وأما الطريق التوفيقي فالنص والاجماع أما النص ففي الصحيحين عن ابن عمر قال كنا نقول ورسول الله ﷺ حي أفضل أمة النبي ﷺ بعده أبو بكر ثم عمر ثم عثمان
وأما الإجماع فالنقل الصحيح قد أثبت أن عمر قد جعل الأمر شورى في ستة وأن ثلاثة تركوه لثلاثه عثمان وعلي وعبد الرحمن وأن الثلاثة اتفقوا على أن عبد الرحمن يختار واحدا منهما وبقي عبد الرحمن ثلاثة أيام حلف أنه لم ينم فيها كبير نوم يشاور المسلمين
وقد اجتمع بالمدينة أهل الحل والعقد حتى أمراء الأنصار الأنصار وبعد ذلك اتفقوا على مبايعة عثمان بغير رغبة ولا رهبة فيلزم أن يكون عثمان هو الأحق ومن كان هو الأحق كان هو الأفضل فإن أفضل الخلق من كان أحق أن يقوم مقام رسول الله ﷺ وأبي بكر وعمر
وإنما قلنا يلزم أن يكون هو الأحق لأنه لو لم يكن ذلك للزم إما جهلهم وإما ظلمهم فإنه إذا لم يكن أحق وكان غيره أحق فإن لم يعلموا ذلك كانوا جهالا وإن علموه وعدلوا عن الأحق إلى غيره كانوا ظلمة فتبين أن عثمان إن لم يكن أحق لزم إما جهلهم وإما ظلمهم وكلاهما منتف لأنهم أعلم بعثمان وعلي منا وأعلم بما قاله الرسول فيهما منا وأعلم بما دل عليه القرآن في ذلك منا ولأنهم خير القرون فيمتنع أن نكون نحن أعلم منهم بمثل هذه المسائل مع أنهم أحوج إلى علمها منا فإنهم لو جهلوا مسائل أصول دينهم وعلمناها نحن لكنا أفضل منهم وذلك ممتنع
وكونهم علموا الحق وعدلوا عنه أعظم وأعظم فإن ذلك قدح في عدالتهم وذلك يمنع أن يكونوا خير القرون بالضرورة ولأن القرآن آثنى عليهم ثناء يقتضي غاية المدح فيمتنع إجماعهم وإصرارهم على الظلم الذي هو ضرر في حق الأمة كلها فإن هذا ليس ظلما للممنوع من الولاية فقط بل هو ظلم لكل من منع نفعه من ولاية الأحق بالولاية فإنه إذا كان راعيان أحدهما هو الذي يصلح للرعاية ويكون أحق بها كان منعه من رعايتها يعود بنقص الغنم حقها من نفعه
ولأن القرآن والسنة دلا على أن هذه الأمة خير الأمم وأن خيرها أولها فإن كانوا مصرين على ذلك لزم أن تكون هذه الأمة شر الأمم وأن لا يكون أولها خيرها
ولأنا نحن نعلم أن المتأخرين ليسوا مثل الصحابة فإن كان أولئك ظالمين مصرين على الظلم فالأمة كلها ظالمة فليست خير الأمم
وقد قيل لابن مسعود لما ذهب إلى الكوفة من وليتم قال ولينا أعلانا ذا فوق ولم نأل وذو الفوق هو السهم يعني أعلانا سهما في الإسلام
فإن قيل قد يكون أحق بالإمامة وعلي أفضل منه، قيل أولا هذا السؤال لا يمكن أن يورده أحد من الإمامية لأن الأفضل عندهم أحق بالإمامة وهذا قول الجمهور من أهل السنة
وهنا مقامان إما أن يقال الأفضل أحق بالإمامة لكن يجوز توليه المفضول إما مطلقا وإما للحاجة وإما أن يقال ليس كل من كان أفضل عند الله يكون أحق بالإمامة
وكلاهما منتف ههنا أما الأول فلأن الحاجة إلى تولية المفضول في الاستحقاق كانت منتفية فإن القوم كانوا قادرين على تولية علي وليس هناك من ينازع أصلا ولا يحتاجون إلى رغبة ولا رهبة ولم يكن هناك لعثمان شوكة تخاف بل التمكن من تولية هذا كان كالتمكن من تولية هذا فامتنع أن يقال ما كان يمكن إلا تولية المفضول
وإذا كانوا قادرين وهم يتصرفون للأمة لا لأنفسهم لم يجز لهم تفويت مصلحة الأمة من ولاية الفاضل فإن الوكيل والولي المتصرف لغيره ليس له أن يعدل عما هو أصلح لمن ائتمنه مع كونه قادرا على تحصيل المصلحة فكيف إذا كانت قدرته على الأمرين سواء
وأما الثاني فلأن النبي ﷺ أفضل الخلق وكل من كان به أشبه فهو أفضل ممن لم يكن كذلك والخلافة كانت خلافة نبوة لم تكن ملكا فمن خلف النبي وقام مقامه كان أشبه به ومن كان أشبه به كان أفضل فالذي يخلفه أشبه به من غيره والأشبة به أفضل فالذي يخلفه أفضل
وأما الطريق النظرية فقذ ذكر من ذكره من العلماء فقالوا عثمان كان أعلم بالقرآن وعلي أعلم بالسنة وعثمان أعظم جهادا بماله وعلي أعظم جهادا بنفسه وعثمان أزهد في الرياسة وعلي أزهد في المال وعثمان أورع عن الدماء وعلي أورع عن الأموال وعثمان حصل له من جهاد نفسه حيث صبر عن القتال ولم يقاتل مالم يحصل مثله لعلي
وقال النبي ﷺ: المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله
وسيرة عثمان في الولاية كانت أكمل من سيرة علي فقالوا فثبت أن عثمان أفضل لأن علم القرآن أعظم من علم السنة
وفي صحيح مسلم وغيره أنه قال يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة
وعثمان جمع القرآن كله بلا ريب وكان أحيانا يقرؤه في ركعة وعلي قد اختلف فيه هل حفظ القرآن كله أم لا
والجهاد بالمال مقدم على الجهاد بالنفس كما في قوله تعالى وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله سورة التوبة 41 الآية وقوله الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم سورة التوبة 20 الآية وقوله إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض سورة الأنفال 7وذلك لأن الناس يقاتلون دون أموالهم فإن المجاهد بالمال قد أخرج ماله حقيقة لله والمجاهد بنفسه لله يرجو النجاة لا يوافق أنه يقتل في الجهاد ولهذا أكثر القادرين على القتال يهون على أحدهم أن يقاتل ولا يهون عليه إخراج ماله ومعلوم أنهم كلهم جاهدوا بأموالهم وأنفسهم لكن منهم من كان جهاده بالمال أعظم ومنهم من كان جهاده بالنفس أعظم
وأيضا فعثمان له من الجهاد بنفسه بالتدبير في الفتوح ما لم يحصل مثله لعلي وله من الهجرة إلى أرض الحبشة مالم يحصل مثله لعلي وله من الذهاب إلى مكة يوم صلح الحديبيية مالم يحصل مثله لعلي وإنما بايع النبي ﷺ بيعة الرضوان لما بلغه أن المشركين قتلوا عثمان وبايع بإحدى يديه عن عثمان وهذا من أعظم الفضل حيث بايع عنه النبي ﷺ
وأما الزهد والورع في الرياسة والمال فلا ريب أن عثمان تولى ثنتى عشر سنة ثم قصد الخارجون عليه قتله وحصروه وهو خليفة الأرض والمسلمون كلهم رعيته وهو مع هذا لم يقتل مسلما ولا دفع عن نفسه بقتال بل صبر حتى قتل
لكنه في الأموال كان يعطي لأقاربه من العطاء مالا يعطيه لغيرهم وحصل منه نوع توسع في الأموال وهو رضى الله عنه ما فعله إلا متأولا فيه له اجتهاد وافقه عليه جماعة من الفقهاء منهم من يقول إن ما أعطاه الله للنبي من الخمس والفيء هو لمن يتولى الأمر بعده كما هو قول أبي ثور وغيره ومنهم من يقول ذوو القربى المذكورون في القرآن هم ذوو قربى الإمام ومنهم من يقول الإمام العامل على الصدقات يأخذ منها مع الغنى وهذه كانت مآخذ عثمان رضي الله عنه كما هو منقول عنه فما فعله هو نوع تأويل يراه طائفة من العلماء
وعلي رضي الله عنه لم يخص أحدا من أقاربه بعطاء لكن ابتدأ بالقتال لمن لم يكن مبتدئا بالقتال حتى قتل بينهم ألوف مؤلفة من المسلمين وإن كان ما فعله هو متأول فيه تأويلا وافقه عليه طائفة من العلماء وقالوا إن هؤلاء بغاة والله تعالى أمر بقتال البغاة بقوله فقاتلوا التي تبغي سورة الحجرات 23
لكن نازعه أكثر العلماء كما نازع عثمان أكثرهم وقالوا إن الله تعالى قال وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل الآية سورة الحجرات قالوا فلم يأمر الله بقتال البغاة ابتداء بل إذا وقع قتال بين طائفتين من المؤمنين فقد أمر الله بالإصلاح بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى قوتلت ولم يقع الأمر كذلك
ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها ترك الناس العمل بهذه الآية رواه مالك بإسناده المعروف عنها
ومذهب أكثر العلماء أن قتال البغاة لا يجوز إلا أن يبتدؤوا الإمام بالقتال كما فعلت الخوارج مع علي فإن قتاله الخوارج متفق عليه بين العلماء ثابت بالأحاديث الصحيحة عن النبي ﷺ بخلاف قتال صفين فإن أولئك لم يبتدؤوا بقتال بل امتنعوا عن مبايعته
ولهذا كان أئمة السنة كمالك وأحمد وغيرهما يقولون إن قتاله للخوارج مأمور به وأما قتال الجمل وصفين فهو قتال فتنة
فلو قام قوم نحن نقيم الصلاة ونؤتي الزكاة ولا ندفع زكاتنا إلى الإمام ونقوم بواجبات الإسلام لم يجز للإمام قتلهم عند أكثر العلماء كأبي حنيفة وأحمد
وأبو بكر الصديق رضي الله عنه إنما قاتل مانعي الزكاة لأنهم امتنعوا عن أدائها مطلقا وإلا فلو قالوا نحن نؤديها بأيدينا ولا ندفعها إلى أبي بكر لم يجز قتالهم عند الأكثرين كأبي حنيفة وأحمد وغيرهما
ولهذا كان علماء الأمصار على أن القتال كان قتال فتنة وكان من قعد عنه أفضل ممن قاتل فيه وهذا مذهب مالك وأحمد وأبي حنيفة والأوزاعي بل والثوري ومن لا يحصى عدده مع أن ابا حنيفة ونحوه من فقهاء الكوفيين فيما نقله القدوري وغيره عندهم لا يجوز قتال البغاة إلا إذا ابتدؤوا الإمام بالقتال وأما إذا أدوا الواجب من الزكاة وامتنعوا عن دفعها إليه لم يجز قتالهم
وكذلك مذهب أحمد وغيره وهكذا جمهور الفقهاء على أن ذوي القربى هم قربى رسول الله ﷺ وأنه ليس للإمام ما كان للنبي ﷺ
والمقصود أن كليهما رضي الله عنه وإن كان ما فعله فيه هو متأول مجتهد يوافقه عليه طائفة من العلماء المجتهدين الذين يقولون بموجب العلم والدليل ليس لهما عمل يتهمون فيه لكن اجتهاد عثمان كان أقرب إلى المصلحة وأبعد عن المفسدة فإن الدماء خطرها أعظم من الأموال
ولهذا كانت خلافة عثمان هادية مهدية ساكنة والأمة فيها متفقة وكانت ست سنين لا ينكر الناس عليه شيئا ثم أنكروا أشياء في الست الباقية وهي دون ما أنكروه على علي من حين تولى والذين خرجوا على عثمان طائفة من أوباش الناس وأما علي فكثير من السابقين الأولين لم يتبعوه ولم يبايعوه وكثير من الصحابة والتابعين قاتلوه وعثمان في خلافته فتحت الأمصار وقوتلت الكفار وعلي في خلافته لم يقتل كافر ولم تفتح مدينة
فإن كان ما صدر عن الرأي فرأى عثمان أكمل وإن كان عن القصد فقصده أتم
قالوا وإن كان علي تزوج بفاطمة رضي الله عنهما فعثمان قد زوجه النبي ﷺ ابنتين من بناته وقال: لو كان عندنا ثالثة لزوجناها عثمان وسمى ذو النورين بذلك إذ لم يعرف أحد جمع بين بنتي نبي غيره
وقد صاهر النبي ﷺ من بني أمية من هو دون عثمان أبو العاص بن الربيع فزوجه زينب أكبر بناته وشكر مصاهرته محتجا به على علي لما أراد أن يتزوج بنت أبي جهل فإنه قال: إن بني المغيرة استأذنوني في أن ينكحوا فتاتهم علي بن أبي طالب وإني لا آذان ثم لا آذان إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي ويتزوج ابنتهم والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله عند رجل أبدا إنما فاطمة بضعة مني يريبني ما أرابها ويؤذيني ما آذاها ثم ذكر صهرا له من بني عبد شمس فأثنى عليه وقال حدثني فصدقني ووعدني فوفى لي
وهكذا مصاهرة عثمان له لم يزل فيها حميدا لم يقع منه ما يعتب عليه فيها حتى قال: لو كان عندنا ثالثة لزوجناها عثمان
وهذا يدل على أن مصاهرته للنبي ﷺ أكمل من مصاهرة علي له وفاطمة كانت أصغر بناته وعاشت بعده وأصيبت به فصار لها من الفضل ما ليس لغيرها ومعلوم أن كبيرة البنات في العادة تزوج قبل الصغيرة فأبو العاص تزوج أولا زينب بمكة ثم عثمان تزوج برقية وأم كلثوم واحدة بعد واحدة
قالوا وشيعة عثمان المختصون به كانوا أفضل من شيعة علي المختصين به وأكثر خيرا وأقل شرا فإن شيعة عثمان أكثر ما نقم عليهم من البدع أنحرافهم عن علي وسبهم له على المنابر لما جرى بينهم وبينه من القتال ما جرى لكن مع ذلك لم يكفروه ولا كفروا من يحبه
وأما شيعة علي ففيهم من يكفر الصحابة والأمة ويلعن أكابر الصحابة ما هو أعظم من ذاك بأضعاف مضاعفة
وشيعة عثمان تقاتل الكفار والرافضة لا تقاتل الكفار وشيعة عثمان لم يكن فيها زنديق ولا مرتد وقد دخل في شيعة علي من الزنادقة والمرتدين مالا يحصى عدده إلا الله تعالى
وشيعة عثمان لم توال الكفار والرافضة يوالون اليهود والنصارى والمشركين على قتال المسلمين كما عرف منهم وقائع
وشيعة عثمان ليس فيهم من يدعي فيه الإلهية ولا النبوة وكثير من الداخلين في شيعة علي من يدعي نبوته أو إلهيتة
وشيعة عثمان ليس فيهم من قال إن عثمان إمام معصوم ولا منصوص عليه والرافضة تزعم أن عليا منصوص عليه معصوم
وشيعة عثمان متفقة على تقديم أبي بكر وتفضيلهما على عثمان وشيعة علي المتأخرون أكثرهم يذمونهما ويسبونهما وإما الرافضة فمتفقة على بغضها وذمهما وكثير منهم يكفرونهما وأما الزيدية فكثير منهم أيضا يذمهما ويسبهما بل ويلعنهما وخيار الزيدية الذين يفضلونه عليهما ويذمون عثمان أو يقعون به
وقد كان أيضا في شيعة عثمان من يؤخر الصلاة عن وقتها يؤخر الظهر أو العصر ولهذا لما تولى بنو العباس كانوا أحسن مراعاة للوقت من بني أمية لكن شيعة علي المختصون به الذين لا يقرون بإمامة أحد من الأئمة الثلاثة وغيرهم أعظم تعطيلا للصلاة بل ولغيرها من الشرائع وأنهم لا يصلون جمعة ولا جماعة فيعطلون المساجد ولهم في تقديم العصر والعشاء وتأخير المغرب ما هم أشد انحرافا فيه من أولئك وهم مع هذا يعظمون المشاهد مع تعطيل المساجد مضاهاة للمشركين وأهل الكتاب الذين كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا فأين هذا من هذا
فالشر والفساد الذي في شيعة علي أضعاف أضعاف الشر والفساد الذي في شيعة عثمان والخير والصلاح الذي في شيعة عثمان اضعاف أضعاف الخير الذي في شيعة علي وبنو أمية كانوا شيعة عثمان فكان الإسلام وشرائعه في زمنهم أظهر وأوسع مما كان بعدهم
وفي الصحيحين عن جابر بن سمرة أن النبي ﷺ قال: لا يزال هذا الأمر عزيزا إلى اثنى عشر خليفة كلهم من قريش
ولفظ البخاري اثنى عشر أميرا وفي لفظ لا يزال أمر الناس ماضيا ولهم أثنا عشر رجلا وفي لفظ لا يزال الإسلام عزيزا إلى أثنى عشر خليفة كلهم من قريش
وهكذا كان فكان الخلفاء أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ثم تولى من اجتمع الناس عليه وصار له عز ومنعة معاوية وابنه يزيد ثم عبد الملك وأولاده الأربعة وبينهم عمر بن عبد العزيز وبعد ذلك حصل في دولة الإسلام من النقص ما هو باق إلى الآن فإن بني أمية تولوا على جميع أرض الإسلام وكانت الدولة في زمنهم عزيزة والخليفة يدعى باسمه عبد الملك وسليمان لا يعرفون عضد الدولة ولا عز الدين وبهاء الدين وفلان الدين وكان أحدهم هو الذي يصلي بالناس الصلوات الخمس وفي المسجد يعقد الرايات ويؤمر الأمراء وإنما يسكن داره لا يسكنون الحصون ولا يحتجبون عن الرعية
وكان من أسباب ذلك أنهم كانوا في صدر الإسلام في القرون المفضلة قرن الصحابة والتابعين وتابعيهم وأعظم ما نقمه الناس على بني أمية شيئان أحدهما تكلمهم في علي والثاني تأخير الصلاة عن وقتها
ولهذا روى عمر بن مرة الجملي بعد موته فقيل له ما فعل الله بك قال غفر لي بمحافظتي على الصلوات في مواقيتها وحبي علي بن أبي طالب فهذا حافظ على هاتين السنتين حين ظهر خلافهما فغفر الله له بذلك وهكذا شأن من تمسك بالسنة إذا ظهرت بدعة مثل من تمسك بحب الخلفاء الثلاثة حيث يظهر خلاف ذلك وما أشبهه
ثم كان من نعم الله سبحانه ورحمته بالإسلام أن الدولة لما انتقلت إلى بني هاشم صارت في بني العباس فإن الدولة الهاشمية أول ما ظهرت كانت الدعوة إلى الرضا من آل محمد وكانت شيعة الدولة محبين لبني هاشم وكان الذي تولى الخلافة من بني هاشم يعرف قدر الخلفاء الراشدين والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار فلم يظهر في دولتهم إلا تعظيم الخلفاء الراشدين وذكرهم على المنابر والثناء عليهم وتعظيم الصحابة وإلا فلو تولى والعياذ بالله رافضي يسب الخلفاء والسابقين الأولين لقلب الإسلام
ولكن دخل في غمار الدولة من كانوا لا يرضون باطنه ومن كان لا يمكنهم دفعه كما لم يمكن عليا قمع الأمراء الذين هم أكابر عسكره كالأشعث بن قيس والأشتر النخعي وهاشم المرقال وأمثالهم
ودخل من أبناء المجوس ومن في قلبه غل على الإسلام من أهل البدع والزنادقة وتتبعهم المهدي بقتلهم حتى اندفع بذلك شر كبير وكان من خيار خلفاء بني العباس
وكذلك الرشيد كان فيه من تعظيم العلم والجهاد والدين ما كانت به دولته من خيار دول بني العباس وكأنما كانت تمام سعادتهم فلم ينتظم بعدها الأمر لهم مع أن أحدا من العباسيين لم يستولوا على الأندلس ولا على أكثر المغرب وإنما غلب بعضهم على إفريقية مدة ثم أخذت منهم
بخلاف أولئك فإنهم استولوا على جميع المملكة الإسلامية وقهروا جميع أعداء الدين وكانت جيوشهم جيشا بالأندلس يفتحه وجيشا ببلاد الترك يقاتل القان الكبير وجيشا ببلاد العبيد وجيشا بأرض الروم وكان الإسلام في زيادة وقوة عزيزا في جميع الأرض
وهذا تصديق ما أخبر به النبي ﷺ حيث قال: لا يزال هذا الدين عزيزا ما تولى اثنا عشر خليفة كلهم من قريش
وهؤلاء الاثنا عشر خليفة هم المذكورون في التوراة حيث قال في بشارته بإسماعيل وسيلد اثنى عشر عظيما
ومن طن أن هؤلاء الاثنى عشر هم الذين تعتقد الرافضة إمامتهم فهو في غاية الجهل فإن هؤلاء ليس فيهم من كان له سيف إلا علي بن أبي طالب ومع هذا فلم يتمكن في خلافته من غزو الكفار ولا فتح مدينة ولا قتل كافرا بل كان المسلمون قد اشتغل بعضهم بقتال بعض حتى طمع فيهم الكفار بالشرق والشام من المشركين وأهل الكتاب حتى يقال إنهم أخذوا بعض بلادالمسلمين وإن بعض الكفار كان يحمل إليه كلام حتى يكف عن المسلمين فأي عز للإسلام في هذا والسيف يعمل في المسلمين وعدوهم قد طمع فيهم ونال منهم
وأما سائر الأئمة غير علي فلم يكن لأحد منهم سيف لا سيما المنتظر بل هو عند من يقول بإمامته إما خائف عاجز وإما هارب مختف من أكثر من أربعمائة سنة وهو لم يهد ضالا ولا أمر بمعروف ولا نهى عن منكر ولا نصر مظلوما ولا أفتى أحدا في مسألة ولا حكم في قضية ولا يعرف له وجود فأي فائدة حصلت من هذا لو كان موجودا فضلا عن أن يكون الإسلام به عزيزا
ثم إن النبي ﷺ أخبر أن الإسلام لا يزال عزيزا ولا يزال أمر هذه الأمة مستقيما حتى يتولى اثنا عشر خليفة فلو كان المراد بهم هؤلاء الاثنا عشر وآخرهم المنتظر وهو موجود الآن إلى أن يظهر عندهم كان الإسلام لم يزل عزيزا في الدولتين الأموية والعباسية وكان عزيزا وقد خرج الكفار بالمشرق والمغرب وفعلوا بالمسلمين ما يطول وصفه وكان الإسلام لا يزال عزيزا إلى اليوم وهذا خلاف ما دل عليه الحديث
وأيضا فالإسلام عند الإمامية هو ما هم عليه وهم اذل فرق الأمة فليس في أهل الأهواء أذل من الرافضة ولا أكتم لقوله منهم ولا أكثر استعمالا للتقية منهم وهم على زعمهم شيعة الاثنى عشر وهم في غاية الذل فأي عز للإسلام بهؤلاء الاثنى عشر على زعمهم
وكثير من اليهود إذا أسلم يتشيع لأنه رأى في التوراة ذكر الاثنى عشر فظن أن هؤلاء هم أولئك وليس الأمر كذلك بل الاثنا عشر هم الذين ولوا على الأمة من قريش ولاية عامة فكان الإسلام في زمنهم عزيزا وهذا معروف
وقد تأول ابن هيبرة الحديث على أن المراد أن قوانين المملكة باثنى عشر مثل الوزير والقاضي ونحو ذلك وهذا ليس بشيء بل الحديث على ظاهره لا يحتاج إلى تكلف
وآخرون قالوا فيه مقالة ضعيفة كأبي الفرج بن الجوزي وغيره ومنهم من قال لا افهم معناه كأبي بكر بن العربي
وأما مروان وابن الزبير فلم يكن لواحد منهما ولاية عامة بل كان زمنه زمن فتنة لم يحصل فيها من عز الإسلام وجهاد أعدائه ما يتناوله الحديث
ولهذا جعل طائفة من الناس خلافة على من هذا الباب وقالوا لم تثبت بنص ولا إجماع وقد أنكر الإمام أحمد وغيره على هؤلاء وقالوا من لم يربع بعلي في الخلافة فهو أضل من حمار أهله واستدل على ثبوت خلافته بحديث سفينة عن النبي ﷺ قال: تكون خلافة النبوة ثلاثين سنة ثم تكون ملكا فقيل للرواي إن بني أمية يقولون إن عليا لم يكن خليفة فقال كذبت أستاه بني الزرقاء والكلام على هذه المسألة لبسطه موضع آخر
والمقصود هنا أن الحديث الذي فيه ذكرالاثنى عشر خليفة سواء قدر أن عليا دخل فيه أو قدر انه لم يدخل فالمراد بهم من تقدم من الخلفاء من قريش وعلي أحق الناس بالخلافة في زمنه بلا ريب عند أحد من العلماء
فصل
إذ تبين هذا فما ذكره من فضائله التي هي عند الله فضائل فهي حق لكن للثلاثة ما هو أكمل منها
وأما ما ذكره من الفضيلة بالقرابة فعنه أجوبة
أحدها أن هذا ليس هو عند الله فضيلة فلا عبرة به فإن العباس أقرب منه نسبا وحمزة من السابقين الأولين من المهاجرين وقد روى أنه سيد الشهداء وهو أقرب نسبا منه
وللنبي ﷺ من بني العم عدد كثير كجعفر وعقيل وعبد الله وعبيد الله والفضل وغيرهم من بني العباس وكربيعة وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب
وليس هؤلاء أفضل من أهل بدر ولا من أهل بيعة الرضوان ولا من السابقين الأولين إلا من تقدم بسابقته كحمزة وجعفر فإن هذين رضي الله عنهما من السابقين الأولين وكذلك عبيدة بن الحارث الذي استشهد يوم بدر
وحينئذ فما ذكره من فضائل فاطمة والحسن والحسين لا حجة فيه مع أن هؤلاء لهم من الفضائل الصحيحة ما لم يذكره هذا المصنف ولكن ذكر ما هو ذكب كالحديث الذي رواه أخطب خوارزم أنه لما تزوج علي بفاطمة زوجه الله إياها من فوق سبع سموات وكان الخاطب جريل وكان إسرافيل وميكائيل في سبعين ألف من الملائكة شهودا
وهذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث
وكذلك الحديث الذي ذكره عن حذيفة
الثاني أن يقال إن كان إيمان الأقارب فضيلة فأبو بكر متقدم في هذا الفضيلة فإن أباه آمن بالنبي ﷺ باتفاق الناس وأبو طالب لم يؤمن وكذلك أمة آمنت بالنبي ﷺ وأولاده وأولاد وأولاده وليس هذا لأحد من الصحابة غيره فليس في أقارب أبي بكر ذرية أبي قحافة لا من الرجال ولا من النساء إلا من قد آمن بالنبي ﷺ
وقد تزوج النبي ﷺ بنته وكانت أحب أزواجه إليه وهذا أمر لم يشركه فيه أحد من الصحابة إلا عمر ولكن لم تكن حفصة ابنته بمنزله عائشة بل حفصة طلقها ثم راجعها وعائشة كان يقسم لها ليلتين لما وهبتها سودة ليلتها
ومصاهرة أبي بكر للنبي ﷺ كانت على وجه لا يشاركه فيه أحد وأما مصاهرة علي فقد شركه فيها عثمان وزوجه النبي ﷺ بنتا بعد بنت وقال
لو كان عندنا ثالثة لزوجناها عثمان ولهذا سمى ذو النورين لأنه تزوج بنتي نبي وقد شركه في ذلك أبو العاص بن الربيع زوجه النبي ﷺ أكبر بناته زينب وحمد مصاهرته وأراد أن يتشبه به علي في حكم المصاهرة لما أراد علي أن يتزوج بنت أبي جهل فذكر صهره هذا قال حدثني فصدقني ووعدني فوفى لي
وأسلمت زينب قبل إسلامه بمدة وتأيمت عليه حتى أعادها إليه النبي ﷺ قيل أعادها بالنكاح الأول وقيل بل جدد لها نكاحا والصحيح أنه أعادها بالنكاح الأول هذا الذي ثبته أئمة الحديث كأحمد وغيره
وقد تنازع الناس في مثل هذه المسألة إذا أسلمت الزوجة قبل زوجها على أقوال مذكورة في غير هذا الموضع
باب
قال الرافضي الفصل الرابع في إمامة باقي الأئمة الاثنى عشر لنا في ذلك طرق أحدها النص وقد توارثته الشيعة في البلاد المتباعدة خلفا عن سلف عن النبي ﷺ أنه قال للحسين
هذا إمام ابن إمام أخو إمام أبو أئمة تسعة تاسعهم قائمهم اسمه كاسمي وكنيته كنيتي يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما
والجواب من وجوه أحدها أن يقال أولا هذا كذب على الشيعة فإن هذا لا ينقله إلا طائفة من طوائف الشيعة وسائر طوائف الشيعة تكذب هذا والزيدية بأسرها تكذب هذا وهم أعقل الشيعة وأعلمهم وخيارهم والإسماعيلية كلهم يكذبون بهذا وسائر فرق الشيعة تكذب بهذا إلا الاثنى عشرية وهم فرقة من نحو سبعين فرقة من طوائف الشيعة
وبالجملة فالشيعة فرق متعددة جدا وفرقهم الكبار أكثر من عشرين فرقة كلهم تكذب هذا إلا فرقة واحدة فأين تواتر الشيعة
الثاني أن يقال هذا معارض بما نقله غير الاثنى عشرية من الشيعة من نص آخر يناقض هذا كالقائلين بإمامة غير الاثنى عشر وبما نقله الرواندية أيضا فإن كلا من هؤلاء يدعى من النص غير ما تدعيه الاثنا عشرية
الثالث أن يقال علماء الشيعة المتقدمون ليس فيهم من نقل هذا النص ولا ذكره في كتاب ولا احتج به في خطاب وأخبارهم مشهورة متواترة فعلم أن هذا من اختلاف المتأخرين وإنما اختلق هذا لما مات الحسن بن علي العسكري وقيل إن ابنه محمدا غائب فحينئذ ظهر هذا النص بعد موت النبي ﷺ بأكثر من مائتين وخمسين سنة
الرابع أن يقال أهل السنة وعلماؤهم أضعاف أضعاف الشيعة كلهم يعلمون أن هذا كذب على رسول الله ﷺ علما يقينا لا يخالطه الريب ويباهلون الشيعة على ذلك كعوام الشيعة مع علي فإن ادعى علماء الشيعة أنهم يعلمون تواتر هذا لم يكن هذا أقرب من دعوى علماء السنة بكذب هذا
الخامس أن يقال إن من شروط التواتر حصول من يقع به العلم من الطرفين والوسط وقبل موت الحسن بن علي العسكري لم يكن أحد يقول بإمامة هذا المنتظر ولا عرف من زمن علي ودولة بني أمية أحد أدعى إمامة الاثنى عشر وهذا القائم وإنما كان المدعون يدعون النص على علي أو على ناس بعده وأما دعوى النص على الاثنى عشر وهذا القائم فلا يعرف أحد قاله متقدما فضلا عن أن يكون نقله متقدما
السادس أن الصحابة لم يكن فيهم أحد رافضي أصلا وإن ادعى مدع على عدد قليل منهم أنهم كانوا رافضة فقد كذب عليهم ومع هذا فأولئك لا يثبت بهم التواتر لأن العدد القليل المتفقين على مذهب يمكن عليهم التواطؤ على الكذب والرافضة تجوز الكذب على جمهور الصحابة فكيف لا يجوز على من نقل هذا النص مع قلتهم إن كان نقله أحد منهم وإذا لم يكن في الصحابة من تواتر به هذا النقل انقطع التواتر من أوله
السابع أن الرافضة يقولون إن الصحابة ارتدوا عن الإسلام بجحد النص إلا عددا قليلا نحو العشرة أو أقل أو أكثر مثل عمار وسلمان وأبي ذر والمقداد ومعلوم أن أولئك الجمهور لم ينقلوا هذا النص فإنهم قد كتموه عندهم فلا يمكنهم أن يضيفوا نقله إلى هذه الطائفة وهؤلاء كانوا عندهم مجتمعين على موالاة علي متواطئين على ذلك
وحينئذ فالطائفة القليلة التي يمكن تواطؤها على النقل لا يحصل بنقلها تواتر لجواز اجتماعهم على الكذب فإذا كانت الرافضة تجوز على جماهير الصحابة مع كثرتهم الارتداد عن الإسلام وكتمان ما يتعذر في العادة التواطؤ على كتمانه فلأن يجوز على قليل منهم تعمد الكذب بطريق الأولى والأخرى والأحرى
وهم يصرحون بكذب الصحابة إذا نقلوا ما يخالف هواهم فكيف يمكنهم مع ذلك تصديقهم في مثل هذا إذا كان الناقلون له ممن له هوى
ومعلوم أن شيعة علي لهم في نصره فكيف يصدقون في نقل النص عليه هذا مع أن العقلاء وأهل العلم بالنقل يعلمون أنه ليس في فرق المسلمين أكثر تعمدا للكذب وتكذيبا للحق من الشيعة بخلاف غيرهم فإن الخوارج وإن كانوا مارقين فهم يصدقون لا يتعمدون الكذب وكذلك المعتزلة يتدينون بالصدق وأما الشيعة فالكذب عليهم غالب من حين ظهروا
الوجه الثامن أن يقال قد علم أهل العلم أن أول ما ظهرت الشيعة الإمامية المدعية للنص في أواخر أيام الخلفاء الراشدين وافترى ذلك عبدالله بن سبأ وطائفة الكذابون فلم يكونوا موجودين قبل ذلك فأي تواتر لهم
التاسع أن الأحاديث التي نقلها الصحابة في فضائل أبي بكر وعمر وعثمان أعظم تواترا عند العامة والخاصة من نقل هذا النص فإن جاز أن يقدح في نقل جماهير الصحابة لتلك الفضائل فالقدح في هذا أولى وإن كان القدح في هذا متعذرا ففي تلك أولى وإذا ثبتت فضائل الصحابة التي دلت عليها تلك النصوص الكثيرة المتواترة امتنع اتفاقهم على مخالفة هذا النص فإن مخالفته لو كان حقا من أعظم الإثم والعدوان
العاشر أنه ليس أحد من الإمامية ينقل هذا النص بإسناد متصل فضلا عن أن يكون متواترا وهذه الألفاظ تحتاج إلى تكرير فإن لم يدرس ناقلوها عليها لم يحفظوها وأين العدد الكبير الذين حفظوا هذه الألفاظ كحفظ ألفاظ القرآن وحفظ التشهد والأذان جيلا بعد جيل إلى الرسول
ونحن إذا ادعينا التواتر في فضائل الصحابة ندعى تارة التواتر من جهة المعنى كتواتر خلافة الأربعة ووقعة الجمل وصفين وتزوج النبي ﷺ بعائشة وعلي بفاطمة ونحو ذلك مما لا يحتاج فيه إلى نقل لفظ معين يحتاج إلى درس وكتواتر ما للصحابة من السابقة والأعمال وغير ذلك وتارة التواتر في نقل ألفاظ حفظها من يحصل العلم بنقله
الوجه الحادي عشر أن المنقول بالنقل المتواتر عن أهل البيت يكذب مثل هذا النقل وأنهم لم يكونوا يدعون أنهم منصوص عليهم بل يكذبون من يقول ذلك فضلا عن أن يثبتوا النص على اثنى عشر
الوجه الثاني عشر أن الذي ثبت عن النبي ﷺ في عدد الاثنى عشر مما أخرجاه في الصحيحين عن جابر بن سمرة قال دخلت مع أبي على النبي ﷺ فسمعته يقول: لا يزال أمر الناس ماضيا ولهم اثنا عشر رجلا ثم تكلم النبي ﷺ بكلمة خفيت عني فسألت أبي ماذا قال النبي ﷺ قال قال كلهم من قريش وفي لفظ لا يزال الإسلام عزيزا إلى اثنى عشر خليفة ثم قال كلمة لم أفهمها قلت لأبي ما قال قال كلهم من قريش وفي لفظ لا يزال هذا الأمر عزيزا إلى اثنى عشر خليفة
والذي في التوراة يصدق هذا وهذا النص لا يجوز أن يراد به هؤلاء الاثنا عشر لأنه قال لا يزال الإسلام عزيزا ولا يزال هذا الأمر عزيزا ولا يزال أمر الناس ماضيا وهذا يدل على أنه يكون أمر الإسلام قائما في زمان ولايتهم ولا يكون قائما إذا انقطعت ولايتهم وعند هؤلاء الاثنى عشرية لم يقم أمر الأمة في مدة أحد من هؤلاء الاثنى عشر بل مازال أمر فاسدا منتقضا يتولى عليهم الظالمون المعتدون بل المنافقون الكافرون وأهل الحق أذل من اليهود
وأيضا فإن عندهم ولاية المنتظر دائمة إلى آخر الدهر وحينئذ فلا يبقى زمان يخلو عندهم من الاثنى عشر وإذا كان كذلك لم يبق الزمان نوعين نوع يقوم فيه أمر الأمة ونوع لا يقوم بل هو قائم في الأزمان كلها وهو خلاف الحديث الصحيح
وأيضا فالأمر الذي لا يقوم بعد ذلك إلا إذا قام المهدي إما المهدي 2 الذي يقر به أهل السنة وإما مهدي الرافضة ومدته قليلة لا ينتظم فيها أمر الأمة
وأيضا فإنه قال في الحديث كلهم من قريش ولو كانوا مختصين بعلى وأولاده لذكر ما يميزون به ألا ترى أنه لم يقل كلهم من ولد إسماعيل ولا من العرب وإن كانوا كذلك لأنه قصد القبيلة التي يمتازون بها فلو امتازوا بكونهم من بني هاشم أو من قبيل علي مع علي لذكروا بذلك فلما جعلهم من قريش مطلقا علم أنهم من قريش بل لا يختصون بقبيلة بل بنو تيم وينو عدي وينو عبد شمس وبنو هاشم فإن الخلفاء الراشدين كانوا من هذه القبائل
فصل
وأما الحديث الذي رواه عن ابن عمر عن النبي ﷺ: يخرج في آخر الزمان رجل من ولدي اسمه كاسمي وكنيته كنيتي يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا وذلك هو المهدي
فالجواب أن الأحاديث التي يحتج بها على خروج المهدي أحاديث صحيحة رواها أبو داود والترمذي وأحمد وغيرهم من حديث ابن مسعود وغيره، كقوله ﷺ في الحديث الذي رواه ابن مسعود: لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج فيه رجل منى أو من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما ورواه الترمذي وأبو داود من رواية أم سلمة
وأيضا فيه: المهدي من عترتي من ولد فاطمة ورواه أبو داود من طريق أبي سعيد وفيه: يملك الأرض سبع سنين
ورواه عن علي رضي الله عنه أنه نظر إلى الحسن وقال: إن ابني هذا سيد كما سماه رسول الله ﷺ وسيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم يشبهه في الخلق ولا يشبهه في الخلق يملأ الأرض قسطا
وهذه الأحاديث غلط فيها طوائف طائفة أنكروها واحتجوا بحديث ابن ماجة أن النبي ﷺ قال: لا مهدي إلا عيسى بن مريم وهذا الحديث ضعيف وقد اعتمد أبو محمد بن الوليد البغدادي وغيره عليه وليس مما يعتمد عليه ورواه ابن ماجه عن يونس عن الشافعي والشافعي رواه عن رجل من أهل اليمن يقال له محمد ابن خالد الجندي وهو ممن لا يحتج به ولس هذا في مسند الشافعي وقد قيل إن الشافعي لم يسمعه وأن يونس لم يسمعه من الشافعي
الثاني أن الاثنى عشرية الذين أدعوا أن هذا هو مذهبهم مهديهم اسمه محمد بن الحسن والمهدي المنعوت الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم اسمه محمد بن عبد الله ولهذا حذفت طائفة ذكر الأب من لفظ الرسول حتى لا يناقض ما كذبت وطائفة حرفته فقالت جده الحسين وكنيته أبو عبد الله فمعناه محمد بن أبي عبد الله وجعلت الكنية اسما
وممن سلك هذا ابن طلحة في كتابه الذي سماه غاية السول في مناقب الرسول ومن أدنى نظر يعرف أن هذا تحريف صريح وكذب على رسول الله ﷺ فهل يفهم أحد من قوله يواطىء اسمه اسمي واسم ابيه اسم أبي إلا أن اسم أبيه عبد الله وهل يدل هذا اللفظ على أن جده كنيته أبو عبد الله
ثم أي تمييز يحصل له بهذا فكم من ولد الحسين من اسمه محمد وكل هؤلاء يقال في أجدادهم محمد بن أبي عبد الله كما قيل في هذا وكيف يعدل من يريد البيان إلى من اسمه محمد بن الحسن فيقول اسمه محمد بن عبدالله ويعنى بذلك أن جده أبو عبد الله
وهذا كان تعريفه بأنه محمد بن الحسن أو ابن أبي الحسن لأن جده على كنيته أبو الحسن أحسن من هذا وأبين لمن يريد الهدى والبيان
وأيضا فإن المهدي المنعوت من ولد الحسن بن علي لا من ولد الحسين كما تقدم لفظ حديث علي
الثالث أن طوائف ادعى كل منهم أن المهدي المبشر به مثل مهدي القرامطة الباطنية الذي أقام دعوتهم بالمغرب وهو من ولد ميمون القداح وأدعوا أن ميمونا هذا هو من ولد محمد بن إسماعيل وإلى ذلك انتسب الإسماعيلية وهم ملاحدة في الباطن خارجون عن جميع الملل أكفر من الغالية كالنصيرية ومذهبهم مركب من مذهب المجوس والصابئة والفلاسفة مع إظهار التشيع وجدهم رجل يهودي كان ربيبا لرجل مجوسي وقد كانت لهم دولة وأتباع
وقد صنف العلماء كتبا في كشف أسرارهم وهناك أستارهم مثل كتاب القاضي أبي بكر الباقلاني والقاضي عبد الجبار الهمداني وكتاب الغزالي ونحوهم
وممن ادعى أنه المهدي ابن التومرت الذي خرج أيضا بالمغرب وسمى أصحابه الموحدين وكان يقال له في خطبهم الإمام المعصوم والمهدي المعصوم الذي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما وهذا ادعى أنه من ولد الحسن دون الحسين فإنه لم يكن رافضيا وكان له من الخبرة بالحديث ما ادعى به دعوى تطابق الحديث
وقد علم بالاضطرار أنه ليس هو الذي ذكره النبي ﷺ
ومثل عدة آخرين ادعوا ذلك منهم من قتل ومنهم من ادعى ذلك فيه أصحابه وهؤلاء كثيرون لا يحصى عددهم إلا الله وربما حصل بأحدهم نفع لقوم وإن حصل به ضرر لآخرين كما حصل بمهدي المغرب انتفع به طوائف وتضرر به طوائف وكان فيه ما يحمد وإن كان فيه ما يذم
وبكل حال فهو وأمثاله خير من مهدي الرافضة الذي ليس له عين ولا أثر ولا يعرف له حس ولا خبر لم ينتفع به أحد لا في الدنيا ولا في الدين بل حصل باعتقاد وجوده من الشر والفساد مالا يحصيه إلا رب العباد
وأعرف في زماننا غير واحد من المشايخ الذين فيهم زهد وعبادة يظن كل منهم أنه المهدي وربما يخاطب أحدهم بذلك مرات متعددة ويكون المخاطب له بذلك الشيطان وهو يظن أنه خطاب من قبل الله، ويكون أحدهم اسمه أحمد بن إبراهيم فيقال له محمد وأحمد سواء وإبراهيم الخليل هو جد رسول الله النبي ﷺ وأبوك إبراهيم فقد واطأ اسمك اسمه واسم ابيك اسم أبيه
ومع هذا فهؤلاء مع ما وقع لهم من الجهل والغلط كانوا خيرا من منتظر الرافضة ويحصل بهم من النفع مالا يحصل بمنتظر الرافضة ولم يحصل بهم من الضرر ما حصل بمنتظر الرافضة بل ما حصل بمنتظر الرافضة من الضرر أكثر منه
فصل
قال الرافضي الثاني أنا قد بينا أنه يجب في كل زمان إمام معصوم ولا معصوم غير هؤلاء إجماعا
والجواب من وجوه أحدها منع المقدمة الأولى كما تقدم
والثاني منع طوائف لهم المقدمة الثانية
الثالث أن هذا المعصوم الذي يدعونه في وقت ما له مذ ولد عندهم أكثر من أربعمائة وخمسين سنة فإنه دخل السرداب عندهم سنة ستين ومائتين وله خمس سنين عند بعضهم وأقل من ذلك عند آخرين ولم يظهر عنه شيء مما يفعله أقل الناس تأثيرا مما يفعله آحاد الولاة والقضاة والعلماء فضلا عما يفعله الإمام المعصوم فأي منفعة للوجود في مثل هذا لو كان موجودا فكيف إذا كان معدوما
والذين آمنوا بهذا المعصوم أي لطف وأي منفعة حصلت لهم به نفسه في دينهم أو دنياهم
وهل هذا إلا أفسد مما يدعيه كثير من العامة في القطب والغوث ونحو ذلك من أسماء يعظمون مسماها ويدعون في مسماها ما هو أعظم من رتبة النبوة من غير تعيين لشخص معين يمكن أن ينتفع به الانتفاع المذكور في مسمى هذه الأسماء
وكما يدعى كثير منهم حياة الخضر مع أنهم لم يستفيدوا بهذا الدعوى منفعة لا في دينهم ولا في دنياهم
وإنما غاية من يدعى ذلك أن يدعى جريان بعض ما يقدره الله على يدى مثل هؤلاء وهذا مع أنه لا حاجة لهم به فلا حاجة بهم إلى معرفته ولم ينتفعوا بذلك لو كان حقا فكيف إذا كان ما يدعونه باطلا
ومن هؤلاء من يتمثل له الجنى في صورة ويقول أنا الخضر ويكون كاذبا وكذلك الذين يذكرون رجال الغيب ورؤيتهم إنما رأوا الجن وهم رجال غائبون وقد يظنون أنهم إنس وهذا قد بيناه في مواضع تطول حكايتها مما تواتر عندنا
وهذا الذي تدعيه الرافضة إنما مفقود عندهم وإما معدوم عند العقلاء وعلى التقديرين فلا منفعة لأحد به لا في دين ولا في دنيا فمن علق به دينه بالمجهولات التي لا يعلم ثبوتها كان ضالا في دينه لأن ما علق به دينه لم يعلم صحته ولم يحصل له به منفعة فهل يفعل مثل هذا إلا جاهل
لكن الذين يعتقدون حياة الخضر لا يقولون إنه يجب على الناس طاعته مع أن الخضر كان حيا موجودا
فصل
قال الرافضي الثالث الفضائل التي اشتمل كل واحد منهم عليها الموجبة لكونه إماما
والجواب من وجوه أحدها أن تلك الفضائل غايتها أن يكون صاحبها أهلا أن تعقد له الإمامة لكنه لا يصير إماما بمجرد كونه أهلا كما أنه لا يصير الرجل قاضيا بمجرد كونه أهلا لذلك
الثاني أن أهلية الإمامة ثابتة لأخرين من قريش كثبوتها لهؤلاء وهم أهل أن يتولوا الإمامة فلا موجب للتخصيص ولم يصيروا بذلك أئمة
الثالث أن الثاني عشر منهم معدوم عند جمهور العقلاء فامتنع أن يكون إماما
الرابع أن العسكريين ونحوهما من طبقة أمثالهما لم يعلم لها تبريز في عالم أو دين كما عرف لعلي بن الحسين وأبي جعفر وجعفر بن محمد
باب
قال الرافضي والفصل الخامس أن من تقدمه لم يكن إماما ويدل عليه وجوه
قلت والجواب أنه إن أريد بذلك أنهم لم يتولوا على المسلمين ولم يبايعهم المسلمون ولم يكن لهم سلطان يقيمون به الحدود ويوفون به الحقوق ويجاهدون به العدو ويصلون بالمسلمين الجمع والأعياد وغير ذلك مما هو داخل في معنى الإمامة فهذا بهت ومكابرة فإن هذا أمر معلوم بالتواتر والرافضة وغيرهم يعلمون ذلك ولو لم يتولوا الإمامة لم تقدح فيهم الرافضة
لكن هم يطلقون ثبوت الإمامة وانتفاءها ولا يفصلون هل المراد ثبوت نفس الإمامة ومباشرتها أو نفس استحقاق ولاية الإمامة
ويطلقون لفظ الإمام على الثاني ويوهمون أنه يتناول النوعين
وإن أريد بذلك أنهم لم يكونوا يصلحون للإمامة وأن عليا كان يصلح لها دونهم أو أنه كان أصلح لها منهم فهذا كذب وهو مورد النزاع
ونحن نجيب في ذلك جوابا عاما كليا ثم نجيب بالتفصيل
أما الجواب العام الكلي فنقول نحن عالمون بكونهم أئمة صالحين للإمامة علما يقينا قطعيا وهذا لا يتنازع فيه اثنان من طوائف المسلمين غير الرافضة بل أئمة الأمة وجمهورها يقولون إنا نعلم أنهم كانوا أحق بالإمامة بل يقولون إنا نعلم أنهم كانوا أفضل الأمة
وهذا الذي نعلمه ونقطع به ونجزم به لا يمكن أن يعارض بدليل قطعي ولا ظني أما القطعي فلأن القطعيات لا يتناقض موجبها ومقتضاها وأما الظنيات فلأن الظني لا يعارض القطعي
وجملة ذلك أن كل ما يورده القادح فلا يخلو عن أمرين إما نقل لا نعلم صحته أو لا نعلم دلالته على بطلان إمامتهم وأي المقدمتين لم يكن معلوما لم يصلح لمعارضته ما علم قطعا
وإذا قام الدليل القطعي على ثبوت إمامتهم لم يكن علينا أن نجيب عن الشبه المفضلة كما أن ما علمناه قطعا لم يكن علينا أن نجيب عما يعارضه من الشبه السوفسطائية
وليس لأحد أن يدفع ما علم أيضا يقينا بالظن سواء كان ناظرا أو مناظرا بل أن تبين له وجه فساد الشبهة وبينه لغيره كان ذلك زيادة علم ومعرفة وتأييد للحق في النظر والمناظرة وإن لم يتبين ذلك لم يكن له أن يدفع اليقين بالشك وسنبين إن شاء الله تعالى الأدلة الكثيرة على استحقاقهم للإمامة وأنهم كانوا أحق بها من غيرهم
فصل
قال الرافضي الأول قول أبي بكر إن لي شيطانا يعتريني فإن استقمت فأعينوني وإن زغت فقوموني ومن شأن الإمام تكميل الرعية فكيف يطلب منهم الكمال
والجواب من وجوه أحدها أن المأثور عنه أنه قال وإن لي شيطانا يعتريني يعني عند الغضب فإذا اعتراني فاجتنبوني لا أؤثر في أبشاركم وقال أطيعوني ما أطعت الله فإن عصيت الله فلا طاعة لي عليكم وهذا الذي قاله أبو بكر رضي الله عنه من أعظم ما يمدح به كما سنبينه إن شاء الله تعالى
الثاني أن الشيطان الذي يعتريه قد فسر بأنه يعرض لابن آدم عند الغضب فخاف عند الغضب أن يعتدى على أحد من الرعية فأمرهم بمجانبته عند الغضب
كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان فنهى عن الحكم عند الغضب وهذا هو الذي أراده أبو بكر أراد أن لا يحكم وقت الغضب وأمرهم أن لا يطلبوا منه حكما أو يحملوه على حكم في هذا الحال وهذا من طاعته لله ورسوله
الثالث أن يقال الغضب يعتري بني آدم كلهم حتى قال سيد ولد آدم اللهم إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر وإني اتخذت عندك عهدا لن تخلفنيه أيما مؤمن آذيته أو سببته أو جلدته فاجعلها له كفارة وقربة تقربه إليك يوم القيامة أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة
وأخرجه مسلم عن عائشة قال دخل رجلان على النبي ﷺ فأغضباه فسبهما ولعنهما فلما خرجا قلت يا رسول الله من أصاب من الخير ما أصاب هذان الرجلان قال وما ذاك قلت لعنتهما وسببتهما قال أو ما علمت ما شارطت عليه ربي قلت إنما أنا بشر فأي المسلمين سببته أو لعنته فاجعله له زكاة وأجرا وفي رواية أنس إني اشترطت على ربي فقلت إنما انا بشر أرضى كما يرضى البشر وأعضب كما يغضب البشر فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل أن يجعلها له طهورا وزكاة وقربة
وأيضا فموسى رسول كريم وقد أخبر الله عن غضبه بما ذكره في كتابه
فإذا كان مثل هذا لا يقدح في الرسالة فكيف يقدح في الإمامة مع أن النبي ﷺ شبه أبا بكر بإبراهيم وعيسى في لينه وحلمه وشبه عمر بنوح وموسى في شدته في الله فإذا كانت هذه الشدة لا تنافي الإمامة فكيف تنافيها شدة أبي بكر
الرابع أن يقال أبو بكر رضي الله عنه قصد بذلك الاحتراز أن يؤذى أحدا منهم فأنما أكمل هذا أو غيره ممن غضب علي من عصاه وقاتلهم وقاتلوه بالسيف وسفك دماءهم
فإن قيل كانوا يستحقون القتال بمعصية الإمام وإغضابه
قيل ومن عصى أبا بكر وأغضبه كان أحق بذلك لكن أبو بكر ترك ما يستحقه إن كان علي يستحق ذلك وإلا فيمتنع أن يقال من عصى عليا وأغضبه جاز أنه يقاتله ومن عصى أبا بكر لم يجز له تأديبه فدل على أن ما فعله أبو بكر أكمل من الذي فعله علي
وفي المسند وغيره عن أبي برزة أن رجلا أغضب أبا بكر قال فقلت له أتأذن لي أن أضرب عنقه يا خليفة رسول الله فال فأذهبت كلمتي غضبه ثم قال ما كانت لأحد بعد رسول الله ﷺ فلم يستحل أن يقتل مسلما بمجرد مخالفة أمره
والعلماء في حديث أبي برزة على قولين منهم من يقول مراده أنه لم يكن لأحد أن يقتل أحدا سبه إلا الرسول ﷺ ومنهم من يقول ما كان لأحد أن يحكم بعلمه في الدماء إلا الرسول
وقد تخلف عن بيعته سعد بن عبادة فما آذاه بكلمة فضلا عن فعل وقد قيل إن عليا وغيره امتنعوا عن بيعته ستة أشهر فما أزعجهم ولا ألزمهم بيعته فهل هذا كله إلا من كمال ورعه عن أذى الأمة وكمال عدله وتقواه
وهكذا قوله فإن اعتراني فاجتنبوني
الخامس أن في الصحيح عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما منكم من أحد إلا وكل به قرينه من الجن قالوا وإياك يا رسول الله قال وإياي ولكن ربي أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير
وفي الصحيح عن عائشة قالت يا رسول الله أو معي شيطان قال نعم قالت ومع كل إنسان قال نعم ومعك يا رسول الله قال: نعم ولكن ربي أعانني عليه حتى أسلم والمراد في أصح القولين استسلم وانقاد لي ومن قال حتى أسلم أنا فقد حرف معناه ومن قال الشيطان صار مؤمنا فقد حرف لفظه
وقد قال موسى لما قتل القبطي هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين سورة القصص 15 وقال فتى موسى وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره سورة الكهف 63 وذكر الله في قصة آدم وحواء فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه سورة البقرة 36 وقوله فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما وورى عنهما من سوءآتهما سورة الأعراف 2فإذا كان عرض الشيطان لا يقدح في نبوة الأنبياء عليهم السلام فكيف يقدح في إمامة الخلفاء
وإن ادعى مدح أن هذه النصوص مؤولة
قيل له فيجوز لغيرك أن يتأول قول الصديق لما ثبت بالدلائل الكثيرة من إيمانه وعلمه وتقواه وورعه فإذا ورد لفظ مجمل يعارض ما علم وجب تأويله
وأما قوله فإن استقمت فأعينوني وإن زغت فقوموني فهذا من كمال عدله وتقواه وواجب على كل إمام أن يقتدي به في ذلك وواجب على الرعية أن تعامل الأئمة بذلك فإن استقام الإمام أعانوه على طاعة الله تعالى وإن زاغ وأخطأ بينوا له الصواب ودلوه عليه وإن تعمد ظلما منعوه منه بحسب الإمكان فإذا كان منقادا للحق كأبي بكر فلا عذر لهم في ترك ذلك وإن كان لا يمكن دفع الظلم إلا بما هو أعظم فسادا منه لم يدفعوا الشر القليل بالشر الكثير
وأما قول الرافضي ومن شأن الإمام تكميل الرعية فكيف يطلب منهم التكميل
عند أجوبة أحدها أنا لا نسلم أن الإمام يكملهم وهم لا يكملونه أيضا بل الإمام والرعية يتعاونون على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان بمنزلة أمير الجيش والقافلة والصلاة والحج والدين قد عرف بالرسول فلم يبق عند الإمام دين ينفرد به ولكن لا بد من الاجتهاد في الجزئيات فإن كان الحق فيها بينا أمر به وإن كان متبينا للإمام دونهم بينه لهم وكان عليهم أن يطيعوه وإن كان مشتبها عليهم اشتوروا فيه حتى يتبين لهم وإن تبين لأحد من الرعية دون الإمام بينه له وإن اختلف الاجتهاد فالإمام هو المتبع في اجتهاده إذ لا بد من الترجيح والعكس ممتنع
وهذا كما تقوله الرافضة الإمامية في نواب المعصوم فإنه وإن تبين لهم الكليات فلا بد في تبيين الجزئيات من الاجتهاد وحينئذ فكل إمام هو نائب رسول الله ﷺ الذي لا ريب في عصمته ونوابه أحق بالاتباع من نواب غيره والمراد بكونهم نوابه أن عليهم أن يقوموا بما قام به ليس المراد استخلافهم فإن طاعة الرسول واجبة على كل متول سواء ولاه الرسول أو غيره وطاعته بعد موته كطاعته في حياته ولو ولى هو رجلا لوجب عليه وعلى غيره ما يجب على غيره من الولاة
الوجه الثاني أن كلا من المخلوقين قد استكمل بالآخر كالمتناظرين في العلم والمتشاورين في الرأي والمتعاونين المتشاركين في مصلحة دينهما ودنياهما وإنما يمتنع هذا في الخالق سبحانه لأنه لا بد أن يكون للممكنات المحدثات فاعل مستغن بنفسه غير محتاج إلى أحد لئلا يفضي إلى الدور في المؤثرات والتسلسل فيها وأما المخلوقات فكلاهما يستفيد حوله وقوته من الله تعالى لا من نفسه ولا من الآخر فلا دور في ذلك
الوجه الثالث أنه ما زال المتعلمون ينبهون معلمهم على أشياء ويستفيدها المعلم منهم مع أن عامة ما عند المتعلم من الأصول تلقاها من معلمه وكذلك في الصناع وغيرهم
الوجه الرابع أن موسى ﷺ قد استفاد من الخضر ثلاث مسائل وهو أفضل منه وقد قال الهدهد لسليمان أحطت بما لم تحط به سورة النمل 22 وليس الهدهد قريبا من سليمان
ونبينا ﷺ كان يشاور أصحابه وكان أحيانا يرجع إليهم في الرأي كما قال له الحباب يوم بدر يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أهو منزل أنزلكه الله تعالى فليس لنا أن نتعداه أم هو الحرب والرأي والمكيدة فقال: بل هو الحرب والرأي والمكيدة فقال ليس هذا بمنزل قتال قال فرجع إلى رأي الحباب
وكذلك يوم الخندق كان قد رأى أن يصالح غطفان على نصف تمر المدينة وينصرف عن القتال فجاءه سعد فقال يا رسول الله إن كان الله أمرك بهذا فسمعا وطاعة أو كما قال وإن كنت أنت إنما فعلت هذا لصلحتنا فلقد كانوا في الجاهلية وما ينالون منها تمرة إلا بشراء أو قراء فلما أعزنا الله بالإسلام نعطيهم تمرنا ما نعطيهم إلا السيف أو كما قال فقبل منه النبي ﷺ ذلك
وعمر أشار عليه لما أذن لهم في غزوة تبوك في نحر الركاب أن يجمع أزوادهم ويدعو فيها بالبركة فقبل منه
وأشار عليه بأن يرد أبا هريرة لما أرسله بنعليه يبشر من لقيه وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله بالجنة لما خاف أن يتكلوا فقبل منه وأبو بكر لم يكن يرجع إليهم فيما ليس فيه نص من الله ورسوله بل كان إذا تبين له ذلك لم يبال بمن خالفه ألا ترى أنه لما نازعه عمر في قتال أهل الردة لأجل الخوف على المسلمين ونازعوه في قتال مانعي الزكاة ونازعوه في إرسال جيش أسامة لم يرجع إليهم بل بين لهم دلالة النص على ما فعله
وأما في الأمور الجزئية التي لا يجب أن تكون منصوصة بل يقصد بها المصلحة فهذه ليس هو فيها بأعظم من الأنبياء
الخامس أن هذا الكلام من أبي بكر ما زاده عند الأمة إلا شرفا وتعظيما ولم تعظم الأمة أحدا بعد نبيها كما عظمت الصديق ولا أطاعت أحدا كما أطاعته من غير رغبة أعطاهم إياها ولا رهبة أخافهم بها بل الذين بايعوا الرسول تحت الشجرة بايعوه طوعا مقرين بفضيلته واستحقاقه ثم مع هذا لم نعلم أنهم اختلفوا في عهده في مسألة واحدة في دينهم إلا وأزال الاختلاف ببيانه لهم ومراجعتهم له وهذا أمر لا يشركه فيه غيره
وكان عمر أقرب إليه في ذلك ثم عثمان
وأما علي فقاتلهم وقاتلوه فلا قومهم ولا قوموه فأي الإمامين حصل به مقصود الإمامة أكثر وأي الإمامين أقام الدين ورد المرتدين وقاتل الكافرين واتفقت عليه الكلمة كلمة المؤمنين هل يشبه هذا بهذا إلا من هو في غاية النقص من العقل والدين
فصل
قال الرافضي الثاني قول عمر كانت بيعة أبي بكر فلتة وقي الله المسلمين شرها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه وكونها فلته يدل على أنها لم تقع عن رأي صحيح ثم سأل وقاية شرها ثم أمر بقتل من يعود إلى مثلها وكان ذلك يوجب الطعن فيه
والجواب أن لفظ عمر ما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس من خطبة عمر التي قال فيها ثم إنه قد بلغني أن قائلا منكم يقول والله لو مات عمر بايعت فلانا فلا يغترن أمرؤ أن يقول إنما كانت بيعة أبي بكر فلته ألا وإنها قد كانت كذلك ولكن قد وقى الله شرها وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر من بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا وإنه كان من خيرنا حين توفى الله نبيه ﷺ وذكر الحديث وفيه أن الصديق قال وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة وهو جالس بيننا فلم أكره مما قال غيرها كان والله أن أقدم فيضرب عنقي لا يقربني ذلك من إثم أحب إلى من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر اللهم إلا أن تسول لي نفسي شيئا عند الموت لا أجده الآن وقد تقدم الحديث بكماله
ومعنى ذلك أنها وقعت فجأة لم تكن قد استعددنا لها ولا تهيأنا لأن أبا بكر كان متعينا لذلك فلم يكن يحتاج في ذلك إلى أن يجتمع لها الناس إذ كلهم يعلمون أنه أحق بها وليس بعد أبي بكر من يجتمع الناس على تفضيله واستحقاقه كما اجتمعوا على ذلك في أبي بكر فمن أراد أن ينفرد ببيعة رجل دون ملأ من المسلمين فاقتلوه وهو لم يسأل وقاية شرها بل أخبر أن الله وقى شر الفتنة بالاجتماع
فصل
قال الرافضي الثالث قصورهم في العلم والتجاؤهم في أكثر الأحوال إلى علي
والجواب أن هذا من أعظم البهتان أما أبو بكر فما عرف أنه استفاد من علي شيئا أصلا وعلي قد روى عنه واحتذى حذوه واقتدى بسيرته وأما عمر فقد استفاد علي منه أكثر مما استفاد عمر منه وأما عثمان فقد كان أقل علما من أبي بكر وعمر ومع هذا فما كان يحتاج إلى علي حتى أن بعض الناس شكا إلى علي بعض سعاة عمال عثمان فأرسل إليه بكتاب الصدقة فقال عثمان لا حاجة لنا به
وصدق عثمان وهذه فرائض الصدقة ونصبها التي لا تعلم إلا بالتوقيف فيها عن النبي ﷺ وهي من أربع طرق أصحها عند علماء المسلمين كتاب أبي بكر الذي كتبه لأنس بن مالك وهذا هو الذي رواه البخاري وعمل به أكثر الأئمة وبعده كتاب عمر
وأما الكتاب المنقول عن علي ففيه أشياء لم يأخذ بها أحد من العلماء من قوله في خمس وعشرين خمس شاة فإن هذا خلاف النصوص المتواترة عن النبي ﷺ ولهذا كان ما روى عن علي إما منسوخ وإما خطأ في النقل
والرابع كتاب عمرو بن حزم كان قد كتبه لما بعثه إلى نجران وكتاب أبي بكر هو آخر الكتب فكيف يقول عاقل إنهم كانوا يلجأون إليه في أكثر الأحكام وقضاته لم يكونوا يلتجئون إليه بل كان شريح القاضي وعبيدة السلماني ونحوهما من القضاة الذين كانوا في زمن علي يقضون بما تعلموه من غير علي وكان شريح قد تعلم من معاذ بن جبل وغيره من الصحابة وعبيدة تعلم من عمر وغيره وكانوا لا يشاورونه في عامة ما يقضون به استغناء بما عندهم من العلم فكيف يقال إن عمر وعثمان كانا يلتجئان إليه في أكثر الأحكام
وقد قال علي كان رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد أن لا يبعن والآن قد رأيت أن يبعن فقال له عبيدة السلماني رأيك مع عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة
فهذا قاضيه لا يرجع إلى رأيه في هذه المسألة مع أن أكثر الناس إنما منع بيعها تقليدا لعمر ليس فيها نص صريح صحيح فإذا كانوا لا يلتجئون إليه في هذه المسألة فكيف يلتجئون إليه في غيرها وفيها من النصوص ما يشفى ويكفى
وإنما كان يقضى ولا يشاور عيا وربما قضى بقضية أنكرها علي لمخالفتها قول جمهور الصحابة كابني عم وأخوين أحدهما أخ لأم قضى له بالمال فأنكر ذلك علي وقال بل يعطى السدس ويشتركان في الباقي وهذا قول سائر الصحابة زيد وغيره فلم يكن الناس مقلدين في ذلك أحدا
وقول علي في الجد لم يقل به أحد من العلماء إلا ابن أبي ليلى وأما قول ابن مسعود فقال به أصحابه وهم أهل الكوفة وقول زيد قال به خلق كثير وأما قول الصديق فقال به جمهور الصحابة
وقد جمع الشافعي ومحمد بن نصر المروزي كتابا كثيرا فيما لم يأخذ به المسلمون من قول علي لكون قول غيره من الصحابة أتبع للكتاب والسنة وكان المرجوح من قوله أكثر من المرجوح من قول أبي بكر وعمر وعثمان والراجح من أقاويلهم أكثر فكيف أنهم كانوا يلتجئون إلي ه في أكثر الأحكام
فصل
قال الرافضي الرابع الوقائع الصادرة عنهم وقد تقدم اكثرها
قلنا الجواب قد تقدم عنها مجملا ومفصلا وبيان الجواب عما ينكر عليهم أيسر من الجواب عما ينكر على علي وأنه لا يمكن أحد له علم وعدل أن يجرحهم ويزكى عليا بل متى زكى عليا كانوا أولى بالتزكية وإن جرحهم كان قد طرق الجرح إلى علي بطريق الأولى
والرافضة إن طردت قولها لزمها جرح على أعظم من جرح الثلاثة وإن لم تطرده تبين فساده وتناقضه وهو الصواب
كما يلزم مثل ذلك اليهود والنصارى إذا قدحوا في نبوة محمد دون نبوة موسى وعيسى فما يورد الكتابي على نبوة محمد سؤالا إلا ويرد على على نبوة موسى وعيسى أعظم منه وما يورد الرافضي على الثلاثة إلا ويرد على إمامة علي ما هو أعظم منه وما يورده الفيلسوف على أهل الملل يرد عليه ما هو أعظم منه وهكذا كل من كان أبعد عن الحق من غيره يرد عليه أعظم مما يرد على الأقرب إلى الحق ومن الطرق الحسنة في مناظرة هذا أن يورد عليه من جنس ما يورده على أهل الحق وما هو أغلظ منه فإن المعارضة نافعة وحينئذ فإن فهم الجواب الصحيح علم الجواب عما يورد على الحق وإن وقع في الحيرة والعجز عن الجواب اندفع شره بذلك وقيل له جوابك عن هذا هو جوابنا عن هذا
فصل
قال الرافضي الخامس قوله تعالى لا ينال عهدي الظالمين سورة البقرة 124 أخبر بأن عهد الإمامة لا يصل إلى الظالم والكافر ظالم لقوله والكافرون هم الظالمون سورة البقرة 254 ولا شك في أن الثلاثة كانوا كفارا يعبدون الأصنام إلى أن ظهر النبي ﷺ
والجواب من وجوه أحدها أن يقال الكفر الذي يعقبه الإيمان الصحيح لم يبق على صاحبه منه ذم هذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام بل من دين الرسل كلهم
كما قال تعالى قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف سورة الأنفال 38 وقال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: إن الإسلام يجب ما قبله وفي لفظ يهدم من كان قبله وإن الهجرة تهدم ما كان قبلها وإن الحج يهدم ما كان قبله
الثاني أنه ليس كل ولد على الاسلام بأفضل من أسلم بنفسه بل قد ثبت بالنصوص المستفيضة أن خير القرون القرن الأول وعامتهم أسلموا بأنفسهم بعد الكفر وهم أفضل من القرن الثاني الذين ولدوا على الإسلام
ولهذا قال أكثر العلماء إنه يجوز على الله أن يبعث نبيا ممن آمن بالأنبياء قبل محمد ﷺ فإنه إذا جاز أن يبعث نبيا من ذرية إبراهيم وموسى فمن الذين آمنوا بهما أولى وأحرى
كما قال تعالى فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي سورة العنكبوت 2
وقال تعالى وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى اليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننهم الأرض من بعدهم سورة إبراهيم 13 1
وقال تعالى قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا الآية سورة الأعراف 88 8
وطرد هذا من تاب من الذنب وغفر له لم يقدح في علو درجته كائنا من كان والرافضة لهم في هذا الباب قول فارقوا به الكتاب والسنة وإجماع السلف ودلائل العقول والتزموا لأجل ذلك ما يعلم بطلانه بالضرورة كدعواهم إيمان آزر وأبوي النبي وأجداده وعمه أبي طالب وغير ذلك
الثالث أن يقال قبل أن يبعث الله محمدا ﷺ لم يكن أحد مؤمنا من قريش لا رجل ولا صبي ولا أمرأة ولا الثلاثة ولا علي وإذا قيل عن الرجال إنهم كانوا يعبدون الأصنام فالصبيان كذلك علي وغيره
وإن قيل كفر الصبي ليس مثل كفر البالغ
قيل ولا إيمان الصبي مثل إيمان البالغ فأولئك يثبت لهم حكم الإيمان والكفر وهم بالغون وعلي يثبت له حكم الكفر والإيمان وهو دون البلوغ
والصبي المولود بين أبوين كافرين يجري عليه حكم الكفر في الدنيا باتفاق المسلمين وإذا أسلم قبل البلوغ فهل يجري عليه حكم الإسلام قبل البلوغ على قولين للعلماء بخلاف البالغ فإنه يصير مسلما باتفاق المسلمين
فكان إسلام الثلاثة مخرجا لهم من الكفر باتفاق المسلمين وأما إسلام علي فهل يكون مخرجا له من الكفر على قولين مشهورين ومذهب الشافعي أن إسلام الصبي غير مخرج له من الكفر
وأما كون صبي من الصبيان قبل النبوة سجد لصنم أو لم يسجد فهو لم يعرف فلا يمكن الجزم بأن عليا أو الزبير ونحوهما لم يسجدوا لصنم كما أنه ليس معنا نقل بثبوت ذلك بل ولا معنا نقل معين عن أحد من الثلاثة أنه سجد لصنم بل هذا يقال لأن من عادة قريش قبل الإسلام أن يسجدوا للأصنام وحينئذ فهذا ممكن في الصبيان كما هو العادة في مثل ذلك
الرابع أن أسماء الذم كالكفر والظلم والفسق التي في القرآن لا تتناول إلا من كان مقيما على ذلك وأما من صار مؤمنا بعد الكفر وعادلا بعد الظلم وبرا بعد الفجور فهذا تتناوله أسماء المدح دون أسماء الذم باتفاق المسلمين
فقوله عز وجل لا ينال عهدي الظالمين سورة البقرة 124 أي ينال العادل دون الظالم فإذا قدر أن شخصا كان ظالما ثم تاب وصار عادلا تناوله العهد كما يتناوله سائر آيات المدح والثناء
لقوله تعالى إن الإبرار لفي نعيم سورة المطففين 22 وقوله إن المتقين في جنات ونعيم سورة الطور 1الخامس أن من قال إن المسلم بعد إيمانه كافر فهو كافر بإجماع المسلمين فكيف يقال عن أفضل الخلق إيمانا إنهم كفار لأجل ما تقدم
السادس أنه قال لموسى إني لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم سورة النمل 10 1السابع أنه قال إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله عن المؤمنين والمؤمنات الآية سورة الاحزاب 72 73
فقد أخبرنا الله عن جنس الإنسان أنه ظلوم جهول واستثنى من العذاب من تاب ونصوص الكتاب صريحة في أن كل بني آدم لا بد أن يتوب وهذه المسألة متعلقة بمسألة العصمة هل الأنبياء معصومون من الذنوب أم لا فيحتاجون إلى توبة والكلام فيها مبسوط قد تقدم
فصل
قال الرافضي السادس قول أبي بكر أقيلوني فلست بخيركم ولو كان إماما لم يجز له طلب الإقالة
والجواب أن هذا أولا كان ينبغي أن يبين صحته وإلا فما كل منقول صحيح والقدح بغير الصحيح لا يصح
وثانيا إن صح هذا عن أبي بكر لم تجز معارضته بقول القائل الإمام لا يجوز له طلب الإقالة فإن هذه الدعوى مجردة لا دليل عليها فلم لا يجوز له طلب الإقالة إن كان قال ذلك بل إن كان قاله لم يكن معنا إجماع على نقيض ذلك ولا نص فلا يجب الجزم بأنه باطل وإن لم يكن قاله فلا يضر تحريم هذا القول
وأما تثبيت كون الصديق قاله والقدح في ذلك بمجرد الدعوى فهو كلام من لا يبالي ما يقول
وقد يقال هذا يدل على الزهد في الولاية والورع فيها وخوف الله أن لا يقوم بحقوقها وهذا يناقض ما يقوله الرافضه إنه كان طالبا للرياسة راغبا في الولاية
فصل
قال الرافضي السابع قول أبي بكر عند موته ليتني كنت سألت رسول الله ﷺ هل للأنصار في هذا الأمر حق وهذا يدل على شكه في صحة بيعة نفسه مع أنه الذي دفع الأنصار يوم السقيفة لما قالوا منا أمير ومنكم أمير بما رواه عن النبي ﷺ الأئمة من قريش
والجواب أما قول النبي ﷺ الأئمة من قريش فهو حق ومن قال إن الصديق شك في هذا أو في صحة إمامته فقد كذب
ومن قال إن الصديق قال ليتني كنت سألت النبي ﷺ هل للأنصار ف الخلافة نصيب فقد كذب فإن المسألة عنده وعند الصحابة أظهر من أن يشك فيها لكثرة النصوص فيها عن النبي ﷺ وهذا يدل على بطلان هذا النقل
وإن قدر صحته ففيه فضيلة للصديق لأنه لم يكن يعرف النص واجتهد فوفق اجتهاده النص ثم من اجتهاده وورعه تمنى أن يكون معه نص يعينه على الاجتهاد فهذا يدل على كمال علمه حيث وافق اجتهاده النص ويدل على ورعه حيث خاف أن يكون مخالفا للنص فأي قدح في هذا
فصل
قال الرافضي الثامن قوله في مرض موته ليتني كنت تركت بيت فاطمة لم أكبسه وليتني كنت في ظلة بني ساعدة ضربت على يد أحد الرجلين وكان هو الأمير وكنت الوزير وهذا يدل على إقدامه علي بيت فاطمة عند اجتماع أمير المؤمنين والزبير وغيرهما فيه
والجواب أن القدح لا يقبل حتى يثبت اللفظ بإسناد صحيح ويكون دالا دلالة ظاهرة على القدح فإذا انتفت إحداهما انتفى القدح فكيف إذا انتفى كل منهما ونحن نعلم يقينا أن أبا بكر لم يقدم على علي والزبير بشيء من الأذى بل ولا على سعد بن عبادة المتخلف عن بيعته أولا وآخرا
وغاية ما يقال إنه كبس البيت لينظر هل فيه شيء من مال الله الذي يقسمه وأن يعطيه لمستحقه ثم رأى أنه لو تركه لهم لجاز فإنه يجوز أن يعطيهم من مال الفيء
وأما إقدامه عليهم أنفسهم بأذى فهذا ما وقع فيه قط باتفاق أهل العلم والدين وإنما ينقل مثل هذا جهال الكذابين ويصدقه حمقى العالمين الذين يقولون إن الصحابة هدموا بيت فاطمة وضربوا بطنها حتى أسقطت
وهذا كله دعوى مختلق وإفك مفترى باتفاق أهل الإسلام ولا يروج إلا على من هو من جنس الأنعام
وأما قوله ليتني كنت ضربت على يد أحد الرجلين فهذا لم يذكر له إسنادا ولم يبين صحته فإن كان قاله فهو يدل على زهده وورعه وخوفه من الله تعالى