فقاموا سِماطين في مجلسه ثم أذن لبني أمية فأخذت سيوفُهم ودخلوا عليه. قال أبو محمد العَبْدي الشاعر: وخَرج الحاجبُ فأدخلني فسلمتُ عليه فردّ عليّ السلام ثم قال أنشدني قولك: وَقَف المُتَيّم في رُسوم دِيار فأنشدتُه حتى انتهيت إلى قولي: أما الدعاةُ إلى الجنان فهاشمٌ وبنو أمية من دُعاة النارِ مَن كان يَفْخر بالمكارم والعُلا فلَها يَتمُّ المجد غيرَ فَخَارِ والغَمْرُ بن يزيد بن عبد الملك جالس معه على المُصَلى وبنو أمية على الكَراسي فألقى إليّ صُرة حرير خَضراء فيها خَمسُمائة دينار فقال: لك عندنا عَشرة آلاف درهم وجارية وبرْذون وغلامٌ وتخت ثياب. قال: فوفّى واللهّ بذلك كُلّهُ. ثم انشأ عبدُ اللهّ بن علي يقول: حسِبتْ أمية أنْ سَيرضى هاشم عنها ويَذهب زيدُها وحُسينُها كلا وربِّ محمدٍ وإِلهِه حتى تُباح سهولُها وحُزونها ثم أخذ قَلنسوته من رأسه فضَرب بها الأرض فأقبل أولئك الجند على بني أمية فخَبطوهم بالسّيوف والعَمد. وقال الكلْبي الذي كان بينهم وكان من أتباعهم: أيها الأمير إني والله ما أنا منهم. فقال عبدُ الله بن علي: ومُدْخلٍ رأسَه لم يَدْعُه أحد بين العرينَيْن حتى لَزَه القَرَنُ اضربوا عُنقه ثم أقبل على الغَمْر فقال: ما أحسبُ لك في الحياة بعد هؤلاء خيرا. فقال: أجل. قال: يا غلام اضرب عُنقه فأقيم مِن المُصلى فضرُب عنقه. ثم أمر ببساط فطُرح عليهم ودعا بالطعام فجعل يأكل وانين بعضهم تحت البِساط. وفي رواية أخرى قال: لما قَدم الغَمْر بن يزيد بن عبد الملك على أبي العباس السفاح في ثمانين رجلاً من بني أمية فوُضعت لهم الكراسي ووُضعت لهم نمارق وأجْلسوا عليها وأجلس الغمرَ مع نَفْسه في المُصلى ثم أذن لشِيعته فدخلوا ودخل فيهم سُديف بن مَيمون وكان مُتوشِّحاً سيفاً متنكّباً قوساً وكان طويَلاً آدم فقام خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيزعُم الضُلال بما حَبِطت أعمالُهم أنّ غَير آل محمد ﷺ أولى بالخلافة فلِم وبم أيها الناس ألكم الفَضل بالصَحابة دون ذوي القرابة والشُرِكاء في النسب الأكفاء في الحسب الخاصَّة في الحياة الوُفاة عند الوفاة مع ضربهم على الأمر جاهلكم وإطعامهم في الَّلأواء جائعكم فلكم قَصم الله بهم من جبّار باغ وفاسِقٍ ظالم. لم يسمع بمثل العباس لم تَخضع له الأمة بواجب حق الحُرمة أبو رسول الله ﷺ بعد أبيه وجِلْده ما بينَ عيْنيه أمنيةُ ليلة العقبة ورسولُه إلى أهل مكة وحاميه يوم حُنين لا يَردّ له رأياً ولا يُخالف له قَسَمِا. إنكم والله معاشرَ قُريش ما اخترتم لأنفسكم من حيث اختار الله لكم تيميّ مرةَ وعدويّ مرة وكُنتم بين ظَهْراني قوم قد اثروا العاجلَ على الآجل والفاني على الباقي وجَعلوا الصدقاتِ في الشهوات والفَيءَ في اللّذات والمغانم في المحارم إذا ذُكِّروا بالله لم يذكروا وإذا قُدِّمُوا بالحق أدبروا فذلك كان زمانُهم وبذلك كان يَعمل سلطانهم. فلما كان الغد أذن لهم فدَخلوا ودخل فيهم شبِل فلما جلسوا قام شِبْل فاستأذن في الإنشاد فأذِن له فأنشد: طَلبوا وِتْر هاشمٍ فَلَقُوها بعد مَيْل من الزَمان وباس لا تُقِيلن عبدَ شمس عِثاراً اقطعُوا كل نخلة وغِراس ولقد غاظَني وغاظَ سَوائِي قُرْبُهم من مَنابر وكَراسي واذكُروا مَصْرع الحُسين وزيداً وقَتيلاً بجانب المهرَاس وقتيلاً بجَوْف حَرَّان أضحَى تَحْجُل الطيرُ حوله في الكِناس نِعم شبْل الهراش مولاك شِبْل لو نجا من حَبائل الإفلاس ثم قام وقاموا. ثم أذن لهم بعد فدخلوا ودخل الشَيعة. فلما جلسوا قام سُديف بن ميمون فأنشد: قد أتتك الوُفود من عبد شَمْس مستعدين يُوجعون المِطيا عَنوِة أيها الخليفة لا عَن طاعةٍ بل تَخوَفوا المَشرفيّا لا يَغرَنْك ما. ترى من رجالٍ إن تحتَ الضلوع داءً دَوِيّا فضَع السيفَ وارفع السَّوط حتى لا ترى فوقَ ظَهْرها أمويا ثم قام خَلَف بن خَليفة الأقطع فأنشد: فالتفت أبو العباس إلى الغَمر فقال: كيف ترى هذا الشعر قال: والله إن هذا لشاعر ولقد قال شاعرنا ما هو أشعر من هذا. قال: وما قال فأنشده: شَمس العَداوة حتى يستقادَ لهم وأعظمُ الناس أحلاماً إذا قَدَروا فشرَق وجهُ أبي العباس بالدم وقال: كذبتَ يا بن اللَخناء إني لا أرى الخُيلاء في رأسك بعد ثم قاموا. وأمر بهم فدُفعوا إلى الشَيعة فاقتَسموهم فضربوا أعناقَهم ثم جَزوا بأرجلهم حتى ألقوها في الصحراء بالأنبار وعليهم سراويلاتُ الوَشيْ فوقف عليهم سُديف مع الشِّيعة وقال: طَمِعتْ أمية أنْ سيرضى هاشمٌ عنها ويَذهب زيدُها وحُسينُها كلا ورب محمد وإلهه حتى يباد كَفُورها وخَؤُونها وكان أشدَ الناس على بني أمية عبدُ الله بن علي وأحنهم عليهم سليمان بن علي. وهو الذي كان يسميه أبو مُسلم كَنف الأمان وكان يُجير كل من استجار به وكتب أبي العباس: يا أمير المؤمنين إنَا لم نُحارب بني أمية على أرْحامهمِ وإنما حار بناهم على عُقوقهم وقد دافت إلي منهم دافّة لم يَشْهروا سلاحاً ولم يُكَثروا جَمْعا فأحبّ أن تكتب لهم منشورَ أمان. فكتب لهم منشورَ أمان وأنفذه إليهم. فمات سليمانُ بن علي وعنده بِضْع وثمانون حُرمة لبني أمية. خلفاء بني أمية بالأندلس عبد الرحمن بن معاوية بن هشام أول خلفاء الأندلس من بني أمية عبدُ الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك. وَلي الملكُ يوم الجمعة لعشر خَلَوْن من ذي الحجة سنة ثمانٍ وثلاثين ومائة وهو ابن ثمانٍ وعشرين سنة. وتوفي في عَشرة من جُمادى الأولى سنة اثنتين وسبعين ومائة. فكان مُلْكه اثنتين وثلاثين سنة وخمسة أشهر. وكان يقال له صَقْر قُريش وذلك أن أبا جعفر المنصور قال لأصحابه: أخْبروني عن صَقْر قُريش. من هو قالوا: أمير المؤمنين الذي راضَ المُلك وسَكَّن الزَّلازل وحَسم الأدواء وأباد الأعداء. قال: ما صنعتم شيئاً. قالوا: فمعاوية. قال: ولا هذا. قالوا: فعبدُ الملك بن مروان. قال: ولا هذا. قالوا: فمن يا أمير المؤمنين قال: عبدُ الرحمن بن معاوية الذي عَبر البحر وقَطع القَفز ودَخل بلداً أعجمياً مُفْرداً فمصر الأمصار وجَنَّد الأجناد ودَوّن الدَواوين وأقام مُلكاً بعد انقطاعه بحُسن تدبيره وشِدة شَكيمته. إنَّ معاوية نَهض بمَرْكب حَمله عليه عمر وعثمان وذلّلا له صعبه وعبدَ الملك ببَيعةٍ تقدَم له عَقْدُها وأمير المؤمنين بطلب عشيرته واجتماع شيعته وعبدَ الرحمن منفرد بنفسه مؤيَّد برأيه مُسْتصحب لعَزْمه. وقالوا: لما توطَّد مُلْك عبد الرحمن بن مُعاوية عَمِل هذه الأبيات وأخْرجها إلى وزرائه فاستَغربتُ من قوله إذ صدَقها فعلُه وهي: ما حَق مَن قام ذا امتعاض بِمُنْتَضى الشَّفرتَين نَصلاَ فبزّ مُلكاً وشاد عِزَا ومِنْبراً للخِطاب فَمصلا فجاز قفراً وشَقَّ بَحْراً مُسامِياً لُجَّة ومَحْلَا وجَنَّد الجُنْدَ حين أوْدَى ومَصَّر المِصْر حين أجْلى ثم دَعا أهلَه جميعاً حيثُ انتأوا أن هَلمَ أهْلا فجاء هذا طَريد َجُوع شريد َسَيْف أبيد قَتْلا فَحلّ أمناً ونال شِبْعاً وحاز مالاً وضَمّ شَملا ألم يَكُن حق ذا على ذا أوجبَ من مُنْعم. ومَوْلى وكتب أميّة بن يزيد عنه كتاباً إلى بعض عُمَّاله يَسْتقصره فيما فَرّط فيه من عمله فأكثر وأطال الكتاب فلما لَحظه عبدُ الرحمن أمر بقَطْعه وكتب: أما بعد فإنْ يكن التَقصير منك مُقدَّما. فحَرِيّ أن يكون الاكتفاءُ عنك مُؤَخَراً وقد علمتَ بما تقَدَمت فاعتمد على أيّهما أحْببت. وكان ثار عليه ثائرٌ بغربي بَلْدة فغزاه فظَفِر به وأسره فبينما هو مُنْصَرِف وقد حُمل الثائرُ على بغل مَكْبولاً نظر إليه عبدُ الرحمن بني مُعاوية وتحته فرس له فقنع رأسَه بالقناة وقال: يا بغل ماذا تحمل من الشَقاق والنًفاق قال الثائر: يا فَرس ماذا تحمل من العَفو والرحمة فقال له عبدُ الرحمن: والله لا تذوق موتاً على يدي أبداً. هشام بن عبد الرحمن ثم وَلي هشامُ بن عبد الرَّحمن لسبع خَلَون من جُمادى الآخرة سنة اثنتين وسبعين ومائة ومات في صَفَر سنة ثمانين ومائة. فكانت ولايتُه سبعَ سنين وعشرةَ أشهرِ. ومات وهو ابنُ إحدى وثلاثين سنة. وهو أحسنُ الناس وجهاً وأشرفهم نفساً الكامل المُروءة الحاكم بالكتاب والسنة الذي أخذ الزكاة على حِلِّها ووَضعها في حَقها لم يُعرف منه هفوة في حداثته ولا زَلة في أيام صِباه. ورآه يوماً أبوه وهو مُقبل مُمتلىء شباباً فأعجبه فقال: يا ليتَ نساء بني هاشم أبصرنه حتى يَعُدن فواركَ. وكان هشامَ يصرِّر الصُّرر بالأموال في ليالي المَطر والظلْمة ويَبعث بها إلى المساجد. فيُعطي مَن وُجد فيها. يريد بذلك عمارة المساجد وأوصى رجلٌ في زمن هشام بمال في فكّ سَبَّيه من أرْض العدو فطُلبت فلم توجد احتراساً منه للثغر واستنقاذاً لأهل الحكم بن هشام ثم وَلي الخلافة الحكمُ بنِ هشام في صَفر سنة ثمانين ومائة وكانت ولايتُه ستا وعشرين سنة وأحد عشر شهراَ. ومات يومَ الخميس لثلاث بَقِين من ذي الحجّة سنة ست ومائتين. وهو ابنُ اثنتين وخمسين سنة. وكانت فيه بَطالهّ إلا أنه كان شُجاعَ النفس باسطَ الكَف عظيم العَفْو متخيراً لأهلٍ عمله ولأحكام رعيته أورعَ من يقدر عليهم وأفضلَهم فيسلطهم. على نَفسه فضلاً عن ولده وسائر خاصّته. وكان له قاض قد كَفاه أمورَ رعيّته بفَضْله وعَدله ووَرعه وزُهده فمرض مرضاً شديداً واغتمَ له الحَكَم غمًّا شديداً. فذكر يزيدُ فتاه أنه أرِق ليلة وبَعُد عنه نومُه وجَعل يَتململ على فراشه فقلت: اصلح الله الأمير إني أراك متململاً وقد زال النومُ عنك فلم أدْرِ ما عَرض لك قال: ويحك! إني سمعتُ نائحة هذه الليلة وقاضينا مريض فما أراه إِلا قد قَضي نحبه وأين لنا بمثله ومَن يقوم للرعية مَقامه ثم إن القاضي مات واستقضى الحكمُ بعده سعيدَ ابن بَشير. فكان أقصدَ الناس إلى حق أخذهم بعَدل وأبعَدهم من هوى وأنفذَهم لحُكم. رَفع إليه رجلٌ من أهل كُورة جَيَّان أنّ عاملاً للحَكم اغتصبه جاريةً وعَمِل في تَصْييرها إلى الحَكم فوقعت من قَلبه كلَّ موقع وأن الرجل أثبتَ أمرَه عند القاضي وأتاه ببيّنة وشُهود يَشْهدون على مَعْرفة ما تظلم منه وعلى عَين الجارية ومَعْرفتهم بها. وأوجبت البيّنةُ أن تحضر الجارية واستأذن القاضي على الحَكم فأذِن له فلما دخل عليه قال: إنه لا يتم عَدْل في العامّة دون إِفاضته في الخاصَّة وحَكى له أمرَ الجارية وخَيّره في إبرازها إليه. أو عَزْله عن القضاء. فقال له: ألا أدْعوك إلى خير من ذلك تَبتاع الجارية من صاحبها بأنفس ثمن وأبلغ ما يسأله فيها. فقال: إنَّ الشَهودَ قد شَخصوا من كُورة جَيان يَطلبون الحق في مظانّه فلما صاروا ببابِك تَصرْفهم دون إنفاذ الحقّ لأهله ولعلّ قائلاً أن يقول: باعَ ما يملك بيعَ مُقتسَر على أمْره. فلما رأى عَزْمه أمَر بإخراج الجارية من قَصرِه وشهِد الشَّهودُ على عَيْنها وقَضى بها لصاحبها. وكان سعيدُ بن بَشير القاضي إذا خَرج إلى المسجد أو جَلس في مَجلس الحُكم جلس في رِداء مُعَصفر وشعر مُفَرق إلى شَحْمة أذنيه فإذا طُلب ما عنده وُجد أوْرعَ الناس وأفضلهم. وكانت للحكم ألف فَرس مَرْبوطة بباب قَصره على جانب النَهر عليها عَشرة عُرفاء تحت يدِ كل عَريف منها مائةُ فرس لا تُندب ولا تَبْرح فإذا بلغه عن ثائر في طَرفٍ من أطرافه عاجَله قبل استحكام أمره فلا يَشعر حتى يحاط به. وأتاه الخبر: أن جابرَ بنَ لَبيد يُحاصر جيّان وهو يَلْعب بالصولجانِ في الجِسرِ.
فدكا بعَريف من أولئك العُرفاء فأشار إليه أن يخرج مَن تحت يده إلى جابر بن لبيد ثم فَعل مثلَ ذلك بأصحابه من العرفاء. فلم يَشْعر ابنُ لَبيد حتى تساقطوا عليه مُتساوين فلما رأى ذلك عدوُّه سُقط في أيديهم وظَنّوا أن الدنيا قد حُشرت لديهم فولّوا مُدبرين. وقال الحَكم يوم الهيجاء بعد وقعةِ الرَّبض: رأبت صُدوعَ الأرْض بالسَّيف راقعاً وقِدْماً رأبتُ الشَّعب مُذ كُنتُ يافعَا فسائلْ ثُغوري هل بها اليوم ثُغْرةٌ أبادِرُها مُسْتنْضيَ الصيف دارِعا وشافِه علىِ أرْض الفَضاء جَماجماً كأقحاف شِرْيان الهَبيد لَوَامِعا تنبئْك أني لم أكن عن قراعهم بوانٍ وأني كنت بالسيف قارعا ولما تَساقَينا سِجال حُروبنا سَقَيتُهم يسُمًا من المَوت ناقِعا وهل زِدْت أنْ وَفَّيتُهم صاعَ قَرْضهم فوافَوْا مَنايا قُذَرت ومَصارعا قال عثمانُ بن المُثنى المؤدَب: قَدم علينا عباس بن ناصح من الجَزيرة أيامَ الأمير عبد الرحمن بن الحكم فاستنشدني شِعْرَ الحَكم فأنشدْتُه فلما انتهيتُ إلى قوله: هل زِدْت أن وَفيتهم صاعَ قَرْضهم قال: لو جوثي الحكم في حُكومة لأهل الربض لقام بعُذره هذا البيت. عبد الرحمن بن الحكم ثم ولي بعده عبدُ الرحمن بن الحَكم أندى الناس كَفَاً وأكرمُهم عَطفاً وأوسعُهم فَضْلاً في ذي الحجَّة سنة لسِتٍّ ومائتين فمَلك إحدى وثلاثين سنة وخمسةَ أشهر. ومات ليلةَ الخميس لثلاث خَلَون من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين ومائتين وهو ابن اثنتين وستِّين سنة وكتب إليه بعضُ عُماله يسأله عملاً رفيعاً لم يكن مِن شاكلته فَوقع في أسفل كتابه: مَن لم يُصِبْ وَجْهَ مَطلَبه كان الحِرمان أولى به. محمد بن عبد الرحمن ثم ولي المُلكَ محمدُ بن عبد الرحمن يومَ الخميس لثلاث من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين ومائتين فملك أربعاً وثلاثين سنة وتُوفي يومَ الجمعة مُستهلّ ربيع الأول سنة ثلاث وسبعين ومائتين وهو ابنُ سبع وستين سنة.
وكتب عبد الرحمن بن الشَّمر إلى الأمير محمد بن عبدِ الرحمن في حياة أبيه عبد الرحمن وكان يتجنّب الوُقوف ببابه مخافةَ نصر الفَتى فلما مات نصرٌ كتب ابنُ الشَمِر هذه الأبياتَ إلى محمد يقوله فيها: لئن غابَ وَجْهي عنكَ إنَّ مَودَّتي لشاهدة في كلِّ يومٍ تُسَلّمُ ولم يَسْتطل إلّا بكم وبعزّكم ولا يَنبغي أن يُمْنح العِز َّمُجرم فمكّنتموه فاستطال عليكُم وكادت بنا نيرانُه تتضرَّم كذلك كَلْب السَّوء إنْ يشبع انبَرى لمُشْبعه مستشلياً يَترمرم فجَمِّع إخواناً لُصوصاً أرذالاً ومَنَاهُم أنْ يَقْتُلونا ويَغْنموا رأى بأمين الله سًقماً فَغَرَّه ولم يَك يَدْري أنه يتقدَّم فَنَحْمد ربًّا سَرَّنا بهلاكه فما زال بالإحْسان والطَّول يُنْعم أراد يكَيد الله نصْرٌ فكاده ولله كَيْد يَغلب الكَيْدَ مُبرَم بَكى الكًفرُ والشيطانُ نصراً فأعوَلا كما ضحِكَت شوقاً إليه جَهنم وكانت له في كُل شهرٍ جِبايةٌ جِباية آلافٍ تُعَد
وتُختَم فهل حائطُ الإسلام يَوماً يسومهم بما اجترموا يوماً عليه وأقدموا وُينْهبنا أموالَهم وهو فاعل فإنّي أرى الدُنيا له تَتبسَّم ألا أَيها الناسُ اسمعوا قولَ ناصحٍ حريص عليكم مُشفِق وتَفهَّموا محمد ُنُورٌ يُستضاء بوَجهه وسَيْفٌ بكف الله ماضٍ مُصمّم فكونُوا له مثلَ البَنين يَكنْ لكم أباً حدِباً في الرُحْم بل هو أرحم ألستَ المُرَجى من أميّة والذي له المَجْدُ منها الأتلدُ المُتَقدّم وأنتَ لأهل الخَير رَوحٌ ورَحمة نَعَمْ ولأهلِ الشَرِّ صاب وعَلقَم وحدَّث بَقّي بن محمد الفَقيه قال: ما كلمتُ أحداَ من المُلوك أكملَ عقلاً ولا أبلغ لَفظاً من الأمير محمد دخلتُ عليه يوماً في مجلس خلافته فافتتح الكلامَ فحَمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبيّ ﷺ ثم ذَكر الخُلفاء خليفةً خليفَةَ فحكى كلَّ واحد منهم بحِلْيته ونَعْته ووصفه وذكر مآثرَه ومَناقبه بأفْصح لسان وأبْين بَيان حتى انتهى إلى نَفسه فسَكت. وخَرج الأميرُ محمد يوماً متنزهاً إلى الرُّصافة ومعه هاشمُ بن عبد العزيز فكان بها صدَر نَهاره على لذَّته فلما أمسى واختلط الظلامُ رجع مُنصرفاً إلى القَصر وبه اختلاط فأخبَرني مَن سَمعه وهاشم يقول له: يا سيدي يا بن الخلائف ما أطيبَ الدُّنيا لولا. قال له: لولا ماذا قال: لولا الموت. قال له: يا بن اللَّخناء لَحنت في كلامك وهل مَلكنا هذا المُلك الذي نحن فيه إلا بالموت ولولا المَوت ما مَلَكناه أبداً.
وكان الأميرُ محمد غَزَّاءً لأهل الشِّرك والخلاف وربما أوْغل في بلاد العدو السِّتة الأشهر أو أكثر يَحرق ويَنْسف وله في العدو وَقيعة وادي سَليط وهي من أمهات الوقائع لم يُعرف مثلُها في الأندلس قبلها وفيها يقول عبّاس بنُ فرناس وشعرُه يَكفينا من صِفتها: إذا أومضت فيه الصَّوارمُ خِلتَها بُروقَاً تَراءَى في الجَهام وتَسْتَخْفي كأنّ ذُرى الأعلام في سَيلانه قَراقير يَمٍّ قد عَجَزن عن القَذْف وإن طَحنت أركانُه كان قُطبُها حِجَى مَلك نَجدٍ شمائلُه عَفِّ سَمِى خِتام الأنبياءِ مُحمَّد إذا وُصف الأملاكُ جَل عن الوصْف فمن أجْله يومَ الثُّلاثاء غُدوةً وقد نَقض الإصْباح عَقْد عُرى السَّجف بَكى جبلاً وادي سَليط فأعولا على النَّفر العُبْدان والغصْبة الغُلف دعاهم صريخ الحَيْن فاجتمعوا له كما اجتمع الجُعلان للبَعْر في قُفّ فما كان إلا أنْ رماهم ببَعضها فولوا على أعْقابِ مهْزومة كًشف كأنّ مساعيرَ المَوالي عليهُم شواهينُ جادت للغَرانيقٍ بالنَسْف بنَفسي تنانير الوغَى حينَ صُفِّفت إلى الجَبَلِ المَشْحون صفّا على صَفِّ يقول ابنُ يليوسِ لموسى وقد وَنى أرى المَوت قُدّامي وتَحْتي ومِن خَلْفي قتَلناهُم ألفاً وألْفاً ومثلَها وألفاً وألفاً بعد ألفٍ إلى ألف المنذر بن محمد ثم ولي المنذرُ بن محمد يوم الأحد لثلاث خلون من ربيع الأول سنة ثلاث وسبعين ومائتين. ومات يومَ السبت في غَزاة له على بُبَشتر لثلاثَ عشرةَ بقيت من صَفر سنة خمس وسبعين ومائتين وهو ابنُ ستٍّ وأربعين سنة.
وكان أشدَّ الناس شَكيمة وأمضاهم عزيمة. ولما ولي المُلك بَعث إِليه أهلُ طُليطلة بجبايتهمِ كاملةً فردّها عليهم وقال: استعينوا بها في حَرْبكم فأنا سائر إِليكم إن شاء الله. ثم غزا إلى المارق المرتدّ عمر بن حَفْصون وهو بِحصْن قامره فأحْدق به وبخَيله ورَجْله فلم يجد الفاسقُ مَنفذاً ولا متنفساً فأعمل الحيلة ولاذ بالمكر والخديعة وأظهر الإتابة والإجابة وأن يكون من مُستوطني قُرطبة بأهله وولده وسأل إلحاق أولاده في الموالي. فأجابه الأمير إلى كل ما سأل وكتب لهم الأمانات وقُطعت لأولاده الثياب وخُرزت لهم الخِفاف ثم سأل مائةَ بغل يَحمل عليها ما لَه ومتاعه إلى قُرطبة فأمر الأمير بها. وطُلبت البغال ومَضت إلى بُبَشْتَر وعليها عشرة من العرفاء وانحلّ العسكرُ عن الحِصن بعضَ الانحلال وعكف القاضيِ وجماعة من الفقهاء على تمام الصُّلح فيما حَسبوا. فلما رأى الفاسق الفُرصةَ انتهزها ففسق ليلاً وخَرج فلقي العُرفاء بالبغال فقَتلهم وأخذَ البغال وعاد إلى سيرتِه الأولى. فعقد المُنذر على نفسه عقداً أن لا أعطاه صُلحاً ولا عهداً إلا أن يُلقي بيده ويَنزل على عهدِه وحُكمه ثم غَزاه الغزاة التي تُوفي فيها فأمر بالبُنيان والسّكنى عليه وأن يُردَّ سوق قرطبة إِليه فعاجله أجلُه عن ذلك. عبد الله بن محمد ثم تولّى عبدُ الله بن محمد التقيّ النقيّ العابد الزاهد التالي لكتاب الله والقائم بحدود الله يومَ السبت لثلاثَ عشرةَ بقيَت مِن صفر سنة خمس وسبعين ومائتين. فبنى الساباط وخرج إلى الجامع والتزم الصلاة إلى جانب المنبر حتى أتاه أجلُه رحمه الله يومَ الثلاثاء لليلة بقيت من صَفر سنة ثلثمائة. وكانت له غزوات منها غَزاة بَليّ التي أنست كُلّ غزاة تقدّمتها في لك أن المُرتد ابن حَفْصون ألّب عليه كُور الأندلسَ حتى لم يبقى منها إلا قرطبة وحدها ثم أقبل في ثلاثين ألفا من أهل الكور فنزل حِصْنَ بَليّ وخرج إليه الأمير عبدُ الله بن محمد في أربعةَ عشرَ ألفاً من أهل قرطبة خاصة وأربعة آلاف من حَشمه ومواليه فبَرز إليه الفاسق وقد كرْدس كراديسه في سَفْح الجبل وناهضه الأميرُ عبد الله بجُمهور عسكره فلم يكن له فيهم إلا صَدْمة صادقة أزالهم بها عن معسكرهم فلم يقدروا أن يتراجعوا إِليه. ونظر الفاسقُ إلِى مُعسكر عبد الله الأمير فإذا بمَدَد مُقبل مثل اللَّيل في انحدارِ السيل لا ينقطع فجَبُنت نفسه وعَطف إلى الحصن يظهر إخراج مَن بقي فيه فثَلم ثلمة وخَرج منها في خمسة معه وقد طار بهم جَناحُ الفرار. فلما انتهى ذلك إلى أهل عَسكره وَلّوّا مُدبرين لا يلوي أحد على أحد فعملت الرماحُ في أكتافهم والسيوفُ في طلا أعناقهم حتى أفْنوهم أو كادوا. وكان منهم جماعةٌ قد افترقوا في عسكر الأمير عبد الله فقعد الأمير في المَظلة وأمر بالتقاطهم وأن لا يَمُر أحدٌ على أحد منهم إلا قَتله. فقُتل منهم ألف رجل صبراً بين يدي الأمير.
عبد الرحمن بن محمد أمير المؤمنين ثم ولي الملكَ القمرُ الأزهر الأسدُ الغضنفر الميمونُ النقيبة المحمودُ الضريبة سيدُ الخلفاء وأنجبُ النجباء عبدُ الرحمن بن محمد أمير المؤمنين صبيحةَ هلال ربيع الأول سنة ثلثمائة فقلت فيه: بدا الهلالُ جديداً والمُلك غَضُ جديدُ يا نِعْمة الله زِيدي ما كان فيه مَزيد وهي عدة أبيات فتولّى المُلكَ والأرض جَمْرة تحتدم ونارٌ تَضْطرم وشِقاق ونفاق فأخمد نيرانَها وسًكن زلازلها وافتتحها عَوْداً كما افتتحها بدءًا سميًّه عبدُ الرحمن بن معاوية رحمه الله.
وقد قلتُ وقيل في غَزواته كُلّها أشعار قد جالت في الأمصار وشُرِّدت في البلدان حتى أتهمت أنجدت وأعرقت ولولا أنٌ الناس مُكْتفون بما في أيديهم منها لأعدنا ذِكرها أو ذِكر بعضها.