الرئيسيةبحث

منهاج السنة النبوية/5


والمقصود أنه في مثل ذلك قد يتأخر فعل الفاعل لعدم استعداد القابل ولو قدر أن ما يدعونه من العقل الفعال له حقيقة لكان تأخر فيضه حتى تستعد القوابل من هذا الباب وأما واجب الوجود الفاعل لكل ما سواه الذي لا يتوقف فعله على أمر آخر من غيره لا إعداد ولا إمداد ولا قبول ولا غير ذلك بل نفسه هي المستلزمة لفعله فلو قدر أنه علة تامة أزلية لوجب أن يقارنه معلوله كله ولا يتأخر عنه شيء من مفعولاته وإذا تأخر شيء من مفعولاته ولو كان مفعولا بواسطة علم أنه لم يكن علة تامة له في الأزل وأنه صار علة بعد أن لم يكن وإذا قيل الحركة الفلكية هي سبب حدوث الحوادث

قيل وهذا أيضا مما يعلم بطلانه فإن الحركة الحادثة شيئا بعد شيء يمتنع أن يكون الموجب لها علة تامة أزلية فإن هذه يقارنها معلولها أزلا وأبدا والحركة الحادثة شيئا بعد شيء يمتنع أن تكون مقارنة لعلتها في الأزل فعلم أن الموجب لحدوثها ليس علة تامة أزلية بل لا بد أن يكون الرب متصفا بأفعال تقوم به شيئا بعد شيء بسبب ما يقوم به يحدث عنه ما يحدث مثل مشيئته القائمة بذاته وكلماته القائمة بذاته وأفعاله الاختيارية القائمة بذاته

ومنها أن الحوادث بعد ذلك لا بد لها من محدث ويمتنع أن يحدثها غيره لأنه لا رب غيره ولأن القول فيه في ذلك الحدث كالقول فيه إما أن يكون علة تامة في الأزل وإما أن لا يكون ويعود التقسيم

وإذا قالوا إنما تأخر الثاني لتأخر حدوث القوابل والشروط التي بها قبل الفيض قيل لهم هذا يعقل فيما إذا كان حدوث القوابل من غيره كما في حدوث الشعاع عن الشمس وكما يقولونه في العقل الفعال وأما إذا كان هو الفاعل للقابل والمقبول والشرط والمشروط وهو علة تامة أزلية لما يصدر عنه وجب مقارنة معلوله كله له ولم يجز أن يتأخر عنه شيء فإنه يمتنع أن يصير فاعلا بعد أن لم يكن من غير إحداثه لشيءوإحداثه لشيء مع كونه علة تامة أزلية ممتنع وكونه علة لنوع الحوادث مع عدم حدوث فعل يقوم به ممتنع

ولأن صدور العالم عن فاعلين ممتنع سواء كانا مشتركين في جميعه أو كان هذا فاعلا لبعضه وهذا فاعلا لبعضه كما قد بسط في غير هذا الموضع وهذا مما لا نزاع فيه فإنه لم يثبت أحد من العقلاء أن العالم صدر عن اثنين متكافئين في الصفات والأفعال ولا قال أحد من العقلاء إن أصول العالم القديمة صدرت عن واحد وحوادثه صدرت عن آخر فإن العالم لا يخلو من الحوادث وفعل الملزوم بدون لازمه ممتنع ولو كان الفاعل للوازمه غيره لزم أن لا يتم فعل واحد منهما إلا بالآخر فيلزم الدور في الفاعلين وكون كل واحد من الربين لا يصير ربا إلا بالآخر ولا يصير قادرا إلا بالآخر ولا يصير فاعلا إلا بالأخر فلا يصير هذا قادرا حتى يجعله الآخر قادرا ولا يصير هذا قادرا حتى يجعله الآخر قادرا فيمتنع والحال هذه أن يصير واحد منهما قادرا وهذا مبسوط في موضعه

وذلك مما يبين أنه لا فاعل للحوادث إلا هو وحينئذ فإن حدثت عنه بدون سبب حادث لزم حدوث الحادث بلا سبب حادث وهذا إذا جاز جاز حدوث العالم كله بلا سبب حادث

وأيضا فإنه يلزم أن يكون العالم قديما أزليا خاليا عن شئ من الحوادث وأن الحوادث حدثت فيه بعد ذلك بدون سبب حادث وهذا ممتنع بالاتفاق والبرهان لوجوه كثيرة مثل اقتضائه عدم القديم الواجب بنفسه أو بغيره فإنه إذا قدر معلول قديم أزلي على حال من الأحوال ثم حدثت فيه الحوادث فلا بد أن يتغير من صفة إلى صفة يزول ما كان موجودا ويحدث ما لم يكن موجودا وزوال ما كان موجودا ممتنع فإن القديم إنما يكون قديما إذا كان واجبا بنفسه أو بغيره فإن ما كان واجبا بنفسه أو بغيره يمتنع عدمه وما كان قديما يمتنع عدمه أيضا بل القديم لا يكون قديما إلا إذا كان واجبا بنفسه أو بغيره فما علم أنه كان قديما واجبا بنفسه أو بغيره يكون العلم بامتناع عدمه أوكد وأوكد

والعالم إذا كان شيء منه قديما أزليا لا حادث فيه ثم حدث فيه حادث فقد غيره من الحال القديمة الأزلية الواجبة بنفسها أو بغيرها إلى حال أخرى تخالفها وهذا مع أنه ممتنع فإذا كان هذا بدون سبب حادث كان ممتنعا من هذا الوجه ومن هذا الوجه

وأيضا فالعالم لا يتصور انفكاكه عن مقارنة الحوادث فإن الأجسام لا تخلو عن مقارنة الحوادث الحركة وغيرها والعالم ليس فيه إلا ما هو قائم بنفسه أو بغيره بلا نزاع بين العقلاء وتلك الأعيان لا تخلو عن مقارنة الحوادث فإنها لو خلت عنها ثم قارنتها للزم حدوث الحوادث بلا سبب وهذا باطل وإن لم يكن هذا باطلا جاز حدوث الحوادث بلا سبب فبطل القول بقدم العالم

ثم كثير من النظار يقول ليس في العالم إلا جسم أو عرض وهؤلاء منهم من يفسر الجسم بما يشار إليه ويمنع كون كل جسم مركبا من الجواهر المفردة أو من المادة والصورة فلا يلزمهم من الإشكال ما يتوجه على غيرهم

وإن قدر أن فيه ما يخرج عن ذلك كما يذكره من يثبت العقول والنفوس ويقول إنها ليست أجساما فالنفوس لا تفارق الأجسام بل هي مقارنة لها مدبرة لها فلا تفارق الحوادث

وأيضا فالنفوس لا تنفك عن تصورات وإرادات حادثة فهي دائما مقارنة للحوادث والعقول علة لذلك مستلزمة لمعلولها لا يتقدم عليها بالزمان فيمتنع أن يكون في العالم ما يسبق الحوادث فيمتنع أن يكون شيء منه قديما أزليا سابقا للحوادث وحينئذ فالمبدع لشيء منه يمتنع أن يبدعه بدون إبداع لوازمه ولوازمه يمتنع وجودها في الأزل فيمتنع وجود شيء منه في الأزل

فإذا قيل فهو علة تامة أزلية للفلك مع حركته لزم أن يكون علة أزلية تامة للفلك مع حركته فتكون حركته أزلية والحركة لا توجد إلا شيئا فشيئا فيمتنع أن يكون جميع حركته أزليه

وإذا قيل هو علة تامة أزلية للفلك دون حركته احتاجت حركته إلى مبدع آخر ولا مبدع غيره

وإن قيل هو علة للحركة شيئا بعد شيء لم يكن علة تامة للحركة في الأزل لكن يصير علة تامة لشيء منها بحسب وجوده فتكون عليته وفاعليته وإرادته حادثة بعد أن لم تكن فيمتنع أن يكون علة تامة في الأزل وهذا القول ظاهر لا ينازع فيه من فهمه وهو مما يبين امتناع كونه علة تامة أزلية لكل موجود وامتناع كونه علة تامة للفلك مع حركته الدائمة

وهم لا يقولون إنه في الأزل علة لكل موجود بل يقولون إنه في الأزل علة لما كان قديما بعينه كالأفلاك وهو دائما علة لنوع الحوادث ويصير علة تامة للحادث المعين بعد أن لم يكن علة تامة له فهذا حقيقة قولهم

فيقال لهم كونه يصير علة تامة لشيء بعد أن لم يكن علة له من غير أمر يحدث منه ممتنع لذاته لأنه لا محدث للحوادث سواه فيمتنع أن غيره يحدث فاعليته وكونه علة فلا يحدث كونه فاعلا للمعين إلا هو فيلزم أن يكون هو المحدث لكونه علة للمعين وفاعلا له وهذه الفاعلية كانت بعد أن لم تكن فيمتنع أن تكون صدرت عن علة تامة أزلية لأن العلة الأزلية يقارنها معلولها

فتبين أنه أنه يمتنع أن يصير فاعلا لشيء بعد أن لم يكن مع القول بأنه لم يزل علة تامة أزلية وأنه لا بد أن يقوم به من الأحوال ما يوجب كونه فاعلا لما يحدث عنه من الحوادث سواء أحدثت بواسطة أم بغير واسطة

وأيضا فإذا قدر أنه كما يقولون حاله قبل أن يحدث المعين ومع إحداث المعين وبعد إحداث المعين سواء امتنع إحداث المعين فيمتنع أن يحدث شيئا

وأيضا فلم يكن إحداثه للأول بأولى من إحداثه للثاني ولا تخصيص الأول بقدره ووصفه الثاني إذا كان الفاعل لم يكن منه قط سبب يوجب التخصيص لا بقدر ولا بوصف ولا غير ذلك

وهم أنكروا على من قال من النظار إنه فعل بعد أن لم يكن فاعلا

وقالوا العقل الصريح يعلم أن من فعل بعد أن لم يكن فاعلا فلا بد أن يتجدد له إما قدرة وإما إرادة وإما علم وإما زوال مانع وإما سبب ما

فيقال لهم والعقل الصريح يعلم أن من فعل هذا الحادث بعد أن لم يكن فاعلا له فلا بد أن يتجدد له سبب اقتضى فعله فأنتم أنكرتم على غيركم ابتداء الفعل بلا سبب والتزمتم دوام المفعولات الحادثة بلا سبب فكان ما التزمتموه من حدوث الحوادث بلا سبب أعظم مما نفيتموه

بل قولكم مستلزم أنه لا فاعل للحوادث ابتداء بل تحدث بلا فاعل فأن الموجب للحوادث عندكم هو حركة الفلك وحركة الفلك حركة نفسانية تتحرك بما يحدث لها من التصورات والإرادات المتعاقبة وإن كانت تابعة لتصور كلي وإرادة كلية ثم تلك التصورات والإرادات والحركات تحدث بلا محدث لها أصلا على قولكم لأن واجب الوجود عندكم ليس فيه ما يوجب فعلا حادثا أصلا بل حاله قبل الحادث وبعده ومعه سواء وكون الفاعل يفعل الأمور الحادثة المختلفة مع أن حاله قبل وبعد ومع سواء أبعد من كونه يحدث حادثا مع أن حاله قبل وبعد ومع سواء

وإذا قيل تغير فعله لتغير المفعولات

قيل فعله إن كان هو المفعولات عندكم كما يقوله ابن سينا ونحوه من جهمية الفلاسفة نفاة الصفات والأفعال فالمتغير هو المنفصلات عنه وهي المفعولات وليس هنا فعل هو غيرها يوصف بالتغير فما الموجب لتغيرها واختلافها وحدوث ما يحدث منها مع أن الفاعل هو على حال واحدة وفساد هذا في صريح العقل أظهر من فساد ما أنكرتموه على غيركم

وإن كان فعله قائما بنفسه كما يقوله مثبتة الأفعال الاختيارية من أئمة أهل الملل ومن الفلاسفة المتقدمين والمتأخرين فمن المعلوم أن تغير المفعولات إنما سببه هذه الأفعال

وهو سبحانه المحدث لجميع المفعولات المتغيرة وتغيراتها فيمتنع أن تكون هي المؤثرة في تغير فعله القائم بنفسه لأن هذا يوجب كون المعلول المخلوق المصنوع هو المؤثر في الخالق الصانع الذي يسمونه علة تامة وهذا يوجب الدور الممتنع فإن كون كل من الشيئين مؤثرا في الآخر من غير أن يكون هناك أمر ثالث غيرهما يؤثر فيهما هو من الدور القبلي الممتنع فإن أحد الفاعلين لا يفعل في الآخر حتى يفعل الآخر فيه كما في هذه الصورة فإن التغير الحادث لا يحدث حتى يحدثه هو لما يقوم به من الفعل فلو كان ذلك الفعل لا يقوم حتى يحدثه ذلك التغير لزم أن لا يوجد حتى يوجد ذاك ولا يوجد ذاك حتى يوجد هذا فيلزم أن لا يوجد واحد منهما حتى يوجد هو قبل أن يوجد بمرتبتين فيلزم اجتماع النقيضين مرتين

وإن قيل المفعول المتغير الأول أحدث في الفاعل تغيرا وذلك التغير أوجب تغيرا ثانيا

قيل فذلك الأول إنما صدر عن فعل قائم بالفاعل فالفاعل ما قام به من الفعل هو الفاعل لكل ما سواه من الحوادث المتغيرة أولا وآخرا ولم يؤثر فيه غيره ألبتة

وإن قيل وجود مفعوله الثاني مشروط بمفعوله الأول فهو الفاعل للأول والثاني فلم يحتج في شيء من فعله إلى غيره ولا أثر فيه شيء سواه وهذا كما أنه سبحانه يلهم العباد أن يدعوه فيدعونه فيستجيب لهم ويلهمهم أن يطيعوه فيطيعونه فيثيبهم فهو سبحانه الفاعل للإجابة والإثابة كما أنه أولا جعل العباد داعين مطيعين ولم يكن في شيء من ذلك مفتقرا إلى غيره ألبتة

وكل من تدبر هذه الأمور تبين له أنه سبحانه خالق كل شيء من الأعيان وصفاتها وأفعالها بأفعاله الاختيارية القائمة بنفسه كما دلت على ذلك نصوص الأنبياء واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها ووافقهم على ذلك أساطين الفلاسفة القدماء وهذا مما يبين حدوث كل ما سواه وأنه ليس علة أزلية لمعلول قديم مع أنه دائم الفاعلية ولا يلزم من دوام كونه فاعلا أن يكون معه مفعول معين قديم بل هذا من أبطل الباطل

وهؤلاء المتفلسفة القائلون بقدم العالم عن موجب بذاته هو علة تامة أزلية له يسلمون أنه ليس علة تامة في الأزل لكل حادث فإن هذا لا يقوله من يتصور ما يقول فإن العلة التامة هي التي تستلزم معلولها وتستعقبه فإذا كان المعلول حادثا بعد أن لم يكن لم يكن المستلزم له أزليا لما في ذلك من تأخر المعلول وتراخيه زمانا لا نهاية له عن العلة التامة الأزلية فإن كل حادث يوجد في العالم متأخر عن الأزل تأخرا لا نهاية له فلو كانت علته التامة ثابتة في الأزل لكان المعلول متأخرا عن العلة التامة تأخرا لا نهاية له والعلة التامة لا يكون بينها وبين معلولها فصل أصلا بل النزاع هل يكون معها في الزمان أو يكون عقبها في الزمان ويكون معها كالجزء الثاني من الزمان مع الذي قبله

هذا مما يتكلم فيه الناس إذ كانوا متفقين على أنه متأخر عنها تأخرا عقليا وأنه لا ينفصل عنها وهل يتصل بها اتصالا زمانيا أو يقترن بها اقترانا زمانيا هذا محل نظر الناس

والمقصود هنا أن كل ما يحدث العالم فلا تكون علته التامة المستلزمة تامة قبله بحيث يكون بينهما انفصال فكيف تتقدم عليه تقدما لا نهاية له لكن غاية ما يقولون إنه علة تامة أزلية لما كان قديما من العالم كالأفلاك وأما ما يحدث فيه فإنما يصير علة تامة له عند حدوثه

ويقولون إن حدوث الأول شرط في حدوث الثاني كالماشي الذي يقطع أرضا بعد أرض وكحركة الشمس التي تقطع بها مسافة بعد مسافة كالمتحرك لا يقطع المسافة الثانية حتى يقطع الأولى فقطع الأولى بحركته شرط في قطع الثانية بحركته والعلة التامة لقطع الثانية إنما وجدت بعد الأولى

وهذا غاية ما يقولونه ويعبرون عنه بعبارات فتارة يقولون فيض العلة الأولى والمبدأ الأول أو واجب الوجود وهو الله تعالى دائم لكن يتأخر ليحصل الاستعداد والقوابل وسبب الاستعداد والقوابل عند كثير منهم أو أكثرهم هو حركة الفلك فليس عند هؤلاء سبب لتغيرات العالم إلا حركة الفلك كما يقوله ابن سينا وأمثاله وهذا هو المعروف عند أصحاب أرسطو

وأما آخرون أعلى من هؤلاء كأبي البركات وغيره فيقولون بل سبب التغيرات ما يقوم بذات الرب من إرادات متجددة بل ومن إدراكات كما قد بسطه في كتابه المعتبر

فأولئك كابن سينا وأمثاله يقولون هو بنفسه علة تامة أزلية للعالم بما فيه من الحوادث المتجددة وإن الحادث الأول كان شرطا أعد القابل للحادث الثاني

وهذا القول في غاية الفساد وهو ايضا في غاية المناقضة لأصولهم وذلك أن علة الحادث الثاني لا بد أن تكون بتمامها موجودة عند وجوده وعند وجود الحادث الثاني لم يتجدد للفاعل الأول أمر به يفعل إلا عدم الأول ومجرد عدم الأول لم يوجد عندهم للفاعل لا قدرة ولا إرادة ولا غير ذلك فإن الأول عندهم لا يقوم به شيء من الصفات والأفعال ولا له أحوال متنوعة أصلا فكيف يتصور أن يصدر عنه الثاني بعد أن كان صدوره ممتنعا منه وحاله حاله لم يتجدد إلا أمر عدمي لم يوجب له زيادة قدرة ولا إرادة ولا علم ولا غير ذلك

وهذا بخلاف ما يمثلون به من حركة الإنسان وغيره من المتحركة بالإرادة أو بالطبع فإن المتحرك إذا قطع المسافة الأولى صار له من القدرة ما لم يكن له قبل ذلك وحصل عنده من الإرادة ما لم يكن قبل ذلك كما يجده الإنسان من نفسه إذا مشى فإنه يجد من نفسه عجزا عن قطع المسافة البعيدة حتى يصل إليها وهو قبل وصوله عازم على قطعها إذا وصل ليس هو مريدا في هذا الحال لقطعها في هذا الحال فإذا وصل إليها صار مريدا لقطعها قادرا على قطعها وعند الإرادة الجازمة والقدرة التامة يجب وجود المراد فحينئذ تقطع لا لمجرد عدم الحركة التي بها قطع الأولى بل لما تجدد له من القدرة والإرادة فهذا المتجدد المقتضى له هو ما في نفسه من الإرادة الكلية

والاستعداد للقدرة وكان قطع الأولى مانعا من ذلك فلما زال المانع عمل المقتضى عمله فتمت إرادته وقدرته فقطع المسافة

وهكذا حركة الحجر من فوق إلى أسفل كلما نزل تجدد فيه قوة وقبل ذلك لم يكن فيه ذلك

وكذلك حركة الشمس والكواكب لا سيما وهم يقولون إن حركتها اختيارية لما يتجدد لها من التصورات الجزئية والإرادات الجزئية التي تحدث لها شيئا فشيئا هكذا صرح به أئمتهم أرسطو وغيره فإن حركتها عندهم نفسانية فالمقتضى التام للجزء الثاني من الحركة إنما وجد عنها لم يكن المقتضى التام موجودا قبل وهو قائم بنفس المتحرك او المحرك وهو النفس التي يتجدد لها تصورات وإرادات جزئية وقوة جزئية يتحرك بها شيئا بعد شيء كحركة الماشي فلا يمكنهم أن يذكروا محركا ولا متحركا حاله قبل الحركة وبعدها سواء والحركة تصدر عنه شيئا فشيئا فإن هذا لا وجود له والعقل الصريح يحيل ذلك فإن الحادث لا يحدث إلا عند حدوث موجبه التام وهو علته التامة وإن شئت قلت لا يترجح إلا إذا وجد مرجحه التام المستلزم له

والمستلمون يقولون ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فالحركة الثانية لو كان مرجحها التام حاصلا عند الأولى لوجب حصولها عند الأولى بل إنما يتم حصولها عند حصول المرجح التام إما مقترنة به في الزمان أو متصلة به في الزمان وإذا كان المرجح التام لا بد أن يحصل بعد أن لم يكن حاصلا فلا بد أن يحصل للحركة سبب حادث يوجب أن يصيرها حادثة بعد أن لم تكن حادثة وكذلك السبب الأول القريب من الحركة

وإن كان الفاعل له إرادة تامة عامة كلية لما يحدث شيئا بعد شيء فتلك وحدها لا تكفي بل لا بد من إرادة أخرى جزئية لحادث حادث يقارنه كما يجده الإنسان في نفسه إذا مشى في سفر أو غيره إلى مكة أو غيرها فلا ريب أن المقتضى العام إما بإرادة أو غيرها قد يكون مقتضاه عاما مطلقا لكن يتأخر لتأخر الاستعدادات والقوابل إذا كانت من غيره كما في طلوع الشمس فإنه من جهتها فيض عام لكن يتوقف على استعداد من القوابل وارتفاع الموانع ولهذا يختلف تأثيرها ويتأخر بحسب القوابل والشروط وتلك ليست منها

وكذلك هم يقولون إن العقل الفعال دائم الفيض عنه يفيض كل ما في العالم من الصور النفسانية والجسمانية فعنه تفيض العلوم والإرادات وغير ذلك وهم عندهم رب كل ما تحت فلك القمر لكن ليس مستقلا عندهم بل فيضه يتوقف على حصول الاستعدادات والقوابل التي تحصل بحركات الأفلاك وتلك الحركات التي فوق فلك القمر ليست منه بل من غيره وهذا العقل هو رب البشر عندهم ومنه يفيض الوحي والإلهام وقد يسمونه جبريل وقد يجعلون جبريل ما قام بنفس النبي من الصورة الخيالية وهذا كله كلام من أبطل الباطل كما قد بسط في موضعه

لكن المقصود هنا أنهم يمثلون فيض واجب الوجود بفيض العقل الفعال وفيض الشمس وهو تمثيل باطل لأن المفيض هنا ليس مستقلا بالفيض بل فيضه متوقف على ما يحدثه غيره من الاستعداد والقبول وإحداث غيره له من فعل غيره فأما رب العالمين فهم يسلمون أنه لا شريك له في الفيض ولا يتوقف شيء من فيضه على فعل من غيره بل هو رب القابل والمقبول رب المستعد والمستعد له ومنه الإعداد ومنه الإمداد فإذا قالوا بعد هذا إنه علة تامة أزلية وإن فيضه عام لكنه يتوقف على حدوث القوابل والاستعدادات إما بحدوث الأشكال الفلكية والاتصالات الكوكبية وإما بغير ذلك

قيل لهم إن قلتم هو علة أزلية لهذا الحادث لزم وجوده في الأزل

وإن قلتم لا يصير علة تامة إلا بحدوث القوابل

قيل لكم فإذا كان حدوث القوابل منه فهو المحدث لهما جيمعا فقبل إحداثهما لم يكن علة تامة لا لهذا ولا لهذا ثم أحدثهما جميعا القابل والمقبول فإذا كان أحدثهما بدون تجدد شيء لزم أن يكون لم يزل علة تامة لهما أو لم يصر علة تامة لهما فيلزم إما قدم هذين الحادثين وإما عدمهما

فإنه إن لم يزل علتهما لزم قدمهما وإن لم يحدث لزم عدمهما وأنتم تجعلون علة هذين الحادثين حدثت بعد أن لم تكن أي حدثت بتمامها بعد أن لم تكن وليس هنا شيء أوجب حدوث التمام فإن الفاعل للتمام حالة بعد التمام وحالة قبل التمام سواء فيمتنع أن يكون علة تامة له في إحدى الحالين دون الأخرى وكل ما يقدرونه مما حصل تمام العلة هو أيضا حادث عن الأول فحقيقة قولكم أن حوادث العالم تحدث عنه مع أنه لم يزل علة تامة لها أو مع أنه لم يصر علة تامة مع أن العلة التامة إنما تكون تامة عند معلولها لا قبل ولا بعد وهذا يتقضي عدم الحوادث أو قدم الحوادث وكلاهما مخالف للمشاهدة

ولهذا كان حقيقة قولهم إن الحوادث تحدث بلا محدث لها وقولهم في حركة الفلك يشبه قول القدرية في حركة الحيوان فإن القدرية تقول إن الحيوان قادر مريد وإنه يفعل ما يفعل بدون سبب أوجب الفعل بل مع كون نسبة الأسباب الموجبة للحدوث إلى هذا الحادث وهذا الحادث سواء فإن عندهم كل ما يؤمن به المؤمن ويطيع به المطيع قد حصل لكل من أمر بالإيمان والطاعة لكن المؤمن المطيع رجح الإيمان والطاعة بدون سبب اختص به حصل به الرجحان والكافر بالعكس وهذا يقوله هؤلاء في حركة الفلك إنه يتحرك دائما بإرادته وقدرته من غير سبب أوجب كونه مريدا قادرا مع أن إرادته وقدرته وحركاته حادثة بعد أن لم تكن حادثة من غير شيء جعله مريدا متحركا فقد حصل الممكن بدون المرجح التام الذي أوجب رجحانه وحصل الحادث بدون السبب التام الذي أوجب حدوثه

ثم إنهم ينكرون على القدرية قولهم إن القادر يرجح أحد مقدوريه بلا مرجح بل بإرادة يحدثها هو من غير أن يحدث له غيره تلك الإرادة ويقولون إنه أوجب الإرادة بلا إرادة

وهؤلاء يقولون ما هو أبلغ من ذلك في حركة الفلك وهو يناقض أصولهم الصحيحة فإذا كانوا يسلمون أن الإرادات الحادثة والحركات الحادثة لا تحدث إلا بسبب يوجب حدوثها وأنه عند كمال السبب يجب حدوثها وعند نقصه يمتنع حدوثها علموا أن ما قالوه في قدم العالم وسبب الحوادث باطل

فإنه ليس فوق الفلك عندهم سبب يوجب حدوث ما يحدث له من التصورات والإرادات إلا من جنس ما للمخلوق الفقير إلى واجب الوجود ومعلوم أن ما كان بالقوة لا يخرج إلى الفعل إلا بمخرج فلا بد أن يكون فوق الفلك ما يوجب حدوث حركته

وما يذكره أرسطو وأتباعه أن الأول هو يحرك الفلك حركة المعشوق لعاشقه وأن الفلك يتحرك للتشبه به وأنه بذلك علة العلل وبه قوام الفلك إذ كان قوام الفلك بحركته وقوام حركته بإرادته وشوقه وقيام إرادته وشوقه بوجود المحبوب السابق المراد الذي تحرك للتشبه به فهذا الكلام مع ما فيه من الكلام الباطل الذي بين في غير هذا الموضع غايته إثبات العلة الغائية لحركة الفلك ليس فيه بيان العلة الفاعلية لحركته إلا أن يقولوا هو المحدث لتصوراته وحركاته من غير احتياج إلى واجب الوجود وإلى العلة الأولى في كونه فاعلا لذلك كما أن المحب العاشق لا يحتاج إلى المحبوب المعشوق من جهة كونه فاعلا للحركة إليه بل من جهة كونه هو المراد المطلوب بالحركة وهذا قول باستغناء الحركات المحدثة والمتحركات عن رب العالمين وأنه لا يفعل شيئا من هذه الحوادث ولا هو ربها

فإن قالوا مع ذلك بأنه لم يبدع الفلك بل هو قديم واجب الوجود بنفسه لم يكن رب شيء من العالم وإن قالوا هو الذي أبدعه كان تناقضا منهم كتناقض القدرية فإن إبداعه لذاته وصفاته يوجب أن لا يحدث منه شيء إلا بفعل الرب لذلك وإحداثه له كما لا يحدث من سائر الحيوانات حادث إلا بخلق الرب لذلك وإحداثه له فقولهم متردد بين التعطيل العام وبين التعطيل الخاص الذي يكونون فيه شرا من القدرية وردهم إنما كان على القدرية وهم خير منهم على كل تقدير

وقد ذكر ما ذكروه من كلام أرسطو في هذا المقام وبين ما فيه من الخطأ والضلال في غير هذا الموضع وأن القوم من أبعد الناس عن معرفة الله ومعرفة خلقه وأمره وصفاته وأفعاله وأن اليهود والنصارى خير منهم بكثير في هذا الباب وهذه الطريقة التي سلكها أرسطو والقدماء في إثبات العلة الأولى هي طريق الحركة الإرادية حركة الفلك وأثبتوا علة غائية كما ذكر

فلما رأى ابن سينا وأمثاله من المتأخرين ما فيها من الضلال عدلوا إلى طريقة الوجود والوجوب والإمكان وسرقوها من طريق المتكلمين المعتزلة وغيرهم فإن هؤلاء احتجوا بالمحدث على المحدث فاحتج أولئك بالممكن على الواجب وهي طريقة تدل على إثبات وجود واجب وأما إثبات تعيينه فيحتاجون فيه إلى دليل آخر وهم سلكوا طريقة التركيب وهي أيضا مسروقة من كلام المعتزلة وإلا فكلام أرسطو في الإلهيات في غاية القلة مع كثرة الخطأ فيه ولكن ابن سينا وأمثاله وسعوه وتكلموا في الإلهيات والنبوات وأسرار الآيات ومقامات العارفين بل وفي معاد الأرواح بكلام لا يوجد لأولئك وما فيه من الصواب فجروا فيه على منهاج الأنبياء وما فيه من خطأ بنوه على أصول سلفهم الفاسدة

ولهذا كان ابن رشد وأمثاله من المتفلسفة يقولون إن ما ذكره ابن سينا في الوحي والمنامات وأسباب العلم بالمستقبلات ونحو ذلك هو أمر ذكره من تلقاء نفسه ولم يقله قبله المشاءون سلفه

وأما أبو البركات صاحب المعتبر ونحوه فكانوا بسبب عدم تقليدهم لأولئك وسلوكهم طريقة النظر العقلي بلا تقليد واستنارتهم بأنوار النبوات أصلح قولا في هذا الباب من هؤلاء وهؤلاء فأثبت علم الرب بالجزئيات ورد على سلفه ردا جيدا وكذلك أثبت صفات الرب وأفعاله وبين ما بينه من خطاء سلفه ورأى فساد قولهم في أسباب الحوادث فعدل عن ذلك إلى أن أثبت للرب ما يقوم به الإرادات الموجبة للحوادث وقولهم مبسوط في غير هذا الموضع

فهؤلاء يقولون إنما حدثت الحوادث شيئا بعد شيء لما يقوم بذات الرب من الأسباب الموجبة لذلك فلا يثبتون أمورا متجددات مختلفة عن واحد بسيط لا صفة له ولا فعل كما قال أولئك بل وافقوا قول أساطين الفلاسفة الذين كانوا قبل أرسطو الذين يثبتون ما يقوم بذات الرب من الصفات والأفعال ويقولون إن الحادث المعين إنما حدث لما حصلت علته التامة التي لم تتم إلا عند حدوثه وتمام العلة كان بما يحدثه الرب تعالى وما يقوم به من إرادته وأفعاله أو غير ذلك مما يقولونه في هذا المقام

ولهذا يقولون إنه لا يمكن أن يكون الرب مدبرا لهذا العالم إلا على قولنا بحدوث الحوادث فيه من الإرادات والعلوم وغيرها ويقولون إن من نفى ذلك من أصحابنا وغيرهم فلم ينفه بدليل عقلي دل على ذلك بل لمجرد تنزيه وإجلال مجمل وإنه يجب التنزيه والإجلال من هذا التنزيه والإجلال

فإذا قيل لهؤلاء فعند حدوث الحادث الثاني لا بد من وجود العلة التامة ولا يكفي عدم الأول

قالوا بل حصل من كمال الإرادة الجازمة والقدرة التامة ما أوجب حدوث المقدور ولا نقول إن حال الفاعل قبل وبعد واحد لم يتجدد أمر يفعل به الثاني بل تتنوع أحوال الفاعل ونفسه هي الموجبة لتلك الأحوال القائمة به لكن وجود الحال الثاني مشروط بعدم ما يضاده ونفس الفاعل هي الموجبة للأمور الوجودية الموجبة للحال الثاني

فواجب الوجود لا يحتاج ما يحدث عنه أن يضاف إلى غيره كما في الممكنات بل نفسه الواجبة هي الموجبة لكل ما يحدث عنه وهو سبحانه الفاعل للملزوم ولوازمه والفاعل لأحد المتنافيين عند عدم الآخر وهو على كل شيء قدير

لكن اجتماع الضدين ليس بشيء باتفاق العقلاء بل هو قادر على تحريك الجسم بدلا عن تسكينه وعلى تسكينه بدلا عن تحريكه وعلى تسويده بدلا عن تبيضه وعلى تبيضه بدلا عن تسويده وهو يفعل أحد الضدين دون الآخر إذا حصلت إرادته التامة مع قدرته الكاملة ونفسه هي الموجبة لذلك كله وإن كان فعلها للأول شرطا في حصول الثاني فليست في تلك مفتقرة إلى غيرها بل كل ما سواها فقير إليها وهي غنية عن كل ما سواها

وهؤلاء تخلصوا مما ورد على من قبلهم ومن فساد تمثيلهم وكان هؤلاء إذا مثلوا قولهم بما يعقل من حركة الحيوان والشمس لا يرد عليهم من الفرق والنقض وغير ذلك ما يرد على من قبلهم

لكن هؤلاء يقال لهم من أين لكم قدم شيء من العالم وليس في العقل ما يدل على شيء من ذلك وأنتم فجميع ما تذكرونه أنتم وأمثالكم إنما يدل على دوام الفعل لا على دوام فعل معين ولا مفعول معين فمن أين لكم دوام الفلك أو مادة الفلك أو العقول أو النفوس أو غير ذلك مما يقول القائلون بالقدم إنه قديم أزلي لم يزل ولا يزال مقارنا للرب تعالى قديما بقدمه أبديا بأبديته

فيخاطبون أولا مخاطبة المطالبة بالدليل وليس لهم على ذلك دليل صحيح أصلا بل إنما طمعوا في مناظرتهم من أهل الكلام والفلسفة الذين قالوا إن جنس الكلام والفعل صار ممكنا بعد أن كان ممتنعا من غير تجدد شيء وصار الفاعل قادرا على ذلك بعد أن لم يكن وأنه يحدث الحوادث لا في زمان وإنه لم يزل القديم معطلا عن الفعل والكلام لا يتكلم ولا يفعل من الأزل إلى أن تكلم وفعل ثم يقول كثير منهم إنه يتعطل عن الفعل والكلام فتفنى الجنة والنار أو تفنى حركتهما كما قاله الجهم بن صفوان في فناء الجنة والنار وكما قاله أبو الهذيل العلاف في فناء الحركات وجعلوا مدة فعل الرب وكلامه مدة في غاية القلة بالنسبة إلى الأزل والأبد فطمع هؤلاء في هؤلاء المبتدعين من الجهمية والمعتزلة ومن اتبعهم في أصولهم وأقاموا الشناعة على أهل الملل بسبب هؤلاء المتكلمين والمبتدعين وظنوا أن لا قول إلا قول هؤلاء المبتدعين أو قول أولئك الفلاسفة الملحدين ورأوا أن العقل يفسد قول هؤلاء المبتدعين ورأوا السمع إلى هؤلاء المبتدعين أقرب وعن الملحدين أبعد فقالوا إن الأنبياء ضربوا الأمثال وخيلوا ولم يمكنهم الإخبار بالحقائق ودخلوا من باب الإلحاد وتحريف الكلم عن مواضعه بحسب ما أنكروه من السمعيات وإن كان أولئك الفلاسفة الذين نفوا صفات الرب وأفعاله القائمة به الذين قبل هؤلاء أعظم إلحادا وتحريفا للكلم عن مواضعه من هؤلاء الذين أثبتوا الصفات والأمور الأختيارية القائمة به وقالوا مع ذلك بقدم العالم

وكلتا الطائفتين خرجت عن صريح المعقول كما خرجت عن صحيح المنقول بحسب ما أخطأته في هذا الباب وكل من أقر بشيء من الحق كان ذلك أدعى له إلى قبول غيره وكان يلزمه من قبوله ما لم يلزم من لم يعرف ذلك الحق وكان القول بنفي الصفات والأفعال القائمة بالرب باختياره ينافى كونه فاعلا ومحدثا

ولهذا لما ذكر ابن سينا في إشاراته أقوال القائلين بالقدم والحدوث لم يذكر إلا قول من أثبت قدماء مع الله تعالى غير معلولة كالقول الذي يحكي عن ذيمقراطيس بالقدماء الخمسة واختاره ابن زكريا المتطبب وقول المجوس القائلين بأصلين قديمين وقول المتكلمين من المتعزلة ونحوهم وقول أصحابه فلم يذكر قول أئمة الملل ولا أئمة الفلاسفة الذين أثبتوا ما يقوم بالرب من الأمور الاختيارية وأنه لم يزل متكلما بمشيئته إذا شاء فعالا بمشيئته وذكر حجج هؤلاء وهؤلاء ثم أمر الناظر أن يختار أي القولين ترجح مع تمسكه بالتوحيد الذي هو عنده نفي الصفات فإن هذا جعله أصلا متفقا عليه بينه وبين خصومه

واعترض عليه الرازي بأن مسألة الصفات لا تتعلق بمسألة حدوث العالم وليس الأمر كما قاله الرازي بل نفى الصفات مما يقوي شبهة القائلين بالقدم ومع إثبات الصفات والأفعال القائمة به يتبين فساد أدلتهم إلى الغاية بل فساد قولهم مع أن نفي الصفات يدل على فساد قوله أكثر مما يدل على فساد قول منازعيه

ولكن ابن سينا نشأ بين المتكلمين النفاة للصفات وابن رشد نشأ بين الكلابية وأبو البركات نشأ ببغداد بين علماء السنة والحديث فكان كل من هؤلاء بعده عن الحق بحسب بعده عن معرفة آثار الرسل وقربه من الحق بحسب قربه من ذلك

وهؤلاء المتفلسفة رأوا ما قاله أولئك في مسألة حدوث العالم باطلا ورأوا أنهم إذا أبطلوا قول هؤلاء بقي قولهم وجعلوا القول بدوام الفاعلية مجملا كما جعل أولئك قولهم إن مالا يسبق الحوادث فهو حادث مجملا فقول هؤلاء أوجب أن ظن كثير ممن سمع قول هؤلاء امتناع كون الرب تعالى لم يزل متكلما إذا شاء إذ لم يفرقوا بين النوع والعين وقول أولئك أوجب أن ظن كثير ممن سمع قولهم دوام الفلك أو شئ من العالم إذ لم يفرقوا بين النوع والعين أيضا ودوام الفاعلية مجمل يراد به دوام الفاعلية المعينة ودوام الفاعلية المطلقة ودوام الفاعلية العامة ومعلوم أن دوام الفاعلية العامة وهو دوام المفعولات كلها مما لا يقوله عاقل ودوام الفاعلية المعينة لمفعول معين مما ليس لهم عليه دليلا أصلا بل الأدلة العقلية تنفيه كما نفته الأدلة السمعية

وأما دوام الفاعلية المطلقة فهذه لا تثبت قولهم بل إنما تثبت خطأ أولئك النفاة الذين خاصموهم من أهل الكلام والفلسفة ولا يلزم من بطلان هذا القول صحة القول الآخر إلا إذا لم يكن إلا هذان القولان فأما إذا كان هناك قول ثالث لم يلزم صحة أحد القولين فكيف إذا كان ذلك الثالث هو موجب الأدلة العقلية والنقلية

والمقصود هنا أن كلتا الطائفتين التي قالت بقدم الأفلاك ملحدة سواء قالت بقيام الصفات والأفعال بالرب أو لم تقل ذلك فهؤلاء الفلاسفة مع كونهم متفاضلين في الخطأ والصواب في العلوم الإلاهية إنما ردهم المتوجه لهم على البدع التي أحدثها من أحدثها من أهل الكلام ونسبوها إلى الملة وأولئك المتفلسفة أبعد عن معرفة الملة من أهل الكلام فمنهم من ظن أن ذلك من الملة ومنهم من كان أخبر بالسمعيات من غيره فجعلوا يردون من كلام المتكلمين مالم يكن معهم فيه سمع وما كان معهم فيه سمع كانوا فيه على أحد قولين إما أن يقروه باطنا وظاهرا إن وافق معقولهم وإلا ألحقوه بأمثاله وقالوا إن الرسل تكلمت به على سبيل التمثيل والتخييل للحاجة

وابن رشد ونحوه يسلكون هذه الطريقة ولهذا كان هؤلاء أقرب إلى الإسلام من ابن سينا وأمثاله وكانوا في العمليات أكثر محافظة لحدود الشرع من أولئك الذين يتركون واجبات الإسلام ويستحلون محرماته وإن كان في كل من هؤلاء من الإلحاد والتحريف بحسب ما خالف به الكتاب والسنة ولهم من الصواب والحكمة بحسب ما وافقوا فيه ذلك

ولهذا كان ابن رشد في مسألة حدوث العالم ومعاد الأبدان مظهرا للوقف ومسوغا للقولين وإن كان باطنه إلى قول سلفه أميل وقد رد على أبي حامد في تهافت التهافت ردا أخطأ في كثير منه والصواب مع أبي حامد وبعضه جعله من كلام ابن سينا لا من كلام سلفه وجعل الخطأ فيه من ابن سينا وبعضه استطال فيه على أبي حامد ونسبه فيه إلى قلة الإنصاف لكونه بناه على أصول كلامية فاسدة مثل كون الرب لا يفعل شيئا بسبب ولا لحكمة وكون القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح وبعضه حار فيه جميعا لاشتباه المقام وقد تكلمت على ذلك وبينت تحقيق ما قاله أبو حامد في ذلك من الصواب الموافق لأصول الإسلام وخطأ ما خالفه من كلام ابن رشد وغيره من الفلاسفة وأن ما قالوه من الحق الموافق للكتاب والسنة لا يرد بل يقبل وما قصر فيه أبو حامد من إفساد أقوالهم الفاسدة فيمكن رده بطريق أخرى يعان بها أبو حامد على قصده الصحيح وإن كان هذا وأمثاله إنما استطالوا عليه بما وافقهم عليه من أصول فاسدة وبما يوجد في كتبه من الكلام الموافق لأصولهم وجعل هذا وأمثاله ينشدون فيه

يوما يمان إذا ما جئت ذا يمن ... وإن لقيت معديا فعدناني

ولهذا جعلوا كثيرا من كلامه برزخا بين المسلمين والفلاسفة المشائين فالمسلم يتفلسف به على طريقة المشائين تفلسف مسلم والفيلسوف يسلم به إسلام فيلسوف فلا يكون مسلما محضا ولا فيلسوفا محضا على طريقة المشائين

وأما نفي الفلسفة مطلقا أو إثباتها فلا يمكن إذ ليس للفلاسفة مذهب معين ينصرونه ولا قول يتفقون عليه في الإلهيات والمعاد والنبوات والشرائع بل وفي الطبيعيات والرياضيات بل ولا في كثير من المنطق ولا يتفقون إلا على ما يتفق عليه جميع بني آدم من الحسيات المشاهدة والعقليات التي لا ينازع فيها أحد ومن حكى عن جميع الفلاسفة قولا واحدا في هذه الأجناس فإنه غير عالم بأصنافهم واختلاف مقالاتهم بل حسبه النظر في طريقة المشائين أصحاب أرسطو كثامسطيوس والإسكندر الأفروديسي وبرقلس من القدماء وكالفارابي وابن سينا والسهروردي المقتول وابن رشد الحفيد وأبي البركات ونحوهم من المتأخرين وإن كان لكل من هؤلاء في الإلهيات والنبوات والمعاد قول لا ينقل عن سلفه المتقدمين إذ ليس لهم في هذا الباب علم تستفيده الأتباع وإنما عامة علم القوم في الطبيعيات فهناك يسرحون ويتبجحون وبه بنحوه عظم من عظم أرسطو واتبعوه لكثرة كلامه في الطبيعيات وصوابه في أكثر ذلك فأم الإلهيات فهو وأتباعه من أبعد الناس عن معرفتها

وجميع ما يوجد في كلام هؤلاء وغيرهم من العقليات الصحيحة ليس فيه ما يدل على خلاف ما أخبرت به الرسل وليس لهم أصلا دليل ظني فضلا عن قطعي على قدم الأفلاك بل ولا على قدم شيء منها وإنما عامة أدلتهم أمور مجملة تدل على الأنواع العامة لا تدل على قدم شيء بعينه من العالم فما أخبرت به الرسل أن الله خلقه كإخبارها أن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام لا يقدا أحد من الناس أن يقيم دليلا عقليا صحيحا على نفي ذلك

وأما الكلام الذي يستدل به المتكلمون في الرد على هؤلاء وغيرهم فمنه صواب ومنه خطأ ومنه ما يوافق الشرع والعقل ومنه ما يخالف ذلك وبكل حال فهم أحذق في النظر والمناظرة والعلوم الكلية الصادقة وأعلم بالمعقولات المتعلقة بالإلهيات وأكثر صوابا وأسد قولا من هؤلاء المتفلسفة والمتفلسفة في الطبيعيات والرياضيات أحذق ممن لم يعرفها كمعرفتهم مع ما فيها من الخطأ

والمقصود هنا أن يقال لأئمتهم وحذاقهم الذين ارتفعت عقولهم ومعارفهم في الإلهيات عن كلام أرسطو وأتباعه وكلام ابن سينا وأمثاله ما الموجب أولا لقولكم بقدم شيء من العالم وأنتم لا دليل لكم على قدم شيء من ذلك

وأصل الفلسفة عندكم مبني على الإنصاف واتباع العلم والفيلسوف هو محب الحكمة والفلسفة محبة الحكمة وأنتم إذا نظرتم في كلام كل من تكلم في هذا الباب وفي غير ذلك لم تجدوا في ذلك ما يدل على قدم شيء من العالم مع علمكم أن جمهور العالم من جميع الطوائف يقولون بأن كل ما سوى الله مخلوق كائن بعد أن لم يكن وهذا قول الرسل وأتباعهم من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم وذلك القول بحدوث هذا العالم هو قول أساطين الفلاسفة الذين كانوا قبل أرسطو بل هم يذكرون أن أرسطو أول من صرح بقدم الأفلاك وأن المتقدمين قبله من الأساطين كانوا يقولون إن هذا العالم محدث إما بصورته فقط وإما بمادته وصورته وأكثرهم يقولون بتقدم مادة هذا العالم على صورته

وهذا موافق لما أخبرت به الرسل صلوات الله عليهم فإن الله أخبر أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء سورة هود وأخبر أنه استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض آئتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين سورة فصلت 1وقد ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي ﷺ أنه قال إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه علي الماء

وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره عن عمران بن حصين رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء وخلق السماوات والأرض وفي رواية ثم خلق السموات والأرض والآثار متواترة عن الصحابة والتابعين بما يوافق القرآن والسنة من أن الله خلق السماوات من بخار الماء الذي سماه الله دخانا

وقد تكلم علماء المسلمين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم في أول هذه المخلوقات على قولين حكاهما الحافظ أبو العلاء الهمداني وغيره أحدهما أنه هو العرش والثاني أنه هو القلم ورجحوا القول الأول لما دل عليه الكتاب والسنة أن الله تعالى لما قدر مقادير الخلائق بالقلم الذي أمره أن يكتب في اللوح كان عرشه على الماء فكان العرش مخلوقا قبل القلم وقالوا والآثار المروية أن أول ما خلق الله القلم معناها من هذا العالم وقد أخبر الله أنه خلقه في ستة أيام فكان حين خلقه زمن يقدر به خلقه ينفصل إلى أيام فعلم أن الزمان كان موجودا قبل أن يخلق الله الشمس والقمر ويخلق في هذا العالم الليل والنهار

وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال في خطبته عام حجة الوداع إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهرا ومنها أربعة حرم ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادي وشعبان وفي الصحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال خطبنا رسول الله ﷺ خطبة فذكر بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم

وهكذا في التوراة ما يوافق خبر الله في القرآن وأن الأرض كانت مغمورة بالماء والهواء يهب فوق الماء وأن في أول الأمر خلق الله السماوات والأرض وأنه خلق ذلك في أيام ولهذا قال من قال من علماء أهل الكتاب ما ذكره الله في التوراة يدل على أنه خلق هذا العالم من مادة أخرى وأنه خلق ذلك في زمان قبل أن يخلق الشمس والقمر

وليس فيما أخبر الله تعالى به في القرآن وغيره أنه خلق السماوات والأرض من غير مادة ولا أنه خلق الإنس أو الجن أو الملائكة من غير مادة بل يخبر الله أنه خلق ذلك من مادة وإن كانت المادة مخلوقة من مادة أخرى كما خلق الإنس من آدم وخلق آدم من طين وفي صحيح مسلم عن النبي ﷺ أنه قال خلقت الملائكة من نور وخلقت الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم

والمقصود هنا أن المنقول عن أساطين الفلاسفة القدماء لا يخالف ما أخبرت به الأنبياء من خلق هذا العالم من مادة بل المنقول عنهم أن هذا العالم محدث كائن بعد أن لم يكن

وأما قولهم في تلك المادة هل هي قديمة الأعيان أو محدثة بعد أن لم تكن أو محدثة من مادة أخرى بعد مادة قد تضطرب النقول عنهم في هذا الباب والله أعلم بحقيقة ما يقوله كل من هؤلاء فإنها أمة عربت كتبهم ونقلت من لسان إلى لسان وفي مثل ذلك قد يدخل من الغلط والكذب ما لا يعلم حقيقته ولكن ما تواطأت به النقول عنهم يبقى مثل المتواتر وليس لنا غرض معين في معرفة قول كل واحد منهم بل تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون سورة البقرة 134 14لكن الذي لا ريب فيه أن هؤلاء أصحاب التعاليم كأرسطو وأتباعه كانوا مشركين يعبدون المخلوقات ولا يعرفون النبوات ولا المعاد البدني وأن اليهود والنصارى خير منهم في الإلهيات والنبوات والمعاد وإذا عرف أن نفس فلسفتهم توجب عليهم أن لا يقولوا بقدم شيء من العالم علم أنهم مخالفون لصريح المعقول كما أنهم مخالفون لصحيح المنقول وأنهم في تبديل القواعد الصحيحة المعقولة من جنس اليهود والنصارى في تبديل ما جاءت به الرسل وهذا هو المقصود في هذا الباب

ثم إنه إذا قدر أنه ليس عندهم من المعقول ما يعرفون به أحد الطرفين فيكفي في ذلك إخبار الرسل باتفاقهم عن خلق السماوات والأرض وحدوث هذا العالم والفلسفة الصحيحة المبنية على المعقولات المحضة توجب عليهم تصديق الرسل فيما أخبرت به وتبين أنهم علموا ذلك بطريق يعجزون عنها وأنهم أعلم بالأمور الإلهية والمعاد وما يسعد النفوس ويشقيها منهم وتدلهم على أن من اتبع الرسل كان سعيدا في الآخرة ومن كذبهم كان شقيا في الآخرة وأنه لو علم الرجل من الطبيعيات والرياضيات ما عسى أن يعلم وخرج عن دين الرسل كان شقيا وأن من أطاع الله ورسوله بحسب طاقته كان سعيدا في الآخرة وإن لم يعلم شيئا من ذلك

ولكن سلفهم أكثروا الكلام في ذلك لأنهم لم يكن عندهم من آثار الرسل ما يهتدون به إلى توحيد الله وعبادته وما ينفع في الآخرة وكان الشرك مستحوذا عليهم بسبب السحر والأحوال الشيطانية وكانوا ينفقون أعمارهم في رصد الكواكب ليستعينوا بذلك على السحر والشرك وكذلك الأمور الطبيعية وكان منتهى عقلهم أمورا عقلية كلية كالعلم بالوجود المطلق وانقسامه إلى علة ومعلول وجوهر وعرض وتقسيم الجواهر ثم تقسيم الأعراض وهذا هو عندهم الحكمة العليا والفلسفة الأولى ومنتهى ذلك العلم بالوجود المطلق الذي لا يوجد إلا في الأذهان دون الأعيان

ومن هنا دخل من سلك مسلكهم من المتصوفة المتفلسفة كابن عربي وابن سبعين والتلمساني وغيرهم فكان منتهى معرفتهم الوجود المطلق ثم ظن من ظن منهم أن ذلك هو الوجود الواجب وفي ذلك من الضلال ما قد بسط في غير هذا الموضع

وجعلوا غاية سعادة النفس أن تصير عالما معقولا مطابقا للعالم الموجود وليس في ذلك إلا مجرد علوم مطلقة ليس فيها علم بموجود معين لا بالله ولا بالملائكة ولا بغير ذلك وليس فيها محبة لله ولا عبادة لله فليس فيها علم نافع ولا عمل صالح ولا ما ينجى النفوس من عذاب الله فضلا على أن يوجب لها السعادة وهذا مبسوط في غير هذا الموضع وإنما جاء ذكره هنا بالعرض لننبه على أن من عدل عن طريق المرسلين فليس معه في خلافهم لا معقول صريح ولا منقول صحيح وأن من قال بقدم العالم أو شيء منه فليس معه إلا مجرد الجهل والاعتقاد الذي لا دليل عليه وهذا الخطاب كاف في هذا الباب وتفصيله مذكور في غير هذا الموضع

وقد سلك هذا المسلك غير واحد من أهل الملل المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم فبينوا فساد ما سلكه القائلون بقدم العالم من العقليات وذكروا الحجج المنقولة عن أرسطو وغير واحدة واحدة وبينوا فسادها ثم قالوا نتلقى هذه المسألة من السمع فالرسل قد أخبرت بما لا يقوم دليل عقلي على نقيضه فوجب تصديقهم في هذا

ولم يمكن تأويل ذلك لوجوه

أحدها أنه قد علم بالاضطرار مرادهم فليس في تأويل ذلك إلا التكذيب المحض للرسل

والثاني أن هذا متفق عليه بين أهل الملل سلفهم وخلفهم باطنا وظاهرا فيمتنع مع هذا أن تكون الرسل كانت مضمرة لخلاف ذلك كما يقوله من يقوله من هؤلاء الباطنية

الثالث أنه ليس في العقل ما ينافي ذلك بل كل ما ينافيه من المعقولات فهو فاسد يعلم فساده بصريح العقل

الرابع أن في العقليات ما يصدق ذلك ثم كل منهم يسلك في ذلك ما تيسر له من العقليات

الخامس أنه معلوم بالفطرة والضرورة أنه لا بد من محدث للمحدثات وفاعل للمصنوعات وأن كون المفعول مقارنا لفاعله لم يزل ولا يزال معه ممتنع في فطر العقول وهذا مما يحتج به على هؤلاء كما قد بسط في موضعه فإنه إذا بين لهم فساد قول إخواتهم وتبين لهم أن الفاعل لا بد أن يقوم به من الأحوال مما يصير به فاعلا امتنع مع هذا أن يكون مفعوله المعين مقارنا له أزلا وأبدا فإن هذا إخراج له من أن يكون مفعولا له

السادس أن يقال لهؤلاء وهؤلاء جميعا أصل ما أنتم عليه الرجوع إلى الوجود والفلسفة معرفة الوجود على ما هو عليه والفلسفة الحقيقية هي العلوم الوجودية التي بها يعرف الوجود وأنتم لا تثبتون شيئا في الغالب إلا بقياس إما شمولي وإما تمثيلي فهل علمتم فاعلا يلزمه مفعوله أو يقارنه في زمانه لا يحدث شيئا فشيئا سواء كان فاعلا بالإرادة أو بالطبع

وهل علمتم فاعلا لم يزل موجبا لمفعوله ولم يزل مفعوله معلولا له فهذا شيء لا تعقلونه أنتم ولا غيركم فكيف تثبتون بالمعقول ما لا يعقل أصلا معينا فضلا عن أن يعقل مطلقا والمطلق فرع المعين فما لا يكون موجودا معينا لا يعقل لا معينا ولا مطلقا ولكن يقدر تقديرا في الذهن كما تقدر الممتنعات

يبين ذلك أن العلم بكون الشيء ممكنا في الخارج يكون العلم بوجوده أو بوجود ما ذلك الشيء أولى بالوجود منه كما يذكره الله في كتابه في تقرير إمكان المعاد كقوله لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس سورة غافر 57 وقوله وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه سورة الروم 27 وقوله ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والاثنى أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى سورة القيامة 37 40 وقوله أو لم يروا أن الله خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيى الموتى بلى إنه على كل شيء قدير سورة الأحقاف 33 وقوله وضرب لنا مثلا ونسي خلقه سورة يس 78 إلى قوله أو ليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى سورة يس 81 وأمثال ذلك مما يدل على أن إعادة الخلق أولى بالإمكان من ابتدائه وخلق الصغير أولى بالإمكان من خلق العظيم فأما مالا يعلم أنه ممكن إذا عرض على العقل ولم يعلم امتناعه فإمكانه ذهني بمعنى عدم العلم بالامتناع ليس إمكانه خارجيا بمعنى العلم بالإمكان في الخارج

ولهذا ما تذكره طائفة من النظار كالآمدي وغيره أراد أن يقرر إمكان الشيء بأنه لو قدر وجوده لم يلزم منه محال مجرد دعوى وغايته أن يقول لا نعلم أنه يلزم منه محال وعدم العلم ليس علما بالعدم فهؤلاء إذا أرادوا أن يثبتوا إمكان كون المفعول لازما لفاعله لا بد أن يعلموا ثبوت ذلك في الخارج أو ثبوت ما ذاك أولى بالإمكان منة وكلاهما منتف فلا يعلم قط فاعل إلا فاعلا يحدث فعله أو مفعوله لا يقارنه مفعوله المعين ويلازمه بل هذا إلى نفي كونه فاعلا ووصفه بالعجز عن نفي اللازم له أقرب منه إلى كونه فاعلا قادرا فقد جعلوا الله مثل السوء وهذا باطل

والواجب في الأدلة الإلهية أن يسلك بها هذا المسلك فيعلم أن كل كمان كان لمخلوق فالخالق أحق به فإن كمال المخلوق من كمال خالقه وعلى اصطلاحهم كمال المعلول من كمال العلة ولأن الواجب أكمل من الممكن فهو أحق بكل كمال ممكن لا نقص فيه من كل ممكن ويعلم أن كل نقص تنزه عنه مخلوق فالخالق أحق بتنزيهه عنه فإن النقص يناقض الكمال فإذا كان أحق بثبوت الكمال كان أحق بنفي النقص وهذه برهانية يقينية وهم يسلمونها

وهم يقولون أيضا إن الفعل صفة كمال ويردون على من يقول من أهل الكلام إنه ليس صفة كمال ولا نقص وقد قال تعالى أفمن يخلق كمن لا بخلق أفلا تذكرون سورة النحل 1وإذا كان كذلك فمن المعقول أن الفاعل الذي يفعل بقدرته ومشيئته أكمل ممن لا قدرة له ولا إرادة والفاعل القادر المختار الذي يفعل شيئا بعد شيء أكمل ممن يكون مفعوله لازما له يقدر على إحداث شيء ولا تغييره من حال إلى حال إن كان يعقل فاعلا يلزمه مفعوله المعين فإن الذي يقدر أن يفعل مفعولات متعددة ويقدر على تغييرها من حال إلى حال أكمل ممن ليس كذلك فلماذا يصفون واجب الوجود بالفعل الناقص إن كان ذلك ممكنا كيف وما ذكروه ممتنع لا يعقل فاعل على الوجه الذي قالوه

بل من قدر شيئا فاعلا للازمه الذي لا يفارقه بحال كان مخالفا لصريح المعقول عند الناس وقيل له هذا صفة له أو مشارك له ليس مفعولا له ولو قيل لعامة العقلاء السليمي الفطرة إن الله خلق السماوات والأرض ومع هذا فلم تزالا معه لقالوا هذا ينافي خلقه لهما فلا يعقل خلقه لهما إلا إذا خلقهما بعد أن لم تكونا موجودتين

وأما إذا قيل لم تزالا موجودتين كان القول مع ذلك بأنه خلقهما جميعا بين المتناقضين في فطر الناس وعقولهم التي لم تغير عن فطرتها

ولهذا كان مجرد إخبار الرسل بأن الله خلق السماوات والأرض ونحو ذلك كافيا في الإخبار بحدوثهما لم يحتاجوا مع ذلك أن يقولوا خلقهما بعد عدمهما ولكن أخبروا بزمان خلقهما كما في قوله تعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام سورة يونس 3

والإنسان لما كان يعلم أنه خلق بعد أن لم يكن ذكر بذلك ليستدل به على قدرة الخالق على تغيير العادة ولهذا ذكر تعالى ذلك في خلق يحيى بن زكريا عليه السلام وفي النشأة الثانية قال تعالى يا زكريا إنا نبشرك بغلام أسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا قال رب أني يكون لي غلام وكانت أمرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا قال كذلك قال ربك هو على هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا سورة مريم 7 9 وقال تعالى ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا سورة مريم 66 6فذكر الإنسان بما يعلمه من أنه خلقه ولم يك شيئا ليستدل بذلك على قدرته على مثل ذلك وعلى ما هو أهون منه

الوجه السابع إن هؤلاء الذين قالوا بقدم العالم عن علة قديمة قالوا مع ذلك بأنه في نفسه ممكن ليس له وجود من نفسه وإنما وجوده من مبدعه فوصفوا الموجود الذي لم يزل موجودا الواجب بغيره بأنه ممكن الوجود فخالفوا بذلك طريق سلفهم وما عليه عامة بني آدم من أن الممكن لا يكون إلا معدوما ولا يعقل ما يمكن أن يوجد وأن لا يوجد إلا ما كان معدوما وهذا قول أرسطو وقدماء الفلاسفة ولكن ابن سينا وأتباعه خالفوا هؤلاء وقد تعقب ذلك عليهم ابن رشد وغيره وقالوا إنه لا يعقل الممكن إلا ما أمكن وجوده أمكن عدمه فجاز أن يكون موجودا وأن يكون معدوما أي مستمر العدم

ولهذا قالوا إن الممكن لا بد له من محل كما يقال يمكن أن تحمل المرأة وأن تنبت الأرض وأن يتعلم الصبي فمحل الإمكان هو الرحم والأرض والقلب فيمكن أن يحدث في هذه المحال ما هي قابلة له من الحرث والنسل والعلم

أما الشيء الذي لم يزل ولا يزال إما بنفسه وإما بغيره فكيف يقال يمكن أن يوجد ويمكن أن لا يوجد وإذا قيل هو باعتبار ذاته يقبل الأمرين قيل إن أردتم بذاته ما هو موجود في الخارج فذاك لا يقبل الأمرين فإن الوجود الواجب بغيره لا يقبل العدم إلا أن يريدوا أنه يقبل أن يعدم بعد وجوده وحينئذ فلا يكون واجبا بغيره دائما فمتى قبل العدم في المستقيل أو كان معدوما لم يكن أزليا أبديا قديما واجبا بغيره دائما كما يقول هؤلاء في العالم

فإن أريد بقبول الوجود والعدم في حال واحدة فهو ممتنع وإن أريد في الحالين أي يقبل الوجود تارة والعدم أخرى امتنع أن يكون أزليا أبديا لتعاقب الوجود والعدم عليه وإن أريد أن ذاته التي تقبل الوجود والعدم شيء غير الوجود في الخارج فذاك ليس بذاته

وإن قيل يريد به أن ما يتصوره في النفس يمكن أن يصير موجودا في الخارج ومعدوما كما يتصوره الإنسان في نفسه من الأمور

قيل هذا أيضا يبين أن الإمكان مستلزم للعدم لأن ما ذكرتموه إنما هو في شيء يتصوره الفاعل في نفسه يمكن أن يجعله موجودا في الخارج ويمكن أن يبقى معدوما وهذا إنما يعقل فيما يعدم تارة ويوجد أخرى وأما ما لم يزل موجودا واجبا بغيره فهذا لا يعقل فيه الإمكان أصلا وإذا قال قائل ذاته تقبل الوجود والعدم كان متكلما بما لا يعقل

وهذا الموضع قد تفطن له أذكياء النظار فمنهم من أنكره على ابن سينا وأتباعه كما أنكر ذلك ابن رشد ومنهم من جعل هذا سؤالات واردة على الممكن كما يفعله الرازي وأتباعه ولم يجيبوا عنه بجواب صحيح وسبب ذلك أنهم اتبعوا ابن سينا في تجويزه أن يكون الشيء ممكنا بنفسه واجبا بغيره دائما أزلا وأبدا بل هذا باطل كما عليه جماهير الأمم من أهل الملل والفلاسفة وغيرهم وعليه نظر المسلمين وعليه أئمة الفلاسفة أرسطو وأتباعه لا يكون الممكن عندهم إلا ما يكون معدوما تارة وموجودا أخرى فالإمكان والعدم متلازمان

وإذا كان ما سوى الرب تعالى ليس موجودا بنفسه بل كان ممكنا وجب أن يكون معدوما في بعض الأحوال ولا بد ليصح وصفه بالإمكان

وهذا برهان مستقل في أن كل ما سوى الله محدث كائن بعد أن لم يكن وأنه سبحانه خالق كل شيء بعد أن لم يكن شيئا فسبحان من تفرد بالبقاء والقدم وألزم ما سواه بالحدوث عن العدم

يوضح ذلك أنه إما أن يقال وجود كل شيء في الخارج عين ماهيته كما هو قول نظار أهل السنة الذين يقولون إن المعدوم ليس بشيء في الخارج أصلا ويقولون إنه ليس في الخارج للموجودات ماهيات غير ما هو الموجود في الخارج فيخالفون من يقول المعدوم شيء من المعتزلة وغيرهم ومن قال إن وجود كل شيء الثابت في الخارج مغاير لماهيته ولحقيقته الثابتة في الخارج كما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة ونحوهم وإما أن يقال وجود الشيء في الخارج زائد على ماهيته

فإن قيل بالأول لم يكن للعالم في الخارج ذات غير ما هو موجود في الخارج حتى يقال إنها تقبل الوجود والعدم

وإذا قيل بالثاني فإن قدر أنه لم يزل موجودا لم يكن للذات حال تقبل الوجود والعدم بل لم تزل متصفة بالوجود

فقول القائل إن الممكن هو الذي يقبل الوجود والعدم مع قوله بأنه لم يزل موجودا جمع بين قولين متناقضين

وإذا قيل هو ممكن باعتبار ذاته كان قوله أيضا متناقضا سواء عني بذاته الوجود في الخارج أو شيئا آخر يقبل الوجود في الخارج فإن تلك إذا لم تزل موجودة ووجودها واجب لم تكن قابلة للعدم أصلا ولم يكن عدمها ممكن أصلا

وقول القائل هي باعتبار ذاتها غير موجودة مع قوله إنها لم تزل موجودة معناه أن الذات لم تزل موجودة واجبة بغيرها يمتنع عدمها هي باعتبار الذات تقبل الوجود والعدم ويمكن فيها هذا وهذا وبسط هذا بتمام الكلام على الممكن كما قد بسطوه في موضعه

يبين ذلك أن الممكن هو الفقير الذي لا يوجد بنفسه وإنما يوجده غيره فلا بد أن يكون هنا شيء يوصف بالفقر والإمكان وقبول العدم ثم يوصف بالغنى والوجود فأما ما لم يزل موجودا غنيا فكيف يوصف بفقر وإمكان فإنه إن حكم بالفقر والإمكان وقبول العدم على الموجود الغنى كان ذلك ممتنعا فيه كما تقدم إذا كان لا يقبل العدم ألبتة وإن حكم بالفقر والإمكان وقبول العدم على ما في الذهن بمعنى أنه يفتقر وجوده في الخارج إلى فاعل فهذا يؤيد ما قلناه من أنه لا بد أن يكون معدوما ثم يوجد

وإن قيل بل فاعله يتصوره في نفسه مع دوام فعله له والممكن هو ما في النفس

قيل ما في النفس الواجب واجب به لا يقبل العدم وما في الخارج واجب به لا يقبل العدم فأين القابل للوجود والعدم

وإن قيل ما تصور في النفس يقبل الوجود والعدم في الخارج

قيل هذا ممتنع مع وجوب وجوده دائما في الخارج بل هذا معقول فيما يعدم تارة ويوجد أخرى فإذا كان كل ما سوى الله ممكنا فقيرا وجب أن يكون موجودا تارة ومعدوما أخرى

وهذا الدليل مستقر في فطر الناس فكل من يتصور شيئا من الأشياء محتاجا إلى الله مفتقرا إليه ليس موجودا بنفسه بل وجوده بالله تصور أنه مخلوق كائن بعد أن لم يكن فأما إذا قيل هو فقير مصنوع محتاج وأنه دائما معه لم يحدث عن عدم لم يعقل هذا ولم يتصور إلا كما تتصور الممتنعات بأن يقدر في الذهن تقديرا لا يتصور تحققه في الخارج فإن تحققها في الخارج ممتنع

وعلى هذا فإذا قيل المحوج إلى المؤثر هو الإمكان أو هو الحدوث لم يكن بين القولين منافاة فإن كل ممكن حادث وكل حادث ممكن فهما متلازمان ولهذا جمع بين القولين من قال إن المحوج إلى المؤثر هو الإمكان والحدوث جميعا فالأقوال الثلاثة صحيحة في نفس الأمر وإنما وقع النزاع لما ظن من ظن أنه يكون الشيء ممكنا مع كونه غير حادث

وهذا الذي قرر في امتناع كون العالم قديما وامتناع كون فاعله علة قديمة أزلية صحيح سواء قيل إنه مريد بإرادة أزلية مستلزمة لاقتران مرادها بها أو قيل ليس بمريد وسواء قيل إنه علة للفلك مع حركته أو للفلك بدون حركته

وهكذا القول في كل ما يقدر قديما معه فإنه لا بد أن يكون مقارنا لشيء من الحوادث أو ممكنا أن يقارنه شيء من الحوادث وعلى التقديرين يمتنع أن يكون قديما مع الله تعالى لأن القديم لا يكون إلا عن موجب تام مستلزم لموجبه وثبوت هذا في الأزل يقتضي أنه لا يحدث عنه شيء والحوادث لا تحدث إلا عنه فلا يكون موجب أزلي إلا إذا حدث عنه شيء ولكن فاعل العالم يمتنع أن لا يحدث عنه شيء فيمتنع أن يكون موجبا بالذات في الأزل

وإذا قيل هو مريد بإرادة أزلية مقارنة لمرادها الذي هو العالم أو يتأخر عنها مرادها الذي هو حوادثه كان القول كذلك فإنه إذا لم يكن له إلا إرادة أزلية مقارنة لمرادها امتنع أن تحدث عنه الحوادث لكنه يمتنع أن لا تحدث عنه الحوادث فيمتنع أن لا يكون له إلا إرادة أزلية مقارنة لمرادها مع أن الإرادة لمفعولات لازمة للفاعل غير معقول بل إنما يعقل في حق الفاعل بإراداته أن يفعل شيئا بعد شيء ولهذا لم يقل أحد إن الرب يتكلم بمشيئته وقدرته وإن الكلام المقدور المعين قديم لازم لذاته فإذا لم يعقل هذا في المقدور القائم به فكيف يعقل في المباين له

وإذا قيل له إرادة أزلية مقارنة للمراد وإرادة أخرى حادثة مع الحوادث

قيل فحدوث هذه الإرادة الحادثة إن كان بتلك الإرادة الأزلية التي يجب مقارنة مرادها لها كان ذلك ممتنعا لأن الثانية حادثة فيمتنع أن تكون مقارنة للقديمة التي قارنها مرادها وإن كان بدون تلك الإرادة لزم حدوث الحوادث بدون إرادته وهذا يقتضي جواز حدوث الحوادث بدون إرادته فلا يكون فاعلا مختارا فإن الإرادة الحادثة إن كانت فعله فقد حدثت بغير إرادة وإن لم تكن فعله كان قد حدث حادث بلا فعله وهذا ممتنع وهو مما أنكره جماهير الناس على المعتزلة البصريين في قولهم بحدوث إرادة الله بدون إرادة أخرى وبقيام إرادته لا في محل

وإن قيل بل لم تزل تقوم به الإرادات للحوادث كما يقول ذلك من يقوله من أهل الحديث والفلاسفة الذي يقولون لم يزل يتكلم إذا شاء ولم يزل فعالا لما يشاء

قيل فعلى هذا التقدير ليس هنا إرادة قديمة لمفعول قديم

وإن قيل يجتمع فيه هذا وهذا

قيل فهذا ممتنع من جهة امتناع كون المفعول المعين للفاعل لا سيما المختار ملازما له ومن جهة كون المفعول بالإرادة لا بد وأن تتقدمه الإرادة وأن تثبت إلى أن يوجد بل هذا في كل مفعول ومن جهة أن ما قامت به الإرادات المتعاقبة كانت مراداته أيضا متعاقبة وكذلك أفعاله القائمة بنفسه وكانت تلك الإرادات من لوازم نفسه لم يجز أن تكون مرادة لإرادة قديمة لأنها إن كانت ملزومة لمرادها لزم كون الحادث المعين في الأزل وإن كان مرادها متأخرا عنها كانت تلك الإرادة كافية في حصول المرادات المتأخرة فلم يكن هناك ما يقتضي وجودها فلا توجد إذ الحادث لا يوجد إلا لوجود مقتضيه التام

فإن قدر أن الفاعل يريد شيئا بعد شيء ويفعل شيئا بعد شيء لزم أن يكون هذا من لوازم نفسه فتكون نفسه مقتضية لحدوث أفعاله شيئا بعد شيء فتكون مفعولاته شيئا بعد شيء بطريق الأولى والأحرى

وإذا كان كذلك كانت نفسه مقتضية لحدوث كل من هذه الأفعال والمفعولات وإذا كانت نفسه مقتضية لذلك امتنع مع ذلك أن يكون مقتضية لقدم فعل ومفعول مع إرادتهما المستلزمة لهما فإن ذاته تكون مقتضية لأمرين متناقضين لأن اقتضاءهما حدوث أفراد الفعل والمفعول وقدم النوع مناقض لاقتضائها قدم عين الفعل والمفعول وإن قدر أن هذا المفعول غير تلك المفعولات فإنه ملزوم لها لا يوجد بدونها ولا توجد إلا به فهما متلازمان وإذا تلازمت المفعولات فتلازم أفعالها وإرادتها أولى فيكون كل من القدماء الثلاثة الإرادة المعينة وفعلها ومفعولها ملزوما لحوادث لا نهاية لها لازما

وحينئذ فالذات في فعلها للمفعول المعين علة تامة أزلية موجبة له وهي في سائر الحوادث ليست علة أزلية تحدث فاعليتها وتمام إيجابها شيئا بعد شيء

والذات موصوفة بغاية الكمال الممكن فإن كان كمالها في أن يكون ما فيها بالقوة هو بالفعل من غير إمكان ذلك ولا كون دوام الإحداث هو أكمل من أن لا يحدث عنها شيء كما قد يقوله هؤلاء الفلاسفة فيجب أن لا يحدث عنها شيء أصلا ولا يكون في الوجود حادث وإن كان كمالها في أن تحدث شيئا بعد شيء لأن ذلك أكمل من أن لا يمكنها إحداث شيء بعد شيء ولأن الفعل صفة كمال والفعل لا يعقل إلا على هذا الوجه ولأن حدوث الحوادث دائما أكمل من أن لا يحدث شيء ولأن هذا الذي بالقوة هو جنس الفعل وهذا بالفعل دائما

وأما كون كل من المفعولات أو شيء من المفعولات أزليا فهذا ليس بالقوة فيمتنع أن يكون بالفعل فليس في مقارنة مفعولها المعين لها كمال سواء كان ممتنعا أو كان نقصا ينافي الكمال الواجب لها لا سيما ومعلوم أن إحداث نوع المفعولات شيئا بعد شيء أكمل من أن يكون منها ما هو مقارن الفاعل أزليا معه

فعلى التقديرين يجب نفيه عنها فلا يكون لها مفعول مقارن لها فلا يكون في العالم شيء قديم وهو المطلوب وهذا برهان مستقل متلقى من قاعدة الكمال الواجب له وتنزهه عن النقص

ومما يوضح ذلك أن يقال من المعلوم بالضرورة أن إحداث مفعول بعد مفعول لا إلى نهاية أكمل من أن لا يفعل إلا مفعولا واحدا لازما لذاته إن قدر ذلك ممكنا وإذا كان ذلك أكمل فهو ممكن لأن التقدير أن الذات يمكنها أن تفعل شيئا بعد شيء بل يجب ذلك لها وإذا كان هذا ممكنا بل هو واجب لها وجب اتصافها به دون نقيضه الذي هو أنقض منه وليس في هذا تعطيل عن الفعل بل هو اتصاف بالفعل على أكمل الوجوه

وبيان هذا أن الفعل المعين والمفعول المعين المقارن له أزلا وأبدا إما أن يكون ممكنا وإما أن يكون ممتنعا فإن كان ممتنعا امتنع قدم شيء من العالم وهو المطلوب وإن كان ممكنا فإما أن يكون هو الأكمل أو لا يكون فإن كان هو الأكمل وجب أن لا يحدث شيء وإحداثه حينئذ عدول عن الأكمل وهو محال وإن لم يكن هو الأكمل فالأكمل نقيضه وهو إحداث شيء بعد شيء فلا يكون شيء من الأفعال قديما

وهذا لا يرد عليه إلا سؤالا معلوم الفساد وهو أن يقال ما كان يمكن إلا هذا فلا يمكن في الفلك أن يتأخر وجوده ولا في الحوادث أن يكون منها شيء قديم

قيل إن أردتم امتناع هذا لذاته فهو مكابرة فإنه لو قدر قبل الفلك فلك وقبله فلك لم يكن امتناع هذا بأعظم من امتناع دوام الفلك بل إذا كان الواحد من النوع دوامه فدوام النوع أولي

ولهذا لا يعقل أن يكون واحد من البشر قديما أزليا مع امتناع قدم نوعه واحدا بعد واحد وإن قدرتم إنه ممتنع لأمر يرجع إلى غيره لوجود مضاد له أو لانتفاء حكمة الفاعل ونحو ذلك فكل أمر ينافي قدم نوع المفعول فهو أشد منافاة لقدم عينه فإن جاز قدم عينه فقدم النوع من حدوث الأفراد أجوز وإن امتنع هذا الثاني فالأول أشد امتناعا وكل شيء أوجب حدوث أفراد بعض المفعولات الممكن قدمها فهو أيضا موجب لحدوث نظيره

وهب أنهم يقولون الحركة لذاتها لا تقبل البقاء لكن الحوادث جواهر كثيرة شيئا بعد شيء فالعناصر الأربعة إن أمكن أن تكون قديمة الأعيان أمكن إبقاؤها قديمة الصورة فلا يجوز استحالتها من حال إلى حال وهو خلاف المشاهدة وإن لم يمكن قدم أعيانها حصل المطلوب

وإن قيل هذا ممكن دون هذا كان مكابرة

وإن قيل الموجب لاستحالتها حركة الأفلاك

قيل من المعلوم بالاضطرار إمكان تحرك الأفلاك دون استحالة العناصر كما أمكن تحرك الفلك الأعلى دون استحالة الثاني وتقدير استحالة الفلك الثاني والثالث وبقائهما كتقدير استحالة العناصر وبقائها لا يمكن أن يقال هذا ممكن لذاته دون الآخر فعلم إن ذلك يرجع إلى أمر خارج يتعلق بالمفعولات المتعلقة بمشيئة الفاعل وحكمته

وهذا لا ريب فيه فإننا لا ننازع أن فعل الشيء يوجب فعل لوازمه وينافى وجود أضداده وأن الحكمة المطلوبة من فعل شيء قد يكون لها شروط وموانع فالخالق الذي اقتضت حكمته إحداث أنواع الحيوانات والنباتات والمعادن اقتضت أن تنقل موادها من حال إلى حال ولكن المقصود أنه ليس لأحد الجسمين حقيقة اقتضت اختصاصه بالقدم بحسب ذاته دون الأخرى لا سيما ولا حقيقة لوجود شيء سوى الموجود الثابت في الخارج فلا اقتضاء لحقيقته قبل وجود حقيقته ولكن الباري تعالى يعلم ما يريد أن يفعله فعلمه وإرادته هو الذي يوجب الاختصاص

فقد تبين أنه إذا كان مقارنة المفعول المعين للفاعل أزلا وأبدا ممتنعا أو نقصا امتنع قدم شيء من العالم فكيف إذا كان كل منهما ثابتا هو ممتنع ومع تقدير إمكانه فهو نقص فإن قدم نوعه أكمل من قدم عينه وهو أولى بالإمكان منه فإذا كان أولى بالإمكان وهو أكمل امتنع أن يكون نقيضه هو الممكن وإذا امتنع ذلك قدم شيء من العالم

وعلى هذا فكل ما يذكرونه من دوام فاعلية الرب هو حجة عليهم فإن فاعلية النوع أكمل من فاعلية الشخص وهو الذي يشهد به الشخص قطعا وحسا فإنا نشهد بفاعلية نوع شيئا بعد شي فإن كان دوام الفاعلية ممكنا فهذا ممكن لوجوده ولسنا نعلم دوام الفاعلية لشيء معين فلا يلزم من علمنا بدوام الفاعلية دوام شيء معين أصلا ودوام النوع يقتضى حدوث أفراده فكل ما سوى الله حادث بعد أن لم يكن وهو المطلوب فتبين أن القول بمقارنة مراده له في الأزل ممتنع يمنع صدور الحوادث عنه

وهذا لا يحتاج فيه إلى أن يقال الإرادة الحادثة لا يقارنها مرادها بل يمكن أن يقال مع ذلك إن الإرادة الحادثة يقارنها مرادها كما يقولون إن القدرة الحادثة يقارنها مقدورها وإن كان من الناس من ينازع في ذلك

والمقصود هنا أنه إذا قيل بأن الإرادة يجب أن يقارنها مرادها وكان ذلك دليلا على حدوث كل ما سوى الله وإن قيل يجوز أن يقارنها مرادها ويجوز أن لا يقارنها أو قيل يمتنع مقارنة مرادها لها فعلى التقديرات الثلاثة يجب حدوث كل ما سوى الله

أما على تقدير وجوب مقارنة المراد للإرادة فلأنه إن كانت الإرادة أزلية لزم أن يكون جميع المرادات أزلية فلا يحدث شيء وهو خلاف الحس والعيان وهذا مثل قولنا لو كان موجبا بذاته أزليا أو علة تامة لمعلوله لزم أن يكون جميع موجبه ومعلوله مقارنا له أزليا فيمتنع حدوث شيء عنه

وإن كان هناك إرادة حادثة فإن الكلام فيها كالكلام في غيرها من الحوادث إن حدثت عن تلك الإرادة الأزلية التي يجب مقارنة مرادها لها كان ممتنعا وإن حدثت بلا إرادة ولا سبب حادث كان ذلك ممتنعا

فتبين أنه على القول بوجوب مقارنة المراد للإرادة يمتنع قدم شيء من العالم سواء قيل بقدم الإرادة أو حدوثها أو قدم شيء منها وحدوث شيء آخر

وإن قيل بأن المراد يجوز مقارنته للإرادة ويجوز تأخره عنها فإنه على هذا التقدير يجوز حدوث جميع العالم بإرادة قديمة إزلية من غير تجدد شيء كما تقول ذلك الكلابية ومن وافقهم من الأشعرية والكرامية والفقهاء المنسوبين إلى الأئمة الأربعة وغيرهم وعلى هذا التقدير فإنه يجوز حدوث الحوادث بلا سبب حادث وترجيح أحد المتماثلين على الآخر بمجرد الإرادة القديمة وعلى هذا التقدير فإنه يبطل حجة القائلين بقدم العالم

وهؤلاء إنما قالوا هذا لاعتقادهم بطلان التسلسل في الآثار وامتناع حوادث لا أول لها فإن كان ما قالوه حقا وأنه يمتنع حوادث لا أول لها لزم حينئذ حدوث العالم وامتنع القول بقدمه لأنه لا يخلو شيء منه عن مقارنة شيء من الحوادث حتى العقول والنفوس عند من يقول بإثباتها فإنها عندهم لا بد أن تقارن الحوادث فإذا امتنع حوادث لا أول لها كان ما لم يسبق الحوادث بمنزلتها يمتنع قدمه كما يمتنع قدمها

وإن كان ما قاله هؤلاء باطلا أمكن دوام الحوادث وعلى هذا التقدير فيجوز مقارنة المراد للإرادة في الأزل ويمتنع حدوث شيء إلا بسبب حادث وحينئذ فيمتنع كون شيء من العالم أزليا وإن جاز أن يكون نوع الحوادث دائما لم يزل فإن الأزل ليس هو عبارة عن شيء محدد بل ما من وقت يقدر إلا وقبله وقت آخر فلا يلزم من دوام النوع قدم شيء بعينه

وإنما قيل يمتنع قدم شيء بعينه لأنه إذا جاز أن يقارنها المراد في الأزل وجب أن يقارنها المراد لأن الإرادة التي يجوز مقارنة مرادها لها لا يتخلف عنها مرادها إلا لنقص في القدرة وإلا فإذا كانت القدرة تامة والإرادة التي يمكن مقارنة مرادها لها حاصلة لزم حصول المراد لوجود المقتضى التام للفعل إذ لو لم يلزم مع كون المراد ممكنا لكان حصوله بعد ذلك يستلزم ترجيح أحد المتماثلين على الآخر بدون مرجح وهو باطل على هذا التقدير

ولهذا كان الذين يقولون بامتناع شيء من الحوادث في الأزل يقولون إن حصول شيء من الإرادات في الأزل ممتنع لا يقولون بأنه ممكن وأنه يمكن مقارنة مراده له

لكن أورد الناس عليهم أنه إذا كان نسبة جميع الأوقات والحوادث إلى الإرادة الأزلية نسبة واحدة فترجيح أحد الوقتين أو ما يقدر فيه الوقت بالحدوث ترجيح بلا مرجح وتخصيص لأحد المتماثلين بلا مخصص

وهذا الكلام لا يقدح في مقصودنا هنا فإنا لم ننصر هذا القول ولكن بينا امتناع قدم شيء من العالم على كل تقدير وأن دوام الحوادث سواء كان ممكنا أو ممتنعا فإنه يجب حدوث كل شيء من العالم على التقديرين وأن الإرادة سواء قيل بوجوب مقارنة مرادها لها أو بجواز تأخره عنها يلزم حدوث كل شيء من العالم على كل من التقديرين

فإن القائلين بتأخر مرادها إنما قالوا ذلك فرارا من القول بدوام الحوادث ووجود حوادث لا أول لها وعلى هذا التقدير فيلزم حدوث العالم وإلا فلو جاز دوام الحوادث لجاز عندهم وجود المراد في الأزل ولو جاز ذلك لم يقولوا بتأخر المراد عن الإرادة القديمة الأزلية مع ما في ذلك من ترجيح أحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح وما في ذلك من الشناعة عليهم ونسبة كثير من العقلاء إلى أنهم خالفوا صريح المعقول

فإنهم إنما صاروا إلى هذا القول لاعتقادهم امتناع حوادث لا أول لها فاحتاجوا لذلك أن يثبتوا إرادة قديمة أزلية يتأخر عنها المراد ويحدث بعد ذلك من غير سبب حادث واحتاجوا أن يقولوا إن نفس الإرادة تخصص أحد المتماثلين على الآخر

وإلا فلو اعتقدوا جواز دوام الحوادث وتسلسلها لأمكن أن يقولوا بأنه تحدث الإرادات والمرادات ويقولون بجواز قيام الحوادث بالقديم ولرجعوا عن قولهم بأن نفس الإرادة القديمة تخصص أحد المثلين في المستقبل وعن قولهم بحدوث الحوادث بلا سبب حادث وكانوا على هذا التقدير لا يقولون بقدم شيء من العالم بل يقولون إن كل ما سوى الله فإنه حادث كائن بعد أن لم يكن

وكان هذا لازما على هذا التقدير لأنه حينئذ إذا لم يجز حدوث شيء من الحوادث إلا بسبب حادث ولم يترجح أحد الوقتين بحدوث شيء فيه إلا بمرجح يقتضى ذلك لا يكون تأخر المراد عن الإرادة إلا لتعذر المراد إذ لو كان المراد ممكنا أن يقارن الإرادة وممكنا أن يتأخر عنها لكان تخصيص أحد الزمانين بالإحداث تخصيصا بلا مخصص

فعلم أنه يجب أحد الأمرين على هذا التقدير وجوب مقارنة المراد للإرادة أو أمتناعه وأنه يجب مقارنته للإرادة إذا كان ممكنا وأنه لا يتأخر إلا لتعذر مقارنته إما لامتناعه في نفسه وإما لامتناع لوازمه وامتناع اللازم يقتضي امتناع الملزوم لكن يكون امتناعه لغيره لا لنفسه كما يقول المسلمون ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فما شاء الله وجب كونه بمشيئته لا بنفسه وما لم يشأ يمتنع كونه لا بنفسه بل لأنه لا يكون إلا بمشيئته فإذا لم يشأ امتنع كونه

وإذا كان على هذا التقدير أحد الأمرين لازما إما مقارنة المراد للإرادة وإما امتناعه لنفسه أو لغيره دل ذلك على أنه لو كان شيء من العالم يمكن أن يكون قديما لوجب أن يكون قديما لوجوب مقارنته له في الأزل إذ التقدير أنه لا بد من وجوب المقارنة أو امتناع المراد فإن كان المراد ممكنا في الأزل لزم وجوب المقارنة لكن وجوب المقارنة ممتنع لأن ذلك يستلزم أن لا يحدث شيء من الحوادث كما تقدم فلزم القسم الآخر وهو امتناع شيء من المراد المعين في الأزل وهو المطلوب

فأما إذا قيل بأنه يجب تأخر المراد عن الإرادة كما يقول ذلك كثير من أهل الكلام فبتقدير كونه مريدا يمتنع قدم شيء من العالم وهو المطلوب

فتبين حدوث كل ما سوى الله على كل تقدير وهو المطلوب واعلم أن من فهم هذه الطريق استفاد بها أمورا أحدها ثبوت حدوث كل ما سوى الله حتى إذا قدر أن هناك موجودا سوى الأجسام كما يقول من يثبت العقول والنفوس من المتفلسفة والمتكلمة إنها جواهر قائمة بأنفسها وليست أجساما فإن هذه الطريق يعلم بها حدوث ذلك

وطائفة من متأخري أهل الكلام كالشهرستاني والرازي والأمدي وغيرهم قالوا إن قدماء أهل الكلام لم يقيموا دليلا على نفي هذه ودليلهم على حدوث الأجسام لا يتناول هذه

وقد بين في غير هذا الموضع أن هؤلاء النظار كأبي الهذيل والنظام والهشامين وابن كلاب وابن كرام والأشعري والقاضي أبي بكر وأبي المعالي وأبي علي وأبي هاشم وأبي الحسين البصري وأبي بكر بن العربي وأبي الحسن التميمي والقاضي أبي يعلى وأبي الوفاء بن عقيل وأبي الحسن بن الزاغوني وغير هؤلاء يثبتون امتناع وجود موجود ممكن قائم بنفسه لا يشار إليه فبينوا بطلان ثبوت تلك المجردات في الخارج لكن منهم من أبطل ثبوت ما لا يشار إليه مطلقا ومنهم من أبطل ذلك في الممكنات

ومما يستفاد بهذه الطريق التي قررناها الخلاص عن إثبات الحدوث بلا سبب حادث والخلاص عن نفي ما يقوم بذات الله من صفاته وأفعاله

ومما يستفاد بذلك أنها برهان باهر على بطلان قول القائلين بقدم العالم أو شيء منه وهو متضمن الجواب عن عمدتهم

ومما يستفاد بذلك الاستدلال على المطلوب من غير احتياج إلى الفرق بين الموجب بالذات والفاعل بالاختيار وذلك أن كثيرا من أهل النظر غلطوا في الفرق بين هذا وهذا من المعتزلة والشيعة وصار كثير من الناس كالرازي وأمثاله مضطربين في هذا المقام فتارة يوافقون المعتزلة على الفرق وتارة يخالفونهم وإذا خالفوهم فهم مترددون بين أهل السنة وبين الفلاسفة أتباع أرسطو

وأصل ذلك أنا نعلم أن القادر المختار يفعل بمشيئته وقدرته لكن هل يجب وجود المفعول عند وجود الإرادة الجازمة والقدرة التامة أم لا فمذهب الجمهور من أهل السنة المثبتين للقدر وغيرهم من نفاة القدر أنه يجب وجود المفعول عند وجود المقتضي التام وهو الإرادة الجازمة والقدرة التامة

وطائفة أخرى من مثبتة القدر الجهمية وموافقيهم ومن نفاة القدر المعتزلة وغيرهم لا توجب ذلك بل يقولون القادر هو الذي يفعل على وجه الجواز لا على وجه الوجوب ويجعلون هذا هو الفرق بينه وبين الموجب بالذات وهؤلاء يقولون إن القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح كالجائع مع الرغيفين والهارب مع الطريقين

ثم القدرية من هؤلاء يقولون العبد قادر يرجح أحد مقدوريه بلا مرجح كما يقولون مثل ذلك في الرب ولهذا كان من قول هؤلاء القدرية إن الله لم ينعم على أهل الطاعة بنعم خصهم بها حتى أطاعوه بها بل تمكينه للمطيع وغيره سواء لكن هذا رجح الطاعة بلا مرجح بل بمجرد قدرته من غير سبب أوجب ذلك وهذا رجح المعصية بمجرد قدرته من غير سبب أوجب ذلك

وأما الجبرية كجهم وأصحابه فعندهم أنه ليس للعبد قدرة ألبتة والأشعري يوافقهم في المعنى فيقول ليس للعبد قدرة مؤثرة ويثبت شيئا يسميه قدرة يجعل وجوده كعدمه وكذلك الكسب الذي يثبته

وهؤلاء لا يمكنهم أن يحتجوا على بطلان قول القدرية بأن رجحان فاعلية العبد على تاركيته لا بد لها من مرجح كما يفعل ذلك الرازي وطائفة من الجبرية ولهذا لم يذكر الأشعري وقدماء أصحابه هذه الحجة

وطائفة من الناس كالرازي وأتباعه إذا ناظروا المعتزلة في مسائل القدر أبطلوا هذا الأصل وبينوا أن الفعل يجب وجوده عند وجود المرجح التام وأنه يمتنع فعله بدون المرجح التام ونصروا أن القادر المختار لا يرجح أحد مقدوريه على الآخر إلا بالمرجح التام وإذا ناظروا الفلاسفة في مسألة حدوث العالم وإثبات الفاعل المختار وإبطال قولهم بالموجب بالذات سلكوا مسلك المعتزلة والجهمية في القول بأن القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح وعامة الذين سلكوا مسلك أبي عبدالله بن الخطيب وأمثاله تجدهم يتناقضون هذا التناقض وفصل الخطاب أن يقال أي شيء يراد بلفظ الموجب بالذات إن عنى به أنه يوجب بذات مجردة عن المشيئة والقدرة فهذه الذات لا حقيقة لها ولا ثبوت في الخارج فضلا عن أن تكون موجبة


منهاج السنة النبوية
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55 | 56 | 57