الوجه الثامن أن قوله لو كان هذا الخبر صحيحا حقا لما جاز له ترك البغلة والسيف والعمامة عند علي والحكم له بها لما ادعاها العباس
فيقال ومن نقل أن أبا بكر وعمر حكما بذلك لأحد أو تركا ذلك عند أحد على أن ذلك ملك له فهذا من أبين الكذب عليهما بل غاية ما في هذا أن يترك عند من يترك عنده كما تركا صدقته عند علي والعباس ليصرفاها في مصارفها الشرعية
وأما قوله ولكان أهل البيت الذين طهرهم الله في كتابه مرتكبين ما لا يجوز
فيقال له أولا إن الله تعالى لم يخبر أنه طهر جميع أهل البيت وأذهب عنهم الرجس فإن هذا كذب على الله كيف ونحن نعلم أن في بني هاشم من ليس بمطهر من الذنوب ولا أذهب عنهم الرجس لا سيما عند الرافضة فإن عندهم كل من كان من بني هاشم يحب أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فليس بمطهر والآية إنما قال فيها إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت وقد تقدم أن هذا مثل قوله ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون وقوله يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلم ويتوب عليكم ونحو ذلك مما فيه بيان أن الله يحب ذلك لكم ويرضاه لكم ويأمركم به فمن فعله حصل له هذا المراد المحبوب المرضى ومن لم يفعله لم يحصل له ذلك
وقد بسط هذا في غير هذا الموضع وبين أن هذا ألزم لهؤلاء الرافضة القدرية فإن عندهم أن إرادة الله بمعنى أمره لا يمعنى أنه يفعل ما أراد فلا يلزم إذا أراد الله تطهير أحد أن يكون ذلك قد تطهر ولا يجوز عندهم أن يطهر الله أحدا بل من أراد الله تطهيره فإن شاء طهر نفسه وإن شاء لم يطهرها ولا يقدر الله عندهم على تطهير أحد
وأما قوله لأن الصدقة محرمة عليهم
فيقال له أولا المحرم عليهم صدقة الفرض وأما صدقات التطوع فقد كانوا يشربون من المياه المسبلة بين مكة والمدينة ويقولون إنما حرم علينا الفرض ولم يحرم علينا التطوع وإذا جاز أن ينتفعوا بصدقات الأجانب التي هي تطوع فانتفاعهم بصدقة النبي ﷺ أولى وأحرى فإن هذه الأموال لم تكن زكاة مفروضة على النبي ﷺ وهي أوساخ الناس التي حرمت عليهم
وإنما هي من الفىء الذي أفاءه الله على رسوله والفىء حلال لهم والنبي ﷺ جعل ما جعله الله له من الفىء صدقة إذ غايته أن يكون ملكا للنبي ﷺ تصدق به على المسلمين وأهل بيته أحق بصدقته فإن الصدقة على المسلمين صدقة والصدقة على القرابة صدقة وصلة
الوجه التاسع في معارضته بحديث جابر رضي الله عنه فيقال جابر لم يدع حقا لغيره ينتزع من ذلك الغير ويجعل له وإنما طلب شيئا من بيت المال يجوز للإمام ن يعطيه إياه ولو لم يعده به النبي ﷺ فإذا وعده به كان أولى بالجواز فلهذا لم يفتقر إلى بينة ومثال هذا أن يجىء شخص إلى عقار بيت المال فيدعيه لنفسه خاصة فليس للإمام أن ينزعه من بيت المال ويدفعه إليه بلا حجة شرعية واخر طلب شيئا من المال المنقول الذي يجب قسمه على المسلمين من مال بيت المال فهذا يجوز أن يعطى بلا بينة ألا ترى أن صدقة رسول الله ﷺ الموقوفة وصدقة غيره من المسلمين لا يجوز لأحد من المسلمين أن يملك أصلها ويجوز أن يعطى من ريعها ما ينتفع به فالمال الذي أعطى منه جابر هو المال الذي يقسم بين المسلمين بخلاف أصول المال
ولهذا كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يعطيان العباس وبنيه وعليا والحسن والحسين وغيرهم من بني هاشم أعظم مما أعطوا جابر بن عبد الله من المال الذي يقسم بين الناس وإن لم يكن معهما وعد من النبي ﷺ
فقول هؤلاء الرافضة الجهال إن جابر بن عبد الله أخذ مال المسلمين من غير بينة بل بمجرد الدعوى كلام من لا يعرف حكم الله لا في هذا ولا في ذاك فإن المال الذي أعطى منه جابر مال يجب قسمته بين المسلمين وجابر أحد المسلمين وله حق فيه وهو أحد الشركاء والإمام إذا أعطى أحد المسلمين من مال الفىء ونحوه من مال المسلمين لا يقال إنه أعطاه مال المسلمين من غير بينة لأن القسم بين المسلمين وإعطاءهم لا يفتقر إلى بينة بخلاف من يدعي أن أصل المال له دون المسلمين
نعم الإمام يقسم المال باجتهاده في التقدير والنبي ﷺ كان يقسم المال بالحثيات وكذلك روى عن عمر رضي الله عنه وهو نوع من الكيل باليد وجابر ذكر أن النبي ﷺ وعده بثلاث حثيات وهذا أمر معتاد مثله من النبي ﷺ فلم يذكر إلا ما عهد من النبي ﷺ مثله وما يجوز الاقتداء به فيه فأعطاه حثية ثم نظر عددها فأعطاه بقدرها مرتين تحريا لما ظنه موافقا لقول النبي ﷺ في القسم فإن الواجب موافقته بحسب الإمكان فإن أمكن العلم وإلا اتبع ما أمكن من التحري والاجتهاد
أما قصة فاطمة رضي الله عنها فم ذكروه من دعواها الهبة والشهادة المذكورة ونحو ذلك لو كان صحيحا لكان بالقدح فيمن يحتجون له أشبه منه بالمدح
فصل
قال الرافضي وقد روى عن الجماعة كلهم أن النبي ﷺ قال في حق أبي ذر ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر ولم يسموه صديقا وسموا أبا بكر بذلك مع أنه لم يرد مثل ذلك في حقه
فيقال هذا الحديث لم يروه الجماعة كلهم ولا هو في الصحيحين ولا هو في السنن بل هو مروي في الجملة وبتقدير صحته وثبوته فمن المعلوم أن هذا الحديث لم يرد به أن أبا ذر أصدق من جميع الخلق فإن هذا يلزم منه أن يكون أصدق من النبي ﷺ ومن سائر النبيين ومن علي بن أبي طالب وهذا خلاف إجماع المسلمين كلهم من السنة والشيعة فعلم أن هذه الكلمة معناها أن أبا ذر صادق ليس غيره أكثر تحريا للصدق منه ولا يلزم إذا كان بمنزلة غيره في تحرى الصدق أن يكون بمنزلته في كثرة الصدق والتصديق بالحق وفي عظم الحق الذي صدق فيه وصدق به وذلك أنه يقال فلان صادق اللهجة إذا تحرى الصدق وإن كان قليل العلم بما جاءت به الأنبياء والنبي ﷺ لم يقل ما أقلت الغبراء أعزم تصديقا من أبي ذر بل قال أصدق لهجة والمدح للصديق الذي صجق الأنبياء ليس بمجد كونه صادقا بل في كونه مصدقا للأنبياء وتصديقه للنبي ﷺ هو صدق خاص فالمدح بهذا التصديق الذي هو صدق خاص نوع والمدح بنفس كونه صادقا نوع اخر فكل صديق صادق وليس كل صديق صديقا
ففي الصحيحين عن ابن مسعود عن النبي ﷺ أنه قال عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا فالصديق قد يراد به الكامل في الصدق وقد يراد به الكامل في التصديق والصديق ليست فضيلته في مجرد تحري الصدق بل في أنه علم ما أخبر به النبي ﷺ جملة وتفصيلا وصدق ذلك تصديقا كاملا في العلم والقصد والقول والعمل وهذا القدر لم يحصل لأبي ذر ولا لغيره فإن أبا ذر لم يعلم ما أخبر به النبي ﷺ كما علمه أبو بكر ولا حصل له من التصديق المفصل كما حصل لأبي بكر ولا حصل عنده من كمال التصديق معرفة وحالا كما حصل لأبي بكر فإن أبا بكر أعرف منه وأعظم حبا لله ورسوله منه وأعظم نصرا لله ورسوله منه وأعظم جهادا لنفسه وماله منه إلى غير ذلك من الصفات التي هي كمال الصديقية
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال صعد رسول الله ﷺ أحدا ومعه أبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم فقال اسكن أحد وضربه برجله وقال ليس عليك إلا نبي وصديق وشهيدان وفي الترمذي وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت يا رسول الله الذين يؤتون ما اقوا قلوبهم وجلة أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر ويخاف قال لا يا ابنة الصديق ولكنه الرجل يصوم ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه
فصل
قال الرافضي وسموه خليفة رسول الله ﷺ ولم يستخلفه في حياته ولا بعد وفاته عندهم ولم يسموا أمير المؤمنين خليفة رسول الله مع أنه استخلفه في عدة مواطن منها أنه استخلفه على المدينة في غزوة تبوك وقال له إن المدينة لا تصلح إلا بي أو بك أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي
وأمر أسامة بن زيد علي الجيش الذين فيهم أبو بكر وعمر ومات ولم يعزله ولم يسموه خليفة ولما تولة أبو بكر غضب أسامة وقال إن رسول الله ﷺ أمرني عليك فمن استخلفك علي فمشى إليه هو وعمر حتى استرضاه وكانا يسميانه مدة حياته أميرا
والجواب من وجوه أحدها أن الخليفة إما أن يكون معناه الذي يخلف غيره وإن كان لم يستخلفه كما هو المعروف في اللغة وهو قول الجمهور وإما أنيكون معناه من استخلفه غيره كما قاله كائفة من أهل الظاهر والشيعة ونحوهم فإن كان هو الأول فأبو بكر خليفة رسول الله ﷺ لأنه خلفه بعد موته ولم يخلف رسول الله ﷺ أحد بعد موته إلا أبو بكر فكان هو الخليفة دون غيره ضرورة فإن الشيعة وغيرهم لا ينازعون في أنه هو الذي صار ولي الأمر بعده وصار خليفة له يصلي بالمسلمين ويقيم فيهم الحدود ويقسم بينهم الفىء ويغزو بهم العدو ويولى عليهم العمال والأمراء وغير ذلك من الأمور التي يفعلها ولاة الأمور
فهذه باتفاق الناس إنما باشرها بعد موته أبو بكر فكان هو الخليفة للرسول ﷺ فيها قطعا لكن أهل السنة يقولون خلفه وكان هو أحق بخلافته والشيعة يقولون علي كان هو الأحق لكن تصح خلافه أبي بكر ويقولون ما كان يحل له أن يصير هو خليفة لكن لا ينازعون في أنه صار خليفة بالفعل وهو مستحق لهذا الاسم إذ كان الخليفة من خلف غيره على كل تقدير
وأما إن قيل إن الخليفة من استخلفه غيره كما قاله بعض أهل السنة
وبعض الشيعة فمن قال هذا من أهل السنةفإنه يقول إن النبي ﷺ استخلف أبا بكر إما بالنص الجلي كما قاله بعضهم وإما بالنص الخفي كما أن الشيعة القائلين بالنص على علي منهم من يقول بالنص الجلي كما تقوله الإمامية ومنهم من يقول بالنص الخفي كما تقوله الجارودية من الزيدية ودعوى أولئك للنص الجلي أو الخفي علي أبي بكر أقوى وأظهر بكثير من دعوى هؤلاء للنص على علي لكثرة النصوص الدالة على ثبوت خلافة أبي بكر وأن عليا لم يدل على خلافته إلا ما يعلم أنه كذب أو يعلم أنه لا دلالة فيه
وعلى هذا التقدير فلم يستخلف بعد موته أحدا إلا أبا بكر فلهذا كان هو الخليفة فإن الخليفة المطلق هو من خلفه بعد موته أو استخلفه بعد موته وهذان الوصفان لم يثبتا إلا لأبي بكر فلهذا كان هو الخليفة
وأما تستخلافه لعلي على المدينة فذلك ليس من خصائصه فإن النبي ﷺ كان إذا خرج في غزاة استخلف على المدينة رجلا من أصحابه كما استخلف ابن أم مكتوم تارة وعثمان بن عفان تارة واستخلف ابن ام مكتوم في غزوة بدر وغيرها وعثمان في غزوة ذات الرقاع وغطفان التي يقال لها غزوة أنمار واستخلف في بدر الوعيد بن رواحة وزيد بن حارثة في المريسيع واستخلف أبا لبابة في غزوة بني قينقاع وغزوة السويق وفي غزوة السويق وفي غزوة الأبواء سعد بن عبادة وسعد بن معاذ في غزوة بواط وفي غزوة العشيرة أبا سلمة
واستخلاف علي لم يكن على أكثر ولا أفضل ممن استخلف عليهم غيره بل كان يكون في المدينة في كل غزوة من الغزوات من المهاجرين والأنصار أكثر وأفضل ممن تخلف في غزوة تبوك فإن غزوة تبوك لم يأذن النبي ﷺ لأحد بالتخلف فيها فلم يتخلف فيها إلا منافق أو معذور أو الثلاثة الذين تاب الله عليهم وإنما كان عظم من تخلف فيها النساء والصبيان ولهذا لما استخلف عليا فيها خرد إليه باكيا وقال أتدعني مع النساء والصبيان وروى أن بعض المنافين طعنوا في علي وقالوا إنما استخلفه لأنه يبغضه وإذا كان قد استخلف غير علي على أكثر وأفضل مما استخلف عليا عليا وكان ذلك استخلافا مقيدا على طائفة معينة في مغيبه ليس هو استخفلافا مطلقا بعد موته على أمته لم يطلق على أحد من هؤلاء أنه خليفة رسول الله ﷺ إلا مع التقييد وإذا سمى على بذلك فغيره من الصحابة المستخلفين أولى بهذا الاسم فلم يكن هذا من خصائصه
وأيضا فالذي يخلف المطاع بعد موته لا يكون إلا أفضل الناس وأما الذي يخلفه في حال غزوه لعدوه فلا يجب أن يكون أفضل الناس بل العادة جارية بأنه يستصحب في خروجه لحاجته إليه في المغازي من يكون عنده أفضل ممن يستخلفه على عياله لأن الذي ينفع في الجهاد هو شريكه فيما يفعله فهو أعظم ممن يخلفه على العيال فإن نفع ذاك ليس كنفع المشارك له في الجهاد
والنبي ﷺ إنما شبه عليا بهارون في أصل الاستخلاف لا في كماله ولعلي شركاء في هذا الاستخلاف يبين ذلك أن موسى لما ذهب إلى ميقات ربه لم يكن معه أحد يشاركه في ذلك فاستخلف هارون على جميع قومه والنبي ﷺ لما ذهب إلى غزوة تبوك أخذ معه جميع المسلمين إلا المعذور ولم يستخلف عليا إلا على العيال وقليل من الرجال فلم يكن استخلافه كاستخلاف موسى لهارون بل ائتمته في حال مغيبة كما ائتمن موسى هارون في حال مغيبه فبين له النبي ﷺ أن الاستخلاف ليس لنقص مرتبة المستخلف بل قد يكون لأمانته كما استخلف موسى هارون على قومه وكان على خرج إليه يبكي وقال أتذرني مع النساء والصبيان كأنه كره أن يتخلف عنه
وقد قيل إن بعض المنافقين طعن فيه فبين له النبي ﷺ أن هذه المنزلة ليست لنفص المستخلف إذ لو كان كذلك ما استخلف موسى هارون
وأما قوله أنه قال له إن المدينة لا تصلح إلا بي أو بك فهذا كذب على النبي ﷺ لا يعرف في كتب العلم المعتمدة ومما يبين كذبه أن النبي ﷺ خرج من المدينة غير مرة ومعه علي وليس بالمدينة لا هو ولا علي فكيف يقول إن المدينة لا تصلح إلا بي أو بك فيوم بدر كان علي معه وبين بدر والمدينة عدى مراحل وليس واحد منهما بالمدينة وعلى كان معه يوم بدر بالتواتر وكان يوم فتح مكة معه باتفاق العلماء وقد كانت أخته أم هانىء قد أجارت حموين لها فأراد علي قتلهما فقالت يا رسول الله زعم ابن أمى علي أنه قاتل رجلا أجرته فلان بن هبيرة فقال رسول الله ﷺ قد أجرنا من أجرت يا أم هانىء والحديث في الصحيح ولم يكن بالمدينة لا هو ولا علي وكذلك يوم خيبر كان قد طلب عليا فقدم وهو أرمد فأعطاه الراية حتى فتح الله علي يديه ولم يكن بالمدينة لا هو ولا علي
وكذلك يوم حنين والطائف وكذلك في حجة الوداع كان علي باليمن والنبي ﷺ خرج حاجا فاجتمعا بمكة وليس بالمدينة واحد منهما
والرافضة من فرط جهلهم يكذبون الكذب الذي لا يخفى على من له بالسيرة أدنى علم
وأما قوله إنه أمر أسامة رضي الله عنه على الجيش الذين فيهم أبو بكر وعمر، فمن الكذب الذي يعرفه من له أدنى معرفة بالحديث فإن أبا بكر لم يكن في ذلك الجيش بل كان النبي ﷺ يستخلفه في الصلاة في حين مرض إلى أن مات وأسامة قد روي أنه قد عقد له الراية قبل مرضه ثم لما مرض أمر أبا بكر أن يصلي بالناس فصلى بهم إلى أن مات النبي ﷺ فلو قدر أنه أمر بالخروج مع اسامة قبل المرض لكان أمره له بالصلاة تلك المدة مع إذنه لأسامة أن يسافر في مرضه موجبا لنسخ إمرة أسامة عنه فكيف إذا لم يؤمر عليه أسامة بحال
وأيضا فإن النبي ﷺ لم تكن عادته في سراياه بل ولا في مغازيه أن يعين كل من يخرج معه في الغزو بأسمائهم ولكن يندب الناس ندبا عاما مطلقا فتارة يعلمون منه أنه لم يأمر كل أحد بالخروج معه ولكن ندبهم إلى ذلك كما في غزوة الغابة وتارة يأمر أناسا بصفة كما أمر في غزوة بدر أن يخرج من حضر ظهره فلم يخرج معه كثير من المسلمين وكما أمر في غزوة السويق بعد أحد أن لا يخرد معه إلا من شهد أحدا وتارة يستنفرهم نفيرا عاما ولا يأذن لأحد في التخلف كما في غزوة تبوك
وكذلك كانت سنة خلفائه من بعده وكان أبو بكر لما أمر الأمراء إلى الشام وغيرها يندب الناس إلى الخروج معهم فإذا خرج مع الأمير من رأى حصول المقصود بهم سيره
والنبي ﷺ لما أرسل إلى مؤته السرية التي أرسلها وقال أميركم زيد فإن قتل فجعفر فإن قتل بعبد الله بن رواحة لم يعين كل من خرج معهم فلان وفلان ولم تكن الصحابة مكتوبين عند النبي ﷺ في ديوان ولا يطوف نقباء يخرجونهم بأسمائهم وأعيانهم بل كان يؤمر الأمير فإذا اجتمع معه من يحصل بهم المقصود أرسلهم وصار أميرا عليهم كما أنه في الحج لما أمر أبا بكر لم يعين من يحج معه لكن من حج معه كان أميرا عليه وأردفه بعلي وأخبر أنه مأمور وأن أبا بكر أمير عليه ولما أمر أسامة بن زيد بعد مقتل أبيه فأرسله إلى ناحية العدو الذين قتلوا أباه لما راه في ذلك من المصلحة ندب الناس معه فانتدب معه من رغب في الغزو من المصلحة ندب الناس معه فانتدب معه من رغب في الغزو وروى أن عمر كان ممن انتدب معه لا أن النبي ﷺ عن عمر ولا غير عمر للخوج معه لكن من خرج معه في الغزاة كان أسامة أميرا عليه كما أنه لما استخلف عتاب بن أسيد على مكة كان من أقام بمكة فعتاب أمير عليه وكذلك لما أرسل خالد بن الوليد وغيره من أمراء السرايا كان من خرج مع الأمير فالأمير أمير عليه باختياره الخروج معه لا بأن النبي ﷺ عين للخروج مع الأمير كان من يخرج هذا لم يكن من عادة النبي ﷺ بل ولا
وهذا كما أنه إذا كان إمام راتب في حياته يصلي بقوم فمن صلى خلفه كان ذلك الإمام إماما له يتقدم عليه وان كان المأموم أفضل منه
وفي صحيح مسلم وغيره عن أبي مسعود البدري أن النبي ﷺ قال يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا ولا يؤمن الرجل الرجل في سلكانه ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه فنهى النبي ﷺ أن يتقدم على الإمام ذي السلطان وإن كان المأموم أفضل منه
ولهذا قال العلماء إن الإمام الراتب لا يقدم عليه من هو أفضل منه
وكانت السنة أولا أن الأمير هو الذي يصلي بالناس وتنازع الفقهاء فيما إذا اجتمع صاحب البيت والمتولى أيهما يقدم على قولين كما تنازعوا في صلاة الجنازة هل يقدم الوالي أو الولي وأكثرهم قدم الوالي
ولهذا لما مات الحسن بن علي قدم أخوه الحسين بن علي أمير المدينة للصلاة عليه وقال لولا أنها السنة لما قدمتك والحسين أفضل من ذلك الأمير الذي أمره أن يصلي على أخيه لكن لما كان هو الأمير وقد قال النبي ﷺ لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه قدمه لذلك
وكان يقدم الأمير على من معه في المغازى كتقدمه في الصلاة وفي الحج لأنهم صلوا خلفه باختيارهم وحجوا معه مع أنه قد تتعين صلاتهم خلفه وحجهم معه إذا لم يكن للحج إلا أمير واحد وللصلاة إلا إمام واحد وكذلك من أراد الغزو وليس للغزو إلا أمير واحد خرج معه ولكن في الغزو لو يكن النبي ﷺ يأمر جميع الناس بالخروج في السرايا ولا يعين من يخرج بأسمائهم وأعيانهم بل يندبهم فيخرج من يختار الغزو ولهذا كان الخارجون يفضلون على القاعدين ولو كان الخروج معينا لكان كل منهم مطيعا لأمره بل قال تعالى لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجان منه ومغفره ورحمة وكان الله غفورا رحيما
فأسامة رضي الله عنه كان أميرا من أمراء السرايا وأمراء السرايا لم يكونوا يسمون خلفاء فإنهم لم يخلفوا رسول الله ﷺ بعد موته ولا خلفوه في مغيبه على شيء كان يباشره بل هو أنشأ لهم سفرا وعملا استعمل عليه رجلا منهم فهو متول عليه ابتداء لا خلافة عمن كان يعمله قبله وقد يسمى العمل على الأمصار والقرى خلافة ويسمى العمل مخلافا وهذه أمور لفظية تطلق بحسب اللغة والاستعمال
وقوله ومات ولم يعزله فأبو بكر أنفذ جيش أسامة رضي الله عنه بعد أن أشار الناس عليه برده خوفا من العدو وقال والله لا أحل راية عقدها رسول الله ﷺ مع أنه كان يملك عزله كما كان يملك ذلك رسول الله ﷺ لأنه قام مقامه فيعمل ما هو أصلح للمسلمين
وأما ما ذكره من غضب أسامة لما تولى أبو بكر فمن الأكاذيب السمجة فإن محبى أسامة رضي الله عنه لأبي بكر وطاعته له أشهر وأعرف من أن تنكر وأسامة من أبعد الناس عن الفرقة والاختلاف فإنه لم يقاتل لا مع علي ولا مع معاوية واعتزل الفتنة وأسامة لم يكن من قريش ولا ممن يصلح للخلافة ولا يخطر بقلبه أن يتولاها فأي فائدة له في أن يقول مثل هذا الثول لأي من تولى الأمر مع علمه أنه لا يتولى الأمر أحد إلا كان خليفة عليه ولو قدر أن النبي ﷺ أمره على أبي بكر ثم مات فبموته صار الأمر إلى الخليفة من بعده وإليه الأمر في إنفاذ الجيش أو حبسه وفي تأمير أسامة أو عزله وإذا قال أمرني عليك فمن استخلفك على قال من استخلفني على جميع المسلمين وعلى من هو أفضل منك وإذا قال أنا أمرني عليك قال أمرك على قبل أن استخلف فبعد أن صرت خليفة صرت أنا الأمير عليك كما لو قدر أن أبا بكر أمر علي عمر أحدا ثم مات أبو بكر وولي عمر صار عمر أميرا على من كان أميرا عليه وكذلك لو أمر عمر على عثمان أو على أو غيرهما أحدا ثم لما مات عمر صار هو الخليفة فإنه يصير أميرا على من كان هو أميرا عليه ولو قدرأن عليا كان أرسله النبي ﷺ وأمر عليه غيره كما أمر عليه أبا بكر لما أرسله ليحج بالناس سنة تسع ولحقه على فقال لعلي أنت أمير أو مأمور فقال بل مأمور فكان أبو بكر أميرا على على فلو قدر أن علي هو الخليفة لكان يصلح أميرا على أبي بكر
ومثل هذا لا ينكره إلا جاهل وأسامة أعقل وأتقى وأعلم من أن يتكلم بمثل هذا الهذيان لمثل أبي بكر
وأعجب من هذا قول هؤلاء المفترين إنه مشى هو وعمر إليه حتى استرضاه مع قولهم إنهما قهرا عليا وبنى هاشم وبني عبد مناف ولم يسترضياهم وهم أعز وأقولا وأكثر وأشرف من أسامه رضي الله عنه فأي حاجة بمن قهروا بني هاشم وبني أمية وسائر بني عبد مناف وبطون قريش والأنصار والعرب إلى أن يسترضوا أسامة بن زيد وهو من أضعف رعيتهم ليس له قبيلة ولا عشيرة ولا معه مال ولا رجال ولولا حب النبي ﷺ إياه وتقديمه له لم يكن إلا كأمثاله من الضعفاء
فإن قلتم إنهما استرضياه لحب النبي ﷺ له فأنتم تقولون إنهم بدلوا عهده وظلموا وصيه وفصبوه فمن عصى الأمر الصحيح وبدل العهد البين وظلم واعتدى وقهر ولم يلتفت إلى طاعة الله ورسوله ولم يرقب في آل محمد إلا ولا ذمة يراعى مثل أسامة ابن زيد ويسترضيه وهو قدر رد شهادة أم أيمن ولم يسترضها وأغضب به إلى استرضاء أسامة بن زيد وإنما يسترضى الشخص للدين أو للدنيا فإذا لم يكن عندهم دين يحملهم على استرضاء من يحب استرضاؤه ولا هم محتاجون في الدنيا إليه فأي داع يدعوهم إلى استرضائه ولا ه محتاجون في الدنيا إليه فأي داع يدعوهم إلى استرضائه والرافضة من جهلهم وكذبهم يتناقضون تناقضا كثيرا بينا إذ هم في قول مختلف يؤفك عنه من أفك
فصل
قال الرافضي وسموا عمر الفاروق ولم يسموا عليت عليه السلام بذلك مع أن رسول الله ﷺ قال فيه هذا فاروق أمتي يفرق بين أهل الحق والباطل وقال ابن عمر ما كنا نعرف المنافقين على عهد النبي ﷺ إلا ببغضهم عليا عليه السلام
فيقال أولا أما هذان الحديثان فلا يستريب أهل المعرفة بالحديث أنهما حديثان موضوعان مكذوبان على النبي ﷺ ولم يرو واحد منهما في شيء من كتب العلم المعتمدة ولا لواحد منهما إسناد معروف
ويقال ثانيا من احتج فس مسألة فرعية بحديث فلا بد له أن يسنده فكيف في مسائل أصول الدين وإلا فمجرد قول القائل قال رسول الله ﷺ ليس حجة باتفاق أهل العلم ولو كان حجة لكان كل حديث قال في واحد من أهل السنة قال رسول الله صلى اله عليه وسلم حجة ونحن نقنع في هذا الباب بأن يروى الحديث بإسناد معروفين بالصدق من أي طائفة كانوا
لكن إذا لم يكن الحديث له إسناد فهذا الناقل له وإن كان لم يكذبه بل نقله من كتاب غيره فذلك الناقل لم يعرف عمت نقله ومن المعروف كثرة الكذب في هذا الباب وغيره وفكيف يجز لأحد أن يشهد على رسول الله ﷺ بما لم يعرف إسناده
ويقال ثالثا من المعلوم لكل من له خبرة أن أهل الحديث أعظم الناس بحثا عن أقوال النبي ﷺ وكلبا لعلمها وأرغب الناس في اتباعها وأبعد الناس عن اتباع هوى يخالفها فلو ثبت عندهم أن النبي ﷺ قال لعلي هذا لم يكن أحد من الناس أولى منهم باتباع قوله فإنهم يتبعون قوله إيمانا به ومحبة لمتابعته لا لغرض لهم في الشخص الممدوح
ولهذا يذكرون ما ذكره النبي ﷺ من فضائل علي كما يذكرون ما قاله من فضائل عثمان كما يذكرون ما ذكره من فضائل الأنصار كما يذكرون ما ذكره من فضائل المهاجرين وفضائل بني إسماعيل وبني فارس ويذكرون فضائل بني هاشم ويذكرون ما ذكره من فضائل طلحة والزبير كما يذكرون ما ذكره من فضائل سعد بن أبي وقاص وأسامة بن زيد وما ذكره من فضائل الحسن والحسين ويذكرون ما ذكره من فضائل عائشة كما يذكرون ما ذكره من فضائل فاكمة وخديحة فهم في أهل الإسلام كأهل الإسلام في اهل الملل يدينون بكل رسول وكل كتاب لا يفرقون بين أحد من رسل الله ولم يكونوا من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا
فلو ثبت عندهم أن النبي ﷺ قال لعلي هذا فاروق أمتي لقبلوا ذلك ونقلوه كما نقلوا قوله لأبي عبيدة هذا أمين هذه الأمة وقوله للزبير إن لكل نبي حوارى وحوارى الزبير وكما قبلوا ونقلوا قوله لعلي لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله وحديث الكساء لما قال لعلي وفاطمة وحسن وحسين اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا وأمثال ذلك ويقال رابعا كل من الحديثين يعلم بالدليل أنه كذب لا يجوز نسبته إلى النبي ﷺ فإنه يقال ما المعنى بكون علي أو غيره فاروق الأمة يفرق بين الحق والباطل إن عنى بذلك أنه يميز بين أهل الحق وأهل الباطل فيميز بين المؤمنين والمنافقين فهذا أمر لا يقدر عليه أحد من البشر لا نبي ولا غيره وقد قال تعالى لنبيه وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم فإذا كان النبي ﷺ لا يعلم عين كان منافق في مدينته وفيما حولها فكيف يعلم ذلك غيره
وإن قيل إن يذكر صفات أهل الحق وأهل الباطل فالقران قد بين ذلك غاية البيان وهو الفرقان الذي فرق الله فيه بين الحق والباطل بلا ريب
وإن أريد بذلك أن من قاتل معه كان على الحق ومن قاتله كان على الباطل
فيقال هذا لو كان صحيحا لم يكن فيه إلا التمييز بين تلك الطائفة المعينة وحينئذ فأبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أولى بذلك لأنهم قاتلوا بالمؤمنين أهل الحق الكفار أهل الباطل فكان التمييز الذي حصل بفعلهم أكمل وأفضل فإنه لا يشك عاقل أن الذين قاتلهم الثلاثة كانوا أولى بالباطل ممن قاتلهم على وكلما كان العدو أعظم باطلا كان عدوه أولى بالحق
ولهذا كان أشد الناس عذابا يوم القيامة من قتل نبيا أو من قتله نبي وكان المشركون الذين باشروا الرسول ﷺ بالتكذيب والمعاداة كأبي لهب وأبي جهل شرا من غيرهم فإذا كان من قاتله الثلاثة أعزم باطلا كان الذين قاتلوهم أعظم حقا فيكونوا أولى بالفرقان بهذا الاعتبار
وإن قيل إنه فاروق لأن محبته هي المفرقة بين أهل الحق والباطل
قيل أولا هذا ليس من فعله حتى يكون هو به فاروقا
وقيل ثانيا بل محبة رسول الله ﷺ أعظم تفريقا بين أهل الحق والباطل باتفاق المسلمين
وقيل ثالثا لو عارض هذا معارض فجعل محبة عثمان هي الفارقة بين الحق والباطل لم تكن دعواه دون دعوى ذلك في على مع ما روى عن النبي ﷺ من قوله لما ذكر الفتنة هذا يومئذ وأصحابه على الحق وأما إذا جعل ذلك في أبي بكر وعمر فلا يخفى أنه أظهر في المقابلة ومن كان قوله مجرد دعوى أمكن مقابلته بمثله
وإن إريد بذلك مطلق دعوى المحبة دخل في ذلك الغالية كالمدعين لإلهيته ونبوته فيكون هؤلاء أهل حق وهذا كفر باتفاق المسلمين
وإن أريد بذلك المحبة المطلقة فالشأن فيها فأهل السنة يقولون نحن أحقها بها من الشيعة وذلك أن المحبة المتضمنة للغلو هي كمحبة اليهود لموسى والنصارى للمسيح وهي محبة باطلة وذلك أن المحبة الصحيحة أن يحب العبد ذلك المحبوب على ما هو عليه في نفس الأمر فلو اعتقد رجل في بعض الصالحين أنه نبي من الأنبياء أو أنه من السابقين الأولين فأحبه لكان قد أحب ما لا حقيقة له لأنه أحب ذلك الشخص بناء على أنه موصوف بتلك الصفة وهي باطلة فقد أحب معدوما لا موجودا كمن تزوج امرأة توهم أنها عظيمة المال والجمال والدين والحسب فأحبها ثم تبين أنها دون ما ظنه بكثير فلا ريب أن حبه ينقص بحسب نقص اعتقاده إذ الحكم إذا ثبت لعلة زال بزوالها
فاليهودي إذا أحب موسى بناء على أنه قال تمسكوا بالسبت ما دامت السموات والأرض وأنه نهى عن اتباع المسيح ومحمد ﷺ ولم يكن موسى كذلك فإذا تبين له حقيقة موسى ﷺ يوم القيامة علم أنه لم يكن يحب موسى على ما هو عليه وإنما أحب موصوفا بصفات لا وجود لها فكانت محبته باطلة فلم يكن مع موسى المبشر بعيسى المسيح ومحمد
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى اله عليه وسلم أنه قال المرء مع من أحب واليهودي لم يحب إلا ما لا وجود له في الخارج فلا يكون مع موسى المبشر بعيسى ومحمد ﷺ فإنه لم يحب موسى هذا والحب والإرادة ونحو ذلك يتبع العلم والاعتقاد فهو فرع الشعور فمن اعتقد باطلا فأحبه كان محبا لذلك الباكل وكانت محبته باطلة فلم تنفعه وهكذا من اعتقد في بشر الإلهية فأحبه لذلك كمن اعتقد إلاهية فرعون ونحوه أو أئمة الإسماعيلية أو اعتقد الإلاهية في بعض الشيوخ أو بعض أهل البيت أو في بعض الأنبياء أو الملائكة كالنصاري ونحوهم ومن عرف الحق فأحبه كان حبه لذلك الحق فكانت محبته من الحق فنفعته قال الله تعالى الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم والذين امنوا وعملوا الصالحات وامنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين امنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم وهكذا النصراني مع المسيح إذا أحبه معتقدا أنه إله وكان عبدا كان قد أحب ما لا حقيقة له فإذا تبين له أن المسيح عبد رسول لم يكن قد أحبه فلا يكون معه
وهكذا من أحب الصحابة والتابعين والصالحين معتقدا فيهم الباطل كانت محبته لذلك الباطل باطلة ومحبة الرافضة لعلي رضي الله عنه من هذا الباب فإنهم يحبون ما لم يوجد وهو الإمام المعصوم المنصوص على إمامته الذي لا إمام بعد النبي ﷺ إلا هو الذي كان يعتقد أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ظالمان معتديان أو كافران فإذا تبين لهم يوم القيامة إن عليا لم يكن أفضل من واحد من هؤلاء وإنما غايته أن يكون قريبا من أحدهم وإنه كان مقرا بإمامتهم وفضلهم ولم يكن معصوما لا هو ولا هم ولا كان منصوصا على إمامته تبين لهم أنه لم يكونوا يحبون عليت بل هم من أعظم الناس بغضا لعلي رضي الله عنه في الحقيقة فإنهم يبغضون من اتصف بالصفات التي كانت في علي أكمل منها في غيره من إثبات إمامة الثلاثة وتفضيلهم فإن عليا رضي الله عنه كان يفضلهم ويقر بإمامتهم فتبين أنهم مبغضون لعلي قطعا
وبهذا يتبين الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن علي رضي الله عنه أنه قال إنه لعهد النبي الأمي إلى أنه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق إن كان هذا مفوظا ثابتا عن النبي صلى اله عليه وسلم فإن الرافضة لا تحبه على ما هو عليه بل محبتهم من جنس محبة اليهود لموسى والنصارى لعيسى نعوت موسى وعيسى فإنهم يبغضون من أقر نبوة محمد ﷺ وكانا مقرين بها صلى الله عليهم أجمعين
وهكذا كل من أحب شيخا على أنه موصوف بصفات ولم يكن كذلك في نفس الأمر كمن اعتقد في شيخ أنه يشفع في مريديه يوم القيامة وأنه يرزقه وينصره ويفرج عنه الكريات ويجيبه في الضرورات كم اعتقد أن عنده خزائن الله أو أنه يعلم الغيب أو أنه ملك وهو ليس كذلك في نفس الأمر فقد أحب ما لا حقيقة له
وقول على رضي الله عنه في هذا الحديث لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق ليس من خصائصه بل قد ثبت في لصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال اية الإيمان حب الأنصار واية النفاق بغض الأنصار وقال لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الاخر وقال لا يحب الأنصار إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق وفي الحديث الصحيح حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ دعا له ولأمه أن يحببهما الله إلى عباده المؤمنين قال فلا تجد مؤمنا إلا يحبني وأمي
وهذا مما يبني به الفرق بي نهذا الحديث وبين الحديث الذي روى عن ابن عمر ما كنا نعرف المنافقين على عهد النبي ﷺ إلا ببغضهم عليا فإن هذا مما يعلم كل عالم أنه كذب لأن النفاق له علامان كثيرة وأسباب متعددة غير بغض على فكيف لا يكون على النفاق علامة إلا بغض على وقد قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح اية النفاق بغض الأنصار وقال في الحديث الصحيح اية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان
وقد قال تعالى في القران في صفة المنافقين ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا ومنهم الذين يؤذون النبي ومنهم من عاهد الله ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني فمنهم من يقول أيكم زادنه هذه إيمانا
وذكر لهم سبحانه وتعالى في سورة براءة وغيرها من العلامات والصفات ما لا يتسع هذا الموضع لبسطه
بل لو قال كنا نعرف المنافقين ببغض على لكان متوجها كما أنهم أيضا يعرفون ببغض الأنصار بل وببغض أبي بكر وعمر
وببغض هؤلاء فإن كل من أبغض ما يعلم أن النبي ﷺ يحبه ويواليه وأنه كان يحب النبي ﷺ ويواليه كان بغضه شعبة من شعب النفاق والدليل يطرد ولا ينعكس ولهذا كان أعظم الطوائف نفاقا المبغضين لأبي بكر لأنه لم يكن في الصحابة أحب إلى النبي ﷺ منه ولا كان فيهم أعظ حبا للنبي ﷺ منه فبعضه من أعظم ايات النفاق ولهذا لا يوجد المنافقون في طائفة أعظم منها في مبغضيه كالنصيرية والإسماعيلية وغيرهم
وإن قال قائل فالرافضة الذين يبغضونه يظنون أنه كان عدوا للنبي ﷺ لما يذكر لهم من الأخبار التي تقتضي أنه كان يبغض النبي ﷺ وأهل بيته فأبغضوه لذلك
قيل إن كان هذا عذرا يمنع نفاق الذين يبغضونه جهلا وتأويلا فكذلك المبغضون لعلي الذين اعتقدوا أنه كافر مرتد أو ظالم فاسق فأبغضوه لبغضه لدين الإسلام أو لما أحبه الله وأمر به من العدل ولاعتقادهم أنه قتل المؤمنين بغير حق وأراد علوا في الأرض وفسادا وكان كفرعون ونحوه فإن كانوا جهالا فليسوا بأجهل ممن اعتقد في عمر أنه فرعون هذه الأمة فإن لم يكن بغض أولئك لأبي بكر وعمر نفاقا لجهلهم وتأويلهم فكذلك بغض هؤلاء لعلي بطريق الأولى والأحرى وإن كان بغض على نفاقا وإن كان المبغض جاهلا متأولا فبغض أبي بكر وعمر أولى أن يكون نفاقا حينئذ وإن كان المبغض جاهلا متأولا
فصل
قال الرافضي وأعظموا أمر عائشة علي باقي نسوانه مع أنه عليه لسلام كان يكثر من ذكر خديجة بنت خويلد وقالت له عائشة إنك تكثر من ذكرها وقد أبدلك الله خيرا منها فقال والله ما بدلت بها ما هو خير منها صدقتني إذ كذبني الناس واوتني إذ طردني الناس وأسعدتني بمالها ورزقني الله الولد منها ولم أرزق من غيرها
والجواب أولا أن يقال إن أهل السنة ليسوا مجمعين على أن عائشة أفضل نسائه بل قد ذهب إلى ذلك كثير من أهل السنة واحتجوا بما في الصحيحين عن أبي موسى وعن أنس رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام والثريد هو أفضل الأطعمة لأنه خبز ولحم كما قال الشاعر
إذا ما الخبز تأدمه بلحم ... فذاك أمانة الله الثريد
وذلك أن البر أفضل الأقوات واللحم أفضل الادام كما في الحديث الذي رواه ابن قتيبة وغيره عن النبي ﷺ أنه قال سيد إدام أهل الدنيا والاخرة اللحم فإذا كان اللحم سيد الادام والبر سيد الأثوات ومجموعهما الثريد كان الثريد أفضل الطعام وقد صح من غير وجه عن الصادق المصدوق أنه قال فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام
وفي الصحيح عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله أي الناس أحب إليك قال عائشة قلت من الرجال قال أبوها قلت ثم من قال عمر وسمة رجالا
وهؤلاء يقولون قوله لخديجه ما أبدلني الله بخير منها إن صح معناه ما أبدلني بخير لي منها لأن خديجة نفعته في أول الإسلام نفعا لم يقم غيرها فيه مقامها فكانت خيرا له من هذا الوجه لكونها نفعته وقت الحاجة لكن عائشة صحبته في اخر النبوة وكمال الدين فحصل لها ن العلم والإيمان ما لم يحصل لمن لم يدرك إلا أول زمن النبوة فكانت أفضل بهذه الزيادة فإن الأمة انتفعت بها أكثر مما انتفعت يغيرها وبلغت من العلم والسنة ما لم يبلغه غيرها فخديجة كان خيرها مقصورا على نفس النبي ﷺ لم تبغ عنه شيئا ولم تنتفع بها الأمة كما انتفعوا بعائشة ولا كان الدين قد كمل حتى تعلمه ويحصللها من كمال الإيمان به ما حصل لمن علمه وامن به بعد كماله ومعلوم أن من اجتمع همه على شيء واحد كان أبلغ فيه ممن تفرق همه في أعمال متنوعة فخديجة رضي الله تعالى عنها خير له من هذا الوجه ولكن أنواع البر لم تنحصر في ذلك ألا ترى أن من كان من الصحابة أعظم إيمانا وأكثر جهادا بنفسه ومال كحمزة أن من كان من الصحابة أعظم إيمانا وأكثر جهادا بنفسه وماله كحمزة وعلي وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير وغيرهم هم أفضل ممن كان يخدم النبي ﷺ وينفعه في نفسه أكثر منهم كأبي رافع وأنس بن مالك وغيرهما
وفي الجملة الكلام في تفضيل عائشة وخديجة ليس هذا موضع استقصائه لكن المقصود هنا أن أهل السنة مجمعون على تعظيم عائشة ومحبتها وأن نساءه أمهات المؤمنين اللاتي مات عنهن كانت عائشة أحبهن إليه وأعلمهن وأعظمهن حرمة عند المسلمين
وقد ثبت في الصحيح أن الناس كانوا يتحرون بهداياهم يوم عائشة لما يعلمون من حبه إياها حتى أن نساءه غرن من ذلك وأرسلن إليه فاطمة رضي الله عنها فقلن له نسألك العدل في ابنة أبي قحافة فقال لفاطمة أي بنية ألا تحبين ما أحب قالت بلى قال فأحبى هذه الحديث وهو في الصحيحين
وفي الصحيحين أيضا أن النبي ﷺ قال يا عائش هذا جبريل يقرأ عليك السلام فقالت وعليه السلام ورحمة الله وبركاته ترى ما لا نرى ولما أراد فراق سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة رضي الله عنها بإذنه ﷺ وكان في مرضه الذي مات فيه يقول أين أنا اليوم استبطاء ليوم عائشة ثم استأذن نساءه أن يمرض في بيت عائشة رضي الله عنها فمرض فيه وفي بيتها توفى بين سحرها ونحرها وفي حجرها وجمع الله بين ريقه وريقها
وكانت رضي الله تنها مباركة على أمته حتى قال أسيد بن حضير لما أنزل الله اية التيمم بسببها ما هي بأول بركتكم يا ال أبي بكر ما نزل بك أمر قط تكرهينه إلا جعل الله في للمسلمين بركة
وكان قد نزلت ايات برائتها قبل ذلك لما رماها أهل الإفك فبرأها اله من فوق سبع سماوات وجعلها من الطيبات
فصل
قال الرافض وأذاعت سر رسول الله ﷺ وقال لها النبي ﷺ إنك تقاتلين عليا وأنت ظالمة له ثم إنها خالفت أمر الله في قوله تعالى وقرن في بيوتكن وخرجت في ملأ من الناس لتقاتل عليا على غير ذنب لأن المسلمين أجمعوا على قتل عثمان وكانت هي في كل وقت تأمر بقتله وتقول اقتلوا نعثلا قتل الله نعثلا لما بلغها قتله فرحت بذلك ثم سألت من تولى الخلافة فقالوا على فخرجت لتقاله على دم عثمان فأي ذنب كان لعلي على ذلك وكيف استجاز طلحة والبير وغيرهما مطاوعتها على ذلك وبأي وجه يلقون رسول الله ﷺ مع أن الواحد منا لو تحدث مع امرأة غيره وأخرجها من منزلها أو سافر بها كان أشد الناس عداوة له وكيف أطاعها على ذلك عشرات ألوف من المسلمين وساعدوها على حرب أمير المؤمنين ولم ينصر أحد منهم بنت رسول الله ﷺ لما طلبت حقها من أبي بكر ولا شخص واحد كلمه بكلمة واحدة
والجواب أن يقال أما أهل السنة فإنهم في هذا الباب وغيره قائمون بالقسط شهداء لله وقولهم حق وعدل لا يناقض وأما الرافضة وغيرهم من أهل البدع ففي أقوالهم من الباطل والتناقض ما ننبه إن شاء الله تعالى على بعضه وذلك أن أهل السنة عندهم أن أهل بدر كلهم في الجنة وكذلك أمهات المؤمنين عائشة وغيرها وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير هم سادات أهل الجنة بعد الأنبياء. وأهل السنة يقولون إن أهل الجنة ليس من شرطهم سلامتهم عن الخطأ بل ولا عن الذنب بل يجوز أن يذنب الرجل منهم ذنبا صغيرا أو كبيرا ويتوب منه وهذا متفق عليه بين المسلمين ولو لم يتب منه فالصغائر مغفورة باجتناب الكبائر عند جماهيرهم بل وعند الأكثرين منهم أن الكبائر قد تمحى بالحسنات التي هي أعظم منها وبالمصائب المكفرة وغير ذلك
وإذا كان هذا أصلهم فيقولون ما يذكر عن الصحابة من السيئات كثير منه كذب وكثير منه كانوا مجتهدين فيه ولكن لم يعرف كثير من الناس وجه اجتهادهم وما قدر أنه كان فيه ذنب من الذنوب لهم فهو مغفور لهم إما بتوبة وإما بحسنات ماحية وإما بمصائب مكفرة وإما بغير ذلك فإنه قد قام الدليل الذي يجب القول بموجبه إنهم من أهل الجنة فامتنع أن يفعلوا ما يوجب النار لا محالة وإذا لم يمت أحد منهم على موجب النار لم يقدح ما سوى ذلك في استحقاقهم للجنة ونحن قد علمنا أنهم من أهل الجنة ولو لم يعلم أن أولئك المعينين في الجنة لم يجز لنا أن نقدح في استحقاقهم للجنة بأمور لا نعلم أنها توجب النار فإن هذا لا يجوز في آحاد المؤمنين الذين لم يعلم أنهم يدخلون الجنة ليس لنا أن نشهد لأحد منهم بالنار لأمور محتملة لا تدل على ذلك فكيف يجوز مثل ذلك في خيار المؤمنين والعلم بتفاصيل أحوال كل واحد واحد منهم باطنا وظاهرا وحسناته وسيئاته واجتهاداته أمر يتعذر علينا معرفته فكان كلامنا في ذلك كلاما فيما لا نعلمه والكلام بلا علم حرام فلهذا كان الإمساك عما شجر بين الصحابة خيرا من الخوض في ذلك بغير علم بحقيقة الأحوال إذ كان كثير من الخوض في ذلك أو أكثره كلاما بلا علم وهذا حرام لو لم يكن فيه هوى ومعارضة الحق المعلوم فكيف إذا كان كلاما بهوى يطلب فيه دفع الحق المعلوم وقد قال النبي ﷺ القضاة ثلاثة قاضيان في النار وقاض في الجنة رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار. فإذا كان هذا في قضاء بين اثنين في قليل المال أو كثيره فكيف بالقضاء بين الصحابة في أمور كثيرة
فمن تكلم في هذا الباب بجهل أو بخلاف ما يعلم من الحق كان مستوجبا للوعيد ولو تكلم بحق لقصد اتباع الهوى لا لوجه الله تعالى أو يعارض به حقا آخر لكان أيضا مستوجبا للذم والعقاب ومن علم ما دل عليه القرآن والسنة من الثناء على القوم ورضا الله عنهم واستحقاقهم الجنة وأنهم خير هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس لم يعارض هذا المتيقن المعلوم بأمور مشتبهة منها ما لا يعلم صحته ومنها ما يتبين كذبه ومنها ما لا يعلم كيف وقع ومنها ما يعلم عذر القوم فيه ومنها ما يعلم توبتهم منه ومنها ما يعلم أن لهم من الحسنات ما يغمره فمن سلك سبيل أهل السنة استقام قوله وكان من أهل الحق والاستقامة والاعتدال وإلا حصل في جهل وكذب وتناقض كحال هؤلاء الضلال
وأما قوله وأذاعت سر رسول الله ﷺ فلا ريب أن الله تعالى يقول وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير
وقد ثبت في الصحيح عن عمر أنهما عائشة وحفصة
فيقال أولا هؤلاء يعمدون إلى نصوص القرآن التي فيها ذكر ذنوب ومعاص بينة لمن نصت عنه من المتقدمين يتأولون النصوص بأنواع التأويلات وأهل السنة يقولون بل أصحاب الذنوب تابوا منها ورفع الله درجاتهم بالتوبة
وهذه الآية ليست بأولى في دلالتها على الذنوب من تلك الآيات فإن كان تأويل تلك سائغا كان تأويل هذه كذلك وإن كان تأويل هذه باطلا فتأويل تلك أبطل
ويقال ثانيا بتقدير أن يكون هناك ذنب لعائشة وحفصة فيكونان قد تابتا منه وهذا ظاهر لقوله تعالى إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما فدعاهما الله تعالى إلى التوبة فلا يظن بهما أنهما لم يتوبا مع ما ثبت من علو درحتهما وأنهما زوجتا نبينا في الجنة وأن الله خيرهن بين الحياة الدنيا وزينتها وبين الله ورسوله والدار الاخرة فاخترن الله ورسوله والدار الاخرة ولذلك حرم الله عليه أن يتبدل بهن غيرهن وحرم عليه أن يتزوج عليهن واختلف في إباحة ذلك له بعد ذلك ومات عنهن وهن أمهات المؤمنين بنص القران ثم قد تقدم أن الذنب يغفر وعفى عنه بالتوبة وبالحسنات الماحية وبالمصائب المكفرة
ويقال ثالثا المذكور عن أزواجه كالمذكور عمن شهد له بالجنة من أهل بيته وغيرهم من الصحابة فإن عليا لما خطب ابنة أبي جهل على فاطمة وقام النبي ﷺ خطيبا فقال إن بني المغيرة استأذنوني أن ينكحوا عليا ابنتهم وإني لا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي ويتزوج ابنتهن إنما فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها. فلا يظن بعلي رضي الله عنه أنه ترك الخطبة في الظاهر فقط بل تركها بقلبه وتاب بقلبه عما كان طلبه وسعى فيه
وكذلك لما صالح النبي ﷺ المشركين يوم الحديبية وقال لأصحابه انحروا واحلقوا رؤوسكم فلم يقم أحد فدخل مغضبا على أم سلمة فقالت من أغضبك أغضبه الله فقال ما لي لا أغضب وأنا آمر بالأمر فلا يطاع فقالت يا رسول الله ادع بهديك فانحره وأمر الحلاق فليحلق رأسك. وأمر عليا أن يمحو اسمه فقال والله لا أمحوك فأخذ الكتاب من يده ومحاه. فمعلوم أن تأخر علي وغيره من الصحابة عما أمروا به حتى غضب النبي ﷺ إذا قال القائل هذا ذنب كان جوابه كجواب القائل إن عائشة أذنبت في ذلك فمن الناس من يتأول ويقول إنما تأخروا متأولين لكونهم كانوا يرجون تغيير الحال بأن يدخلوا مكه وآخر يقول لو كان لهم تأويل مقبول لم يغضب النبي ﷺ بل تابوا من ذلك التأخير ورجعوا عنه مع أن حسناتهم تمحو مثل هذا الذنب وعلي داخل في هؤلاء رضي الله عنهم أجمعين
وأما الحديث الذي رواه وهو قوله لها تقاتلين عليا وأنت ظالمة له فهذا لا يعرف في شيء من كتب العلم المعتمدة ولا له إسناد معروف وهو بالموضوعات المكذوبات أشبه منه الأحاديث الصحيحة بل هو كذب قطعا فإن عائشة لم تقاتل ولم تخرج لقتال وإنما خرجت لقصد الإصلاح بين المسلمين وظنت أن في خروجها مصلحة للمسلمين ثم تبين لها فيما بعد أن ترك الخروج كان أولى فكانت إذا ذكرت خروجها تبكي حتى تبل خمارها
وهكذا عامة السابقين ندموا على ما دخلوا فيه من القتال فندم طلحة والزبير وعلي رضي الله عنهم أجمعين ولم يكن يوم الجمل لهؤلاء قصد في الاقتتال ولكن وقع الاقتتال بغير اختيارهم فإنه لما تراسل علي وطلحة والزبير وقصدوا الاتفاق على المصلحة وأنهم إذا تمكنوا طلبوا قتلة عثمان أهل الفتنة وكان علي غير راض بقتل عثمان ولا معينا عليه كما كان يحلف فيقول والله ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله وهو الصادق البار في يمينه فخشى القتلة أن يتفق علي معهم على إمساك القتلة فحملوا على عسكر طلحة والزبير فظن طلحة والزبير أن عليا حمل عليهم فحملوا دفعا عن أنفسهم فظن علي أنهم حملوا عليه فحمل دفعا عن نفسه فوقعت الفتنة بغير اختيارهم وعائشة رضي الله عنها راكبة لا قاتلت ولا أمرت بالقتال هكذا ذكره غير واحد من أهل المعرفة بالأخبار
وأما قوله وخالفت أمر الله في قوله تعالى وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى فهي رضي الله عنها لم تتبرج تبرج الجاهلية الأولى والأمر بالاستقرار في البيوت لا ينافي الخروج لمصلحة مأمور بها كما لو خرجت للحج والعمرة أو خرجت مع زوجها في سفرة فإن هذه الآية قد نزلت في حياة النبي ﷺ وقد سافر بهن رسول الله ﷺ بعد ذلك كما سافر في حجة الوداع بعائشة رضي الله عنها وغيرها وأرسلها مع عبد الرحمن أخيها فأردفها خلفه وأعمرها من التنعيم. وحجة الوداع كانت قبل وفاة النبي ﷺ بأقل من ثلاثة أشهر بعد نزول هذه الآية ولهذا كان أزواج النبي ﷺ يحججن كما كن يحججن معه في خلافة عمر رضي الله عنه وغيره وكان عمر يوكل بقطارهن عثمان أو عبد الرحمن بن عوف وإذا كان سفرهن لمصلحة جائزا فعائشة اعتقدت أن ذلك السفر مصلحة للمسلمين فتأولت في ذلك
وهذا كما أن قول الله تعالى يا أيها الذين امنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وقوله ولا تقتلوا أنفسكم يتضمن نهي المؤمنين عن قتل بعضهم بعضا كما في قوله ولا تلمزوا أنفسكم وقوله لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا
وكذلك قول النبي ﷺ إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومك هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا وقوله ﷺ إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قيل يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول قال كان حريصا على قتل صاحبه
فلو قال قائل إن عليا ومن قاتله قد التقيا بسيفهما وقد استحلوا دماء المسلمين فيجب أن يلحقهم الوعيد لكان جوابه أن الوعيد لا يتناول المجتهد المتأول وإن كان مخطئا فإن الله تعالى يقول في دعاء المؤمنين ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، قال قد فعلت. فقد عفي للمؤمنين عن النسيان والخطأ والمجتهد المخطىء مغفور له خطؤه وإذا غفر خطأ هؤلاء في قتال المؤمنين فالمغفره لعائشة لكونها لم تقر في بيتها إذ كانت مجتهدة أولى
وأيضا قلو قال قائل إن النبي ﷺ قال إن المدينة تنفي خبثها وينصع طيبها وقال لا يخرج أحد من المدينة رغبة عنها إلا أبدلها الله خيرا منه أخرجه في الموطأ كما في الصحيحين عن زيد بن ثابت عن النبي ﷺ قال إنها طيبة يعني المدينة وإنها تنفي الرجال كما تنفي النار خبث الحديد وفي لفظ تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة، وقال إن عليا خرج عنها ولم يقم بها كما أقام الخلفاء قبله ولهذا لم تجتمع عليه الكلمة، لكان الجواب أن المجتهد إذا كان دون علي لم يتناوله الوعيد فعلي أولى أن لا تناوله الوعيد لاجتهاده وبهذا يجاب عن خروج عائشة رضي الله عنها وإذا كان المجتهد مخطئا فالخطأ مغفور بالكتاب والسنة
وأما قوله إنها خرجت في ملأ من الناس تقاتل عليا على غير ذنب، فهذا أولا كذب عليها فإنها لم تخرج لقصد القتال ولا كان أيضا طلحة والزبير قصدهما قتال علي ولو قدر أنهم قصدوا القتال فهذا هو القتال المذكور في قوله تعالى { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفىء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم } فجعلهم مؤمنين إخوة مع الاقتتال وإذا كان هذا ثابتا لمن هو دون أولئك المؤمنين فهم به أولى وأحرى
وأما قوله إن المسلمين أجمعوا على قتل عثمان، فجوابه من وجوه أحدها أن يقال أولا هذا من أظهر الكذب وأبينه فإن جماهير المسلمين لم يأمروا بقتله ولا شاركوا في قتله ولا رضوا بقتله
أما أولا فلأن أكثر المسلمين لم يكونوا بالمدينة بل كانوا بمكة واليمن والشام والكوفة والبصرة ومصر وخراسان وأهل المدينة بعض المسلمين
وأما ثانيا فلأن خيار المسلمين لم يدخل واحد منهم في دم عثمان لا قتل ولا أمر بقتله وإنما قتله طائفة من المفسدين في الأرض من أوباش القبائل وأهل الفتن وكان علي رضي الله عنه يحلف دائما إني ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله ويقول اللهم العن قتلة عثمان في البر والبحر والسهل والجبل وغاية ما يقال إنهم لم ينصروه حق النصرة وأنه حصل نوع من الفتور والخذلان حتى تمكن أولئك المفسدون، ولهم في ذلك تأويلات وما كانوا يظنون أن الأمر يبلغ إلى ما بلغ ولو علموا ذلك لسدوا الذريعة وحسموا مادة الفتنة
ولهذا قال تعالى واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة فإن الظالم يظلم فيبتلى الناس بفتنة تصيب من لم يظلم فيعجز عن ردها حينئذ بخلاف ما لو منع الظالم ابتداء فإنه كان يزول سبب الفتنة
الثاني أن هؤلاء الرافضة في غاية التناقض والكذب فإنه من المعلوم أن الناس أجمعوا على بيعة عثمان ما لم يجمعوا على قتله فإنهم كلهم بايعوه في جميع الأرض فإن جاز الاحتجاج بالإجماع الظاهر فيجب أن تكون بيعته حقا لحصول الإجماع عليها وإن لم يجز الاحتجاع به بطلت حجتهم بالإجماع على قتله لا سيما ومن المعلوم أنه لم يباشر قتله إلا طائفة قليلة ثم إنهم ينكرون الإجماع على بيعته ويقولون إنما بايع أهل الحق منهم خوفا وكرها ومعلوم أنهم لو اتفقوا كلهم على قتله وقال قائل كان أهل الحق كارهين لقتله لكن سكتوا خوفا وتقية على أنفسهم لكان هذا أقرب إلى الحق لأن العادة قد جرت بأن من يريد قتل الأئمة يخيف من ينازعه بخلاف من يريد مبايعته الأئمة فإنه لا يخيف المخالف كما يخيف من يريد قتله فإن المريدين للقتل أسرع إلى الشر وسفك الدماء وإخافة الناس من المريدين للمبايعة
فهذا لو قدر أن جميع الناس ظهر منهم الأمر بقتله فكيف وجمهورهم أنكروا قتله ودافع عنه من دافع في بيته كالحسن بن علي وعبد الله بن الزبير وغيرهما
وأيضا فإجماع الناس على بيعة أبي بكر أعظم من إجماعهم على بيعة علي وعلى قتل عثمان وعلى غير ذلك فإنه لم يتخلف عنها إلا نفر يسير كسعد بن عبادة وسعد قد علم سبب تخلفه والله يغفر له ويرضى عنه وكان رجلا صالحا من السابقين الأولين من الأنصار من أهل الجنة كما قالت عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك لما أخذ يدافع عن عبد الله بن أبي رأس المنافقين قالت وكان قبل ذلك رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية
وقد قلنا غير مرة إن الرجل الصالح المشهود له بالجنة قد يكون له سيئات يتوب منها أو تمحوها حسناته أو تكفر عنه بالمصائب أو بغير ذلك فإن المؤمن إذا أذنب كان لدفع عقوبة النار عنه عشرة أسباب ثلاثة منه وثلاثة من الناس وأربعة يبتديها الله التوبة والاستغفار والحسنات الماحية ودعاء المؤمنين له وإهداؤهم العمل الصالح له وشفاعة نبينا ﷺ والمصائب المكفرة في الدنيا وفي البرزخ وفي عرصات القيامة ومغفرة الله له بفضل رحمته
والمقصود هنا أن هذا الإجماع ظاهر معلوم فكيف يدعى الإجماع على مثل قتل عثمان من ينكر مثل هذا الإجماع بل من المعلوم أن الذين تخلفوا عن القتال مع على من المسلمين أضعاف الذين أجمعوا على قتل عثمان فإن الناس كانوا في زمن علي على ثلاثة أصناف صنف قاتلوا معه وصنف قاتلوه وصنف لا قاتلوه ولا قاتلوا معه وأكثر السابقين الأولين كانوا من هذا الصنف ولو لم يكن تخلف عنه إلا من قاتل مع معاوية رضي الله عنه فإن معاوية ومن معه لم يبايعوه وهم أضعاف الذين قتلوا عثمان أضعافا مضاعفة والذين أنكروا قتل عثمان أضعاف الذين قاتلوا مع علي فإن كان قول القائل إن الناس أجمعوا على قتال علي باطلا فقوله إنهم أجمعوا على قتل عثمان أبطل وأبطل
وإن جاز أن يقال إنهم أجمعوا على قتل عثمان لكون ذلك وقع في العالم ولم يدفع فقول القائل إنهم أجمعوا على قتال علي أيضا والتخلف عن بيعته أجوز وأجوز فإن هذا وقع في العالم ولم يدفع
وإن قيل إن الذين كانوا مع علي لم يمكنهم إلزام الناس بالبيعة له وجمعهم عليه ولا دفعهم عن قتاله فعجزوا عن ذلك
قيل والذين كانوا مع عثمان لما حصر لم يكنهم أيضا دفع القتال عنه
وإن قيل بل أصاب علي فرطوا وتخاذلوا حتى عجزوا عن دفع القتال أو قهر الذين قاتلوه أو جمع النار عليه
قيل والذين كانوا مع عثمان فرطوا وتخاذلوا حتى تمكن منه أولئك.
ثم دعوى المدعى الإجماع على قتل عثمان مع ظهور الإنكار من جماهير الأمة له وقيامهم في الانتصار له والانتقام ممن قتله أظهر كذبا من دعوى المدعى إجماع الأئمة على قتل الحسين رضي الله عنه
فلو قال قائل إن الحسين قتل بإجماع الناس لأن الذين قاتلوه وقتلوه لم يدفعهم أحد من ذلك لم يكن كذبه بأظهر من كذب المدعي للإجماع على قتل عثمان فإن الحسين رضي الله عنه لم يعظم إنكار الأمة لقتله كما عظم إنكارهم لقتل عثمان ولا انتصر له جيوش كالجيوش الذين انتصرت لعثمان ولا انتقم أعوانه من أعدائه كما انتقم أعوان عثمان من أعدائه ولا حصل بقتله من الفتنة والشر والفساد ما حصل بقتل عثمان ولا كان قتله أعظم إنكارا عند الله وعند رسوله وعند المؤمنين من قتل عثمان فإن عثمان من أعيان السابقين الأولين من المهاجرين من طبقة علي وطلحة والزبير وهو خليفة للمسلمين أجمعوا على بيعته بل لم يشهر في الأمة سيفا ولا قتل على ولايته أحدا وكان يغزو بالمسلمين الكفار بالسيف وكان السيف في خلافته كما كان في خلافة أبي بكر وعمر مسلولا على الكفار مكفوفا عن أهل القبلة ثم إنه طُلِب قتله وهو خليفة فصبر ولم يقاتل دفعا عن نفسه حتى قتل ولا ريب أن هذا أعظم أجرا وقتله أعظم إثما ممن لم يكن متوليا فخرج يطلب الولاية ولم يتمكن من ذلك حتى قاتله أعوان الذين كلب أخذ الأمر منهم فقاتل عن نفسه حتى قتل
ولا ريب أن قتال الدافع عن نفسه وولايته أقرب من قتال الطالب لأن يأخذ الأمر من غيره وعثمان ترك القتال دفعا عن ولايته فكان حاله أفضل من حال الحسين وقتله أشنع من قتل الحسين كما أن الحسن رضي الله عنه لما لم يقاتل على الأمر بل أصلح بين الأمة بتركه القتال مدحه النبي ﷺ على ذلك فقال إن ابنه هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين
والمنتصرون لعثمان معاوية وأهل الشام والمنتصرون من قتلة الحسين المختار بن أبي عبيد الثقفي وأعوانه ولا يشك عاقل أن معاوية رضي الله عنه خير من المختار فإن المختار كذاب ادعى النبوة وقد ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ قال يكون في ثقيف كذاب ومبير فالكذاب هو المختار والمبير هو الحجاج بن يوسف. وهذا المختار كان أبوه رجلا صالحا وهو أبو عبيد الثقفي الذي قتل شهيدا في حرب المجوس وأخته صفية بنت أبي عبيد امرأة عبد الله ابن عمر امرأة صالحة وكان المختار رجل سوء
وأما قوله إن عائشة كانت في كل وقت تأمر بقتل عثمان وتقول في كل وقت اقتلوا نعثلا قتل الله نعثلا ولما بلغها قتله فرحت بذلك، فيقال له أولا أين النقل الثابت عن عائشة بذلك
ويقال ثانيا المنقول الثابت عنها يكذب ذلك ويبين أنها أنكرت قتله وذمت من قتله ودعت على أخيها محمد وغيره لمشاركتهم في ذلك
ويقال ثالثا هب أن واحدا من الصحابة عائشة أو غيرها قال في ذلك على وجه الغضب إنكاره بعض ما ينكر فليس قوله حجة ولا يقدح ذلك لا في إيمان القائل ولا المقول له بل قد يكون كلاهما وليا لله تعالى من أهل الجنة ويظن أحدهما جواز قتل الاخر بل يظن كفره وهو مخطىء في هذا الظن
كما ثبت في الصحيحين عن علي وغيره في قصة حاطب بن أبي بلتعة وكان من أهل بدر والحديبية وقد ثبت في الصحيح أن غلامه قال يا رسول الله والله ليدخلن حاطب النار فقال له النبي ﷺ كذبت إنه قد شهد بدرا والحديبية وفي حديث علي أن حاطبا كتب إلى المشركين يخبرهم ببعض أمر رسول الله ﷺ لما أراد غزوة الفتح فأطلع الله نبيه على ذلك فقال لعلي والزبير اذهبا حتى تأتيا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فلما أتيا بالكتاب قال ما هذا يا حاطب فقال والله يا رسول الله ما فعلت هذا ارتدادا ولا رضا بالكفر ولكن كنت امرءا ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسهم وكان من معك من المهاجرين لهم بمكة قرابات يحمون بها أهليهم فأحببت إذا فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي فقال عمر رضي الله عنه دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال إنه شهد بدرا وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم وأنزل الله تعالى أول سورة الممتحنة يا أيها الذين امنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلفون إليهم بالمودة وهذه القصة مما اتفق أهل العلم على صحتها وهي متواترة عندهم معروفة عند علماء التفسير وعلماء الحديث وعلماء المغازي والسير والتواريخ وعلماء الفقه وغير هؤلاء وكان علي رضي الله عنه يحدث بهذا الحديث في خلافته بعد الفتنة وروى عنه كاتبه عبدالله بن أبي رافع ليبين لهم أن السابقين مغفور لهم ولو جرى منهم ما جرى
فإن عثمان وعليا وطلحة والزبير أفضل باتفاق المسلمين من حاطب ابن أبي بلتعة وكان حاطب مسيئا إلى مماليكه وكان ذنبه في مكاتبة المشركين وإعانتهم على النبي ﷺ وأصحابه أعظم من الذنوب التي تضاف إلى هؤلاء ومع هذا فالنبي ﷺ نهى عن قتله وكذب من قال إنه يدخل النار لأنه شهد بدرا والحديبية وأخبر بمغفرة الله لأهل بدر ومع هذا فقد قال عمر رضي الله عنه دعني أضرب عنق هذا المنافق فسماه منافقا واستحل قتله ولم يقدح ذلك في إيمان واحد منهما ولا في كونه من أهل الجنة
وكذلك في الصحيحين وغيرهما في حديث الإفك لما قام النبي ﷺ خطيبا على المنبر يعتذر من رأس المنافقين عبد الله بن أبَي فقال من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي والله ما علمت على أهلي إلا خيرا ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا فقام سعد بن معاذ سيد الأوس وهو الذي اهتز لموته عرش الرحمن وهو الذي كان لا تأخذه في الله لومة لائم بل حكم في حلفائه من بني قريظة بأن يقتل مقاتلهم وتسبى ذراريهم وتغنم أموالهم حتى قال النبي ﷺ لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة فقال يا رسول الله نحن نعذرك منه إن كان من إخواننا من الأوس ضربنا عنقه وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك فقام سعد بن عبادة فقال كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله فقام أسيد بن حضير فقال كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين وكادت تثور فتنة بين الأوس والخزرج حتى نزل النبي ﷺ وخفضهم
وهؤلاء الثلاثة من خيار السابقين الأولين وقد قال أسيد بن حضير لسعد بن عبادة إنك منافق تجادل عن المنافقين وهذا مؤمن ولي لله من أهل الجنة وذاك مؤمن ولي الله من أهل الجنة فدل على أن الرجل قد يكفر آخر بالتأويل ولا يكون واحد منهما كافرا
وكذلك في الصحيحين حديث عتبان بن مالك لما أتى النبي ﷺ منزله في نفر من أصحابه فقام يصلي وأصحابه يتحدثون بينهم ثم أسندوا عظم ذلك إلى مالك بن الدخشم وودوا أن النبي ﷺ دعا عليه فيهلك فقضى رسول الله ﷺ صلاته وقال أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله قالوا بلى وإنه يقول ذلك وما هو في قلبه فقال لا يشهد أحد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فيدخل النار أو تطعمه
وإذا كان ذلك فإذا ثبت أن شخصا من الصحابة إما عائشة وإما عمار بن ياسر وإما غيرهما كفر آخر من الصحابة عثمان أو غيره أو أباح قتله على وجه التأويل كان هذا من باب التأويل المذكور ولم يقدح ذلك في إيمان واحد منهما ولا في كونه من أهل الجنة فإن عثمان وغيره أفضل من حاطب بن أبي بلتعة وعمر أفضل من عمار وعائشة وغيرهما وذنب حاطب أعظم فإذا غفر لحاطب ذنبه فالمغفرة لعثمان أولى وإذا جاز أن يجتهد مثل عمر وأسيد بن حضير في التكفير أو استحلال القتل ولا يكون ذلك مطابقا فصدور مثل ذلك من عائشة وعمار أولى
ويقال رابعا إن هذا المنقول عن عائشة من القدح في عثمان إن كان صحيحا فإما أن يكون صوابا أو خطأ فإن كان صوابا لم يذكر في مساوىء عائشة وإن كان خطأ لم يذكر في مساوىء عثمان والجمع بين نقص عائشة وعثمان باطل قطعا وأيضا فعائشة ظهر منها من التألم لقتل عثمان والذم لقتلته وطلب الانتقام منهم ما يقتضي الندم على ما ينافي ذلك كما ظهر منها الندم على مسيرها إلى الجمل فإن كان ندمها على ذلك يدل على فضيلة علي واعترافعها له بالحق فكذلك هذا يدل على فضيلة عثمان واعترافها له بالحق وإلا فلا
وأيضا فما ظهر من عائشة وجمهور الصحابة وجمهور المسلمين من الملام لعلي أعظم مما ظهر منهم من الملام لعثمان فإن كان هذا حجة في لوم عثمان فهو حجة في لوم علي وإن لم يكن حجة في لوم علي فليس حجة في لوم عثمان وإن كان المقصود بذلك القدح في عائشة لما لامت عثمان وعليا فعائشة في ذلك مع جمهور الصحابة لكن تختلف درجات الملام
وإن كان المقصود القدح في الجميع في عثمان وعلي وطلحة والزبير وعائشة واللائم والملوم
قيل نحن لسنا ندعى لواحد من هؤلاء العصمة من كل ذنب بل ندعي أنهم من أولياء الله المتقين وحزبه المفلحين وعباده الصالحين وأنهم من سادات أهل الجنة ونقول إن الذنوب جائزة على من هو أفضل منهم من الصديقين ومن هو أكبر من الصديقين ولكن الذنوب يرفع عقابها بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية والمصائب المكفرة وغير ذلك وهؤلاء لهم من التوبة والاستغفار والحسنات ما ليس لمن هو دونهم وابتلوا بمصائب يكفر الله بها خطاياهم لم يبتل بها من دونهم فلهم من السعي المشكور والعمل المبرور ما ليس لمن يعدهم وهم بمغفرة الذنوب أحق من غيرهم ممن بعدهم
والكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل لا بجهل وظلم كحال أهل البدع فإن الرافضة تعمد إلى أقوام متقاربين في الفضيلة تريد أن تجعل أحدهم معصوما من الذنوب والخطايا والآخر مأثوما فاسقا أو كافرا فيظهر جهلهم وتناقضهم كاليهودي والنصراني إذا أراد أن يثبت نبوة موسى أو عيسى مع قدحه في نبوة محمد ﷺ فإنه يظهر عجزه وجهله وتناقضه فإنه ما من طريق يثبت بها نبوة موسى وعيسى إلا وتثبت نبوة محمد ﷺ إلا وتعرض في نبوة موسى وعيسى عليهما السلام بما هو مثلها أو أقوى منها وكل من عمد إلى التفريق بين المتماثلين أو مدح الشيء وذم ما هو من جنسه أو أولى بالمدح منه أو بالعكس أصابه مثل هذا التناقض والعجز والجهل وهكذا أتباع العلماء والمشايخ إذا أراد أحدهم أن يمدح متبوعه ويذم نظيره أو يفضل أحدهم على الاخر بمثل هذا الطريق
فإذا قال العراقي أهل المدينة خالفوا السنة في كذا وكذا وتركوا الحديث الصحيح في كذا وكذا واتبعوا الرأي في كذا وكذا مثل أن يقول عمن يقوله من أهل المدينة إنهم لا يرون التلبية إلى رمي جمرة العقبة ولا الطيب للمحرم قبل الإحرام ولا قبل التحلل الثاني ولا السجود في المفصل ولا الاستفتاح والتعوذ في الصلاة ولا التسليمتين منها ولا تحريم كل ذي ناب من السباع ولا كل ذي مخلب من الطير وأنهم يستحلون الحشوش ونحو ذلك مع ما في هذه المسائل من النزاع بينهم فيقول المدنيون نحن أتبع للسنة وأبعد عن مخالفتها وعن الرأي الخطأ من أهل العراق الذين لا يرون أن كل مسكر حرام ولا أن مياه الآبار لا تنجس بمجرد وقوع النجاسات ولا يرون صلاة الاستسقاء ولا صلاة الكسوف بركوعين في كل ركعة ولا يحرمون حرم المدينة ولا يحكمون بشاهد ويمين ولا يبدأون في القسامة بأيمان المدعين ولا يجتزؤون بطواف واحد وسعي واحد من القران ويوجبون الزكاة في الخضروات ولا يجيزون الأحباس ولا يبطلون نكاح الشغار ولا نكاح المحلل ولا يجعلون الحكمين بين الزوجين إلا مجرد وكيلين ولا يجعلون الأعمال في العقود بالنيات ويستحلون محارم الله تعالى بأدنى الحيل فيسقطون الحقوق كالشفعة وغيرها بالحيل ويحلون المحرمات كالزنا والميسر والسفاح بالحيل ويسقطون الزكاة بالحيل ولا يعتبرون القصود في العقد ويعطلون الحدود حتى لا يمكن سياسة بلد برأيهم فلا يقطعون يد من يسرق الأطعمة والفاكهة وما أصله الإباحة ولا يحدون أحدا يشرب الخمر حتى يقر أو تقوم عليه بينة ولا يحدونه إذا رئي يستقيها أو جدت رائحتها منه وسنة رسول الله ﷺ وخلفائه بخلاف ذلك ولا يوجبون القود بالمثقل ولا يفعلون بالقاتل كما فعل بالمقتول بل يكون الظالم قد قطع يدي المظلوم ورجليه وبقر بطنه فيكتفون بضرب عنقه ويقتلون الواحد من خيار المسلمين بقتل واحد كافر ذمي ويسوون بين دية المهاجرين والأنصار وديات الكفار من أهل الذمة ويسقطون الحد عمن وطىء ذات محرمه كأمه وابنته عالما بالتحريم لمجد صورة العقد كما يسقطون بعقد الاستئجار على المنافع ولا يجمعون بين الصلاتين إلا بعرفة ومزدلفة ولا يستحبون التغليس بالفجر ولا يستحبون القراءة خلف الإمام في صلاة السر ولا يوجبون تبييت نية الصوم على من علم أن غدا من رمضان ولا يجوزون وقف المشاع ولا هبته ولا رهنه ويحرمون الضب والضبع وغيرهما مما أحله الله ورسوله ويحللون المسكر الذي حرمه الله ورسوله ولا يرون أن وقت العصر يدخل إذا صار ظل كل شيء مثليه ويقولون إن صلاة الفجر تبطل بطلوع الشمس ولا يجيزون القرعة ولا يأخذون بحديث المصراة ولا بحديث المشتري إذا أفلس ويقولون إن الجمعة وغيرها تدرك بأقل من ركعة ولا يجيزون القصر في مسيرة يوم أو يومين ويجيزون تأخير بعض الصلوات عن وقتها
وكذلك بعض أتباع فقهاء الحديث لو قال بعضهم إنا نحن أتبع إنما نتبع الحديث الصحيح وأنتم تعملون بالضعيف فقال له الآخرون نحن أعلم بالحديث الصحيح منكم وأتبع له منكم ممن يروى عن الضعفاء ما يعتقد صحته ويظن أنه ثبت عن النبي ﷺ ما لم يثبت عنه كما يظن ثبوت كون النبي ﷺ كان في السفر أحيانا يتم الصلاة أو أنه كان يقنت بعد الركوع في الفجر حتى فارق الدنيا أو أنه أحرم بالحج إحراما مطلقا لم ينو تمتعا ولا إفرادا ولا قرانا أو أن مكة فتحت صلحا وأن ما فعله عمر وعثمان وغيرهما من ترك قسمة العقار ينقض وينقض حكم الخلفاء الراشدين والصحابة كعمر وعثمان وعلي وابن عمر وغيرهم في المفقود ويحتج بحديث غير واحد من الضعفاء
وأما نحن فقولنا إن الحديث الضعيف خير من الرأي ليس المراد به الضعيف المتروك لكن المراد به الحسن كحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وحديث إبراهيم الهجري وأمثالهما ممن يحسن الترمذي إما صحيح وإما ضعيف والضعيف نوعان ضعيف متروك وضعيف ليس بمتروك فتكلم أئمة الحديث بذلك الاصطلاح فجاء من لم يعرف إلا اصطلاح الترمذي فسمع قول بعض الأئمة الحديث الضعيف أحب إلي من القياس فظن أنه يحتج بالحديث الذي يضعفه مثل الترمذي وأخذ يرجح طريقة من يرى أنه أتبع للحديث الصحيح وهو في ذلك من المتناقضين الذين يرجحون الشيء على ما هو أولى بالرجحان منه إن لم يكن دونه
وكذلك شيوخ الزهد إذا أراد الرجل أن يقدح في بعض الشيوخ ويعظم آخر وأولئك أولى بالتعظيم وأبعد عن القدح كمن يفضل أبا يزيد والشبلي وغيرهما ممن يحكى عنه نوع من الشطح على مثل الجنبيد وسهل بن عبد الله التستري وغيرهما ممن هو أولى بالاستقامة وأعظم قدرا
وذلك لأن هؤلاء من جهلهم يجعلون مجرد الدعوى العظيمة موجبة لتفضيل المدعي ولا يعلمون أن تلك غايتها أن تكون من الخطأ المغفور لا من السعي المشكور وكان من لم يسلك سبيل العلم والعدل أصابه مثل هذا التناقض ولكن الإنسان كما قال الله تعالى وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما فهو ظالم جاهل إلا من تاب الله عليه
وأما قوله إنها سألت من تولى الخلافة فقالوا علي فخرجت لقتاله على دم عثمان فأي ذنب كان لعلي في ذلك
فيقال له أولا قول القائل إن عائشة وطلحة والزبير اتهموا عليا بأنه قتل عثمان وقاتلوه على ذلك كذب بين بل إنما طلبوا القتلة الذين كانوا تحيزوا إلى علي وهم يعلمون أن براءة علي من دم عثمان كبراءتهم وأعظم لكن القتلة كانوا قد أووا إليه فطلبوا قتل القتلة ولكن كانوا عاجزين عن ذلك هم وعلي لأن القوم كانت لهم قبائل يذبون عنهم
والفتنة إذا وقعت عجز العقلاء فيها عن دفع السفهاء فصار الأكابر رضي الله عنهم عاجزين عن إطفاء الفتنة وكف أهلها وهذا شأن الفتن كما قال تعالى واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة وإذا وقعت الفتنة لم يسلم من التلوث بها إلا من عصمه الله
وأيضا فقوله أي ذنب كان لعلي في قتله، تناقض منه فإنه يزعم أن عليا كان ممن يستحل قتله وقتاله وممن ألب عليه وقام في ذلك فإن عليا رضي الله عنه نسبه إلى قتل عثمان كثير من شيعته ومن شيعة عثمان هؤلاء لبغضهم لعثمان وهؤلاء لبغضهم لعلي وأما جماهير المسلمين فيعلمون كذب الطائفتين على علي
والرافضة تقول إن عليا كان ممن يستحل قتل عثمان بل وقتل أبي بكر وعمر وترى أن الإعانة على قتله من الطاعات والقرابات فكيف يقول من هذا اعتقاده أي ذنب كان لعلي على ذلك وإنما يليق هذا التنزيه لعلي بأقوال أهل السنة لكن الرافضة من أعظم الناس تناقضا
وأما قوله وكيف استجار طلحة والزبير وغيرهما مطاوعتها على ذلك وبأي وجه يلقون رسول الله ﷺ من أن الواحد منا لم تحدث مع امرأة غيره وأخرجها من منزلها وسافر بها كان أشد الناس عداوة له،
فيقال هذا من تناقض الرافضة وجهلهم فإنهم يرمون عائشة بالعظائم ثم منهم من يرميها بالفاحشة التي برأها الله منها وأنزل القرآن في ذلك
ثم إنهم لفرط جهلهم يدعون ذلك في غيرها من نساء الأنبياء فيزعمون أن امرأة نوح كانت بغيا وأن الابن الذي دعاه نوح لم يكن منه وإنما كان منها وإن معنى قوله إنه عمل غير صالح أن هذا الولد من عمل غير صالح ومنهم من يقرأ ونادى نوح ابنه يريدون ابنها ويتجون بقوله إنه ليس من أهلك ويتأولون قوله تعالى ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما على أن امرأة نوح خانته في فراشه وأنها كانت قحبة، وضاهوا في ذلك المنافقين والفاسقين أهل الإفك الذين رموا عائشة بالإفك والفاحشة ولم يتوبوا وفيهم خطب النبي ﷺ فقال أيها الناس من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي والله ما علمت على أهلي إلا خيرا ولقد ذكروا رجلا والله ما علمت عليه إلا خيرا
ومن المعلوم أنه من أعظم أنواع الأذى للإنسان أن يكذب على امرأته رجل ويقول إنها بغي ويجعل الزوج زوج قحبة فإن هذا من أعظم ما يشتم به الناس بعضهم بعضا حتى أنهم يقولون في المبالغة شتمه بالزاي والقاف مبالغة في شتمه
والرمى بالفاحشة دون سائر المعاصي جعل الله فيه حد القذف لأن الأذى الذي يحصل به للمرمي لا يحصل مثله بغيره فإنه لو رمى بالكفر أمكنه تكذيب الرامي بما يظهره من الإسلام بخلاف الرمي بالفاحشة فإنه لا يمكنه تكذيب المفتري بما يضاد ذلك فإن الفاحشة تخفى وتكتم مع تظاهر الإنسان بخلاف ذلك والله تعالى قد ذم من يحب إشاعتها في المؤمنين لما في إشاعتها من أذى الناس وظلمهم ولما في ذلك من إغراء النفوس بها لما فيها من التشبه والاقتداء فإذا رأى الانسان أن غيره فعلها تشبه به ففي القذف بها من الظلم والفواحش ما ليس في القذف بغيرها لأن النفوس تشتهيها بخلاف الكفر والقتل ولأن إظهار الكفر والقتل فيه التحذير للنفوس من مضرة ذلك فمصلحة إظهار فعل فاعله في الجملة راجحة على مصلحة كتمان ذلك ولهذا يقبل فيه شاهدان ويقام الحد فيه بإقراره مرة واحدة بخلاف الفاحشة فإنها لا تثبت إلا بأربعة شهداء بالاتفاق ولا تثبت بالإقرار إلا بإقرار أربع مرات عند كثير من العلماء
والرجل يتأذى برمي امرأته بالفاحشة كما يتأذى بفعل امرأته للفاحشة ولهذا شرع له الشارع اللعان إذا قذف امرأته وأن يدفع عنه حد القذف باللعان دون غيره فإنه إذا قذف محصنة لم يكن بد من إقامة الشهادة وإما الحد إن طلب ذلك المقذوف ولهذا لو قذفت إمرأة غير محصنة ولها زوج محصن وجب حد القذف على القاذف في أحد قولى العلماء وهو إحدى الروايتين عن أحمد
فهذه الشواهد الشرعية والعرفية مما يبين أن تأذي الإنسان برمى امرأته بالفاحشة أعظم من تأذيه بإخراجها من منزلها لمصلحة عامة يظنها المخرج مع أن طلحة والزبير لم يخرجاها من منزلها بل لما قتل عثمان رضي الله عنه كانت عائشة بمكة ولم تكن بالمدينة ولم تشهد قتله فذهب طلحة والزبير فاجتمعا بها في مكة
وهؤلاء الرافضة يرمون أزواج الأنبياء عائشة وامرأة نوح بالفاحشة فيؤذون نبينا ﷺ وغيره من الأنبياء من الأذى بما هو من جنس أذى المنافقين المكذبين للرسل ثم ينكرون على طلحة والزبير أخذهما لعائشة معهما لما سافرا معها من مكة إلى البصرة ولم يكن في ذلك ريبة فاحشة بوجه من الوجوه فهل هؤلاء إلا من أعظم الناس جهلا وتناقضا
وأما أهل السنة فعندهم أنه ما بغت امرأة نبي قط وأن ابن نوح كان ابنه كما قال تعالى وهو أصدق القائلين ونادى نوح ابنه وكما قال نوح يا بني اركب معنا وقال إن ابني من أهلي فالله ورسوله يقولان إنه ابنه وهؤلاء الكذابون المفترون المؤذون للأنبياء يقولون إنه ليس ابنه والله تعالى لم يقل إنه ليس ابنك ولكن قال إنه ليس من أهلك
وهو سبحانه وتعالى قال قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ثم قال ومن آمن أي واحمل من آمن فلم يأمره بحمل أهله كلهم بل استثنى من سبق عليه القول منهم وكان ابنه قد سبق عليه القول ولم يكن نوح يعلم ذلك فلذلك قال رب إن ابني من أهلي ظانا أنه دخل في جملة من وعد بنجاتهم ولهذا قال من قال من العلماء إنه ليس من أهلك الذين وعدت بإنجائهم وهو وإن كان من الأهل نسبا فليس هو منهم دينا والكفر قطع الموالاة بين المؤمنين والكافرين كما نقول إن أبا لهب ليس من آل محمد ولا من أهل بيته وإن كان من أقاربه فلا يدخل في قولنا اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد
وخيانة امرأة نوح لزوجها كانت في الدين فإنها كانت تقول إنه مجنون وخيانة امرأة لوظ أيضا كانت في الدين فإنها كانت تدل قومها على الأضياف وقومها كانوا يأتون الذكران لم تكن معصيتهم الزنا بالنساء حتى يظن أنها أتت فاحشة بل كانت تعينهم على المعصية وترضى عملهم
ثم من جهل الرافضة أنهم يعظمون أنساب الأنبياء آباءهم وأبناءهم ويقدحون في أزواجهم كل ذلك عصبية واتباع هوى حتى يعظمون فاطمة والحسن والحسين ويقدحون في عائشة أم المؤمنين فيقولون أو من يقول منهم إن آزر أبا إبراهيم كان مؤمنا وإن أبوي النبي ﷺ كانا مؤمنين حتى لا يقولون إن النبي يكون أبوه كافرا فإذا كان أبوه كافرا أمكن أن يكون ابنه كافرا فلا يكون في مجرد النسب فضيلة
وهذا مما يدفعون به أن ابن نوح كان كافرا لكونه ابن نبي فلا يجعلونه كافرا مع كونه ابنه ويقولون أيضا إن أبا طالب كان مؤمنا ومنهم من يقول كان اسمه عمران وهو المذكور في قوله تعالى إن الله اصطفى ادم ونوحا وال إبراهيم وال عمران على العالمين
وهذا الذي فعلوه مع ما فيه من الافتراء والبهتان ففيه من التناقض وعدم حصول مقصودهم ما لا يخفى وذلك أن كون الرجل أبيه أو ابنه كافرا لا ينقصه ذلك عند الله شيئا فإن الله يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، ومن المعلوم أن الصحابة أفضل من آبائهم وكان آباؤهم كفارا بخلاف من كونه زوج بغى قحبة فإن هذا من أعظم ما يذم به ويعاب لأن مضرة ذلك تدخل عليه بخلاف كفر أبيه أو ابنه
وأيضا فلو كان المؤمن لا يلد إلا مؤمنا لكان بنو ادم كلهم مؤمنين وقد قال تعالى واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين، إلى اخر القصة
وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن ادم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل
وأيضا فهم يقدحون في العباس عم رسول الله ﷺ الذي تواتر إيمانه ويمدحون أبا طالب الذي مات كافرا باتفاق أهل العلم كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة ففي الصحيحين عن المسيب بن حزن قال لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله ﷺ فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة فقال رسول الله ﷺ يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزل رسول الله ﷺ يعرضها عليه ويعود له وفي رواية ويعودان بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله فقال رسول الله ﷺ لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، فأنزل الله تعالى ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم وأنزل في أبي طالب فقال لرسول الله ﷺ إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وأخرجه مسلم من حديث أبي هريرة أيضا وقال فيه قال أبو طالب لولا أن تعيرني قريش يقولون إنما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك فأنزل الله تعالى إنك لا تهدي من أحببت