وأما قوله:
إنه يفضل عنه العرش من كل جانب أربع أصابع،
فهذا لا أعرف قائلا له ولا ناقلا ولكن روى في حديث عبدالله بن خليقة أنه ما يفضل من العرش أربع أصابع يروى بالنفى ويروى بالإثبات والحديث قد طعن فيه غير واحد من المحدثين كالإسماعيلي وابن الجوزي ومن الناس من ذكر له شواهد وقواه
ولفظ النفى لا يرد عليه شيء فإن مثل هذا اللفظ يرد لعموم النفى كقول النبي ﷺ ما في السماء موضع أربع أصابع إلا وملك قائم أو قاعد أو راكع أو ساجد أي ما فيها موضع ومنه قول العرب ما في السماء قدر كف سحابا وذلك لأن الكف تقدر بها الممسوحات كما يقدر بالذراع وأصغر الممسوحات التي يقدرها الإنسان من أعضائه كفه فصار هذا مثلا لأقل شيء
فإذا قيل إنه ما يفضل من العرش أربع أصابع كان المعنى ما يفضل منه شيء والمقصود هنا بيان أن الله أعظم وأكبر من العرش
ومن المعلوم أن الحديث إن لم يكن النبي ﷺ قد قاله فليس علينا منه وإن كان قد قاله فلم يجمع بين النفى والإثبات وإن كان قاله بالنفى لم يكن قاله بالإثبات والذين قالوه بالإثبات ذكروا فيه ما يناسب أصولهم كما قد بسط ي غير هذا الموضع
فهذا وأمثاله سواء كان حقا أو باطلا لا يقدح في مذهب أهل السنة ولا يضرهم لأنه بتقدير أن يكون باطلا ليس هو قول جماعتهم بل غايته أنه قد قالته طائفة ورواه بعض الناس وما كان باطلا رده جمهور أهل السنة كما يردون غير ذلك فإن كثيرا من المسلمين يقول كثيرا من الباطل فما يكون هذا ضار لدين المسلمين وفي أقوال الإمامية من المنكرات ما يعرف مثل هذا فيه لو كان قد قاله بعض أهل السنة
فصل
قال الإمامي
وذهب بعضهم إلى أن الله ينزل كل ليلة جمعة بشكل أمرد راكبا على حمار حتى أن بعضهم ببغداد وضع على سطح داره معلفا يضع كل ليلة جمعة فيه شعيرا وتبنا لتجويز أن ينزل الله تعالى على حماره على ذلك السطح فيشتغل الحمار بالأكل ويشتغل الرب بالنداء هل من تائب هل من مستغفر تعالى الله عن مثل هذه العقائد الردية في حقه تعالى
وحكى عن بعض المنقطعين المباركين من شيوخ الحشوية أنه اجتاز عليه في بعض الأيام نفاط ومعه أمرد حسن الصورة قطط الشعر على الصفات التي يصفون ربهم بها فألح الشيخ بالنظر إليه وكرره وأكثر تصويبه إليه فتوهم فيه النفاط فجاء إليه ليلا وقال أيها الشيخ رأيتك تلح بالنظر إلى هذا الغلام وقد أتيتك به فإن كان لك فيه نية فأنت الحاكم فحرد الشيخ عليه وقال إنما كررت النظر إليه لأن مذهبي أن الله ينزل على صورته فتوهمت أنه الله تعالى فقال له النفاط ما أنا عليه من النفاطة أجود مما أنت عليه من الزهد مع هذه المقالة
فيقال: هذه الحكاية وأمثالها دائرة بين أمرين إما أن تكون كذبا محضا ممن افتراها على بعض شيوخ أهل بغداد وإما أن تكون قد وقعت لجاهل مغمور ليس بصاحب قول ولا مذهب وأدنى العامة أعقل منه وأفقه
وعلى التقديرين فلا يضر ذلك أهل السنة شيئا لأنه من المعلوم لكل ذي علم أنه ليس من العلماء المعروفين بالسنة من يقول مثل هذا الهذيان الذي لا ينطلي على صبي من الصبيان ومن المعلوم أن العجائب المحكية عن شيوخ الرافضة أكثر وأعظم من هذا مع أنها صحيحة واقعة
وأما هذه الحكاية فحدثني طائفة من ثقات أهل بغداد أنها كذب محض عليهم وضعها إما هذا المصنف أو من حكاها له للشناعة وهذا هو الأقرب فإن أهل بغداد لهم من المعرفة والتمييز والذهن ما لا يروج عليهم معه مثل هذا
ومما يبين كذب ذلك عليهم أن هذا الحديث الذي ذكره لم يروه أحد لا بإسناد صحيح ولا ضغيف ولا روى أحد من أهل الحديث أن الله تعالى ينزل ليلة الجمعة ولا أنه ينزل ليلة الجمعة إلى الأرض ولا أنه ينزل في شكل أمرد بل لا يوجد في الآثار شيء من هذا الهذيان بل ولا في شيء من الأحاديث الصحيحة أن النبي ﷺ قال إن الله ينزل إلى الأرض وكل حديث روى فيه هذا فإنه موضوع كذب مثل حديث الجمل الأورق وأن الله ينزل عشية عرفة فيعانق الركبان ويصافح المشاة وحديث آخر أنه رأى ربه في الطواف وحديث آخر أنه رأى ربه في بطحاء مكة وأمثال ذلك فإن هذه كلها أحاديث مكذوبة باتفاق أهل المعرفة بالحديث والذين وضعوها منهم طائفة وضعوها على أهل الحديث ليقال إنهم ينقلون مثل هذا كما وضعوا مثل حديث عرق الخيل عليهم وطائفة من الجهال والضلال وضعوا مثل هذا الكذب على النبي ﷺ كما وضعت الروافض ما هو أعظم وأكثر من هذا الكذب ولو لم يكن إلا ما ذكره هذا الإمامي في مصنفه هذا من الأحاديث فإن فيها من الكذب الذي أجمع أهل العلم بالحديث على كذبه ومن الكذب الذي لا يخفى أنه كذب إلا على مفرط في الجهل ما قد ذكره في منهاج الندامة
وقد قدمنا القول بأن أهل السنة متفقون على أن الله لا يراه أحد بعينه في الدنيا لا نبي ولا غير نبي ولم يتنازع الناس في ذلك إلا في نبينا محمد ﷺ خاصة مع أن أحاديث المعراج المعروفة ليس في شيء منها أنه رآه أصلا وإنما روى ذلك بإسناد ضعيف موضوع من طريق أبي عبيدة ذكره الخلال والقاضي أبو يعلى في كتاب إبطال التأويل وأهل العلم بالحديث متفقون على أنه حديث موضوع كذب
وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله هل رأيت ربك قال نور أنى أراه ولم يثبت أن أحدا من الصحابة سأل النبي ﷺ عن الرؤية إلا ما في الحديث
وما يرويه بعض العامة أن أبا بكر سأله فقال رأيته وأن عائشة سألته فقال لم أره كذب باتفاق أهل العلم لم يروه أحد من أهل العلم بإسناد صحيح ولا ضعيف ولهذا اعتمد الإمام أحمد على قول أبي ذر في الرؤية وكذلك عثمان بن سعيد الدارمي
وأما أحاديث النزول إلى السماء الدنيا كل ليلة فهي الأحاديث المعروفة الثابتة عند أهل العلم بالحديث وكذلك حديث دنوه عشية عرفة رواه مسلم في صحيحه وأما النزول ليلة النصف من شعبان ففيه حديث اختلف في إسناده
ثم إن جمهور أهل السنة يقولون إنه ينزل ولا يخلو منه العرش كما نقل مثل ذلك عن إسحان بن راهويه وحماد بن زيد وغيرهما ونقلوه عن أحمد بن حنبل في رسالته إلى مسدد يقول وهم متفقون على أن الله ليس كمثله شيء وأنه لا يعلم كيف ينزل ولا تمثل صفاته بصفات خلقه
وقد تنازعوا في النزول هل هو صفة فعل منفصل عن الرب في المخلوقات أو فعل من يقوم به على قولين معروفين لأهل السنة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم من أهل الحديث والتصوف
وكذلك تنازعهم في الاستواء على العرش هل هو فعل منفصل عنه يفعله بالعرش كتقريبه إليه أو فعل يقوم بذاته على قولين والأول قول ابن كلاب والأشعري والقاضي أبي يعلى وأبي الحسن التميمي وأهل بيته وأبي سليمان الخطابي وأبي بكر البيهقي وابن الزاغوني وابن عقيل وغيرهم ممن يقول إنه لا يقوم بذاته ما يتعلق بمشيئته وقدرته
والثاني قول أئمة الحديث وجمهورهم كابن المبارك وحماد بن زيد والأوزاعي والبخاري وحرب الكرماني وابن خزيمة ويحيى بن عمار السجستاني وعثمان بن سعيد الدارمي وابن حامد وأبي بكر عبدالعزيز وأبي عبدالله بن مندة وأبي إسماعيل الأنصاري وغيرهم وليس هذا موضعا لبسط الكلام في هذه المسائل وإنما المقصود التنبيه على أن ما ذكره هذا مما يعلم العقلاء أنه لا يقوله أحد من علماء أهل السنة ولا يعرف أنه قاله لا جاهل ولا عالم بل الكذب عليه ظاهر
فصل
قال الرافضي المصنف: وقالت الكرامية إن الله في جهة فوق ولم يعلموا أن كل ما هو في جهة فهو محدث ومحتاج إلى تلك الجهة
فيقال له أولا:
لا الكرامية ولا غيرهم يقولون إنه في جهة موجودة تحيط به أو يحتاج إليها بل كلهم متفقون على أن الله تعالى غني عن كل ما سواه سمى جهة أو لم يسم
نعم قد يقولون هو في جهة ويعنون بذلك أنه فوق العالم فهذا مذهب الكرامية وغيرهم وهو أيضا مذهب أئمة الشيعة وقدمائهم كما تقدم ذكره وأنت لم تذكر حجة على إبطاله فمن شنع على الناس بمذاهبهم فلا بد أن يشير إلى إبطاله وجمهور الخلق على أن الله فوق العالم وإن كان أحدهم لا يلفظ بلفظ الجهة فهم يعتقدون بقلوبهم ويقولون بألسنتهم أن ربهم فوق ويقولون إن هذا أمر فطروا عليه وجبلوا عليه كما قال الشيخ أبو جعفر الهمذاني لبعض من أخذ ينكر الاستواء ويقولون لو استوى على العرش لقامت به الحوادث فقال أبو جعفر ما معناه إن الاستواء علم بالسمع ولو لم يرد به لم نعرفه وأنت قد تتأوله فدعنا من هذا وأخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا فإنه ما قال عارف قط يا ألله إلا وقبل أن ينطق بلسانه يجد في قلبه معنى يطلب العلو لا يلتفت يمنة ولا يسرة فهل عندك من حيلة في دفع هذه الضرورة عن قلوبنا فلطم المتكلم رأسه وقال حيرني الهمداني حيرني الهمداني حيرني الهمداني
ومضمون كلامه أن دليلك على النفى لو صح فهو نظري ونحن نجد عندنا علما ضروريا بهذا فنحن مضطرون إلى هذا العلم وإلى هذا القصد فهل عندك من حيلة في دفع هذا العلم الضروري والقصد الضروري الذي يلزمنا لزوما لا يمكننا دفعه عن أنفسنا ثم بعد ذلك قرر نقيضه
وأما دفع الضروريات بالنظريات فغير ممكن لأن النظريات غايتها أن يحتج عليها بمقدمات ضرورية فالضروريات أصل النظريات فلو قدح في الضروريات بالنظريات لكان ذلك قدحا في أصل النظريات فتبطل الضروريات والنظريات فيلزمنا بطلان قدحه على كل تقدير إذ كان قدح الفرع في أصله يقتضى فساده في نفسه وإذا فسد بطل قدحه فيكون قدحه باطلا على تقدير صحته وعلى تقدير فساده فإن صحته مستلزمة لصحة أصله فإذا صح كان أصله صحيحا وفساده لا يستلزم فساد أصله إذ قد يكون الفساد منه ولو قدح في أصله للزم فساده وإذا كان فاسدا لم يقبل قدحه فلا يقبل قدحه بحال
وهذا لأن الدليل النظري الموقوف على مقدمات وعلى تأليفها قد يكون فساده من فساد هذه المقدمة ومن فساد الأخرى ومن فساد النظم فلا يلزم إذا كان باطلا أن يبطل كل واحد من المقدمات بخلاف المقدمات فإنه متى كان واحد منها باطلا بطل الدليل وأيضا فإن هؤلاء قرروا ذلك بأدلة عقلية كقولهم كل موجودين إما متباينان وإما متداخلان وقالوا إن العلم بذلك ضروري وقالوا إثبات موجود لا يشار إليه مكابرة للحس والعقل
وأيضا فمن المعلوم أن القرآن نطق بالعلو في مواضع كثيرة جدا حتى قد قيل إنها نحو ثلثمائة موضع والسنن متواترة عن النبي ﷺ بمثل ذلك وكلام السلف المنقول عنهم بالتواتر يقتضي اتفاقهم على ذلك وأنه لم يكن فيهم من ينكره
ومن يريد التشنيع على الناس ودفع هذه الأدلة الشرعية والعقلية لا بد أن يذكر حجة ولنفرض أنه لا يناظره إلا أئمة أصحابه وهو لم يذكر دليلا إلا قوله ولم يعلموا أن كل ما هو في جهة فهو محدث ومحتاج إلى تلك الجهة
فيقال له لم يعلموا ذلك ولم تذكر ما به يعلم ذلك فإن قولك ما هو محتاج إلى تلك الجهة إنما يستقيم إذا كانت الجهة أمرا وجوديا وكانت لازمة له لا يستغنى عنها فلا ريب أن من قال إن الباري لا يقوم إلا بمحل يحل فيه لا يستغنى عن ذلك وهي مستغنية عنه فقد جعله محتاجا إلى غيره وهذا لم يقله أحد
أيضا لم نعلم أحدا قال إنه محتاج إلى شيء من مخلوقاته فضلا عن أن يكون محتاجا إلى غير مخلوقاته ولا يقول أحد إن الله محتاج إلى العرش مع أنه خالق العرش والمخلوق مفتقر إلى الخالق لا يفتقر الخالق إلى المخلوق وبقدرته قام العرش وسائر المخلوقات وهو العنى عن العرش وكل ما سواه فقير إليه
فمن فهم عن الكرامية وغيرهم من طوائف الإثبات أنهم يقولون إن الله محتاج إلى العرش فقد افترى عليهم كيف وهم يقولون إنه كان موجودا قبل العرش فإذا كان موجودا قائما بنفسه قبل العرش لا يكون إلا مستغنيا عن العرش
وإذا كان الله فوق العرش لم يجب أن يكون محتاجا إليه فإن الله قد خلق العالم بعضه فوق بعض ولم يجعل عاليه محتاجا إلى سافله فالهواء فوق الأرض وليس محتاجا إليها وكذلك السحاب فوقها وليس محتاجا إليها وكذلك السماوات فوق السحاب والهواء والأرض وليس محتاجا إلى ذلك فكيف يكون العلي الأعلى خالق كل شيء محتاجا إلى مخلوقاته لكونه فوقها عاليا عليها ونحن نعلم أن الله خالق كل شيء وأنه لا حول ولا قوة إلا به وأن القوة التي في العرش وفي حملة العرش هو خالقها بل نقول إنه خالق أفعال الملائكة الحاملين للعرش فإذا كان هو الخالق لهذا كله ولا حول ولا قوة إلا به امتنع أن يكون محتاجا إلى غيره
ولو احتج عليه سلفه مثل يونس بن عبدالرحمن القمى وأمثاله ممن يقول بأن العرش يحمله بمثل هذا لم يكن له عليهم حجة فإنهم يقولون لم نقل إنه محتاج إلى غيره بل ما زال غنيا عن العرش وغيره ولكن قلنا إنه على كل شيء قدير فإذا جعلناه قادرا على هذا كان ذلك وصفا له بكمال الاقتدار لا بالحاجة إلى الأغيار
وقد قدمنا فيما مضى أن لفظ الجهة يراد به أمر موجود وأمر معدوم فمن قال إنه فوق العالم كله لم يقل إنه في جهة موجودة إلا أن يراد بالجهة العرش ويراد بكونه فيها أنه عليها كما قد قيل في قوله إنه في السماء أي على السماء، وعلى هذا التقدير فإذا كان فوق الموجودات كلها وهو غنى عنها لم يكن عنده جهة وجودية يكن فيها فضلا عن أن يحتاج إليها
وإن أريد بالجهة ما فوق العالم فذاك ليس بشيء ولا هو أمر موجود حتى يقال إنه محتاج إليه أو غير محتاج إليه وهؤلاء أخذوا لفظ الجهة بالاشتراك وتوهموا وأوهموا أنه إذا كان في جهة كان في كل شيء غيره كما يكون الإنسان في بيته وكما يكون الشمس والقمر والكواكب في السماء ثم رتبوا على ذلك أنه يكون محتاجا إلى غيره والله تعالى غنى عن كل ما سواه وهذه مقدمات كلها باطلة
وكذلك قوله كل ما هو في جهة فهو محدث لم يذكر عليه دليلا وغايته ما تقدم من أن الله لو كان في جهة لكان جسما وكل جسم محدث لأن الجسم لا يخلو من الحوادث وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث
وكل هذه المقدمات فيها نزاع فمن الناس من يقول قد يكون في الجهة ما ليس بجسم فإذا قيل له هذا خلاف المعقول قال هذا أقرب إلى العقل من قول من يقول إنه لا داخل العالم ولا خارجه فإن قبل العقل ذاك قبل هذا بطريق الأولى وإن رد هذا رد ذاك بطريق الأولى وإذا رد ذاك تعين أن يكون في الجهة فثبت أنه في الجهة على التقديرين
ومن الناس من لا يسلم أن كل جسم محدث كسلفه من الشيعة والكرامية وغيرهم والكلام معهم وهؤلاء لا يسلمون له أن الجسم لا يخلو من الحوادث بل يجوز عندهم خلو الجسم عن الحركة وكل حادث كما يجوز منازعوهم خلو الصانع من الفعل إلى أن فعل وكثير من أهل الحديث والكلام والفلسفة ينازعهم في قولهم إن ما لا يخلو عن الحادث فهو حادث وكل مقام من هذه المقامات تعجز شيوخ الرافضة الموافقين للمعتزلة عن تقرير قولهم فيه على إخوانهم القدماء من الرافضة فضلا عن غيرهم من الطوائف
فصل
قال الرافضي وذهب آخرون إلى أن الله تعالى لا يقدر على مثل مقدور العباد
فيقال له هذه المسألة من دقيق الكلام وليست من خصائص أهل السنة ولا القائلون بخلافة الخلفاء متفقون عليها بل بعض القدرية يقول بذلك وأما أهل السنة المثبتون للقدر فليس فيهم من يقول بذلك وإنما يقوله من شيوخ القدرية الذين هم شيوخ هؤلاء الإمامية المتأخرين في مسائل التوحيد والعدل فإن جميع ما يذكره هؤلاء الإمامية المتأخرون في مسائل التوحيد والعدل كابن النعمان والموسوي الملقب بالمرتضى وأبي جعفر الطوسي وغيرهم هو مأخوذ من كتب المعتزلة بل كثير منه منقول نقل المسطرة وبعضه قد تصرفوا فيه
وكذلك ما يذكرونه من تفسير القرآن في آيات الصفات والقدر ونحو ذلك هو منقول من تفاسير المعتزلة كالأصم والجبائي وعبد الجبار بن أحمد الهمذاني والرماني وأبي مسلم الأصبهاني وغيرهم لا ينقل عن قدماء الإمامية من هذا حرف واحد لا في الأصول العقلية ولا في
تفسير القرآن وقدماؤهم كانوا أكثر اجتماعا بالائمة من متأخريهم يجتمعون بجعفر الصادق وغيره فإن كان هذا هو الحق فقدماؤهم كلهم ضلال وإن كان ضلالا فمتأخروهم هم الضلال
فصل
قال الرافضي
وذهب الأكثر منهم إلى أن الله عز وجل يفعل القبائح وأن جميع أنواع المعاصي والكفر وأنواع الفساد واقعة بقضاء الله وقدره وأن العبد لا تأثير له في ذلك وأنه لا غرض لله في أفعاله وأنه لا يفعل لمصلحة العباد شيئا وأنه تعالى يريد المعاصي من الكافر ولا يريد منه الطاعة وهذا يستلزم أشياء شنيعة
فيقال الكلام على هذا من وجوه:
أحدها أنه قد تقدم غير مرة أن مسائل القدر والتعديل والتجوير ليست ملزومة لمسائل الإمامة ولا لازمة فإن كثيرا من الناس يقر بإمامة الخلافاء الثلاثة ويقول ما قاله في القدر وكثير من الناس بالعكس وليس أحد من الناس مرتبطا بالآخر أصلا وقد تقدم النقل عن الإمامية هل أفعال العباد خلق الله تعالى على قولين وكذلك الزيدية
قال الأشعرى واختلفت الزيدية في خلق الأفعال وهم فرقتان فالفرقة الأولى منهم يزعمون أن أفعال العباد مخلوقة لله خلقها وأبدعها واخترعها بعد أن لم تكن فهي محدثة له مخترعة والفرقة الثانية منهم يزعمون أنها غير مخلوقة لله ولا محدثة وأنها كسب للعباد أحدثوها واخترعوها وابتدعوها وفعلوها
قلت بل غالب الشيعة الأولى كانوا مثبتين للقدر وإنما ظهر إنكاره في متأخريهم كإنكار الصفات فإن غالب متقدميهم كانوا يقرون بإثبات الصفات والمنقول عن أهل البيت في إثبات الصفات والقدر لا يكاد يحصى وأما المقرون بإمامة الخلفاء الثلاثة مع كونهم قدرية فكثيرون في المعتزلة وغير المعتزلة فعامة القدرية تقر بإمامة الخلفاء ولا يعرف أحد من متقدمي القدرية كان ينكر خلافة الخلفاء وإنما ظهر هذا لما صار بعض الناس رافضيا قدريا جهميا فجمع أصول البدع كصاحب هذا الكتاب وأمثاله
والزيدية المقرون بخلافة الخلفاء الثلاثة هم من الشيعة وفيهم قدرية وغير قدرية والزيدية خير من الإمامية وأشبههم بالإمامية هم الجارودية أتباع أبي الجارود الذين يزعمون أن النبي ﷺ نص على علي بالوصف لا بالتسمية فكان هو الإمام من بعده وان الناس ضلوا وكفروا بتركهم الاقتداء به بعد رسول الله ﷺ ثم الحسن هو الإمام ثم الحسين
ثم من هؤلاء من يقول إن عليا نص على إمامة الحسن والحسن نص على إمامة الحسين ثم هو شورى في ولدهما فمن خرج منهم يدعو إلى سبيل ربه وكان عالما فاضلا فهو الإمام
والفرقة الثانية من الزيدية السليمانية أصحاب سليمان بن جرير يزعمون أن الإمامة شورى وأنها تصلح بعقد رجلين من خيار المسلمين وأنها قد تصلح في المفضول وإن كان الفاضل أفضل في كل حال ويثبتون إمامة الشيخين أبي بكر وعمر وقد قيل إنها كانت خطأ لا يفسق صاحبها لأجل التأويل
والثالثة البترية أصحاب كثير النواء قيل سموا بترية لأن كثيرا كان يلقب بالأبتر يزعمون أن عليا أفضل الناس بعد رسول الله ﷺ وأولاهم بالإمامة وأن بيعة أبي بكر وعمر ليست بخطأ لأن عليا ترك ذلك لهما ويقفون في عثمان وقتله ولا يقدمون عليه بإكفار كما يحكى عن السليمانية وهذه الطائفة أمثل الشيعة ويسمون أيضا الصالحية لأنهم ينسبون إلى الحسن بن صالح بن حي الفقيه
وهؤلاء الزيدية فيهم من هو في القدر على قول أهل السنة والجماعة وفيهم من هو على قول القدرية
الوجه الثاني أن يقال نقله عن الأكثر أن العبد لا تأثير له في الكفر والمعاصي نقل باطل بل جمهور أهل السنة المثبتة للقدر من جميع الطوائف يقولون إن العبد فاعل لفعله حقيقة وأن له قدرة حقيقية واستطاعة حقيقية وهم لا ينكرون تأثير الأسباب الطبيعية بل يقرون بما دل عليه الشرع والعقل من أن الله يخلق السحاب بالرياح وينزل الماء بالسحاب وينب النبات بالماء ولا يقولون إن القوى والطبائع الموجودة في المخلوقات لا تأثير لها بل يقرون أن لها تأثيرا لفظا ومعنى حتى جاء لفظ الأثر في مثل قوله تعالى ونكتب ما قدموا وآثارهم
وإن كان هناك التأثير هناك أعم منه في الآية لكن يقولون هذا التأثير هو تأثير الأسباب في مسبباتها والله تعالى خالق السبب والمسبب ومع أنه خالق السبب فلا بد له من سبب آخر يشاركه ولابد له من معارض يمانعه فلا يتم أثره مع خلق الله له إلا بأن يخلق الله السبب الآخر ويزيل الموانع
ولكن هذا القول الذي حكاه هو قول بعض المثبتة للقدر كالأشعري ومن وافقه من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد حيث لا يثبتون في المخلوقات قوى ولا طبائع ويقولون إن الله فعل عندها لا بها ويقولون إن قدرة العبد لا تأثير لها في الفعل
وأبلغ من ذلك قول الأشعري إن الله فاعل فعل العبد وإن عمل العبد ليس فعلا للعبد بل كسبا له وإنما هو فعل الله فقط وجمهور الناس من أهل السنة من جميع الطوائف على خلاف ذلك وعلى أن العبد فاعل لفعله حقيقة
وأما ما نقله من نفي الغرض الذي هو الحكمة وكون الله لا يفعل لمصلحة العباد فقد قدمنا أن هذا هو قول قليل منهم كالأشعري وطائفة توافقه في موضع ويتناقضون في قولهم في موضع آخر
وجمهور أهل السنة يثبتون الحكمة في أفعال الله تعالى وأنه يفعل لنفع عباده ومصلحتهم ولكن لا يقولون بما تقوله المعتزلة ومن وافقهم بأن ما حسن منه حسن من خلقه وما قبح من خلقه قبح منه فلا هذا ولا هذا وأما لفظ الغرض فتطلقه المعتزلة وبعض المنتسبين لأهل السنة ويقولون إنه يفعل لغرض أي حكمة وكثير من أهل السنة يقولون يفعل لحكمة ولا يطلقون لفظ الغرض
وأما قوله وأنه تعالى يريد المعاصي من الكافر ولا يريد منه الطاعة فهذا قول طائفة منهم وهم الذين يوافقون القدرية فيجعلون المشيئة والإرادة والمحبة والرضا نوعا واحدا ويجعلون المحبة والرضا والغضب بمعنى الإرادة كما يقول ذلك الأشعري في المشهور عنه وأكثر أصحابه وطائفة ممن يوافقهم من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد
وأما جمهور أهل السنة من جميع الطوائف وكثير من أصحاب الأشعري وغيرهم فيفرقون بين الإرادة وبين المحبة والرضا فيقولون إنه وإن كان يريد المعاصي فهو لا يحبها ولا يرضاها بل يبغضها ويسخطها وينهى عنها وهؤلاء يفرقون بين مشيئة الله وبين محبته وهذا قول السلف قاطبة
وقد ذكر أبو المعالي الجويني أن هذا قول القدماء من أهل السنة وأن الأشعري خالفهم فجعل الإرادة هي المحبة فيقولون ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فكل ماشاء الله فقد خلقه وأما المحبة فهي متعلقة بأمره فما أمر به فهو يحبه ولهذا اتفق الفقهاء على أن الحالف لو قال والله لأفعلن كذا إن شاء الله لم يحنث إذا لم يفعله وإن كان واجبا أو مستحبا ولو قال إن أحب الله حنث إذا كان واجبا أو مستحبا
والمحققون من هؤلاء يقولون الإرادة في كتاب الله تعالى نوعان إرادة خلقية قدرية كونية وإرادة دينية أمرية شرعية فالإرادة الشرعية الدينية هي المتضمنة للمحبة والرضا والكونية هي المشيئة الشاملة لجميع الحوادث كقول المسلمين ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وهذا كقوله تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء سورة الأنعام وقوله عن نوح ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون سورة هود
فهذه الإرادة تعلقت بالإضلال والإغواء وهذه هي المشيئة فإن ما شاء الله كان
ومنها قوله ولكن الله يفعل ما يريد سورة البقرة أي ما شاء خلقه لا ما يأمر به
وقد يريد بالإرادة المحبة كما يقال لمن يفعل الفاحشة هذا فعل ما لا يريده الله تعالى وقد يريد المشيئة كما يقولون لما لم يكن هذا لم يرده الله
وأما الدينية فقول الله يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر سورة البقرة : 185 وقوله يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا سورةالنساء 26 28 وقوله ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم سورة المائدة 6 وقوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا سورة الأحزاب 33
فهذه الإرادة في هذه الآيات ليست هي التي يجب مرادها كما في قوله فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام سورة الأنعام 120 وقول المسلمين ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن بل هي المذكورة في مثل قول الناس لمن يفعل القبائح هذا يفعل ما لا يريده الله أي لا يحبه ولا يرضاه ولا يأمر به
وهذا التقسيم في الإرادة قد ذكره غير واحد من أهل السنة وذكروا أن المحبة والرضا ليست الإرادة الشاملة لكل المخلوقات كما ذكر ذلك من ذكره من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم كأبي بكر عبدالعزيز وغيره وإن كان طائفة أخرى يجعلون المحبة والرضا هي الإرادة والأول أصح
وأيضا فالفرق ثابت بين إرادة المريد أن يفعل وبين إرادته من غيره أن يفعل والأمر لا يستلزم الإرادة الثانية دون الأولى فالله تعالى إذا أمر العباد بأمر فقد يريد إعانة المأمور على ما أمره به وقد لا يريد ذلك وإن كان مريدا منه فعله
وتحقيق هذا مما يبين فصل النزاع في أمر الله هل هو مستلزم لإرادته أم لا فلما زعمت المعتزلة أنه لا بد أن يشاء ما يأمر به فيريده وزعموا أن ما نهى عنه ما شاء وجوده ولا أراده قابلهم كثير من متأخري المثبتين للقدر ممن اتبع أبا الحسن من المصنفين في أصول الفقه وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي وأحمد فقالوا إن الله يأمر بما لا يريده كالكفر والفسوق والعصيان
واحتجوا على ذلك بما أنه لو حلف على واجب ليفعلنه وقال إن شاء الله فإنه لا يحنث وبأن الله أمر إبراهيم بذبح ولده ولم يرده منه بل نسخ ذلك قبل فعله وكذلك الخمسون صلاة ليلة المعراج
وحقيقته أنه يأمر بما لا يشاء أن يخلقه لكن لا يأمر إلا بما يحبه ويرضاه فيريد من العبد أن يفعله بمعنى أنه يحب ذلك ولا يريد هو أن يخلقه فيعين العبد عليه وهذا كالكفر والفسوق والعصيان ولو حلف الحالف ليفعلن كذا إن شاء الله لم يحنث وإن كان واجبا
ولو قال إن أحب الله حنث كما لو قال إن أمر الله ولو قال لأفعلنه إذا أراد الله فقد يريد بالإرادة المحبة كما يقولون لمن يفعل القبائح يفعل ما لا يريده الله وقد يريد المشيئة كما يقولون لما لم يكن هذا لم يرده الله تعالى فإن أراد هذا حنث
وأما أمر إبراهيم ﷺ بذبح ابنه فإنه كان الذي يحبه ويريده منه في نفس الأمر أن قصد إبراهيم الامتثال وعزم على الطاعة فأظهر الأمر امتحانا له وابتلاء فلما أسلما وتله للجبين ناداه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين وكذلك الأمر بالخمسين
فصل
قال المصنف الرافضي:
وهذا يستلزم أشياء شنيعة منها أن يكون الله أظلم من كل ظالم لأنه يعاقب الكافر على كفره وهو قدره عليه ولم يخلق فيه قدرة على الإيمان فكما أنه يلزم الظلم لو عذبه على لونه وطوله وقصره لأنه لا قدرة له فيها كذا يكون ظالما لو عذبه على المعصية التي فعلها فيه
فيقال
الظلم قد تقدم أن للجمهور المثبتين للقدر في تفسيره قولين أحدهما أن الظلم ممتنع لذاته غير مقدور كما يصرح بذلك الأشعري والقاضي أبو بكر وأبو المعالي والقاضي أبو يعلى وابن الزاغوني وغير هؤلاء يقولون إنه يمتنع أن يوصف بالقدرة على الكذب والظلم وغيرهما من أنواع القبائح ولا يصح وصفه بشيء من ذلك
قالوا والدلالة على استحالة وقوع الظلم والقبيح منه أن الظلم والقبيح ما شرع الله وجوب ذم فاعله وذم الفاعل لما ليس له فعله ولن يكون كذلك حتى يكون متصرفا فيما غيره أملك به وبالتصرف فيه منه فوجب استحالة ذلك في حقه من حيث إنه لم يكن آمرا لنا بذمه ولا كان ممن يجوز دخول أفعاله تحت تكليف من نفسه لنفسه ولا يكون فعله تصرفا في شيء غيره أملك به فثبت بذلك استحالة تصوره في حقه
وحقيقة قول هؤلاء أن الذم إنما يكون لمن تصرف في ملك غيره ومن عصى الآمر الذي فوقه والله سبحانه وتعالى يمتنع أن يأمره أحد ويمتنع أن يتصرف في ملك غيره فإن له كل شيء
وهذا القول يروى عن إياس بن معاوية قال ما خاصمت بعقلي كله إلا القدرية قلت لهم أخبروني ما الظلم قالوا أن يتصرف الإنسان في ما ليس له قلت فلله كل شيء
وهم لا يسلمون أنه لو عذبه بسبب لونه وطوله وقصره كان ظالما حتى يحتج عليهم بهذا القياس بل يجوزون التعذيب لا بجرم سابق ولا لغرض لاحق وهذا المشنع لم يذكر دليلا على بطلانه فلم يذكر دليلا على بطلان قولهم
والقول الثاني أن الظلم مقدور والله تعالى منزه عنه وهذا قول الجمهور من المثبتين للقدر ونفاته وهو قول كثير من النظار المثبتة للقدر كالكرامية وغيرهم وكثير من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم وهو قول القاضي أبي خازم بن القاضي أبي يعلى وغيره وهذا كتعذيب الإنسان بذنب غيره كما قال تعالى ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما سورة طه 11وهؤلاء يقولون الفرق بين تعذيب الإنسان على فعله الاختياري وغير فعله الاختياري مستقر في فطر العقول فإن الإنسان لو كان له ابن في جسمه مرض أو عيب خلق فيه لم يحسن ذمه ولا عقابه على ذلك ولو ظلم ابنه أحدا لحسن عقوبته على ذلك
ويقولون الاحتجاج بالقدر على الذنوب مما يعلم بطلانه بضرورة العقل فإن الظالم لغيره لو احتج بالقدر لاحتج ظالمه بالقدر أيضا فإن كان القدر حجة لهذا فهو حجة لهذا وإلا فلا
والأولون أيضا يمنعون الاحتجاج بالقدر فإن الاحتجاج به باطل باتفاق أهل الملل وذوي العقول وإنما يحتج به على القبائح والمظالم من هو متناقض القول متبع لهواه كما قال بعض العلماء أنت عند الطاعة قدري وعند المعصية جبري أي مذهب وافق هواك تمذهبت به
ولو كان القدر حجة لفاعل الفواحش والمظالم لم يحسن أن يلوم أحد أحدا ولا يعاقب أحد أحدا فكان للإنسان أن يفعل في دم غيره وماله وأهله ما يشتهيه من المظالم والقبائح ويحتج بأن ذلك مقدر عليه
والمحتجون على المعاصي بالقدر أعظم بدعة وأنكر قولا وأقبح طريقا من المنكرين للقدر فالمكذبون بالقدر من المعتزلة والشيعة وغيرهم المعظمون للأمر والنهي والوعد والوعيد خير من الذين يرون القدر حجة لمن ترك المأمور وفعل المحظور كما يوجد ذلك في كثير من المدعين للحقيقة الذين يشهدون القدر ويعرضون عن الأمر والنهي من الفقراء والصوفية والعامة وغيرهم فلا عذر لأحد في ترك مأمور ولا فعل محظور بكون ذلك مقدرا عليه بل لله الحجة البالغة على خلقه
والقدرية المحتجون بالقدر على المعاصي شر من القدرية المكذبين بالقدر وهم أعداء الملل وأكثر ما أوقع الناس في التكذيب بالقدر احتجاج هؤلاء به ولهذا اتهم بمذهب القدر غير واحد ولم يكونوا قدرية بل كانوا لا يقبلون الاحتجاج على المعاصي بالقدر كما قيل للإمام أحمد كان ابن أبي ذئب قدريا فقال الناس كل من شدد عليهم المعاصي قالوا هذا قدري وقد قيل إنه بهذا السبب نسب إلى الحسن القدر لكونه كان شديد الإنكار للمعاصي ناهيا عنها ولذلك نجد الواحد من هؤلاء ينكر على من ينكر المنكر ويقول هؤلاء قدر عليهم ما فعلوه فيقال لهذا وإنكار هذا المنكر أيضا بقدر الله فنقضت قولك بقولك
وهؤلاء يقول بعض مشايخهم أنا كافر برب يعصى ويقول لو قتلت سبعين نبيا لم أكن مخطئا ويقول بعض شعرائهم
أصبحت منفعلا لما يختاره ... مني ففعلي كله طاعات
ومن الناس من يظن أن احتجاج آدم على موسى بالقدر كان من هذا الباب وهذا جهل عظيم فإن الأنبياء من أعظم الناس أمرا بما أمر الله به ونهيا عما نهى الله عنه وذما لمن ذمه الله وإنما بعثوا بالأمر بالطاعة لله والنهي عن معصية الله فكيف يسوغ أحد منهم أن يعصي عاص لله محتجا بالقدر ولأن آدم عليه السلام كان قد تاب من الذنب والتائب من الذنب كمن لا ذنب له ولأنه لو كان القدر حجة لكان حجة لإبليس وفرعون وسائر الكفار ولكن كان ملام موسى لآدم عليهما السلام لأجل المصيبة
التي لحقتهم بسبب أكله ولهذا قال له لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة
والمؤمن مأمور أن يرجع إلى القدر عند المصائب لا عند الذنوب والمعاصي فيصبر على المصائب ويستغفر من الذنوب كما قال تعالى فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك سورة غافر 55 وقال تعالى ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها الأية سورة الحديد 22 وقال ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه سورة التغابن قال ابن مسعود رضي الله عنه هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم
ولهذا قال غير واحد من السلف والصحابة والتابعين لهم بإحسان لا يبلغ الرجل حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما اخطأه لم يكن ليصيبه
فالإيمان بالقدر والرضا بما قدره الله من المصائب والتسليم لذلك هو من حقيقة الإيمان وأما الذنوب فليس لأحد أن يحتج فيها بقدر الله تعالى بل عليه أن لا يفعلها وإذا فعلها فعليه أن يتوب منها كما فعل آدم ولهذا قال بعض الشيوخ اثنان أذنبا ذنبا آدم وإبليس فآدم تاب فتاب الله عليه واجتباه وهداه وإبليس أصر واحتج بالقدر فمن تاب من ذنبه أشبه أباه آدم ومن أصر واحتج بالقدر أشبه إبليس
وإذا كان الفرق بين الفاعل المختار وبين غيره مستقرا في بدائه العقول حصل المقصود وكذلك إذا كان مستقرا في بدائه العقول أن الأفعال الاختيارية تكسب نفس الإنسان صفات محمودة وصفات مذمومة بخلاف لونه وطوله وعرضه فإنها لا تكسبه ذلك
فالعلم النافع والعمل الصالح والصلاة الحسنة وصدق الحديث وإخلاص العمل لله وأمثال ذلك تورث القلب صفات محمودة كما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال إن للحسنة لنورا في القلب وضياء في الوجه وسعة في الرزق وقوة في البدن ومحبة في قلوب الخلق وإن للسيئة لسوادا في الوجه وظلمة في القلب ووهنا في البدن ونقصا في الرزق وبغضا في قلوب الخلق
ففعل الحسنة له آثار محمودة موجودة في النفس وفي الخارج وكذلك فعل السيئات والله تعالى جعل الحسنات سببا لهذا والسيئات سببا لهذا كما جعل أكل السم سببا للمرض والموت وأسباب الشر لها أسباب تدفع بمقتضاها فالتوبة والأعمال الصالحة تمحى بها السيئات والمصائب في الدنيا تكفر بها السيئات كما أن السم تارة يدفع موجبه بالدواء وتارة يورث مرضا يسيرا ثم تحصل العافية
وإذا قيل خلق الفعل مع حصول العقوبة عليه ظلم كان بمنزلة أن يقال خلق أكل السم ثم حصول الموت به ظلم والظلم وضع الشيء في غير موضعه واستحقاق هذا الفاعل لأثر فعله الذي هو معصية الله كاستحقاقه لأثره إذا ظلم العباد
وهذا الآن ينزع إلى مسألة التحسين والتقبيح فإن الناس متفقون على أن كون الفعل يكون سببا لمنفعة العبد وحصول ما يلائمه وسببا لحصول مضرته وحصول ما ينافيه قد يعلم بالعقل وكذلك كونه قد يكون صفة كمال وصفة نقص وإنما تنازعوا في كونه يكون سببا للعقاب والذم على قولين مشهورين
والنزاع في ذلك بين أصحاب أحمد وبين اصحاب مالك وبين أصحاب الشافعي وغيرهم وأما أبو حنيفة وأصحابه فيقولون بالتحسين والتقبيح وهو قول جمهور الطوائف من المسلمين وغيرهم وفي الحقيقة فهذا النزاع يرجع إلى الملاءمة والمنافرة والمنفعة والمضرة فإن الذم والعقاب مما يضر العبد ولا يلائمه فلا يخرج الحسن والقبح عن حصول المحبوب والمكروه فالحسن ما حصل المحبوب المطلوب المراد لذاته والقبيح ما حصل المكروه البغيض فإذا كان الحسن يرجع إلى المحبوب والقبيح يرجع إلى المكروه بمنزلة النافع والضار والطيب والخبيث ولهذا يتنوع بتنوع الأحوال فكما أن الشيء الواحد يكون نافعا إذا صادف حاجة ويكون ضارا في موضع آخر كذلك الفعل كأكل الميتة يكون قبيحا تارة ويكون حسنا أخرى
وإذا كان كذلك فهذا الأمر لا يختلف سواء كان العبد هو الفاعل بغير أن يخلق الله له القدرة والإرادة أو بأن يخلق الله له ذلك كما في سائر ما هو نافع وضار ومحبوب ومكروه
وقد دلت الدلائل اليقينية على أن كل حادث فالله خالقه وفعل العبد من جملة الحوادث وكل ممكن يقبل الوجود والعدم فإن شاء الله كان وإن لم يشأ لم يكن وفعل العبد من جملة الممكنات وذلك لأن العبد إذا فعل الفعل فنفس الفعل حادث بعد أن لم يكن فلا بد له من سبب
وإذا قيل حدث بالإرادة فالإرادة أيضا حادثة فلا بد لها من سبب وإن شئت قلت الفعل ممكن فلا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح وعلى طريقة بعضهم فلا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح وكون العبد فاعلا له حادث ممكن فلا بد له من محدث مرجح ولا فرق في ذلك بين حادث وحادث والمرجح لوجود الممكن لا بد أن يكون تاما مستلزما وجود الممكن وإلا فلو كان مع وجود المرجح يمكن وجود الفعل تارة وعدمه أخرى لكان ممكنا بعد حصول المرجح يمكن وجوده وعدمه وحينئذ فلا يترجح وجوده علىعدمه إلا بمرجح وهذا المرجح إما أن يكون تاما مستلزما وجود الفعل وإما أن يكون الفعل معه يمكن وجوده وعدمه فإن كان الثاني لزم ان لا يوجد الفعل بحال ولزم التسلسل الباطل
فعلم أن الفعل لا يوجد إلا إذا وجد مرجح تام يستلزم وجوده وذلك المرجح التام هو الداعي التام والقدرة وهذا مما سلمه طائفة من المعتزلة كأبي الحسين البصري وغيره سلموا أنه إذا وجد الداعي التام والقدرة التامة لزم وجود الفعل وأن الداعي والقدرة خلق لله عز وجل وهذا حقيقة قول أهل السنة الذين يقولون إن الله خالق أفعال العباد كما أن الله خالق كل شيء فإن أئمة أهل السنة يقولون إن الله خالق الأشياء بالأسباب وأنه خلق للعبد قدرة يكون بها فعله وأن العبد فاعل لفعله حقيقة فقولهم في خلق فعل العبد بإرادته وقدرته كقولهم في خلق سائر الحوادث بأسبابها ولكن ليس هذا قول من ينكر الأسباب والقوى التي في الأجسام وينكر تأثير القدرة التي للعبد التي بها يكون الفعل ويقول إنه لا أثر لقدرة العبد أصلا في فعله كما يقول ذلك جهم وأتباعه والأشعري ومن وافقه
وليس قول هؤلاء قول أئمة السنة ولا جمهورهم بل أصل هذا القول هو قول الجهم بن صفوان فإنه كان يثبت مشيئة الله تعالى وينكر أن يكون له حكمة أو رحمة وينكر أن يكون للعبد فعل أو قدرة مؤثرة وحكي عنه أنه كان يخرج إلى الجذمي ويقول أرحم الراحمين يفعل مثل هذا إنكارا لأن تكون له رحمة يتصف به وزعما منه أنه ليس إلا مشيئة محضة لا اختصاص لها بحكمة بل يرجح أحد المتماثلين بلا مرجح
وهذا قول طائفة من المتأخرين وهؤلاء يقولون إنه لم يخلق لحكمة ولم يأمر لحكمة وأنه ليس في القرآن لام كي لا في خلق الله ولا في أمر الله وهؤلاء الجهمية المجبرة هم والمعتزلة والقدرية في طرفين متقابلين
وقول سلف الأمة وأئمة السنة وجمهورها ليس قول هؤلاء ولا قول هؤلاء وإن كان كثير من المثبتين للقدر يقول بقول جهم فالكلام إنما هو في أهل السنة المثبتين لإمامة أبي بكر وعمر وعثمان والمثبتين للقدر وهذا الاسم يدخل فيه الصحابة والتابعون لهم بإحسان وأئمة التفسير والحديث والفقه والتصوف وجمهور المسلمين وجمهور طوائفهم لا يخرج عن هذا إلا بعض الشيعة وأئمة هؤلاء وجمهورهم على القول الوسط الذي ليس هو قول المعتزلة ولا قول جهم وأتباعه الجبرية فمن قال إن شيئا من الحوادث أفعال الملائكة والجن والإنس لم يخلقها الله تعالى فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع السلف والأدلة العقلية
ولهذا قال بعض السلف من قال إن كلام الآدميين أو أفعال العباد غير مخلوقة فهو بمنزلة من قال إن سماء الله وأرضه غير مخلوقة
والله تعالى يخلق ما يخلق لحكمة كما تقدم ومن جملة المخلوقات ما قد يحصل به ضرر عارض لبعض الناس كالأمراض والآلام وأسباب ذلك فخلق الصفات والأفعال التي هي أسبابه من جملة ذلك فنحن نعلم ان لله في ذلك حكمة وإذا كان قد فعل ذلك لحكمة خرج عن أن يكون سفها وإذا كان العقاب على فعل العبد الاختياري لم يكن ظلما فهذا الحادث بالنسبة إلى الرب له فيه حكمة يحسن لأجل تلك الحكمة وبالنسبة إلى العبد عدل لأنه عوقب على فعله فما ظلمه الله ولكن هو ظلم نفسه
واعتبر ذلك بأن يكون غير الله هو الذي عاقبه على ظلمه لو عاقبه ولي أمر على عدوانه على الناس فقطع يد السارق أليس ذلك عدلا من هذا الوالي وكون الوالي مأمورا بذلك يبين أنه عادل
لكن المقصود هنا أنه مستقر في فطر الناس وعقولهم أن ولي الأمر إذا أمر الغاصب برد المغصوب إلى مالكه وضمن التالف بمثله أنه يكون حاكما بالعدل وما زال العدل معروفا في القلوب والعقول ولو قال هذا المعاقب أنا قد قدر علي هذا لم يكن هذا حجة له ولا مانعا لحكم الوالي أن يكون عدلا
فالله تعالى أعدل العادلين إذا اقتص للمظلوم من ظالمه في الآخرة أحق بأن يكون ذلك عدلا منه فإن قال الظالم هذا كان مقدرا علي لم يكن هذا عذرا صحيحا ولا مسقطا لحق المظلوم وإذا كان الله هو الخالق لكل شيء فذاك لحكمة أخرى له في الفعل فخلقه حسن بالنسبة إليه لما له فيه من الحكمة والفعل القبيح المخلوق قبيح من فاعله لما عليه
فيه من المضرة كما أن أمر الوالي بعقوبة الظالم يسر الوالي لما فيه من الحكمة وهو عدله وأمره بالعدل وذلك يضر المعاقب لما عليه فيه من الألم
ولو قدر أن هذا الوالي كان سببا في حصول ذلك الظلم على وجه لا يلام عليه لم يكن عذرا للظالم مثل حاكم شهد عنده بينة بمال لغريم فأمر بحبسه أو عقوبته حتى ألجأه ذلك إلى أخذ مال آخر بغير حق ليوفيه إياه فإن الحاكم أيضا يعاقبه فيه فإذا قال أنت حبستني وكنت عاجزا عن الوفاء ولا طريق لي إلى الخلاص إلا أخذ مال هذا لكان حبسه الأول ضررا عليه وعقوبته ثانيا على أخذ مال الغير ضررا عليه والوالي يقول أنا حكمت بشهادة العدول فلا ذنب لي في ذلك وغايتي أني أخطأت والحاكم إذا أخطأ له أجر وقد يفعل كل من الرجلين بالآخر من الضرر ما يكون فيه معذورا والآخر معاقبا بل مظلوما لكن بتأويل
وهذه الأمثال ليست مثل فعل الله تعالى فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله فإنه سبحانه يخلق الاختيار في المختار والرضا في الراضي والمحبة في المحب وهذا لا يقدر عليه إلا الله
ولهذا أنكر الأئمة على من قال جبر الله العباد كالثوري والأوزاعي والزبيدي وأحمد بن حنبل وغيرهم وقالوا الجبر لا يكون إلا من عاجز كما يجبر الأب ابنته على خلاف مرادها
والله خالق الإرادة والمراد فيقال جبل كما جاءت به السنة ولا يقال جبر فإن النبي ﷺ في الحديث الصحيح قال لأشج عبد القيس إن فيك لخلقين يحبهما الله الحلم والأناة فقال أخلقين تخلقت بهما أم خلقين جبلت عليهما قال بل خلقين جبلت عليهما فقال الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله
ومما يبين هذا أن الله سبحانه وتعالى جهة خلقه وتقديره غير جهة أمره وتشريعه فإن أمره وتشريعه مقصوده بيان ما ينفع العباد إذا فعلوه وما يضرهم بمنزلة أمر الطبيب للمريض بما ينفعه فأخبر الله على ألسن رسله بمصير السعداء والأشقياء وأمر بما يوصل إلى السعادة ونهى عما يوصل إلى الشقاوة وخلقه وتقديره يتعلق به وبجملة المخلوقات فهو يفعل لما فيه حكمة متعلقة بعموم خلقه وإن كان في ضمن ذلك مضرة لبعض الناس كما أنه ينزل المطر لما فيه من الرحمة والنعمة العامة والحكمة وإن كان في ضمن ذلك تضرر بعض الناس بسقوط منزله وانقطاعه عن سفره وتعطيل معيشته وكذلك يرسل نبيه محمدا ﷺ لما في إرساله من الرحمة العامة وإن كان في ضمن ذلك سقوط رياسة قوم وتألمهم بذلك فإذا قدر على الكافر كفره قدره الله لما له في ذلك من الحكمة والمصلحة العامة وعاقبه لاستحقاقه ذلك بفعله الاختياري وإن كان مقدرا ولما له في عقوبته من الحكمة والمصلحة العامة
وقياس أفعال الله علىأفعال العباد خطأ ظاهر لأن السيد إذا أمر عبده بأمر أمره لحاجته إليه ولغرض السيد فإذا أثابه على ذلك كان من باب المعاوضة وليس له حكمة يطلبها إلا حصول ذلك المأمور به وليس هو الخالق لفعل المأمور فإذا قدر أن السيد لم يعوض المأمور أو لم يقم بحق عبده الذي يقضي حوائجه كان ظالما كالذي يأخذ سلعة ولا يعطي ثمنها أو يستوفي منفعة الأجير ولم يوفه أجره
والله تعالى غني عن العباد إنما أمرهم بما ينفعهم ونهاهم عما يضرهم فهو محسن إلى عباده بالأمر لهم محسن لهم بإعانتهم على الطاعة ولو قدر أن عالما صالحا أمر الناس بما ينفعهم ثم أعان بعض الناس على فعل ما أمرهم به ولم يعن آخرين لكان محسنا إلى هؤلاء إحسانا تاما ولم يكن ظالما لمن لم يحسن إليه وإذا قدر أنه عاقب المذنب العقوبة التي يقتضيها عدله وحكمته لكان أيضا محمودا على هذا وهذا وأين هذا من حكمة أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين
فأمره لهم إرشاد وتعليم وتعريف بالخير فإن أعانهم على فعل المأمور كان قد أتم النعمة على المأمور وهو مشكور علىهذا وهذا وإن لم يعنه وخذله حتى فعل الذنب كان له في ذلك حكمة أخرى وإن كانت مستلزمة تألم هذا فإنما تألم بأفعاله الاختيارية التي من شأنها أن تورثه نعيما أو ألما وإن كان ذلك الإيراث بقضاء الله وقدره فلا منافاة بين هذا وهذا فجعله المختار مختارا من كمال قدرته وحكمته وترتيب آثار الاختيار عليه من تمام حكمته وقدرته
لكن يبقى الكلام في نفس الحكمة الكلية في هذه الحوادث فهذه ليس على الناس معرفتها ويكفيهم التسليم لما قد علموا أنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وأنه أرحم بعباده من الوالدة بولدها
ومن المعلوم ما لو علمه كثير من الناس لضرهم علمه ونعوذ بالله من علم لا ينفع وليس اطلاع كثير من الناس بل أكثرهم على حكم الله في كل شيء نافعا لهم بل قد يكون ضارا قال تعالى لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم
وهذه المسألة مسألة غايات أفعال الله ونهاية حكمته مسألة عظيمة لعلها أجل المسائل الإلهية وقد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع وكذلك بسط الكلام على مسائل القدر وإنما نبهنا تنبيها لطيفا على امتناع أن يكون خلق الفعل ظلما سواء قيل إن الظلم ممتنع من الله أو قيل إنه مقدور فإن الظلم الذي هو ظلم أن يعاقب الإنسان على عمل غيره فأما عقوبته على فعله الاختياري وإنصاف المظلومين من الظالمين فهو من كمال عدل الله تعالى
وهذا التفصيل في باب التعديل والتجوير بين مذهب القدرية الذين يقيسون الله بخلقه في عدلهم وظلمهم وبين مذهب الجبرية الذين لا يجعلون لأفعال الله حكمة ولا ينزهونه عن ظلم يمكنه فعله ولا فرق عندهم بالنسبة إليه بين ما يقال هو عدل وإحسان وبين ما يقال هو ظلم
وقول هؤلاء من الأسباب التي قويت بها شناعات القدرية حتى غلوا في الناحية الأخرى وخيار الأمور أوسطها ودين الله عدل بين الغالي فيه والجافي عنه وقد ظهر الفرق بين عقوبته على الكفر وغيره من المعاصي وبين عقوبته على اللون والطول كما يظهر الفرق بينهما إذا كان المعاقب بعض الناس فإن الكفر وإن كان خلق فيه إرادته وقدرته عليه فهو الذي فعله باختياره وقدرته وإن كان كذلك كله مخلوقا كما يعاقبه غيره عليه مع كون ذلك كله مخلوقا
وأما قوله ولم يخلق فيه قدرة على الإيمان فهذا قاله على قول من يقول من أهل الإثبات إن القدرة لا تكون إلا مع الفعل فكل من لم يفعل شيئا لم يكن قادرا عليه ولكن يكون عاجزا عنه وهؤلاء قد يقولون لا يكلف العبد ما يعجز عنه ولكن يكلف ما يقدر عليه بناء على أن القدرة لا تكون إلا مع الفعل
وحقيقة قولهم أن كل من ترك واجبا لم يكن قادرا عليه وليس هذا قول جمهور أهل السنة بل جمهور أهل السنة يثبتون للعبد قدرة هي مناط الأمر والنهي وهذه قد تكون قبله لا يجب أن تكون معه ويقولون أيضا إن القدرة التي يكون بها الفعل لا بد ان تكون مع الفعل لا يجوزون أن يوجد الفعل بقدرة معدومة ولا بإرادة معدومة كما لا يوجد بفاعل معدوم
وأما القدرية فيزعمون أن القدرة لا تكون إلا قبل الفعل ومن قابلهم من المثبتة يقولون لا تكون إلا مع الفعل
وقول الأئمة والجمهور هو الوسط أنها لا بد أن تكون معه وقد تكون مع ذلك قبله كقدرة المأمور العاصي فإن تلك القدرة تكون متقدمة على الفعل بحيث تكون لمن لم يطع كما قال تعالى: ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا سورة آل عمران 97 فأوجب الحج على المستطيع فلو لم يستطع إلا من حج لم يكن الحج قد وجب إلا على من حج ولم يعاقب أحد على ترك الحج وهذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام
وكذلك قال تعالى فاتقوا الله مااستطعتم سورة التغابن 16 فأوجب التقوى بحسب الاستطاعة فلو كان من لم يتق الله لم يستطع التقوى لم يكن قد أوجب التقوى إلا على من اتقى ولا يعاقب من لم يتق وهذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام
وهؤلاء إنما قالوا هذا لأن القدرية والمعتزلة والشيعة وغيرهم قالوا القدرة لا تكون إلا قبل الفعل لتكون صالحة للضدين الفعل والترك وأما حين الفعل فلا يكون إلا الفعل فزعموا أو من زعم منهم أنه حينئذ لا يكون قادرا لأن القادر لا بد أن يقدر على الفعل والترك وحين الفعل لا يكون قادرا على الترك فلا يكون قادرا
وأما أهل السنة فإنهم يقولون لا بد أن يكون قادرا حين الفعل ثم أئمتهم قالوا ويكون أيضا قادرا قبل الفعل وقالت طائفة منهم لا يكون قادرا إلا حين الفعل وهؤلاء يقولون إن القدرة لا تصلح للضدين عندهم فإن القدرة المقارنة للفعل لا تصلح إلا لذلك الفعل وهي مستلزمة له لا توجد بدونه إذ لو صلحت للضدين على وجه البدل أمكن وجودها مع عدم أحد الضدين والمقارن للشيء مستلزم له لا يوجد مع عدمه فإن وجود الملزوم بدون اللازم ممتنع وما قالته القدرية فهو بناء على أصلهم الفاسد وهو أن إقدار الله المؤمن والكافر والبر والفاجر سواء فلا يقولون إن الله خص المؤمن المطيع بإعانة حصل بها الإيمان بل يقولون إن إعانته للمطيع والعاصي سواء ولكن هذا بنفسه رجح الطاعة وهذا بنفسه رجح المعصية كالوالد الذي أعطى كل واحد من ابنيه سيفا فهذا جاهد به في سبيل الله وهذا قطع به الطريق أو أعطاهما مالا فهذا أنفقه في سبيل الله وهذا أنفقه في سبيل الشيطان
وهذا القول فاسد باتفاق أهل السنة والجماعة المثبتين للقدر فإنهم متفقون على أن لله على عبده المطيع المؤمن نعمة دينية خصه بها دون الكافر وأنه أعانه على الطاعة إعانة لم يعن بها الكافر كما قال تعالى ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون سورة الحجرات 7 فبين أنه حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم فالقدرية تقول هذا التحبيب والتزيين عام في كل الخلق أو هو بمعنى البيان وإظهار دلائل الحق والآية تقتضي أن هذا خاص بالمؤمنين ولهذا قال أولئك هم الراشدون والكفار ليسوا راشدين
وقال تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء سورة الأنعام 12وقال أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون سورة الأنعام 12وقال تعالى وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين سورة الأنعام 53
وقال تعال يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين سورة الحجرات 1وقد أمر الله عباده أن يقولوا اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم
والدعاء إنما يكون لشيء مستقبل غير حاصل يكون من فعل الله تعالى وهذه الهداية المطلوبة غير الهدي الذي هو بيان الرسول ﷺ وتبليغه
وقال تعالى يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام سورة المائدة
وقال تعالى ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم أحد من أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم
وقال الخليل ﷺ ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا سورة البقرة
وقال تعالى وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون سورة السجدة
وقال تعالى وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار سورة القصص
ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة يبين سبحانه وتعالى اختصاصه عباده المؤمنين بالهدى والإيمان والعمل الصالح والعقل يدل على ذلك فإنه إذا قدر أن جميع الأسباب الموجبة للفعل من الفاعل كما هي من التارك كان اختصاص الفاعل بالفعل ترجيحا لأحد المثلين على الآخر بلا مرجح وذلك معلوم الفساد بالضرورة وهو الأصل الذي بنوا عليه إثبات الصانع فإن قدحوا في ذلك انسد عليهم طريق إثبات الصانع
وغايتهم أن قالوا القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح كالجائع والخائف وهذا فاسد فإنه مع استواء الأسباب الموجبة من كل وجه يمتنع الرجحان
وأيضا فقول القائل يرجح بلا مرجح إن كان لقوله يرجح معنى زائد على وجود الفعل فذاك هو السبب المرجح وإن لم يكن له معنى زائد كان حال الفعل قبل وجود الفعل كحاله عند الفعل ثم الفعل حصل في إحدى الحالتين دون الأخرى بلا مرجح وهذا مكابرة للعقل
فما كان أصل قول القدرية أن فاعل الطاعات وتاركها كلاهما في الإعانة والإقدار سواء امتنع على أصلهم أن يكون مع الفعل قدرة تخصه لأن القدرة التي تخص الفعل لا تكون للتارك وإنما تكون للفاعل والقدرة لا تكون إلا من الله وما كان من الله لم يكن مختصا بحال وجود الفعل ثم لما رأوا أن القدرة لا بد أن تكون قبل الفعل قالوا لا تكون مع الفعل لأن القدرة هي التي يكون بها الفعل والترك وحال وجود الفعل يمتنع الترك فلهذا قالوا القدرة لا تكون إلا قبل الفعل وهذا باطل قطعا لأن وجود الأثر مع عدم بعض شروطه الوجودية ممتنع بل لا بد أن يكون جميع ما يتوقف عليه الفعل من الأمور الوجودية موجودا عند الفعل فنقيض قولهم حق وهو أن الفعل لا بد أن يكون معه قدرة لكن صار أهل الإثبات هنا حزبين حزبا قالوا لا تكون القدرة إلا معه ظنا منهم أن القدرة نوعا واحد لا تصلح للضدين وظنا من بعضهم أن القدرة عرض فلا تبقى زمانين فيمتنع وجودها قبل الفعل
والصواب الذي عليه أئمة الفقه والسنة أن القدرة نوعان نوع مصحح للفعل يمكن معه الفعل والترك وهذه هي التي يتعلق بها الأمر والنهي فهذه تحصل للمطيع والعاصي وتكون قبل الفعل وهذه تبقى إلى حين الفعل إما ببقائها عند من يقول ببقاء الأعراض وإما بتجدد أمثالها عند من يقول إن الأعرض لا تبقى وهذه قد تصلح للضدين
وأمر الله لعباده مشروط بهذه الطاقة فلا يكلف الله من ليست معه هذه الطاقة وضد هذه العجز وهذه المذكورة في قول الله تعالى ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات سورة النساء وقوله تعالى وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون سورة التوبة 42 وقوله في الكفارة فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا سورة المجادلة 4 فإن هذا نفي لاستطاعة من لم يفعل فلا يكون مع الفعل
ومنه قول النبي ﷺ لعمران بن حصين صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب فإنما نفى استطاعة لا فعل معها
وأيضا فالاستطاعة المشروطة في الشرع أخص من الاستطاعة التي يمتنع الفعل مع عدمها فإن الاستطاعة الشرعية قد تكون مما يتصور الفعل مع عدمها وإن لم يعجز عنه فالشارع ييسر على عباده ويريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر وما جعل عليهم في الدين من حرج
والمريض قد يستطيع القيام مع زيادة مرضه وتأخر برئه فهذا في الشرع غير مستطيع لأجل حصول الضرر عليه وإن كان يسميه بعض الناس مستطيعا
فالشارع لا ينظر في الاستطاعة الشرعية إلى مجرد إمكان الفعل بل ينظر إلى لوازم ذلك فإذا كان الفعل ممكنا مع المفسدة الراجحة لم تكن هذه استطاعة شرعية كالذي يقدر أن يحج مع ضرر يلحقه في بدنه أو ماله أو يصلي قائما مع زيادة مرضه أو يصوم الشهرين مع انقطاعه عن معيشته ونحو ذلك فإن كان الشارع قد اعتبر في المكنة عدم المفسدة الراجحة فكيف يكلف مع العجز
ولكن هذه الاستطاعة مع بقائها إلى حين الفعل لا تكفي في وجود الفعل ولو كانت كافية لكان التارك كالفاعل بل لا بد من إحداث إعانة أخرى تقارن هذه مثل جعل الفاعل مريدا فإن الفعل لا يتم إلا بقدرة وإرادة
والاستطاعة المقارنة للفعل تدخل فيها الإرادة الجازمة بخلاف المشروطة في التكليف فإنه لا يشترط فيها الإرادة والله تعالى يأمر بالفعل من لا يريده لكن لا يأمر به من لو أراده لعجز عنه
وهذا الفرقان هو فصل الخطاب في هذا الباب وهكذا أمر الناس بعضهم لبعض فإن الإنسان يأمر عبده بما لا يريده العبد لكن لا يأمره بما يعجز عنه العبد وإذا اجتمعت الإرادة الجازمة والقوة التامة لزم وجود الفعل ولا بد أن يكون هذا المستلزم للفعل مقارنا له لا يكفي تقدمه عليه إن لم يقارنه فإنه العلة التامة للفعل والعلة التامة تقارن المعلول لا تتقدمه ولأن القدرة شرط في وجود الفعل وكون الفاعل قادرا والشرط في وجود الشيء الذي به القادر يكون قادرا لا يكون الشيء مع عدمه بل مع وجوده وإلا فيكون الفاعل فاعلا حين لا يكون قادرا أو غير القادر لا يكون قادرا
وهذا معنى قول أهل الاثبات الذي يذكره مثل القاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وغيرهما لا خلاف بيننا وبين المعتزلة أن المصحح لكون الفاعل فاعلا هو كونه قادرا ووجدنا كل مصحح لأمر من الأمور فإنه يستحيل ثبوت ذلك الأمر والحكم مع عدم المصحح له ألا ترى أنه لما ثبت أن المصحح لكون القادر العالم كونه حيا استحال كونه عالما قادرا مع عدم كونه حيا وكذلك لما كان المصحح لكون المتلون متلونا وكونه متحركا كونه جوهرا استحال كونه متلونا ومتحركا وليس بجوهر وكذلك يستحيل كونه فاعلا في حال ليس هو فيها قادرا
قالوا وهذا من الأدلة المعتمدة وهذا الدليل يقتضي أنه لا بد من وجود القدرة على الفعل ولكن لا ينفي وجودها قبل الفعل فإن المصحح يصح وجوده قبل وجود المشروط وبدون ذلك كما يصح وجود الحياة بدون العلم والجوهر بدون الحركة
وهذا مما يحتج به على الفلاسفة في مسألة حدوث العالم فإنهم إذا قالوا العلة القديمة تحدث الدورة الثانية بشرط انقضاء الأولى
قيل لهم لا بد عند وجود المحدث من العلة التامة وكون الفاعل قادرا تام القدرة مريدا تام الإرادة فلا يكفي في الإحداث مجرد وجود شيء متقدم على الإحداث فكيف يكفي مجرد عدم شيء يتقدم عدمه على الإحداث بل لا بد حين الإحداث من المؤثر التام ثم كذلك عند حدوث المؤثر التام لا بد له من مؤثر تام فإذا لم يكن إلا علة تامة أزلية يقارنها معلولها لزم حدوث الحوادث بلا محدث أصلا
وهذا يدل على أن الرب تعالى يتصف بما به يفعل الحوادث المخلوقة من الأقوال القائمة به الحاصلة بقدرته ومشيئته كما قد بسط في موضعه
وهذا التفصيل في الإرادة والقدرة وتقسيمها إلى نوعين يزيل الاشتباه والاضطراب الحاصل في هذا الباب
وعلى هذا ينبني تكليف ما لا يطاق فإن من قال القدرة لا تكون إلا مع الفعل يقول كل كافر وفاسق قد كلف ما لا يطيق وليس هذا الإطلاق قول جمهور أهل السنة وأئمتهم بل يقولون إن الله تعالى قد أوجب الحج على المستطيع حج أو لم يحج وكذلك أوجب صيام الشهرين في الكفارة على المستطيع كفر أو لم يكفر وأوجب العبادات على القادرين دون العاجزين فعلوا أو لم يفعلوا
وما لا يطاق يفسر بشيئين يفسر بما لا يطاق للعجز عنه فهذا لم يكلفه الله أحدا ويفسر بما لا يطاق للاشتغال بضده فهذا هو الذي وقع فيه التكليف كما في أمر العباد بعضهم بعضا فإنهم يفرقون بين هذا وهذا فلا يأمر السيد عبده الأعمى بنقط المصاحف ويأمره إذا كان قاعدا أن يقوم ويعلم الفرق بين هذا وهذا بالضرورة
وهذه المسائل مبسوطة في غير هذا الموضع وإنما نبهنا على نكتها بحسب ما يليق بهذا الموضع
وعلى هذا فقوله لم يخلق فيه قدرة على الإيمان ليس هو قول جمهور أهل السنة بل يقولون خلق له القدرة المشروطة في التكليف المصححة للأمر والنهي كما في العباد إذا أمر بعضهم بعضا فما يوجد من القدرة في ذلك الأمر فهو موجود في أمر الله لعباده بل تكليف الله أيسر ورفعه للحرج أعظم والناس يكلف بعضهم بعضا أعظم مما أمرهم الله به ورسوله ولا يقولون إنه تكليف ما لا يطاق ومن تأمل أحوال من يخدم الملوك والرؤساء ويسعى في طاعتهم وجد عندهم من ذلك ما ليس عند المجتهدين في العبادة لله
فصل
قال الرافضي:
ومنها إفحام الأنبياء وانقطاع حجتهم لأن النبي إذا قال للكافر آمن بي وصدقني يقول قل للذي بعثك يخلق في الإيمان والقدرة المؤثرة فيه حتى أتمكن من الإيمان وأومن بك وإلا فكيف تكلفني الإيمان ولا قدرة لي عليه بل خلق في الكفر وأنا لا أتمكن من مقاهرة الله تعالى فينقطع النبي ولا يتمكن من جوابه
فيقال
هذا مقام يكثر فيه خوض النفوس فإن كثيرا من الناس إذا أمر بما يجب عليه تعلل بالقدرة وقال حتى يقدر الله لي ذلك أو يقدرني الله على ذلك أو حتى يقضي الله ذلك وكذلك إذا نهي عن فعل ما حرم الله قال الله قضى علي بذلك أي حيلة لي في هذا ونحو هذا الكلام
والاحتجاج بالقدر حجة باطلة داحضة باتفاق كل ذي عقل ودين من جميع العالمين والمحتج به لا يقبل من غيره مثل هذه الحجة إذا احتج بها في ظلم ظلمه إياه أو ترك ما يجب عليه من حقوقه بل يطلب منه ما له عليه ويعاقبه على عدوانه عليه وإنما هو من جنس شبه السوفسطائية التي تعرض في العلوم فكما أنك تعلم فسادها بالضرورة وإن كانت تعرض كثيرا لكثير من الناس حتى قد يشك في وجود نفسه وغير ذلك من المعارف الضرورية فكذلك هذا يعرض في الأعمال حتى يظن أنها شبهة في إسقاط الصدق والعدل الواجب وغير ذلك وإباحة الكذب والظلم وغير ذلك ولكن تعلم القلوب بالضرورة ان هذه شبهة باطلة ولهذا لا يقبلها أحد من أحد عند التحقيق ولا يحتج بها أحد إلا مع عدم علمه بالحجة بما فعله فإذا كان معه علم بأن ما فعله هو المصلحة وهو المأمور به وهو الذي ينبغي فعله لم يحتج بالقدر وكذلك إذا كان معه علم بأن الذي لم يفعله ليس عليه أن يفعله أو ليس بمصلحة أو ليس هو مأمورا به لم يحتج بالقدر بل إذا كان متبعا لهواه بغير علم احتج بالقدر
ولهذا لما قال المشركون لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء سورة الأنعام 148 قال الله تعالى قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين سورة الأنعام فإن هؤلاء المشركين يعلمون بفطرتهم وعقولهم أن هذه الحجة داحضة باطلة
فإن أحدهم لو ظلم الآخر في ماله أو فجر بامرأته أو قتل ولده أو كان مصرا على الظلم فنهاه الناس عن ذلك فقال لو شاء الله لم أفعل هذا لم يقبلوا منه هذه الحجة ولا هو يقبلها من غيره وإنما يحتج بها المحتج دفعا للوم بلا وجه فقال الله لهم هل عندكم من علم فتخرجوه لنا بأن هذا الشرك والتحريم من أمر الله وأنه مصلحة ينبغي فعله إن تتبعون إلا الظن فإنه لا علم عندكم بذلك إن تظنون ذلك إلا ظنا وإن أنتم إلا تخرصون تحرزون وتفترون فعمدتكم في نفس الأمر ظنكم وخرصكم ليس عمدتكم في نفس الأمر كون الله شاء ذلك وقدره فإن مجرد المشيئة والقدر لا يكون عمدة لأحد في الفعل ولا حجة لأحد على أحد ولا
عذرا لأحد إذ الناس كلهم مشتركون في القدر فلو كان هذا حجة وعمدة لم يحصل فرق بين العادل والظالم والصادق والكاذب والعالم والجاهل والبر والفاجر ولم يكن فرق بين ما يصلح الناس من الأعمال وما يفسدهم وما ينفعهم وما يضرهم
وهؤلاء المشركون المحتجون بالقدر على ترك ما أرسل الله به رسله من توحيده والايمان به لو احتج به بعضهم على بعض في إسقاط حقوقه ومخالفة أمره لم يقبله منه بل كان هؤلاء المشركون يذم بعضهم بعضا ويعادي بعضهم بعضا ويقاتل بعضهم بعضا على فعل ما يرونه تركا لحقهم أو ظلما فلما جاءهم رسول الله ﷺ يدعوهم إلى حق الله على عباده وطاعة امره احتجوا بالقدر فصاروا يحتجون بالقدر على ترك حق ربهم ومخالفة أمره بما لا يقبلونه ممن ترك حقهم وخالف أمرهم
وفي الصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال له يا معاذ أتدري ما حق الله على عباده حقه على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك حقهم عليه أن لا يعذبهم
فالاحتجاج بالقدر حال أهل الجاهلية الذين لا علم عندهم بما يفعلون ويتركون إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون وهم إنما يحتجون به في ترك حق ربهم ومخالفة أمره لا في ترك ما يرونه حقا لهم ولا في مخالفة أمرهم
ولهذا تجد كثيرا من المحتجين به والمستندين إليه من النساك والصوفية والفقراء والعامة والجند والفقهاء وغيرهم يفرون إليه عند اتباع الظن وما تهوى الأنفس فلو كان معهم علم وهدى لم يحتجوا بالقدر أصلا بل يعتمدون عليه لعدم الهدى والعلم
وهذا أصل شريف من اعتنى به علم منشأ الضلال والغي لكثير من الناس ولهذا تجد المشايخ والصالحين المتبعين للأمر والنهي كثيرا ما يوصون أتباعهم باتباع العلم والشرع لأنه كثيرا ما يعرض لهم إرادات في أشياء ومحبة لها فيتبعون فيها أهواءهم ظانين أنها دين الله وليس معهم إلا الظن والذوق والوجد الذي يرجع إلى محبة النفس وإرادتها فيحتجون تارة بالقدر وتارة بالظن والخرص وهم متبعون أهواءهم في الحقيقة فإذا اتبعوا العلم وهو ماجاء به الشارع ﷺ خرجوا عن الظن وما تهوى الأنفس واتبعوا ما ماجاءهم من ربهم وهو الهدى
كما قال تعالى فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى سورة طه 123
وقد ذكر الله تعالى هذا المعنى عن المشركين في سورة الأنعام والنحل والزخرف كما قال تعالى وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون سورة الزخرف 20 فبين أنه لا علم لهم بذلك إن هم إلا يخرصون
وقال في سورة الأنعام قل فلله الحجة البالغة سورة الأنعام 149 أي بإرسال الرسل وإنزال الكتب كما قال تعالى لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل سورة النساء 165 ثم أثبت القدر بقوله فلو شاء لهداكم أجمعين سورة الأنعام فأثبت الحجة الشرعية وبين المشيئة القدرية وكلاهما حق
وقال في النحل وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين بين سبحانه أن هذا الكلام تكذيب للرسل فيما جاؤوهم به ليس حجة لهم فإن هذا لو كان حجة لاحتج به على تكذيب كل صدق وفعل كل ظلم ففي فطرة بني آدم أنه ليس حجة صحيحة بل من احتج به احتج لعدم العلم واتباع الظن كفعل الذين كذبوا الرسل بهذه المدافعة بل الحجة البالغة لله بإرسال الرسل وإنزال الكتب
كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال لا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك مدح نفسه ولا أحد أغير
من الله من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن فبين أنه سبحانه يحب أن يمدح وأن يعذر ويبغض الفواحش فيحب أن يمدح بالعدل والإحسان وأن لا يوصف بالظلم
ومن المعلوم أنه من تقدم إلى أتباعه بأن افعلوا كذا ولا تفعلوا كذا وبين لهم وأزاح علتهم ثم تعدوا حدوده وأفسدوا أموره كان له أن يعذبهم وينتقم منهم
فإذا قالوا أليس الله قدر علينا هذا لو شاء الله ما فعلنا هذا
قيل لهم أنتم لا حجة لكم ولا عندكم ما تعتذرون به يبين أن ما فعلتموه كان حسنا أو كنتم معذورين فيه فهذا الكلام غير مقبول منكم وقد قامت الحجة عليكم بما تقدم من البيان والإعذار
ولو أن ولي الأمر أعطى قوما مالا ليوصلوه إلى بلد آخر فسافروا به وتركوه في البرية ليس عنده أحد وباتوا في مكان بعيد منه وكان ولي الأمر قد أرسل جندا له يغزون بعض الأعداء فاجتازوا تلك الطريق فرأوا ذلك المال فظنوه لقطة ليس له أحد فأخذوه وذهبوا لكان يحسن منه أن يعاقب الأولين على تفريطهم وتضييعهم حفظ ما أمرهم بحفظه
ولو قالوا له أنت لم تعلمنا أنك تبعث خلفنا جندا حتى نحترز المال منهم قال لهم هذا لا يجب علي ولو فعلته لكان زيادة إعانة لكم لكن كان عليكم أن تحفظوا ذلك كما تحفظ الودائع والأمانات وكانت حجته عليهم قائمة ولم يكن إن عاقبهم ظالما وإن كان لم يعنهم بالإعلام بذلك الجند لكن عمل المصلحة في إرسال الأولين والآخرين
والله تعالى وله المثل الأعلى حكيم عدل في كل ما يفعله ولا يخرج شيء عن مشيئته وقدرته فإذا أمر الناس بحفظ الحدود وإقامة الفرائض لمصلحتهم كان ذلك من إحسانه إليهم وتعريفهم ما ينفعهم وإذا خلق أمورا أخرى فإذا فرطوا واعتدوا بسبب خلقه لأمور أخرى أوجبت الضرر الحاصل من تفريطهم وعدوانهم وكان له في خلق المخلوق الثاني حكمة ومصلحة أخرى كان عادلا حكيما في خلق هذا وخلق هذا والأمر بهذا والأمر بهذا وإن كان لم يمد الأولين بزيادة يحترسون بها من التفريط والعدوان لا سيما مع علمه بأن تلك الزيادة لو خلقها للزم منها تفويت مصلحة أرجح منها فإن الضدين لا يجتمعان
والمقصود هنا أنه لا يحتج أحد بالقدر إلا حجة تعليل لعدم اتباع الحق الذي بينه العلم فإن الإنسان حي حساس متحرك بالإرادة
ولهذا قال النبي ﷺ أصدق الأسماء الحارث وهمام فالحارث الكاسب العامل والهمام الكثير الهم والهم مبدأ الإرادة والقصد فكل إنسان حارث همام وهو المتحرك بالإرادة وذلك لا يكون إلا بعد الحس والشعور فإن الإرادة مسبوقة بالشعور بالمراد فلا يتصور إرادة ولا حب ولا شوق ولا اختيار ولا طلب إلا بعد الشعور وما هو من جنسه كالحس والعلم والسمع والبصر والشم والذوق واللمس ونحو هذه الأمور فهذا الإدراك والشعور هو مقدمة الإرادة والحب والطلب
والحي مفطور على حب ما يلائمه وينفعه وبغض ما يكرهه ويضره فإذا تصور الشيء الملائم النافع أراده وأحبه وإذا تصور الشيء الضار أبغضه ونفر عنه لكن ذلك التصور قد يكون علما وقد يكون ظنا وخرصا فإذا كان عالما بأن مراده هو النافع وهو المصلحة وهو الذي يلائمه كان على الهدى والحق وإذا لم يكن معه علم بذلك كان متبعا للظن وما تهوى نفسه فإذا جاءه العلم والبيان بأن هذا ليس مصلحة أخذ يحتج بالقدر حجة لدد وتعريج عن الحق لا حجة اعتماد على الحق والعلم فلا يحتج أحد في باطنه أو ظاهره بالقدر إلا لعدم العلم بأن ما هو عليه هو الحق
وإذا كان كذلك كان من احتج بالقدر على الرسل مقرا بأن ما هو عليه ليس معه به علم وإنما تكلم بغير علم ومن تكلم بغير علم كان مبطلا في كلامه ومن احتج بغير علم كانت حجته داحضة فإما أن يكون جاهلا فعليه أن يتبع العلم وإما أن يكون قد عرف الحق واتبع هواه فعليه أن يتبع الحق ويدع هواه
فتبين أن المحتج بالقدر متبع لهواه بغير علم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله
وحينئذ فالجواب في هذا المقام من وجوه
أحدها أن هذا إنما يكون انقطاعا لو كان الاحتجاج بالقدر سائغا فأما إذا كان الاحتجاج بالقدر باطلا بطلانا ضروريا مستقرا في جميع الفطر والعقول لم يكن هذا السؤال متوجها وذلك أنه من المستقر في فطر الناس وعقولهم أنه من طلب منه فعل من الأفعال الاختيارية لم يكن له أن يحتج بمثل هذا ومن طلب دينا له على آخر لم يكن له أن يقول لا أعطيك حتى يخلق الله في العطاء ومن أمر عبده بأمر لم يكن له أن يقول لا أفعله حتى يخلق الله في فعله ومن ابتاع شيئا وطلب منه الثمن لم يكن له أن يقول لا أقضيه حتى يخلق الله في القضاء أو القدرة على هذا
وهذا أمر جبل الله عليه الناس كلهم مسلمهم وكافرهم مقرهم بالقدر ومنكرهم له ولا يخطر ببال أحد منهم الاعتراض بمثل هذا مع اعترافهم بالقدر فإذا كان هذا الاعتراض معروف الفساد في بدائه العقول ولم يكن لأحد أن يحتج به على الرسول
الثاني أن الرسول يقول له أنا نذير لك إن فعلت ما أمرتك به نجوت وسعدت وإن لم تفعله عوقبت كما قال النبي ﷺ لما صعد على الصفا ونادى يا صباحاه فأجابوه فقال أرأيتم لو أخبرتكم أن عدوا مصبحكم أكنتم مصدقي قالوا ما جربنا عليك كذبا قال فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد وقال أنا النذير العريان
ومن المعلوم أن من أنذر بعدو يقصده لم يقل لنذيره قل لله يخلق في قدرة على الفرار حتى أفر بل يجتهد في الفرار والله هو الذي يعينه على الفرار
فهذا الكلام لا يقوله إلا مكذب للرسل إذ ليس في الفطرة مع تصديق النذير الاعتلال بمثل هذا وإذا كان هذا تكذيبا حاق به ما حاق بالمكذبين
الوجه الثالث أن يقول له أنا ليس لي أن أقول لربي مثل هذا الكلام بل علي أن أبلغ رسالاته وإنما علي ما حملت وعليك ما حملت وليس علي إلا البلاغ المبين وقد قمت به
الرابع أن يقول ليس لي ولا لغيري أن يقول له لم لم تجعل في هذا كذا وفي هذا كذا فإن الناس على قولين من يقول إنه لا حكمة إلا محض المشيئة يقول إنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ومن يقول إن له حكمة يقول لم يفعل شيئا إلا لحكمة ولم يتركه إلا لانتفاء الحكمة فيه
وإذا كان كذلك لم يكن للعبد أن يقول له مثل ذلك ولهذا قال تعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون سورة الأنبياء 23
الوجه الخامس أن يقول إعانتك على الفعل هو من أفعاله هو فما فعله فالحكمة وما لم يفعله فلانتفاء الحكمة وأما نفس الطاعة فمن أفعالك التي تعود مصلحتها عليك فإن أعانك كان فضلا عليك منه وإن خذلك كان عدلا منه فتكليفك ليس لحاجة له إلى ذلك ليحتاج إلى اعانتك كما يأمر السيد عبده بمصلحته
فإذا كان العبد غير قادر أعانه حتى يحصل مراد الآمر الذي يعود إليه نفعه بل التكليف إرشاد وهدى وتعريف للعباد بما ينفعهم في المعاش والمعاد ومن عرف أن هذا الفعل ينفعه وهذا الفعل يضره وأنه يحتاج إلى ذلك الذي ينفعه لم يمكنه أن يقول لا أفعل الذي أنا محتاج إليه وهو ينفعني حتى يخلق في الفعل بل مثل هذا يخضع ويذل لله حتى يعينه على فعل ما ينفعه كما لو قيل هذا العدو قد قصدك أو هذا السبع أو هذا السيل المنحدر فإنه لا يقول لا أهرب وأتخلص منه حتى يخلق الله في الهرب بل يحرص على الهرب ويسأل الله الإعانة على ذلك ويفر منه إذا عجز وكذلك إذا كان محتاجا إلى طعام أو شراب أو لباس فإنه لا يقول لا آكل ولا أشرب ولا ألبس حتى يخلق الله في ذلك بل يريد ذلك ويسعى فيه ويسأل الله تيسيره عليه
فالفطرة مجبولة على حب ما تحتاج إليه ودفع ما يضرها وأنها تستعين الله عز وجل على ذلك هذا هو موجب الفطرة التي فطر الله عليها عباده وإيجابها ذلك ولهذا أمر الله العباد أن يسألوا الله أن يعينهم على فعل ما أمر