الرئيسيةبحث

العقد الفريد/الجزء الرابع/13

فقلتُ: يا أمير المؤمنين إلى كم توصيني إنِّي أنا السيفُ الحُسام الهِنْدي أكلتُ جَفني وفَريت غِمْدي فكُل ما تطلب منيعندي وقال مُعاوية يومًا لجُلسائه: مَن أكرم الناس أباً وأمًا وجداً وجَدةً وعماً وعمَةً وخالاً وخالة فقالوا: أميرُ المؤمنين أعلم. فأخذ بيد الحسن بن عليّ وقال: هذا أبوه علي بن أبي طالب وأمُّه فاطمة بنت محمد وجدّه رسولُ الله ﷺ و جدَته خديجة وعمّه جعفر وعمَّته هالة بنت أبي طالب وخاله القاسم بن محمد وخالته زينب بنت محمد ﷺ الرَّياشيّ عن الأصمعي قال: لما خرج محمدُ بن عبد الله بن الحسن بالمدينة فبايعه أهلُ المدينة وأهلُ مكّة وخرج إبراهيمُ أخوه بالبصرة فتغلب على البصرة والأهواز وواسط قال سُديف بن مَيمون في ذلك: إنا لنأمُل أن ترتد ألفتنا بعد التباعد والشَّحْناء والإحَن وتَنْقضي دولةٌ أحكامُ قادتها فيها كأحكام قَوْم عابدِي وَثَنِ فانهَض ببَيعتكم نَنهض بطاعتنا إنَّ الخلافةَ فيكم يا بَنىِ حَسن لا عَزّركنُ نِزارٍ عند نائبة إنْ أسلموك ولا رُكنٌ لذي يَمنِ ألست أكرمَهم يوماً إذا انتسبوا عُوداً وأنقاهم ثوباً من الدَرِن وأعظمَ الناس عند الله منزلةً وأبعدَ الناس من عَجز ومن أفن فلما سمع أبو جعفر هذه الأبيات استُطير بها. فكتب إلى عبد الصمد بن علي أن يأخذ سُديفاً فيدفنَه حياً ففعل. قال الرياشي: فذكر هذه الأبيات لأبي جعفر شيخ من أهل بغداد. قال: هذا باطل الأبيات لعبد الله بن مصعب وإنما كان سببُ قتل سُديف أنه قال أبياتَاً مُبهمة وكتب بها إلى أبي جعفر وهي هذه: أسرفت في قَتل الرعيّة ظالماً فاكفف يدَيك أضلَّها مَهديُها فلتأتينّ رايةٌ حسنيه جرارة يقتادها حسنيها فالتفت أبو جعفر فقال لخازم بن خزيمة: تهيأ بهيئة السفر متنكِّراً حتى إذا لم يبق إلا أن تَضع رجلَك في الغَرز اثتني ففعل. فقال له: إذا أتيت المدينة فادخل مسجدَ النبي ﷺ فدَع سارية وثانية فإنك تنظر عند الثالثة إلى شيخ آدَم يُكثر التلفت طويل كبير فاجلس معه فتوجع لآل أبي طالب واذكر شدّة الزمان عليهم ثلاثة أيام ثم قُل له في الرابع: مَن يقول هذه الأبيات: أسرفتَ في قتل الرعية ظالما قال: ففعل. فقال له الشيخ: إن شئت نبّأتك مَن أَنت أنت خازم ابن خُزيمة بعثك إليَّ أميرُ المؤمنين لتعرف مَن قائل هذا الشعر فقُل له: جُعلت فداك والله ما قلتُه ولا قاله إلا سُديف بن ميمون فإني أنا القائل وقد دَعوني إلى الخروج مع محمد بن عبد الله: دعَوني وقد شالت لإبليس راية وأوقد للغاوين نارُ الحُباحب أبا للّيث تغترُّون يَحْمي عرينَه وتَلْقون جهلاً أًسدَه بالثعاَلب فلا نَفعتْني السنُّ إن لم يَؤُزّكم ولا أَحكَمْتني صادقاتُ التجارب قال: وإذا الشيج إبراهيمُ بن هَرْمة. قال: فقدمتُ على المنصور فأَخبرته الخبر. فكتب إلى عبد الصمد بن عليّ وكان سُديف في حَبسه فأَخذه فدَفنه حياً. قال الرياشيّ سمعتُ محمد بن عبد الحميد يقول: قلت لابنِ أبي حفصة: ما أغراك ببني عليّ قال: ما أحدٌ أحبَّ إليّ منهم ولكني لم أجد شيئاً أنفَع عند القوم منه. ولما دخل زيدُ بن عليّ على هشام بن عبد الملك قال له: بلغني أنك تحدّث نفسك بالخلافة ولا تصلح لها لأنك ابن أمة. قال له: أمّا قولك إني أحدث نفسي بالخلافة فلا يعلم الغيبَ إلا الله وأما قولك إني ابن أمة. فهذا إسماعيل ابنُ أمة أخرج الله من صُلبه محمداً ﷺ وإسحاقُ ابن حُرّة أخرج الله من صُلبه القِردة والخنازير وعَبدة الطاغوت وخَرج من عنده فقال: ما أحبَّ أحدٌ الحياة إلا ذلّ فقال له الحاجب: لا يَسمع هذا الكلامَ منك أحد. وقال زيد بن عليّ عند خُروجه من عند هشام بن عبد الملك: شرَده الخوفُ وأزْرى به كذاك مَن يَكْره حَرّ الجلادْ مُحْتفَى الرِّجلين يَشكو الوَجَى تَقرعه أطرافُ مَرْو حِدَاد قد كان في الموت له راحةٌ والموتُ حَتْم في رِقاب العِباد ثم خَرج بِخُراسان فقُتل وصُلب. فيه يقول سُديف لأبي العبَّاس يُغريه ببني أمية حيث يقول: واذكُروا مصرعَ الحُسين وزيداً وقتيلاً بجانب المِهراس يريد إبراهيم الإمام أخا أبي العبّاس. علي بن أبي طالب رضي الله عنه عوانةُ بن الحَكم قال: حجّ محمدُ بن هشام ونزلتْ رفقة فإذا فيها شيخ كبير قد احتوشه الناس وهو يأمر وينهى فقال محمدُ بن هشام لمن حولَه: تجدون الشيخَ عراقياً فاسقاً. فقال له بعضُ أصحابه: نَعم وكُوفيا مُنافقاً. فقال محمد: عليّ به فأتي بالشيخ. فقال له: أعراقيّ أنت فقال له: نعم عراقيّ. قال: وكوفيّ قال: وكُوفي. قال وتُرابيّ قال: وترابيّ من التراب خُلقت وإليه أصير. قال: أنت ممن يهوي أبا تُراب قال: وَمن أبو تراب قال: عليّ بن أبي طالب. قال: أتعني ابنَ عمّ رسوله الله ﷺ و زَوج فاطمةَ ابنتِه وأبا الحسن والحُسين قال: نعم. قال: فما قولك فيه قال: قد رأيتُ من يقول خيراً ويَحمد ورأيت من يقول شرّاً ويذُم. قال: فأيهما أفضلُ عندك أهو أم عثمان قال: وما أنا وذاك والله لو أن علياً جاء بوزن الجبال حسنات ما نَفعني ولو أنه جاء بوزنها سيّئات ما ضرّني وعثمان مثلُ ذلك. قال: فاشتم أبا تراب. قال: أو ما تَرضى مني بما رَضي به مَن هو خير منك ممن هو خيرُ منّي هو شرّ من عليّ قال: وما ذاك قال رضي اللهّ وهو خير منك مِن عيسى وهو خير منّىِ في النصارى وهم شرّ من عليّ إذ قال: " إن تُعذَبهم فإنهم عبادُك وإن تَغْفر لهم فإنك أنتَ العزيزُ الرّياشيّ قال: أنتقص ابنٌ لحمزة بن عبد الله بن الزبير علياً فقال له أبوه: يا بُني: إنه والله ما بَنت الدنيا شيئاً إلا هَدمه الدِّين وما بَنى الدينُ شيئاً فهَدمته الدنيا. أما ترى عليا وما يُظهر بعضُ الناس من بُغضه ولَعنه على المنابر فكأنما والله يأخذون بناصيته رفعاً إلى السماء. وما ترى بني مروان وما يَندبون به موتاهم من المَدح بين الناس فكأنما يكشفون عن الجيَف. قدم الوليدُ مكةَ فجعل يطوفَ البيتَ والفضلُ بن العبّاس بن عُتبة بن أبي لهب يستقي من زَمزم وهو يقول: يأيها السائلُ عن علي تسأل عن بَدرٍ لنا بَدْرِيّ مُردَدٍ في المجد أبطحي سائلةٍ غُرّته مَضيّ فلم يُنكر عليه أحد. العُتبي قال: قيل يوماً لمَسلمة بن هلال العَبديّ: خَطب جعفر بن سليمان الهاشميّ خُطبة لم يُسمع مثلُها قط وما دَرينا أوجُهه كان أحسنَ أن كلامُه! قال: أولئك قوم بنُور الخلافة يُشرقون وبلسان النبوّة ينطقون. وكتب عَوَّام صاحب أبي نُواس إلى بعض عُمّال ديار رَبيعة: بحقّ النبي بحقِّ الوصيّ بحق الحُسين بحق الحَسَنْ ترفَّق بأرزاقنا في الخِراج بتَرفيهها وبحَطّ المُؤن قال: فاسقط عنه الخِراج طولَ ولايته. احتجاج المأمون على الفقهاء في فضل علي إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل عن حماد بن زيد قال: بعث إليَّ يحيى بن أكثم وإلى عدّة من أصحابي وهو يومئذ قاضيِ القضاة فقال: إنّ أميرَ المؤمنين أمرني أن احضر معي غداً مع الفجر أربعين رجلاً كلهم فقيه يَفْقَه ما يُاقل له ويُحسن الجواب فسمُّوا من تَظنّونه يَصلُح لما يطلبُ أمير المؤمنين. فسمَّينا له عِدة وذكر هو عِدة حتى تمَّ العددُ الذي أراد وكتب تسمية القوم وأمر بالبُكور في السَّحر وبعث إلى من لم يحضرُ فأمره بذلك. فغدونا عليه قبلَ طلوع الفجر فوجدناه قد لبس ثيابَه وهو جالس ينتظرنا فركب وركبنا معه حتى صرنا إلى الباب فإذا بخادم واقف. فلما نَظر إلينا قال: يا أبا محمد أمير المؤمنين يَنتظرك فأدخلنا. فأُمرنا بالصلاة فأخذنا فيها فلم نستتمّها حتى خرج الرسول فقال: ادخلوا فدَخلنا. فإذا أميرُ المؤمنين جالس على فراشه وعليه سَوادُه وطَيلسانه والطّويلة وعمامته. فوقفنا وسلّمنا فردّ السلام وأمرنا بالجلوس. فلما استقرّ بنا المجلسُ تحدّر عن فراشه ونَزع عمامته وطيلسانه ووضع قَلنسوته ثم أقبل علينا فقال: إنما فعلتُ ما رأيتم لتفعلوا مثلَ ذلك وأما الخُفّ فما مِن خَلْعه علة من قد عرفها منكم فقد عَرفها ومن لم يَعْرِفها فسأعرّفه بها ومدّ رجلَه. ثم قال انزعوا قَلانسكم وخفافكم وطَيالسكم. قال: فأمسكنا. فقال لنا يحيى: انتهوا إلى ما أمركم به أميرُ المؤمنين. فتعجّبنا فنزعنا أخفافنا وطيالسنا وقلانسنا ورجعنا. فلما استقرّ بنا المجلس قال: إنما بعثتُ إليكم معشَر القوم في المُناظرة فمن كان به شيء من الأخْبثين لم ينتفع بنفسه لم يَفقه ما يقول: فمن أراد منكم الخلاءَ فهناك وأشار بيده فدعونا له. ثم ألقى مسألة من الفقه فقال: يا أبا محمد قل ولْيقل القومُ من بعدك. فأجابه يحيى ثم الذي يلي يحيى ثم الذي يليه حتى أجاب آخرُنا في العلَة وعلة العلة وهو مُطرق لا يتكلم. حتى إذا انقطع الكلام التفت إلى يحيى فقال: يا أبا محمد أصبتَ الجواب وتركت الصواب في العِلّة. ثم لم يزل يَرد على كل واحد منّا مقالتَه ويخطئ بعضنا ويصوّب بعضنا حتى أتى على آخرنا. ثم قال: إني لم أبعث فيكم لهذا ولكنني أحببتُ أن أًنبئكم أن أمير المؤمنين أراد مُناظرتكم في مَذهبه الذي هو عليه ودينه الذي يَدين الله به. قلنا: فليَفعل أمير المؤمنين وفقّه الله. فقال: إن أمير المؤمنين يَدين الله على أن عليّ بن أبي طالب خيرُ خلق الله بعد رسوله ﷺ وأولى الناس بالخلافة. قال إسحاق: قلت: يا أمير المؤمنين إن فينا من لا يعرف ما ذكر أمير المؤمنين في عليّ وقد دعانا أمير المؤمنين للمُناظرة. فقال: يا إسحاق اختر إن شئت أن أسألك وإن شئت أن تسأل. قال إسحاق: فاغتنمتها منه فقلت: بل أسألك يا أمير المؤمنين. قال: سَل. قلت: من أين قال أَميرُ المؤمنين إن عليَّ بن أبي طالب أفضلُ الناس بعد رسول الله وأحقُّهم بالخلافة بعده قال: يا إسحاق خبِّرني عن الناس بم يتفاضلون حتى يُقال فلان أفضل من فلان قلت: بالأعمال الصالحة. قال: صدقت. قال: فأخبرني عمَّن فضل صاحبَه على عهد رسول الله ﷺ ثم إن المفضول عَمل بعد وفاة رسول الله بأفضل من عمل الفاضل على عهد رسول الله أَيَلحق به قال: فأطرقت. فقال لي: يا إسحاق لا تقل نعم فإنك إن قلتَ نعم أوجدتك في دهرنا هذا مَن هو أكثر منه جهاداً وحجاً وصياماً وصلاة وصَدقة. قلت: أجل يا أمير المؤمنين لا يلحق المفضولُ على عهد رسول الله ﷺ الفاضلَ أبداً. قال: يا إسحاق: فانظر ما رواه لك أصحابُك ومَن أخذتَ عنهم دينك وجعلتَهم قُدوتك من فضائل عليّ ابن أبي طالب. فقِسْ عليها ما أَتوك به من فضائل أبي بكر فإن رأيتَ فضائل أبي بكر تُشاكل فضائلَ عليّ فقل إنه أفضل منه لا والله ولكن فقِسْ إلى فضائله ما رُوي لك من فضائل أبي بكر وعمر فإن وجدت لهما من الفضائل ما لعليّ وحدَه فقُل إنهما أفضلُ منه. لا والله ولكن قِسْ إلى فضائله فضائل أبي بكر وعمر وعثمان فإن وجدتَها مثل فضائل عليّ فقُل إنهم أفضل منه لا والله ولكن قِس إلى فضائله فضائلَ العشرة الذين شَهد لهم رسول الله ﷺ بالجنة فإِن وجدتها تُشاكل فضائلَه فقل إنهم أفضل منه. ثم قال: يا إسحاق أي الأعمال كانت أفضلَ يوم بَعث الله رسولَه قلت: الإخلاص بالشهادة. قال: أليس السَّبقَّ إلى الإسلام قلت: نعم. قال: أقرأ ذلك في كتاب الله تعالى يقول: " والسَّابقون السَّابقون أُولئك المُقَرّبون " إنما عنىَ مَن سَبق إلى الإسلام فهل علمتَ أحداً سَبق علياً إلى الإسلام قلت: يا أمير المؤمنين إن عليّا أسلم وهو حَديث السنّ لا يجوز عليه الحُكم وأبو بكر أسلم وهو مُستكمل يجوز عليه الحكم. قال: أخبرني أيهما أسلم قبل ثم أناظرك من بعده في الحداثة والكمال. قلت: علي أسلم قبل أبي بكْر على هذه الشًريطة. فقال: نعم فأخبرني عن إسلام علي حين أسلم لا يخلو من أن يكون رسولُ الله ﷺ دعاه إلى الإسلام أو يكونَ إلهاماً من الله قال: فأطرقت. فقال لي: يا إسحاق لا تقل إلهاماً فتُقدّمه على رسول الله ﷺ لأنّ رسول الله ﷺ لم يعرف الإسلام حتى أتاه جبريل عن الله تعالى. قلت: أجل بل دعاه رسولُ الله ﷺ إلى الإسلام. قال: يا إسحاق فهل يخلو رسولُ الله ﷺ حين دعاه إلى الإسلام من أن يكون دعاه بأمر الله أو تَكلَّف ذلك من نفسه قال: فأطرقت: فقال: يا إسحاق لا تَنسب رسول الله إلى التكلُّف فإنّ الله يقول: " وما أنا من المُتَكلفِّين ". قلت: أجل يا أمير المؤمنين بل دعاه بأمر الله. قال: فهل من صِفة الجبار جل ذكره أن يُكلِّف رسله دُعاء مَن لا يجوز عليه حُكم قلت أعوذ بالله! فقال: أفتُراه في قياس قولك يا إسحاق إنّ علياً أسلم صبيَاً لا يجوز عليه الحُكم وقد كُلِّف رسولُ الله ﷺ دُعاء الصِّبيان إلى ما لا يُطيقونه فهو يدعوهم الساعة ويرتدون بعد ساعة فلا يجب عليهم في أرتدادهم شيء ولا يجوز عليهم حُكم الرسول ﷺ أتَرى هذا جائزاً عندك أن تنسْبه إلى الله عزّ وجلَّ قلت أعوذ باللهّ. قال: يا إسحاق فأراك إنما قصدت لفضيلة فضل بها رسولُ الله ﷺ عليّاً على هذا الخلق أبانَه بها منهم ليُعرف مكانه وفضله ولو كان الله تبارك وتعالى أمره بدُعاء الصبيان لدَعاهم كما دعا علياً قلت: بلى. قال: فهل بلغك أنّ الرَّسول ﷺ دعا أحداً من الصبيان من أهله وقرابته لئلاّ تقول إن علياً ابنُ عمه قلت: لا أعلم ولا أدري فَعل أو لم يفعل. قال يا إسحاق رأيت ما لم تَدْره ولم تَعلمه هل تُسأل عنه قلتُ: لا. قال: فدَع ما قد وضعه الله عنّا وعنك. ثم قال: أي الأعمال كانت أفضلَ بعد السَّبق إلى الإِسلام قلت: الجهاد في سبيل اللهّ. قالت صدقت فهل تجد لأحدٍ من أصحاب رسول الله ﷺ ما تجد لعليّ في الجهاد قلت: في أي وقت قال في أي الأوقات شئتَ قلت: بدر. قال: لا أريد غيرها فهل تجد لأحد إلا دون ما تجد لعليّ يوم بدر أخبرني كم قَتْلى بدر قلت: نيّف وستون رجلاً من المشركين. قال: فكم قَتل عليٌ وحدَه قلت: لا أدري. قال: ثلاثة وعشرين أو اثنين وعشرين والأربعون لسائر الناس. قلت: يا أمير المؤمنين كان أبو بكر مع رسول الله ﷺ في عَريشه قال: يَصنع ماذا قلت: يدبِّر. قال: ويحك! يدبّر دون رسول الله أو معه شريِكاً أم افتقارا من رسول الله ﷺ إلى رأيه أي الثلاث أحب إليك قلت: أعوذ بالله أن يدبِّر أبو بكر دون رسول الله ﷺ أو أن يكون معه شريكاً أو أن يكون برسول الله ﷺ افتقَار إلى رأيه. قال: فما الفضيلة بالعريش إذ كان الأمر كذلك أليس من ضَرب بسيفه بين يدي رسول الله أفضلَ ممن هو جالس قلت: يا أمير المؤمنين كل الجيش كان مجاهداً. قال صدقتَ كل مجاهد ولكنَ الضارب بالسيف المحاميَ عنِ رسول الله ﷺ وعن الجالس أفضلُ من الجالس أما قرأتَ في كتاب الله: " لا يَسْتوي القاعِدون من المُؤمِنين غَيْرُ أولى الضَرَر والمجاهدُون في سبيل الله بأمْوالِهم وأنُفسِهم فَضّل الله المُجاهدين بأموالهم وبأنْفُسهم علىِ القاعِدين درجَةَ وكلاَّ وَعَدَ الله الحُسْنَى. وفضَل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً ". قلت: وكان أبو بكر وعمر مُجاهدين. قال: فهل كان لأبي بكر وعُمر فضلٌ على من لم يَشهد ذلك المشهد قلت: نعم. قال: فكذلك سَبق الباذل نفسه فَضل أبي بكر وعمر. قلت: أجل. قال: يا إسحاق هل تقرأ القرآن قلت: نعم. قال: أقرأ عليّ: " هَلْ أتىَ عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لم يَكُن شَيْئَاً مَذْكوراً ". فقرأت منها حتى بلغت: " يَشربون من كأسٍ كانَ مِزاجها كافوراً " إلى قوله: " ويُطْعِمون الطّعَام على حبه مِسْكيناً ويَتيماً وأسِيراً ". قال: على رِسْلك فيمن أنزلت هذه الآيات قلتُ: في علي. قال: فهل بلغك أن علياً حين أطعم المسكين واليتيم والأسير قال: إنما نُطْعِمك لوجه الله قلت: أجل. قال: وهل سمعتَ الله وصفَ في كتابه أحداً بمثل ما وصفَ به عليّاً قلت: لا. قال: صدقت لأن اللَه جلَّ ثناؤه عرف سيرته. يا إسحاق ألستَ تَشهد أن العَشرة في الجنة قلت: بلى يا أمير المؤمنين. قال: أرأيت لو أن رجلاً قال: والله ما أدري هذا الحديث صحيح أم لا ولا أدري إن كان رسولُ الله قاله أم لم يقُله أكان عندك كافراً قلت: أعوذ باللهّ. قال: أرأيت لو أنه قال: ما أدري هذه السُّوِرة من كتاب الله أم لا أكان كافراً قلت: نعم. قال: يا إسحاق أرى بينهما فرقاً. يا إسحاقَ أتروي الحديث قلت: نعمِ. قال فهل تعرف حديث الطير قلت: نعم. قال: فحدَثني به. قال: حدَثته الحديث. فقال: يا إسحاق إني كنتُ أكلمك وأنا أظنّك غيرَ معاند للحقِّ فأما الآن فقد بان لي عنادُك إنك تُوفق أنَّ هذا الحديث صحيح قلت: نعم رواهِ من لا يُمكنني ردُه. قال: أفرأيتَ أنَ مَن أيقن أن هذا الحديث صحيح ثم زعم أن أحداً أفضلُ من عليّ لا يخلو من إحدى ثلاثة: مِن أن تكون دعوة رسول الله ﷺ عنده مَردودة عليه أو أن يقول: إن الله عز وجل عرف الفاضلَ من خَلقه وكان المَفضولُ أحب إليه أو أن يقول: إن الله عزَّ وجلَّ لم يعرف الفاضلَ من المَفضول. فأي الثلاثة أحبُّ إليك أن تقول فأطرقت. ثم قال: يا إسحاق لا تقل منها شيئاً فإنك إن قلتَ منها شيئاً استتبتُك وإن كان للحديث عندك تأويل غيرُ هذه الثلاثة الأوجه فقُله. قلت لا أعلم وإنَّ لأبي بكَر فضلاً. قال: أجل لولا إنّ له فضلاً لما قيل إن علياً أفضلُ منه فما فضلُه الذي قصدتَ إليه الساعة قلت: قول الله عزِّ وجل: " ثاني اثنين إذْ هُما في الْغَار إذْ يقُولُ لصاحبِه لا تَحْزَن إنَّ الله معَنا " فنَسبه إلى صحبته. قال: يا إِسحاق أمَا إني لا أحملك على الوَعر من طريقك إني وجدتُ الله تعالى نَسب إلى صُحبة مَن رَضيه ورَضي عنه كافراً وهو قوله: " فقال له صاحبُه وهو يُحاوِرُه أَكفَرْتَ بالّذي خَلَقَك مِن تًراب ثم من نُطْفة ثم سَوَّاك رَجُلاً. لكن هو الله رَبي ولا أشرْك برَبِّي أحَداً ". قلت: إن ذلك صاحب كان كافراً وأبو بكر مؤمن. قال: فإذا جاز أن يَنسب إلى صُحبة نبيّه مُؤمناً وليس بأفضل المؤمنين ولا الثاني ولا الثالث قلت: يا أمير المؤمنين إن قَدْر الآية عظيم إن الله يقول: " ثاني اثنين إذ هُما في الغار إذ يقولُ لصاحبه لا تَحْزَن إنَّ الله مَعَنا ". قال: يا إسحاق تأبَى الآن إلا أن أُخرجَك إلى الاستقصاءِ عليك أَخبرني عن حُزن أبي بكر أكان رِضى أم سُخطاً قلت: إن أبا بكر إنما حَزن من أجل رسول الله ﷺ خوفاً عليه وغمًا أن يصل إلى رسول الله شيء من المكروه. قال: ليس هذا جَوابي إنما كان جوابي أن تقول: رضىَ أم سُخط قلت: بل رضىَ لله. قال: فكأن الله جلَّ ذكرُه بَعث إلينا رسولاً ينهى عن رضىَ الله عز وجل وعن طاعته. قلت: أعوذ بالله. قال: أوَلَيس قد زعمتَ أن حزن أبي بكر رضى لله قُلت: بلى. قال أوَلَم تَجد أنَّ القرآن يشهد أن رسولَ الله ﷺ قال له: " لا تحزن " نهياً له عن الحزن. قلت: أعوذ باللهّ. قال: يا إسحاق إنَّ مذهبي الرفقُ بك لعلَّ الله يردّك إلى الحق ويَعْدِل بك عن الباطل لكَثرة ما تَستعيذ به. وحدِّثني عن قول الله: " فأَنزَلَ الله سكينتَه عليه " ومَن عنى بذلك: رسولَ الله أم أبا بكر قلت: بل رسول الله. قال: صدقْت. قال: فحدِّثني عن قول الله عزِّ وجل: " ويَوم حُنَين إذ أَعجَبَتكم كَثرتُكم " إلى قوله: " ثم أنزلَ الله سَكِينَتَه على رسولِه وعلى المُؤمنين " أتعلم مَن المُؤمنين الذين أراد الله في هذا الموضع قلت: لا أدري يا أمير المؤمنين. قال: الناس جميعاً انهزموا يومَ حُنين فلم يبق مع رسول الله ﷺ إلا سبعةُ نفر من بني هاشم: عليّ يضرب بسيفه بين يدي رسول الله والعبَّاس أخذ بِلجام بغلة رسول الله والخمسة مُحدقون به خوفاً من أن يناله لمن جراح القوم شيء حتى أعطى الله لرسوله الظفرَ فالمؤمنون في هذا الموضع عليّ خاصة ثم من حَضره من بني هاشم. قال: فمن أفضلُ: من كان مع رسول الله ﷺ في ذلك الوقت أم مَن انهزم عنه ولم يَره الله موضعاً لينزلَها عليه قلت: بل من أنزلت عليه السكينةُ قال: يا إسحاق من أفضل: مَن كان معه في الغار أو من نام على فِراشه ووقاه بنفسه حتىِ تمَّ لرسول الله ﷺ ما أراد من الهجرة إن الله تبارك وتعالى أمر رسولَه أن يأمر عليّاً بالنوم على فِراشه وأن يقي رسولَ الله ﷺ بنفسه فأمره رسولُ لله بذلك. فبكى عليّ رضي الله عنه. فقال له رسولُ الله ﷺ: ما يُبكيك يا عليّ أجَزَعاً من الموت قال: لا والذي بعثك بالحق يا رسول الله ولكن خوفاً عليك أَفتَسْلم يا رسول الله قال: نعم. قال: سمعاً وطاعة وطيِّبة نفسي بالفداء لك يا رسول الله. ثم أتى مضجَعه واضطجع وتسجَّى بثَوبه. وجاء المشركون من قُريش فخفّوا به لا يشكّون أنه رسول الله ﷺ وقد أجمعوا أن يضربَه من كل بَطن من بُطون قريش رجلٌ ضربة بالسيف لئلا يَطلبَ الهاشميون من البطون بطناً بدمه وعليّ يسمع ما القوم فيه مِن تَلَف نفسه ولم يَدْعه ذلك إلى الجَزع كما جَزع صاحبُه في الغار ولم يَزل عليُّ صابراً مُحتسباً. فبعث الله ملائكتَه فمنعته من مُشركي قريش حتى أصبح فلما أصبحِ قام فنظر القومُ إليه فقالوا: أين محمد قال: وما عِلْمي بمحمد أين هو قالوا: فلا نراك إلا كُنت مُغررِّاً بنفسك منذ ليلتنا فلم يَزل عليّ أفضلُ ما بدأ به يزيدُ ولا يَنقص حتى قبضه الله إليه. يا إسحاق هل تروي حديث الولاية قلت: نعم يا أمير المؤمنين. قال: اروِه. ففعلتُ. قال: يا إسحاق أرأيت هذا الحديث هل أوجب على أبي بكر وعمَر ما لم يُوجب لهما عليه قلت: إن الناس ذكروا أن الحديث إنما كان بسبب زيد بن حارثة لشيء جَرى بينه وبين عليّ وأنكر ولاء عليّ فقال رسولُ الله ﷺ: من كنتُ مولاه فعليّ مولاه اللهم وال مَن ولاه وعاد من عاداه. وفي أي موضع قال هذا أليس بعد مُنصرفه من حِجِّة الوداع قلت: أجل. قال: فإن قَتْل زيد بن حارثة قبل الغَدير كيف رضيت لنفسك بهذا أخبرني لو رأيتَ ابناً لك قد أتت عليه خمس عشرة سنة يقول: مولاي مولى ابن عمي أيها الناس فاعلموا ذلك أكنتَ مُنكراً عليه تعريفَه الناس ما لا يُنكرون ولا يَجهلون فقلتُ: اللهم نعم. قال: يا إسحاق أفتنزّه ابنك عما لا تنزه عنه رسول الله ﷺ ويُحْكم لا تجعلوا فقهاءكم أربابكم إن الله جَلّ ذكره قال في كتابه: " اتخَذوا أحبارَهم ورُهبانهم أرباباً من دُونِ الله " ولم يصلّوا لهم ولا صاموا ولا زَعموا أنهم أرباب ولكن أمروهم فأطاعوا أمرَهم. يا إسحاق أتروي حديث: " أنت منّي بمَنزلة هارون من موسى " قلت: نعم يا أمير المؤمنين قد سمعتهُ وسمعتُ من صحَحه وجَحده. قال: فمن أوثق عندك: مَن سمعتَ منه فصحّحه أو مَن جحده قلت: مَن صحَحه. قال: فهل يمكن أن يكون الرسولُ ﷺ مزح بهذا القول قلت: أعوذ باللهّ. قال: فقال قولاً لا معنى له فلا يُوقف عليه قلت: أعوذ بالله. قال: أفما تعلم أنّ هارون كان أخَاً موسى لأبيه وأمه قلت: بلى. قال: فعلي أخو رسول الله لأبيه وأمه قلت: لا. قال: أوليس هارون كان نبياً وعليٌّ غير نبيّ قلت: بلى. قال: فهذان الحالان مَعدومان في عليّ وقد كانا في هارون فما معنى قوله: " أنت منّي بمنزلة هارون من موسى " قلت له: إنما أراد أن يُطيِّب بذلك نفسَ عليّ لمّا قال المنافقون إنه خلّفه استثقالاً له. قال: فأراد أن يُطيب نفسه بقول لا معنى له قال: فأطرقتُ. قال: يا إسحاق له معنى في كتاب الله بينّ. قلت: وما هو يا أمير المؤمنين قال: قولُه عزَ وجلّ حكايةً عن موسى إنه قال لأخيه هارون: " اخلُفْني في قَوْمي وأصلِح ولا تَتَبع سَبيلَ المُفْسدين ". قلت: يا أمير المؤمنين إِن موسى خَلّفَ هارون في قومه وهو حيّ ومَضى إلى ربه وأن رسول الله ﷺ خَلَّف علياً كذلك حين خرج إِلى غَزاته. قال: كلا ليس كما قلت. اخبِرْني عن موسى حين خَلف هارون هل كان معه حين ذَهب إلى ربه أحدٌ من أصحابه أو أحد من بني إسرائيل قلت: لا. قال: أو ليس استخلفه على جماعتهم قلت: نعم. قال: فأخبرني عن رسول الله ﷺ حين خرج إِلى غزاته هل خلّف إِلا الضُعفاء والنساءَ والصبيان فأنى يكون مثلَ ذلك وله عندي تأويلِ آخر من كتاب الله يدل على استخلافه إياه لا يَقدر أحدٌ أن يحتج فيه ولا أعلم أحداً أحتج به وأرجو أن يكون توفيقاً من الله. قلت: وما هو يا أمير المؤمنين قال: قولُه عز وجل حين حَكى عن موسى قوله: " وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا ": فأنت مني يا عليّ بمنزلة هارون من موسى وزيري منِ أهلي وأخي أشد به أزري وأشركه في أمري كي نَسبح الله كثيراً ونذكره كثيراً فهل يقدر أحد أن يُدخل في هذا شيئاً غير هذا ولم يكن ليبطل قول النبي ﷺ وأن يكون لا معنى له. قال: فطال المجلسُ وارتفع النهار. فقال يحيى ابن أكثم القاضي: يا أمير المؤمنين قد أوضحتَ الحقّ لمن أراد الله به بالخير وأثبتَّ ما لا يَقدر أحدٌ أن يَدفعه. قال إسحاق: فأقبل علينا وقال: ما تقولون فقلنا: كلنا نقول بقول أمير المؤمنين أعزَّه الله. فقال: و الله لولا أن رسول الله ﷺ قال: " اقبلوا القول من الناس " ما كنت لأقبل منكم القول. اللهم قد نصحت لهم القول اللهم إني قد أخرجْت الأمر من عُنقِي اللهم إني أدينك بالتقرّب إليك بحب عليّ وولايته. وكتب المأمون إلى عبد الجبّار بن سعد المُساحقيّ عامله على المدينة: أن أخطُب الناس وأدعهم إلى بيعة الرِّضا علي بن موسى. فقام خطيباً فقال: يأيها الناس هذا الأمر الذي كُنتم فيه تَرغبون والعدل الذي كنتم تنتظرون والخير الذي كنتم تَرجون هذا عليٌّ بن موسى بن جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب: ستةُ آباءِ همُ ما هُم مِن خَير مَن يشرب صَوْبَ الغَمام وقال المأمون لعليّ بن موسى: علام تدعون هذا الأمر قال: بقرابة علي وفاطمة من رسول الله ﷺ. فقال له المأمون: إن لم تكن إلا القرابة فقد خَلّف رسول الله ﷺ من أهل بيته مَن هو أقربُ إليه من عليّ أو من هو في قُعْدُده وإن ذَهبتَ إِلى قرابة فاطمة من رسول الله ﷺ فإن الأمر بعدها للحسن والحُسين وقد ابتزهما عليٌ حَقهما وهما حيّان صحيحان فاستولى على ما لا حق له فيه. فلم يجد عليَّ بن موسى له جواباً.

باب من أخبار الدولة العباسية

رُوي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنه افتقد عبد الله بن عباس وقت صلاة الظّهر فقال لأصحابه: ما بال أبي العبّاس لم يحضُر قالوا: ولد له مولود. فلما صلى عليّ الظهر قال: انقلبوا بنا إليه. فأتاه فهنّأه فقال له: شكرتَ الواهب وبُورك لك في الموهوب فما سمّيتَه قال: لا يجوز لي أن أُسميه حتى تُسميه أنت. فأمر به فأًخرج إليه فأخذه فحنّكه ودَعا له وردَّه وقال: خُذه إليك أبا الأملاك وقد سميّتُه علياً وكَنّيته أبا الحسن. قال: فلما قدم معاويةُ قال لابن عباس: لك اسمُه وقد كنّيته أبا محمد. فجرت عليه. وكان علي سيِّداً شريفاً عابداً زاهداً وكان يصلّي في كُل يوم ألف ركعة وضرُب مرَّتين كلتاهما ضَربه الوليد فإحداهما في تزوجيه لُبابة بنت عبد الله بن جعفر وكانت عند عبد الملك بن مروان فعضَّ تُفاحة ورَمى بها إليها وكان أبخر فدعت بسكّين. فقال: ما تصنعين به قالت: أميط عنها الأذى فطلَّقها فتزوَّجها عليّ بن عبد الله بن عبّاس فضَربه الوليد وقال: إنما تتزوج أمهاتِ أولاد الخُلفاء لتضع منهم. لأنّ مروان بن الحَكم إنما تزوَّج أُم خالد بن يزيد ليَضع منه. فقال عليّ بنُ عبد الله بن عباس: إنما أرادتْ الخُروج من هذه البلدة وأنا ابنُ عمها فتزوجتُها لأكون لها مَحرماً. وأما ضربهُ إياه في المرة الثانية فإن محمد بن يزيد قال: حدَّثني مَن رآه مَضروباً يُطاف به على بَعير ووجهُه مما يلي ذنَب البعير وصائح يصيح عليه: هذا عليّ بن عبد الله الكذّاب. قال: فأتيتُه فقلتُ: ما هذا الذي نسبوك فيه إلى الكَذِب قال: بلغهم أني أقول إن هذا الأمرَ سيكون في ولدي والله ليكوننَّ فيهم حتى تملكَهم عبيدُهم الصغار العُيون العِراض الوجوه الذين كأنّ وجوههم المجانّ المُطرقة. وفي حديث آخر: إن عليّ بن عبد الله دخل على هشام بن عبد الملك ومعه ابناه: أبو العباس وأبو جعفر فشكا إليه ديناً لزمه فقال له: كم دَينُك قال: ثلاثون ألفاً فأمر له بقضائه فشكره عليه وقال: وصلتَ رحماً وأنا أريد أن تستوصي بابنيَّ هذين خيراً. قال: نعم. فلما تولّى قال هشام لأصحابه: إن هذا الشيخَ قد أهْتَر وأَسنّ وخُولط فصار يقول: إن هذا الأمر سينقل إلى ولده. فسمعه عليّ بن عبد الله بن العباس فقال: والله ليكوننِّ ذلك وليملكنّ ابناي هذان ما تملكه. قال محمد بن يَزيد: وحدِّثني جعفرُ بنُ عيسى بن جعفر الهاشميّ قال: حضَر عليُّ بن عبد الله مجلسَ عبد الملك بن مروان وكان مُكرماً له وقد أهديت له من خُراسان جارية وفَصّ خاتمَ وسيف. فقال: يا أبا محمد إنّ حاضر الهدية شريكٌ فيها فاختر من الثلاثة واحداً. فاختار الجارية وكانت تسمَّى سُعدى. وهي من سَبي الصغْد من رهط عُجيف بن عَنْبسة فأولدها سليمان بنَ عليّ وصالح بن عليّ. وذكر جعفرُ بن عيسى أنه لما أولدها سليمان أجتنبت فراشه فمرض سليمانُ من جُدريّ خَرج عليه. فانصرف عليّ من مُصلاَّه فإذا بها على فراشه فقال: مرحباً بك يا أم سليمان. فوقع عليها فأولدها صالحاً. فاجتنبت فراشَه فسألها عن ذلك. فقالت: خِفتُ أن يموت سليمان في مَرضه فينقطع النسبُ بيني وبين رسول الله ﷺ فالآن إذ ولد تُ صالحاً فالبحرّي إن ذهب أحدهما بقي الآخر وليس مِثلي وطيئة الرجال. وزعم جعفرٌ أنه كانت في سليمان رُتّة وفي صالح مثلُها وأنها موجودة في آل سليمان وصالح. وكان عليّ يقول: أكره أنْ أوصي إلى محمد ولدي وكان سيدَ ولده وكبيرَهم فأشينه بالوصيّة فأَوصى إلى سليمان. فلما دُفن عليّ جاء محمد إلى سُعدى ليلاً ولْكن تأتي غدوة إن شاء الله. فلما اصبح غداً عليه سليمان بالوصية فقال: فقال: أخرجي لي وصيّة أبي. قالت: إن أباك أجلُّ من أن تُخرَج وصيّته ليلاً ولكن تأتي غدوة إن شاء الله. فلما أصبح غداً عليه سليمان بالوصية فقال: يا أبي ويا أخي هذه وصيّة أبيك. فقال: جزاك الله من ابنٍ وأخ خيراً ما كنت لأثَرِّب على أبي بعد موته كما لم أثَرِّب عليه في حياته. العُتبي عن أبيه عن جدّه قال: لما اشتكى معاويةُ شكاتَه التي هلك فيها أرسل إلى ناس من جلّة بني أمية ولم يحضرها سفياني غيري وغير عثمان بن محمد فقال: يا معشر بني أمية إني لما خِفْتُ أن يسبقكم الموتُ إليَّ سبقته بالموعظة إليكم لا لأرد قَدَراً ولكن لأبلغِ عُذْراً. إن الذي اخلِّف لكم من دنياي أمرٌ ستُشاركون فيه وتُغْلبون عليه والذي أخَلف لكم من رأى أمر مقصور لكم نَفْعه إن فعلتموه مَخوف عليكم ضرَره إن ضَيّعتموه. إن قريشاً شاركتكم في أنسابكم وانفردتُم دونها بأفعالكم فقدَّمكم ما تقدمتُم له إذ أخَّر غيرَكم ما تأخروا عنه ولقد جُهل بي فَحَلمْت ونُقر لي ففهمت حتى كأني أنظر إلى أبنائكم بعدكم كنظري إلى آبائهم قبلهم. إنّ دولتكم ستطول وكل طويل مملول وكل مملول مخذول. فإذا كان ذلك كذلك كان سببُه اختلافَكم فيما بينكم واجتماعَ المختلفين عليكم فيُدْبر الأمرُ بضد ما اقبل به. فلستُ أذكر جسيماً يُركب منكم ولا قبيحاً يُنتهك فيكم إلا والذي أمسك عن ذكره أكثُرُ وأعظم ولا مُعوّل عليه عند ذلك أفضلُ من الصبر واحتساب الأجر. سيمادكم القومُ دولتَهم امتداد العِنانين في عُنق الجواد حتى إذا بلغ الله بالإمر مَداه وجاء الوقتُ المبلول بريق النبيّ ﷺ مع الحِلْقة المطبوعة على مَلالة الشيء المَحبوب كانت الدولةُ كالإناء المُكْفأ. فعندها أوصيكم بتقوى الله الذي لم يتَّقه غيركم فيكم فجعل العاقبةَ لكم والعاقبةُ للمتقين. قال عمرو بن عُتبة: فدخلتُ عليه يوماً آخر فقال: يا عمرو أوعيتَ كلامي قلت: وعيتُ. قال: أعِد عليّ كلامي فقد كلمتُكم وما أراني أمسي من يومكم ذلك. قال شبيبُ بن شَيبة الأهتميّ: حججت عامَ هلك هشامُ وولي الوليدُ بن يزيد وذلك سنة خمس وعشرين ومائة فبينما أنا مُريح ناحية من المسجد إذ طلع من بعض أبواب المسجد فَتى أسمرُ رقيقُ السمرة موفر اللمة. خفيف اللحية رَحب الجبهة أقنى بينّ القَنَى أعينُ كأنّ عينيه لسانان يَنطقان يخلط أبهة الأملاك بزيِّ النُّساك تَقبله القلوب وتَتبعه العيون يُعرف الشَرف في تواضعه والعِتْق في صُورته واللُّب في مِشيته. فما ملكتُ نفسي أن نهضتُ في أثره سائلاً عن خبره وسَبقنيِ فتحرَّم بالطواف فلما سبَّع قصد المقام فركع وأنا أرعاه ببصري. ثم نَهض مُنصرِفاً فكأن عيناً أصابته فكبا كَبوة دَميت لها إصْبعه فقعد لها القرفصاء فدنوتُ منه متوجّعاً لما ناله مُتّصلاً به أمسح رجله من عَفر التراب فلا يَمتنع عليَ ثم شققتُ حاشية ثوبي فعصبت بها إصبعه وما يُنكر ذلك ولا يَدْفعه ثم نهض متوكئاً عليّ. وانقدتُ له أماشيه حتى إذا أتى داراً بأعلى مكّة ابتدره رجلان تكاد صدورهما تَنفرج من هَيبته ففتحا له الباب. فدخل واجتذبني فدخلتُ بدخوله ثم خلّى يدي وأقبل على القِبْلة فصلى ركعتين أوجز فيهما في تَمام ثم استوى في صدر مجلسه فحمِدَ الله وأثنى عليه وصلَّى على النبيّ ﷺ أتم صلاة وأطيبها ثم قال: لم يَخْف عليّ مكانك منذ اليوم ولا فعلُك بي فمن تكون يرحمك اللهّ قلت: شَبيب بن شيبة التميميّ. قال: الأهتميّ قلتُ: نعم. قال: فرحّب وقَرّب ووصف قومي بابين بيان وأفصح لسان. فقلت له: أنا أجلك أصلحك الله عن المسألة وأحب المعرفة. فتبسم وقال: لطف أهل العراق أنا عبدُ الله بن محمد بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس. فقلت: بأبي أنت وأمي ما أشبَهك بنَسبك وأدلَك على مَنْصبك ولقد سبق إلى قلبي من محبّتك ما لا أبلغه بوَصفي لك. قال: فأحمد الله يا أخا بني تميم فإنّا قوم يُسعد الله بحُبنا من احبّه ويُشقي ببُغضنا من أبغضه ولن يصل الإيمانُ إلى قلب أحدكم حتى يُحبَّ الله ويُحب رسوله ومهما ضَعُفنا عن جزائه قوِي الله على أدائه. فقلت له: أنت تُوصف بالقلم وأنا من حَمَلته وأيامُ الموسم ضَيقة وشُغل أهل مكة كثير وفي نفسي أشياء احب أن أسأل عنها أفتأذن لي فيها جُعلت فداك قال: نحن من أكثر الناس مُستوحشون وأرجو أن تكون للسرِّ موضعاً وللأمانة واعياً فإِن كنتَ كما رجوتُ فافعل. قال: فقدّمت من وثائق القول والإيمان ما سكَن إليه فتلا قولَ الله: " قُلْ أيّ شيءٍ أكْبرُ شهادةً قُل الله شهيد بَيْني وبَيْنكم " ثم قال: سَل عما بدا لك. قلت: ما ترى فيمن على الموسم وكان عليه يوسف بن محمد بن يوسف الثَّقفي خال الوليد. فتنفّس الصُّعداء وقال: عن الصلاة خَلْفه تسألني أم كرهتَ أن يتأمَّر على آل الله مَن ليس منهم قلت: عن كلا الأمرين. قال: إن هذا عند الله لعظيم فأما الصلاة ففرضُ لله تَعبّدَ به خلقَه فأدَ ما فرَض الله تعالى عليك في كل وقت مع كُل أحد وعلى كل حال فإن الذي نَدبك لحجّ بيته وحُضور جماعته وأعياده لم يُخبرك في كتابه بأنه لا يَقبل منك نُسكاً إلا مع أكمل المؤمنين إيماناً رحمةً منه لك ولو فعل ذلك بك ضاق الأمْر عليك فاسْمَح يُسمح لك. قال: ثم كرّرت في السؤال عليه فما احتجتُ أن أسأل عن أمر دين أحداً بعده. ثم قلت: يَزعم أهلُ العلم أنها ستكون لكم دولة. فقال: لا شكِ فيها تَطلع طُلوعَ الشمس وتَظهر ظهورَها فنسأل الله خيرَها ونعوذ بالله من شرها فخِذ بحظّ لسانك ويدك منها إن أدركتَها. قلت: أو يتخلّف عنها أحد من العرب وأنتم سادتها قال: نعم قَوم يأبون إلا الوفاء لمن أصطنعهم ونأبى إلا طلباً بحقنا فنُنصر ويُخذلون كما نُصر بأولنا أولُهم ويُخذل بمُخالفتنا من خالف منهم. قال: فاسترجعتُ. فقال: سَهِّل عليك الأمر " سُنة الله التي قد خَلَت من قبل ولن تَجد لسُنةِ الله تبديلاً ". وليس ما يكون منهم بحاجز لنا عن صِلة أرحامهم وحفظ أعقابهم وتجديد الصّنيعة عندهم. قلت: كيف تسلم لهم قلوبُكم وقد قاتلوكم مع عدوّكم قال نحن قوم حُبّب إلينا الوفاء وإن كان علينا وبُغِّض إلينا الغَدر وإن كان لنا وإنما يَشد علينا منهم الأقل فأما أنصار دَولتنا ونُقباء شِيعتنا وأمراء جُيوشينا فهم مواليهم ومَوالي القوم من أنفسهم. فإذا وَضعت الحرب أوزارها صَفحنا بالمُحسن عن المسيء ووَهبنا للرجل قومه ومَن اتصل بأسبابه فتذهب النَّائرة وتَخبو الفِتْنة وتطمئنّ القلوب.