة 44
وقال وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد باننا مسلمون سورة المائدة 11
وفي الصحيحين عن النبي ﷺ قال إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد وتنوع الشرائع لا يمنع أن يكون الدين واحدا وهو الإسلام كالدين الذي بعث الله به محمدا ﷺ فإنه هو دين الإسلام أولا وآخرا
وكانت القبلة في أول الأمر بيت المقدس ثم صارت القبلة الكعبة وفي كلا الحالين الدين واحد وهو دين الإسلام
فهكذا سائر ما شرع للأنبياء قبلنا ولهذا حيث ذكر الله الحق في القرآن جعله واحدا وجعل الباطل متعددا
كقوله وأن هذا صراطي مستقيما فأتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله سورة الأنعام 153
وقوله أهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين سورة الفاتحة 6 وقوله اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم سورة النحل 12وقوله ويهديك صراطا مستقيما سورة الفتح وقوله الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات سورة البقرة 25وهذا يطابق ما في كتاب الله من أن الاختلاف المطلق كله مذموم بخلاف المقيد الذي قيل فيه ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا سورة البقرة 253 فهذا قد بين أنه اختلاف بين أهل الحق والباطل كما قال هذان خصمان اختصموا في ربهم سورة الحج 12وقد ثبت في الصحيحين أنها نزلت المقتتلين يوم بدر في حمزة عم رسول الله ﷺ وعلي ابن عمه وعبيدة بن الحارث ابن عمه والمشركين الذين برزهم عتبة وشيبة والوليد بن عتبة
وقد تدبرت كتب الاختلاف التي يذكر فيها مقالات الناس إما نقلا مجردا مثل كتاب المقالات لأبي الحسن الأشعري وكتاب الملل والنحل للشهرستاني ولأبي عيسى الوراق أو مع انتصار لبعض الأقوال كسائر ما صنفه أهل الكلام على اختلاف طبقاتهم فرأيت عامة الاختلاف الذي فيها من الاختلاف المذموم وأما الحق الذي بعث الله به رسوله وأنزل به كتابه وكان عليه سلف الأمة فلا يوجد فيها في جميع مسائل الاختلاف بل يذكر أحدهم في المسألة عدة أقوال والقول الذي جاء به الكتاب والسنة لا يذكرونه وليس ذلك لأنهم يعرفونه ولا يذكرونه بل لا يعرفونه
ولهذا كان السلف والأئمة يذمون هذا الكلام ولهذا يوجد الحاذق منهم المنصف الذي غرضه الحق في آخر عمره يصرح بالحيرة والشك إذ لم يجد في الاختلافات التي نظر فيها وناظر ما هو حق محض وكثير منهم يترك الجميع ويرجع إلي دين العامة الذي عليه العجائز والأعراب
كما قال أبو المعالي وقت السياق لقد خضت البحر الخضم وخليت أهل الإسلام وعلومهم ودخلت في الذي نهونى عنه والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي
وكذلك أبو حامد في آخر عمره استقر أمره على الوقف والحيرة بعد أن نظر فيما كان عنده من طرق النظار أهل الكلام والفلسفة وسلك ما تبين له من طرق العبادة والرياضة والزهد وفي آخر عمره اشتغل بالحديث بالبخاري ومسلم
وكذلك الشهر ستاني مع أنه كان من أخبر هؤلاء المتكلمين بالمقالات والاختلاف وصنف فيها كتابه المعروف بنهاية الإقدام في علم الكلام وقال قد أشار علي من إشارته غنم وطاعته حتم أن أذكر له من مشكلات الأصول ما أشكل على ذوي العقول ولعله استسمن ذا ورم ونفخ في غير ضرم لعمري
لقد طفت المعاهد كلها ... وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعاكف حائر ... على ذقن أو قارعا سن نادم
فأخبر أنه لم يجد إلا حائرا شاكا ومرتابا أو من اعتقد ثم ندم لما تبين له خطؤه فالأول في الجهل البسيط كظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكن يراها وهذا دخل في الجهل المركب ثم تبين له أنه جهل فندم ولهذا تجده في المسائل يذكر أقوال الفرق وحججهم ولا يكاد يرجح شيئا للحيرة
وكذلك الآمدي الغالب عليه الوقف والحيرة
وأما الرازي فهو في الكتاب الواحد بل في الموضع الواحد منه ينصر قولا وفي موضع آخر منه أو من كتاب آخر ينصر نقيضه ولهذا استقر أمره على الحيرة والشك ولهذا لما ذكر أن أكمل العلوم العلم بالله وبصفاته وأفعاله ذكر أن على كل منها إشكال وقد ذكرت كلامه وبينت ما أشكل عليه وعلى هؤلاء في مواضع
فإن الله قد أرسل رسله بالحق وخلق عباده على الفطرة فمن كمل فطرته بما أرسل الله به رسله وجد الهدى واليقين الذي لا ريب فيه ولم يتناقض لكن هؤلاء أفسدوا فطرتهم العقلية وشرعتهم السمعية بما حصل لهم من الشبهات والاختلاف الذي لم يهتدوا معه إلى الحق كما قد ذكر تفصيل ذلك في موضع غير هذا
والمقصود هنا أنه لما ذكر ذلك قال ومن الذي وصل إلى هذا الباب ومن الذي ذاق هذا الشراب
نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قبل وقالوا
وقال لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروى غليلا ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن اقرأ في الإثبات إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه سورة فاطر 10 الرحمن على العرش استوى سورة طه 5 واقرأ في النفي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير سورة الشورى 11 ولا يحيطون به علما سورة طه 110 ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي
وهو صادق فيما أخبر به أنه لم يستفد من بحوثه في الطرق الكلامية والفلسفية سوى أن جمع قيل وقالوا وأنه لم يجد فيها ما يشفي عليلا ولا يروى غليلا فإن من تدبر كتبه كلها لم يجد فيها مسألة واحدة من مسائل أصول الدين موافقة للحق الذي يدل عليه المنقول والمعقول بل يذكر في المسألة عدة أقوال والقول الحق لا يعرفه فلا يذكره وهكذا غيره من أهل الكلام والفلسفة ليس هذا من خصائصه فإن الحق واحد ولا يخرج عما جاءت به الرسل وهو الموافق لصريح العقل فطرة الله التي فطر الناس عليها
وهؤلاء لا يعرفون ذلك بل هم من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا وهم مختلفون في الكتاب وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد سورة البقرة 172وقال الإمام أحمد في خطبة مصنفة الذي صنفه في محبسه في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابهه القرآن وتأولته على غير تأويله قال الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى يحيون بكتاب الله الموتى ويبصرون بنور الله أهل الضلالة والعمى فكم من قتيل لإبليس قد أحبوه وكم من تائه ضال قد هدوه فما أحسن أثرهم على الناس وما أقبح أثر الناس عليهم ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب متفقون على مفارقة الكتاب يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يلبسون عليهم
وهو كما وصفهم رحمه الله فإن المختلفين أهل المقالات المذكورة في كتب الكلام إما نقلا مجردا للأقوال وإما نقلا وبحثا وذكرا للجدال مختلفون في الكتاب كل منهم يوافق بعضا ويرد بعضا ويجعل ما يوافق رأيه هو المحكم الذي يجب اتباعه وما يخالفه هو المتشابه الذي يجب تأويله أو تفويضه
وهذا موجود في كل من صنف في الكلام وذكر النصوص التي يحتج بها ويحتج بها عليه تجده يتأول النصوص التي تخالف قوله تأويلات لو فعلها غيره لأقام القيامة عليه ويتأول الآيات بما يعلم بالاضطرار أن الرسول لم يرده وبما لا يدل عليه اللفظ أصلا وبما هو خلاف التفسير المعروف عن الصحابة والتابعين وخلاف نصوص أخرى
ولو ذكرت ما أعرفه من ذلك لذكرت خلقا ولا استثنى أحدا من أهل البدع لا من المشهورين بالبدع الكبار من معتزلي ورافضي ونحو ذلك ولا من المنتسبين إلى السنة والجماعة من كرامي وأشعري وسالمي ونحو ذلك
وكذلك من صنف على طريقهم من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم هذا كله رأيته في كتبهم وهذا موجود في بحثهم في مسائل الصفات والقرآن ومسائل القدر ومسائل الأسماء والأحكام والإيمان والإسلام ومسائل الوعد والوعيد وغير ذلك
وقد بسطنا الكلام على ذلك في مواضع من كتبنا غير هذا الكتاب درء تعارض العقل والنقل وغيره ومن أجمع الكتب التي رأيتها في مقالات الناس المختلفين في أصول الدين كتاب أبي الحسن الأشعري وقد ذكر فيه من المقالات وتفاصيلها ما لم يذكره غيره وذكر فيه مذهب أهل الحديث والسنة بحسب ما فهمه عنهم وليس في جنسه أقرب إليهم منه ومع هذا نفس القول الذي جاء به الكتاب والسنة وقال به الصحابة والتابعون لهم بإحسان في القرآن والرؤية والصفات والقدر وغير ذلك من مسائل أصول الدين ليس في كتابه وقد استقصى ما عرفه من كلام المتكلمين
وأما معرفة ما جاء به الرسول من الكتاب والسنة وآثار الصحابة فعلم آخر لا يعرفه أحد من هؤلاء المتكلمين المختلفين في أصول الدين ولهذا كان سلف الأمة وأئمتها متفقين على ذم أهل الكلام فإن كلامهم لا بد أن يشتمل على تصديق بباطل وتكذيب بحق ومخالفة الكتاب والسنة فذموه لما فيه من الكذب والخطأ والضلال ولم يذم السلف من كان كلامه حقا فإن ما كان حقا فإنه هو الذي جاء به الرسول وهذا لا يذمه السلف العارفون بما جاء به الرسول ومع هذا فيستفاد من كلامهم نقض بعضهم على بعض وبيان فساد قوله فإن المختلفين كل كلامهم فيه شيء من الباطل وكل طائفة تقصد بيان بطلان قول الأخرى فيبقى الإنسان عند دلائل كثيرة تدل على فساد قول كل طائفة من الطوائف المختلفين في الكتاب
وهذا مما مدح به الأشعري فإنه من بين من فضائح المعتزلة وتناقض أقوالهم وفسادها ما لم يبينه غيره لأنه كان منهم وكان قد درس الكلام على أبي علي الجبائي أربعين سنة وكان ذكيا ثم إنه رجع عنهم وصنف في الرد عليهم ونصر في الصفات طريقة ابن كلاب لأنها أقرب إلى الحق والسنة من قولهم ولم يعرف غيرها فإنه لم يكن خبيرا بالسنة والحديث وأقوال الصحابة والتابعين وغيرهم وتفسير السلف للقرآن والعلم بالسنة المحضة إنما يستفاد من هذا
ولهذا يذكر في المقالات مقالة المعتزلة مفصلة يذكر قول كل واحد منهم وما بينهم من النزاع في الدق والجل كما يحكى ابن أبي زيد مقالات أصحاب مالك وكما يحكي أبو الحسن القدوري اختلاف أصحاب أبي حنيفة ويذكر أيضا مقالات الخوارج والروافض لكن نقلة لها من كتب أرباب المقالات لا عن مباشرة نه للقائلين ولا عن خبرة بكتبهم ولكن فيها تفصيل عظيم ويذكر مقالة ابن كلاب عن خبرة بها ونظر في كتبه ويذكر اختلاف الناس في القرآن من عدة كتب
فإذا جاء إلى مقالة أهل السنة والحديث ذكر أمرا مجملا يلقى أكثره عن زكريا بن يحيى الساجي وبعضه عمن أخذ عنه من حنبلية بغداد ونحوهم وأين العلم المفصل من العلم المجمل وهو يشبه من بعض الوجوه علمنا بما جاء به محمد ﷺ تفصيلا وعلمنا بما في التوراة والإنجيل مجملا لما نقله الناس عن التوراة والإنجيل وبمنزلة علم الرجل الحنفي أو الشافعي أو المالكي أو الحنبلي بمذهبه الذي عرف أصوله وفروعه واختلاف أهله وأدلته بالنسبة إلى ما يذكرونه من خلاف المذهب الآخر فإنه إنما يعرفه معرفة مجملة
فهكذا معرفته بمذهب أهل السنة والحديث مع أنه من أعرف المتكلمين المصنفين في الاختلاف بذلك وهو أعرف به من جميع أصحابه من القاضي أبي بكر وابن فورك وأبي إسحاق وهؤلاء أعلم به من أبي المعالي وذويه ومن الشهرستاني ولهذا كان ما يذكره الشهرستاني من مذهب أهل السنة والحديث ناقصا عما يذكره الأشعري فإن الأشعري أعلم من هؤلاء كلهم بذلك نقلا وتوجيها
وهذا كالفقيه الذي يكون أعرف من غيره من الفقهاء بالحديث وليس هو من علماء الحديث أو المحدث الذي يكون أفقه من غيره من المحدثين وليس هو من أئمة الفقه والمقرىء الذي يكون أخبر من غيره بالنحو والإعراب وليس هو من أئمة النحاة والنحوي الذي يكون أخبر من غيره بالقرآن وليس هو من أئمة القراء ونظائر هذا متعددة
والمقصود هنا بيان ما ذكره الله في كتابه من ذم الاختلاف في الكتاب وهذا الاختلاف القولي وأما الاختلاف العملي وهو الاختلاف باليد والسيف والعصا والسوط فهو داخل في الاختلاف
والخوارج والروافض والمعتزلة ونحوهم يدخلون في النوعين والملوك الذين يتقاتلون على محض الدنيا يدخلون في الثاني والذين يتكلمون في العلم ولا يدعون إلى قول ابتدعوه ويحاربون عليه من خالفهم لا بيد ولا بلسان هؤلاء هم أهل العلم وهؤلاء خطؤهم مغفور لهم وليسوا مذمومين إلا أن يدخلهم هوى وعدوان أو تفريط في بعض الأمور فيكون ذلك من ذنوبهم فإن العبد مأمور بالتزام الصراط المستقيم في كل أموره وقد شرع الله تعالى أن نسأله ذلك في كل صلاة وهو أفضل الدعاء وأفرضه وأجمعه لكل خير وكل أحد محتاج إلى الدعاء به فلهذا أوجبه الله تعالى على العبد في كل صلاة
فإنه وإن كان قد هدي هدى مجملا مثل إقراره بأن الإسلام حق والرسول حق فهو محتاج إلى التفصيل في كل ما يقوله ويفعله ويعتقده فيثبته أو ينفيه ويحبه أو يبغضه ويأمر به أو ينهى عنه ويحمده أو يذمه وهو محتاج في جميع ذلك إلى أن يهديه الله الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا فإن كثيرا ممن سمع ذم الكلام مجملا أو سمع ذم الطائفة الفلانية مجملا وهو لا يعرف تفاصيل الأمور من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية والعامة ومن كان متوسطا في الكلام لم يصل إلى الغايات التي منها تفرقوا واختلفوا تجده يذم القول وقائله بعبارة ويقبله بعبارة ويقرأ كتب التفسير والفقه وشروح الحديث وفيها تلك المقالات التي كان يذمها فيقبلها من أشخاص أخر يحسن الظن بهم وقد ذكروها بعبارة أخرى أو في ضمن تفسير آية أو حديث أو غير ذلك
وهذا مما يوجد كثيرا والسالم من سلمه الله حتى أن كثيرا من هؤلاء يعظم أئمة ويذم أقوالا قد يلعن قائلها أو يكفره وقد قالها أولئك الأئمة الذين يعظمهم ولو علم أنهم قالوها لما لعن القائل وكثير منها يكون قد قاله النبي ﷺ وهو لا يعرف ذلك
فإن كان ممن قبلها من المتكلمين تقليديا فإنه يتبع من يكون في نفسه أعظم فإن ظن أن المتكلمين حققوا ما لم يحققه أتمتهم قلدهم وإن ظن أن الائمة أجل قدرا وأعرف بالحق وأتبع للرسول قلدهم وإن كان قد عرف الحجة الكلامية على ذلك القول وبلغه أن أئمة يعظمهم قالوا بخلافه أو جاء الحديث بخلافه بقي في الحيرة وإن رجح أحد الجانبين رجح على مضض وليس عنده ما يبني عليه وإنما يستقر قلبه بما يعرف صحة أحد القولين جزما فإن التقليد لا يورث الجزم فإذا جزم بأن الرسول قاله وهو عالم بأنه لا يقول إلا الحق جزم بذلك وإن خالفه بعض أهل الكلام
وعلم الإنسان باختلاف هؤلاء ورد بعضهم على بعض وإن لم يعرف بعضهم فساد مقالة بعض هو من أنفع الأمور فإنه ما منهم إلا من قد فضل مقالته طوائف فإذا عرف رد الطائفة الأخرى على هذه المقالة عرف فسادها فكان في ذلك نهى عما فيها من المنكر والباطل
وكذلك إذا عرف رد هؤلاء على أولئك فإنه أيضا يعرف ما عند أولئك من الباطل فيتقي الباطل الذي معهم ثم من بين الله له الذي جاء به الرسول إما بأن يكون قولا ثالثا خارجا عن القولين وإما بأن يكون بعض قول هؤلاء وبعض قول هؤلاء وعرف أن هذا هو الذي كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان وعليه دل الكتاب والسنة كان الله قد أتم عليه النعمة إذ هداه الصراط المستقيم وجنبه صراط أهل البغي والضلال
وإن لم يتبين له كان امتناعه من موافقه هؤلاء على ضلالهم وهؤلاء على ضلالهم نعمة في حقه واعتصم بما عرفه من الكتاب والسنة مجملا وأمسك عن الكلام في تلك المسألة وكانت من جملة ما لم يعرفه فإن الإنسان لا يعرف الحق في كل ما تكلم الناس به وأنت تجدهم يحكون أقوالا متعددة في التفسير وشرح الحديث في مسائل الأحكام بل والعربية والطب وغير ذلك ثم كثير من الناس يحكي الخلاف ولا يعرف الحق
وأما الخلاف الذي بين الفلاسفة فلا يحصيه أحد لكثرته ولتفرقهم فإن الفلسفة التي عند المتأخرين كالفارابي وابن سينا ومن نسج على منوالهما هي فلسفة أرسطو وأتباعه وهو صاحب التعاليم المنطق والطبيعي وما بعد الطبيعة والذي يحكيه الغزالي والشهرستاني والرازي وغيرهم من مقالات الفلاسفة هو من كلام ابن سينا
والفلاسفة أصناف مصنفة غير هؤلاء ولهذا يذكر القاضي أبو بكر في دقائق الكلام وقبله أبو الحسن الأشعري في كتاب مقالات غير الإسلاميين وهو كتاب كبير أكبر من مقالات الإسلاميين أقوالا كثيرة للفلاسفة لا يذكرها هؤلاء الذين يأخذون عن ابن سينا وكذلك غير الأشعري مثل أبي عيسى الوراق والنوبختي وأبي علي وأبي هاشم وخلق كثير من أهل الكلام والفلسفة
والمقصود أن كتب أهل الكلام يستفاد منها رد بعضهم على بعض وهذا لا يحتاج إليه من لا يحتاج إلى رد المقالة الباطلة لكونها لم تخطر بقلبه ولا هناك من يخاطبه بها ولا يطالع كتابا هي فيه ولا ينتفع به من لم يفهم الرد بل قد يستضر به من عرف الشبهة ولم يعرف فسادها
ولكن المقصود هنا أن هذا هو العلم الذي في كتبهم فإنهم يردون باطلا بباطل وكلا القولين باطل ولهذا كان مذموما ممنوعا منه عند السلف والأئمة وكثير منهم أو أكثرهم لا يعرف أن الذي يقوله باطل
وبكل حال فهم يذكرون من عيوب باطل غيرهم وذمة ما قد ينتفع به
مثال ذلك تنازعهم في مسائل الأسماء والأحكام والوعد والوعيد فالخوارج والمعتزلة يقولون صاحب الكبائر الذي لم يتب منها مخلد في النار ليس معه شيء من الإيمان ثم الخوارج تقول هو كافر والمعتزلة توافقهم على الحكم لا على الاسم والمرجئة تقول هو مؤمن تام الإيمان لا نقص في إيمانه بل إيمانه كإيمان الأنبياء والأولياء وهذا نزاع في الاسم ثم تقول فقهاؤهم ما تقوله الجماعة في أهل الكبائر فيهم من يدخل النار وفيهم من لا يدخل كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة واتفق عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان
فهؤلاء لا ينازعون أهل السنة والحديث في حكمه في الآخرة وإنما ينازعونهم في الاسم وينازعون أيضا فيمن قال ولم يفعل وكثير من متكلمة المرجئة تقول لا نعلم أن أحدا من أهل القبلة من أهل الكبائر يدخل النار ولا أن أحدا منهم لا يدخلها بل يجوز أن يدخلها جميع الفساق ويجوز أن لا يدخلها أحد منهم ويجوز دخول بعضهم ويقولون من أذنب وتاب لا يقطع بقبول توبته بل يجوز دخول أن يدخل النار أيضا فهم يقفون في هذا كله ولهذا سمو الواقفة وهذا قول القاضي أبي بكر وغيره من الأشعرية وغيرهم
فيحتج أولئك بنصوص الوعيد وعمومها ويعارضهم هؤلاء بنصوص الوعد وعمومها فقال أولئك الفساق لا يدخلون في الوعد لأنهم لا حسنات لهم لأنهم لم يكونوا من المتقين وقد قال الله تعالى إنما يتقبل الله من المتقين سورة المائدة 27 وقال تعالى لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى سورة البقرة 264 وقال لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون سورة الحجرات 2 وقال ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم سورة محمد 2فهذه النصوص وغيرها تدل على أن الماضي من العمل قد يحبط بالسيئات وأن العمل لا يقبل إلا مع التقوى والوعد إنما هو للمؤمن وهؤلاء ليسوا مؤمنين بدليل قوله إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم سورة الأنفال 2 وقوله إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون سورة الحجرات 15 وبقوله أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون سورة السجدة 18 والفاسق ليس بمؤمن فلا يتناوله الوعد وبما ثبت عن النبي ﷺ في الصحيح أنه قال لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن وقوله من غشنا فليس منا ومن حمل علينا السلاح فليس منا ونحو ذلك
وتقول المرجئة قوله تعالى إنما يتقبل الله من المتقين سورة المائدة 27 المراد به من اتقى الشرك ويقولون الأعمال لا تحبط إلا بالكفر قال تعالى لئن أشركت ليحبطن عملك سوة الزمر 65 وقال ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله سورة المائدة ويقولون قد قال تعالى ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير جنات عدن يدخلونها سوة فاطر 32 33 فقد أخبر أن الثلاثة يدخلون الجنة وقد حكي عن بعض غلاة المرجئة أن أحدا من أهل التوحيد لا يدخل النار ولكن هذا لا أعرف به قائلا معينا فأحكيه عنه ومن الناس من يحكيه عن مقاتل بن سليمان والظاهر أنه غلط عليه
وهؤلاء قد يحتجون بهذه الآية ويحتجون بقوله فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى سورة الليل 14 16 وقد يحتج بعض الجهال بقوله ذلك يخوف الله به عباده سورة الزمر قال فالوعيد شيء يخوفكم به
ويقولون أما قوله ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم سورة محمد 9 فهذه في الكفار فإنه قال والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم سورة محمد 8 9 وكذلك قوله إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ذلك بأنهم أتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم سورة محمد 25 28 فقد أخبر سبحانه أن هؤلاء ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى وأن الشيطان سول لهم وأملى لهم أي وسع لهم في العمر وكان هذا بسبب وعدهم للكفار بالموافقة فقال ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر
ولهذا فسر السلف هؤلاء الذين كرهوا ما أنزل الله الذين كانوا سبب نزول هذه الآية بالمنافقين واليهود قالت الوعيدية الله تعالى إنما وصفهم بمجرد كراهة ما نزل الله والكراهة عمل القلب وعند الجهمية الإيمان مجرد تصديق القلب وعلمه هذا قول جهم والصالحي والأشعري في المشهور عنه وأكثر أصحابه
وعند فقهاء المرجئة هو قول اللسان مع تصديق القلب وعلى القولين أعمال القلوب ليست من الإيمان عندهم كأعمال الجوارح فيمكن أن يكون الرجل مصدقا بلسانه وقلبه مع كراهة ما نزل الله وحينئذ فلا يكون هذا كافر عندهم والآية تتناوله وإذا دلت على كفره دلت على فساد قولهم
قالوا وأما قولكم المتقون الذين اتقوا الشرك فهذا خلاف القرآن فإن الله تعالى قال إن المتقين في ظلال وعيون وفواكه مما يشتهون سورة المرسلات 41 42 إن المتقين في جنات ونهر سورة القمر 5وقال ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون سورة البقرة 1 وقالت مريم إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا سورة مريم8 - ولم ترد به الشرك بل أرادت التقي الذي يتقي فلا يقدم على الفجور
وقال تعالى ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب سورة الطلاق 1 وقال تعالى إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم سورة الأنفال 29 وقال تعالى إنه من يتق ويصبر فإن الله أجر المحسنين
وقال تعالى لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور سورة آل عمران 18وقال تعالى ثم جعلناكم على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إلى قوله والله ولي المتقين سورة الجاثية 18 1وقال يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم سورة الأحزاب 70 71 فهم قد آمنوا واتقوا الشرك فلم يكن الذي أمرهم به بعد ذلك مجرد ترك الشرك
وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته سورة آل عمران 102 أفيقول مسلم إن قطاع الطريق الذين يسفكون دماء الناس ويأخذون أموالهم اتقوا الله حق تقاته لكونهم لم يشركوا وإن أهل الفواحش وشرب الخمر وظلم الناس اتقوا الله حق تقاته
وقد قال السلف ابن مسعود وغيره كالحسن وعكرمة وقتادة ومقاتل حق تقاته أن يطاع فلا يعصى وأن يشكر فلا يكفر وأن يذكر فلا ينسى وبعضهم يرويه عن ابن مسعود عن النبي ﷺ وفي تفسير الوالبي عن ابن عباس قال هو أن يجاهد العبد في الله حق جهاده وأن لا تأخذه في الله لومة لائم وأن يقوموا له بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم
وفي الآية أخرى فأتقوا الله ما استطعتم سورة التغابن 16 وهذه مفسرة لتلك ومن قال من السلف هي ناسخة لها فمعناه أنها رافعة لما يظن من أن المراد من حق تقاته ما يعجز البشر عنه فإن الله لم يأمر بهذا قط ومن قال إن الله أمر به فقد غلط ولفظ النسخ في عرف السلف يدخل فيه كل ما فيه نوع رفع لحكم أو ظاهر أو ظن دلالة حتى يسموا تخصيص العام نسخا ومنهم من يسمى الإستثناء نسخا إذا تأخر نزوله
وقد قال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم سورة الحج 52 فهذ رفع لشيء ألقاه الشيطان ولم ينزله الله لكن غايته أن يظن أن الله أنزله وقد أخبر أنه نسخه
وقد قال تعالى إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون سورة الأعراف 201 202 فمن كان الشيطان لا يزال يمده في الغي وهو لا يتذكر ولا يبصر كيف يكون من المتقين
وقد قال تعالى في آية الطلاق ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب سورة الطلاق 2 3 وفي حديث أبي ذر عن النبي ﷺ أنه قال يا أبا ذر لو عمل الناس كلهم بهذه الآية لكفتهم وكان ابن عباس وغيره من الصحابة إذا تعدى الرجل حد الله في الطلاق يقولون له لو اتقيت الله لجعل لك مخرجا وفرجا
ومعلوم أنه ليس المراد بالتقوى هنا مجرد تقوى الشرك ومن أواخر ما نزل من القرآن وقيل إنها آخر آية نزلت قوله تعالى واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون سورة البقرة 281 فهل اتقاء ذلك هو مجرد ترك الشرك وإن فعل كل ما حرم الله عليه وترك كل ما أمر الله به وقد قال طلق بن حبيب ومع هذا كان سعيد بن جبير ينسبه إلى الإرجاء قال التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو رحمة الله وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله
وبالجملة فكون المتقين هم الأبرار الفاعلون للفرائض المجتنبون للمحارم هو من العلم العام الذي يعرفه المسلمون خلفا عن سلف والقرآن والأحاديث تقتضي ذلك
قالت المرجئة أما احتجاجكم بقوله تعالى أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون سورة السجدة 18 فلا يصح لأن تمام الآية يدل على أن المراد بالفاسق المكذب فإنه قال وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون سورة السجدة 20 فقد وصفهم بالتكذيب بعذاب الآخرة وهذا وصف المكذب لا العاصي
وقالوا مع الجمهور للخوارج لو كان صاحب الكبيرة كافرا لكان مرتدا ووجب قتله والله تعالى قد أمر بجلد الزاني وأمر بجلد القاذف وأمر بقطع السارق ومضت سنة رسول الله ﷺ بجلد الشارب فهذه النصوص صريحة بأن الزاني والشارب والسارق والقاذف ليسوا كفارا مرتدين يستحقون القتل فمن جعلهم كفارا فقد خالف نص القرآن والسنة المتواترة
وقالوا لهم وللمعتزلة قد قال الله تعالى وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون سورة الحجرات 9 10 قالوا فقد سماهم مؤمنين مع الإقتتال والبغي وقد أمر الله تعالى بالإصلاح بينهم وجعلهم إخوة المصلح بينهم الذي لم يقاتل فعلم أن البغي لا يخرج عن الإيمان ولا عن أخوة الإيمان
قالت المرجئة وقوله ليس منا أي ليس مثلنا أو ليس من خيارنا فقيل لهم فلو لم يغش ولم يحمل السلاح أكان يكون مثل النبي ﷺ أو كان يكون من خيارهم بمجرد هذا الكلام
وقالت المرجئة نصوص الوعيد عامة ومنا من ينكر صيغ العموم ومن أثبتها قال لا يعلم تناولها لكل فرد من أفراد العام فمن لم يعذب لم يكن اللفظ قد شمله
فقيل للواقفة منهم عندكم يجوز أن لا يحصل الوعيد بأحد من أهل القبلة فيلزم تعطيل نصوص الوعيد ولا تبقى لا خاصة ولا عامة
وليس مقصودنا هنا استيفاء الكلام في المسألة وإنما الغرض التمثيل بالمناظرات من الطرفين وأهل السنة والحديث وأئمة الإسلام المتبعون للصحابة متوسطون بين هؤلاء وهؤلاء لا يقولون بتخليد أحد من أهل القبلة في النار كما تقول الخوارج والمعتزلة لما ثبت عن النبي ﷺ في الأحاديث الصحيحة لأنه يخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان وإخراجه من النار من يخرج بشفاعة نبينا ﷺ فيمن يشفع له من أهل الكبائر من أمته
وهذه أحاديث كثيرة مستفيضة متواترة عند أهل العلم بالحديث ولا يقولون إنا نقف في الأحكام المطلقة بل نعلم أن الله يدخل النار من يدخله من أهل الكبائر وناس آخرون لا يدخلونها لأسباب لكن تنازعوا هل يكون الداخلون بسبب اقتضى ذلك كعظم الذنوب وكثرتها والذين لم يدخلوها بسبب منع ذلك كالحسنات المعارضة ونحوها وأنه سبحانه وتعالى يفعل ما يفعله بحكمة وأسباب أم قد يفرق بين المتماثلين بمحض المشيئة فيعذب الشخص ويعفو عمن هو مثله من كل وجه بمحض المشيئة هذا لهم فيه قولان والنصوص وأقوال السلف توافق الأول
وإنما قد نقف في الشخص المعين فلا نشهد له بجنة ولا نار إلا عن علم لأن حقيقة باطنه وما مات عليه لا نحيط به لكن نرجو للمحسن ونخاف على المسيئ
ولهم في الشهادة بالجنة ثلاثة أقوال منهم من لا يشهد بالجنة لأحد إلا للأنبياء وهذا قول محمد بن الحنفية والأوزاعي
والثاني أنه يشهد بالجنة لكل مؤمن جاء فيه نص وهذا قول كثير من أهل الحديث
والثالث يشهد بالجنة لهؤلاء ولمن شهد له المؤمنون كما قال النبي ﷺ أنتم شهداء الله في الأرض وقال يوشك أن تعلموا أهل الجنة من أهل النار قالوا بم يا رسول الله قال بالثناء الحسن والثناء السيئ فأخبر أن ذلك مما يعلم به أهل الجنة وأهل النار وكان أبو ثور يقول أشهد أن أحمد بن حنبل في الجنة ويحتج بهذا وبسط هذه المسألة له موضع آخر
والإيمان عندهم يتفاضل فيكون إيمان أكمل من إيمان كما قال النبي ﷺ أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا فيقولون قوله إنما يتقبل الله من المتقين سورة المائدة 27 أي ممن اتقاه في ذلك العمل ليس المراد به الخلو من الذنوب ولا مجرد الخلو من الشرك بل من اتقاه في عمل قبله منه وإن كانت له ذنوب أخرى بدليل قوله وأقم الصلاة طرفى النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات سورة هود 114 فلو كانت الحسنة لا تقبل من صاحب السيئة لم تمحها
وقد ثبت بالكتاب والسنة المتواترة الموازنة بين الحسنات والسيئات فلو كانت الكبيرة تحبط الحسنات لم تبق حسنة توزن معها وقد ثبت في الصحيحين أن بغيا سقت كلبا فغفر الله لها بسقيه قالوا وابنا آدم لم يكن أحدهما مشركا ولكن لم يقصد التقرب إلى الله بالطيب من ماله كما جاء في الأثر فلهذا لم يتقبل الله قربانه وقد قال تعالى في حق المنافقين وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون سورة التوبة 54 فجعل هذه موانع قبول النفقة دون مطلق الذنوب
قال أهل الحديث والسنة ومن نفى عنه الإيمان فلأنه ترك بعض واجباته والعبادة ينفى اسمها بنفي بعض واجباتها لأنها لم تبق كاملة ولا يلزم من ذلك أن لا يبقى منه شيئ بل قد دلت النصوص على أنه يبقى بعضه ويخرج من النار من بقي معه بعضه
ومعلوم أن العبادات فيها واجب كالحج فيه واجب إذا تركه كان حجة ناقصا يأثم بما ترك ولا إعادة عليه بل يجبره بدم كرمي الجمار وإن لم يجبره بقي في ذمته فكذلك الإيمان ينقص بالذنوب فإن تاب عاد وإلا بقي ناقصا نقصا يأثم به وقد يحرم في الحج أفعال إذا فعلها نقص حجة ولم يبطل كالتطيب ولبس الثياب بل يجبر ذلك ولا يفسده من المحرمات إلا الجماع
فكذلك لا يزيل الإيمان كله إلا الكفر المحض الذي لا يبقى مع صاحبه شيء من الإيمان قالوا وهذا هو الذي يحبط جميع الأعمال وأما ما دون ذلك فقد يحبط بعض العمل كما في آية المن والأذى فإن ذلك يبطل تلك الصدقة لا يبطل سائر أعماله
والذين كرهوا ما أنزل الله كفار وأعمال القلوب مثل حب الله ورسوله وخشية الله ونحو ذلك كلها من الإيمان وكراهة ما أنزل الله كفر وأوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله
وقد قال تعالى لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله سورة المجادلة 2وقوله في السابق والمقتصد والظالم لنفسه جنات عدن يدخلونها سورة الرعد 23 لا يمنع أن يكون الظالم لنفسه قد عذب قبل هذا ثم يدخلها
وقوله لا يصلاها إلا الأشقى سورة الليل 15 لا يخلو إما أن يكون المراد بالصلي نوعا من التعذيب كما قيل إن الذي تصليه النار هو الذي تحيط به وأهل القبلة لا تحرق النار منهم مواضع السجود أو تكون نارا مخصوصة
وقوله يخوف الله به عباده سورة الزمر 16 كقول النبي ﷺ في الشمس والقمر إنهما آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده
وقد قال تعالى وما نرسل بالآيات إلا تخويفا سورة الإسراء 59 والآيات التي خوف الله بها عباده تكون سببا في شر ينزل بالناس فمن اتقى الله بفعل ما أمر به وفي ذلك الشر ولو كان مما لا حقيقة له أصلا لم يخف أحد إذا علم أنه لا شر في الباطن وإنما يبقى التخويف للجاهل الفدم كما يفزغ الصبيان بالخيال
وقد قال تعالى ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون سورة الزمر 16 فخوف العباد مطلقا وأمرهم بتقواه لئلا ينزل المخوف وأرسل الرسل مبشرين ومنذرين والإنذار هو الإعلام بما يخاف منه وقد وجدت المخوفات في الدنيا وعاقب الله على الذنوب أمما كثيرة كما قصه في كتابه وكما شوهد من من الآيات وأخبر عن دخول أهل النار النار في غير موضع من القرآن
وقال تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء سورة فاطر 28 ولو كان الأمر كما يتوهمه الجاهل لكان إنما يخشاه من عباده الجهال الذين يتخيلون ما لا حقيقة له وهذا كله مبسوط في موضعه وإنما الغرض هنا التمثيل بأقوال المختلفين التي كلها باطلة
ومثال ذلك إذا تنازع في القدر القدرية من المعتزلة وغيرهم والقدرية المجبرة من الجهمية وغيرهم فقالوا جميعا إرادة الله هي محبته وهي رضاه ثم قالت المعتزلة وهو سبحانه يحب الإيمان والعمل الصالح ويكره الكفر والفسوق والعصيان فلا يكون مريدا له
قالوا والدليل على ذلك قوله ولا يرضى لعباده الكفر سورة الزمر 7 وقوله إذ يبيتون ما لا يرضى من القول سورة النساء 10 وقوله والله لا يحب الفساد سورة البقرة 20والفقهاء متفقون على أن أفعال البر تنقسم إلى واجب ومستحب والمستحب هو ما أحبه الله ورسوله وأن المنهي عنه كله مكروه كرهه الله ورسوله والكراهة نوعان كراهة تحريم وكراهة تنزيه
وقد قال تعالى لما ذكر المحرمات كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها سورة الإسراء 38 وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال إن الله يكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال
وفي الصحيح أيضا عنه أنه قال إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب
قالوا فهل دليل على أنه يكون في العالم ما هو مكروه لله فلا يكون مرادا لله فيكون في العالم ما لا يريده الله وهو ما لم يأمر الله به أو ينه عنه
قالوا والأمر لا يعقل أمرا إلا بإرادة الأمر لما أمر به المأمور ومن قدر أن الأمر يطلب المأمور به طلبا لا يكون إرادة ولا مستلزما للإرادة فهذا قد أدعى ما يعلم فساده بالضرورة وما يحتج به من التمثيل بأمر الممتحن فذاك لم يكن طالبا للمأمور به ولا مريدا له في الباطن بل أظهر أنه مريد طالب
وقالوا قد قال الله تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر سورة البقرة 183وقال تعالى ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون سورة المائدة وقال تعالى يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حليم والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا سورة النساء 26 2وقال الله تعالى إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا سورة الأحزاب 33