وكان صاحب المنزل حسن الشرب الصحيح العقل فأمر غلمانه أن يخرجوهم ويحفظوهم إلى منازلهم وخلوت معه فلما شربنا أقداحاً قال: يا هذا ذهب ما مضى من أيامي ضياعاً إذ كنت لا أعرفك فمن أنت يا مولي ولم يزل يلح حتى أخبرته الخبر فقام وقبل رأسي وقال: وأنا أعجب يا سيدي أن يكون هذا الأدب إلا لمثلك وأني لجالس مع الخلافة ولا أشعر ثم سألني عن قصتي فأخبرته حتى بلغت خبر الكف والمعصم فقال للجارية: قومي فقولي لفلانة تنزل ثم لم يزل ينزل جواريه واحدةً بعد أخرى وأنظر إلى كفها ومعصمها وأقول: ليست هي حتى قال: والله ما بقي غير زوجتي وأختي ووالله لأنزلنهما إليك فعجبت من كرمه وسعة صدره فقلت: جعلت فداءك ابدأ بالأخت قبل الزوجة فعساها هي فبرزت فلما رأيت كفها ومعصمها قلت: هي هذه فأمر غلمانه فمضوا إلى عشرة مشايخ من جلة جيرانه فأقبلوا بهم وأمر ببدرتين فيهما عشرون ألف درهم فقال للمشايخ: هذه أختي فلانة أشهدكم أني زوجتها من سيدي إبراهيم بن المهدي وأمهرتها عنه عشرين ألفاً فرضيت النكاح. فدفع إليها البدرة وفرق الأخرى على المشايخ وقال لهم: انصرفوا. ثم قال: يا سيدي أمهد لك بعض البيوت فتنام مع أهلك. فأحشمني ما رأيت من كرمه فقلت: بل أحضر عمارية وأحملها إلى منزلي. قال: ما شئت فأحضرت عمارية وحملتها إلى منزلي فوالله يا أمير المؤمنين لقد أتبعها من الجهاز ما ضاق عنه بعض بيوتنا فأولدتها هذا القائم على رأس أمير المؤمنين. فعجب المأمون من كرم الرجل وأطلق الطفيلي وأجازه وألحق الرجل في أهل خاصته. ومر طفيلي بقوم يتغدون فقال: سلام عليكم معشر اللئام. فقالوا: لا والله بل كرام. فثنى رجله وجلس وقال: اللهم اجعلهم من الصادقين واجعلني من الكاذبين. ودخل طفيلي من أهل المدينة على الفضل بن يحيى وبيده تفاحة فألقاها إليه وقال: حياك الله يا مدني فلزمها وأكلها. فقال له: شؤم عليك يا مدني أتأكل التحيات قال: إي والله والزاكيات الطيبات كنت آكلها. وقال إبراهيم الموصلي في طفيلي كان يصحبه: نعم النديم نديم لا يكلفني ذبح الدجاج ولا ذبح الفراريج يكفيه لونان من كشك ومن عدس ولو يشاء فزيتون بطسوج وقال طفيلي في نفسه: نحن قوم إذا دعينا أجبنا ومتى ننس يدعنا التطفيل ونقل علنا دعينا فغبنا وأتانا فلم يجدنا الرسول وقال آخر وأتى طعاماً لم يدع إليه فقيل له: من دعاك فأنشأ: دعوت نفسي حين لم تدعني فالحمد لي لا لك في الدعوة وكان ذا أحسن من موعد مخلفه يدعو إلى الجفوة ودخل طفيلي في صنيع رجل من القبط فقال له: من أرسل لك فأنشأ: أزوركم لا أكافيكم بجفوتكم إن المحب إذا ما لم يزر زارا فقال له القبطي: زر زارا ليس ندري من هو اخرج من بيتي. ونظر رجل من الطفيليين إلى قوم من الزنادقة يسار بهم إلى القتل فرأى لهم هيئة حسنة وثياباً نقية فظنهم يدعون إلى وليمة فتلطف حتى دخل في لفيفهم وصار واحداً منهم فلما بلغ صاحب الشرطة قال: أصلحك الله لست والله منهم وإنما أنا طفيلي ظننتهم يدعون إلى صنيع فدخلت في جملتهم. فقال: ليس هذا مما ينجيك مني اضربوا عنقه. فقال: أصلحك الله إن كنت ولا بد فاعلاً فأمر السياف أن يضرب بطني بالسيف فإنه هو الذي ورطني هذه الورطة. فضحك صاحب الشرطة وكشف عنه فأخبروه أنه طفيلي معروف فخلى سبيله. وقال طفيلي: ألا ليت لي خبزاً تسربل رائباً وخيلاً من البرني فرسانها الزبد فأطلب فيما بينهن شهادةً بموت كريم لا يشق له لحد وكان أشعب يختلف إلى ينة بالمدينة يطارحها الغناء فلما أراد الخروج إلى مكة قال لها: ناوليني هذا الخاتم الذي في إصبعك لأذكرك به. قالت: إنه ذهب وأخاف أن تذهب ولكن خذ هذا العود لعلك تعود. اصطحب شيخ وحدث من الأعراب فكان لهما قرص في كل يوم وكان الشيخ متخلع الأضراس بطيء الأكل فكان الحدث يبطش بالقرص ثم يقعد يشتكي العشق ويتضور الشيخ لقد رابني من جعفر أن جعفراً يطيش بقرصي ثم يبكي على جمل فقلت له لو مسك الحب لم تبت سميناً وأنساك الهوى شدة الأكل وقال الحدث: إذا كان في بطني طعامٌ ذكرتها وإن جعت يوماً لم تكن لي على ذكر ويزداد حبي إن شبعت تجدداً وإن جعت غابت عن فؤادي وعن فكري وكان أشعب يختلف إلى جارية في المدينة ويظهر لها التعاشق إلى أن سألته سلفة نصف درهم فانقطع عنها وكان إذا لقيها في طريق سلك طريقاً أخرى فصنعت له نشوقاً وأقبلت به إليه فقال لها: ما هذا قالت: نشوق عملته لك لهذا الفزع الذي بك. فقال: اشربيه أنت للطمع فلو انقطع طمعك انقطع فزعي وأنشأ يقول: أخلفي ما شئت وعدي وامنحيني كل صدِّ قد سلا بعدك قلبي فاعشق من شئت بعدي إنني آليت لا أع شق من يعشق نقدي وقيل لأشعب: ما أحسن الغناء قال: نشيش المقلي. قيل له: فما أطيب الزمان قال: إذا كان عندك ما تنفق. وكان أشعب يغني: وكان الحب في القلب فصار الحب في المعده وقال آخر في طفيلي من أهل الكوفة: زرعنا فلما تمم الله زرعنا وأوفى عليه منجل بحصاد بلينا بكوفي حليف مجاعة أضرّ بزرع من دبي وجراد وقال هشام أخو ذي الرُّمة لرجل أراد سفراً: إن لكل رفقة كلباً يشركهم في فضلة الزاد فإن استطعت أن تكون كلب الرفاق فافعل. وخرج أبو نواس متنزهاً مع شطار من أصحابه فنزلوا روضة ووضعوا شراباً فمر بهم طفيلي فتطارح عليهم فقال أبو نواس: ما اسمك قال: أبو الخير. فرحب به وقعد معهم. ثم مرت بهم جارية فسلمت فرد عليها وقال لها: ما اسمك قالت: زانة. قال أبو نواس لأصحابه: اسرقوا الياء من أبي الخير فأعطوها زانة فتكون زانية ويكون أبو الخير أبا الخرء كما هو. ففعلوا. الجاحظ قال: دعي أبو عبد الله الواسطي إلى صنيع فدعاني فدعوت أبا الفلوسكي. فلما كان من الغد صبح الفلوسكي الجاحظ فقال له: أما تذهب بنا هناك يا أبا عثمان قال: نعم. قال: فذهبنا حتى أتينا دار صاحب الصنيع فلم يكن علينا كسوة رائعة ولا تحتنا دواب فتدخل تجاهنا فوجدنا البواب ذا غلظ وجفا فمنعنا فانحدرنا في جانب الإيوان ننتظر أحداً يعلم أبا عبد الله الواسطي بحالنا. فمكثنا حيناً حتى أتى من نعرفه فسألناه أن يعلم أبا عبد الله الواسطي بنا فلما أخبر خرج إلينا يتلقانا فتقدمني الفلوسكي وتقدمه حتى أتى صدر المجلس فقعد فيه ثم قال لي: ها هنا عندنا يا أبا عثمان. فلما خلونا ثلاثتنا قلت للفلوسكي: كيف تسمي العرب من أمالت أنفسها قال الفلوسكي: تسميه ضيفاً فقال له الجاحظ: وكيف تسمي من أماله الضيف قال: تسميه ضيفاً. قال الجاحظ: وكيف تسمي من أماله الضيفان قال: ما لمثل هذا عند العرب تسمية قال الجاحظ: فقلت: قد رضيت أن تكون في منزلة من التطفيل لم تجد لها العرب اسماً ثم تتحكم تحكم صاحب البيت
باب من أخبار المحارفين الظرفاء
منهم أبو الشمقمق الشاعر وكان أديباً طريقاً محارفاً وكان صعلوكاً متبرماً بالناس وقد لزم بيته في أطمار مسحوقة وكان إذا استفتح عليه أحد بابه خرج فينظر من فروج الباب فإن أعجبه الواقف فتح له وإلا سكت عنه. فأقبل إليه يوماً بعض إخوانه الملطفين له فدخل عليه فلما رأى سوء حاله قال له: أبشر أبا الشمقمق فإنا روينا في بعض الحديث: إن العارين في الدنيا هم الكاسون يوم القيامة. فقال: إن صح والله هذا الحديث كنت أنا في ذلك اليوم بزازاً ثم أنشأ يقول: أنا في حال تعالى الله ربي أي حال ليس لي شيء إذا قي ل لمن ذا قلت ذا لي ولقد أفلست حتى محت الشمس خيالي ولقد أفلست حتى حل أكلي لعيالي وله: أتراني أرى من الدهر يوماً لي فيه مطية غير رجلي له والعوّام ولا عقب له. وكتب يزيدُ بن عبد الملك إلى عُمال عمرَ بن عبد العزيز: أما بعد فإن عمرَ كان مغروراً غررتموه أنتم وأصحابكم وقد رأيتُ كُتبكم إليه في انكسار الخراج والضريبة. فإذا أتاكم كتابي هذا فدَعُوا ما كنتم تَعرِفون من عَهده وأعيدوا الناسَ إلى طَبقتهم الأولى أخْصَبوا أم أجْدَبوا أحبُّوا أم كَرِهوا حَيُوا أم ماتوا والسلام. أبو الحسن المَدائني قال: لما وَلي يزيدُ بن عبد الملك وجه الجيوشَ إلى يزيد بن المُهلب فعَقد لمسلمة بن عبد الملك على الجيش وللعبّاس بن الوليد على أهل دِمشق خاصة. فقال له العباس: يا أمير المؤمنين إن أهل العراق قومُ إرجاف وقد خَرجنا إليهم محاربين والأحداثُ تَحدُث فلو عهدتَ إلى عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك. قال: غداً إن شاء الله. وبلغ مَسلمةَ الخبرُ فأتاه فقال له: يا أميرَ المؤمنين أولاد عبد الملك أحب إليك أم أولاد الوليد قال: ولدُ عبد الملك. قال: فأخوك أحقُّ بالخلافة أم ابنُ أخيك قال: بل أخي إذا لم يكن ولدي أحقُّ بها من ابن أخي. قال: يا أمير المؤمنين فإن ابنك لم يبلغ فبايع لهشام بن عبد الملك ولابنك الوليد من بعده. قال: غدا أن شاء الله. فلما كان من الغد بايع لهشام ولابنه الوليد من بعده والوليدُ يومئذ ابنُ إحدى عشرة سنة. فلما انقضى أمرُ يزيدَ بن المهلَّب وأدرك الوليدُ نَدِم يزيد على استخلاف هشام فكان إذا نظر فكتب إليه هشام: إن مثلي ومثلك كما قال الأول: ومَن لم يُغمَض عينَه عنِ صديقِه وعَن بعض ما فيه يَمُتْ وهو عاتبُ ومَن يَتتبّع جاهداً كل عَثرة يَجدْها ولا يَبقى له الدهرَ صاحب فكتب إليه يزيد: نحن مُغتفرون ما كان منك ومُكذَبون ما بلغنا عنك مع حِفْظ وصيّة أبينا عبد الملك وما حَضَّ عليه من صلاح ذات البين. وإني لأعلُم أنك كما قال مَعن بن أوس: لَعمرك ما أدْرِي وإني لأوْجلُ علىِ أيّنا تَعْدو المنية أولُ وإني على أشياء منكَ تَريبني قديماً لذو صَفْح على ذاك مُجْمِل ستَقطع في الدُّنيا إذا ما قَطعتَني يمينَك فانظر أيّ كفِّ تبدَّل إذا سُؤْتني يوماً صفحتُ وإلى غدٍ ليَعْقُبَ يوماً منك آخَرُ مُقْبِل إذا أنتَ لم تُنْصف أخاك وجدتَه على طَرَف الهِجْران إن كان يَعْقل ويَركبُ حدَ السيف مَن أنْ تَضِيمَه إذا لم يكن عن شَفْرة السيف مَزْحل وفي الناس إن رثّت حبالُك واصلٌ وفي الأرض عن دار القِلَى مُتحوَّل فلما جاءه الكتابُ رَحل هشام إليه: فلم يزل في جواره إلى أن مات يزيد وهو معه يا عسكره بن بكار قال: كان يزيدُ بن عبد الملك كَلِفاً بحَبابة كلفاً شديداً فلما تُوفيت أكبّ عليها يتشمّمها أياماً حتى أنتنت فأخذ في جِهازها وخَرج بين يدي نَعشها حتى إذا بلغ القبرَ نزل فيه. فلما فَرغ من دَفنها لصق به مَسلمة أخوه يُعزَيه ويؤنسه. فقال: قاتل الله ابنَ أبي جُمعة! كأنه كان يرى ما نحن فيه حيث يقول: فإن تَسْلُ عنكِ النفسُ أو تَدَع الهوى فباليَأس تَسْلو عنك لا بالتجلدِ وكلّ خَليل زارني فهو قائلٌ من أجْلك هذا مَيِّت اليوم أو غدِ قال: وطُعن في جَنازتها فدفنّاه إلى سبعة عشرَ يوماً. خلافة هشام بن عبد الملك بن مروان ثم بُويع هشامُ بن عبد الملك بن مَرْوان يُكنى أبا الوليد. وأمُّه أم هشام بنت هشامِ بن إسماعيل بن هشام المخزوميّ - يومَ الجمعة لخمس ليالي بَقين من شعبان سنة خمس ومائة. ومات بالرُّصافة يوِم الأربعاء لثلاث خَلَوْن من ربيع الأول سنة خمس وعشرين ومائة وهو ابنُ ثلاث وخمسين سنة. وصلّى عليه الوليدُ بن يزيد. وكانت خلافته عشرين سنة. أسماء ولد هشام بن عبد الملك معاوية وخَلف ومَسلمة ومحمد وسُليمان وسَعيد وعبدُ الله ويزيد - وهو الأبكم - ومَروان وإبراهيم ويحيى ومُنذر وعَبد الملك والوليد وقُريش وعبد الرحمن. وكان على شُرطته كعب بن عامر العَبْسي. وعلى الرَّسائل سالم مولاه. وعلى خاتم الخلافة الرّبيعُ مولى لبني الْحريش وهو الربيع بن ساخبور. وعلى الخاتم الصغير أبو الزُّبير مولاه. وعلى ديوان الخراج والجُند أسامة بن زيد ثم عَزله وولّى الحَثْحاث. وعلى إذنه غالبُ بن مسعود مولاه. أخبار هشام بن عبد الملك أبو الحسن المدائني قال: كان عبد الملك بن مَروان رَأى في مَنامه أنّ عائشة بنت هشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المُغيرة المَخزومي فلقَت رأسَه فقطعتْه عشرين قطعة. فغمّه ذلك فأرسل إلى سعيد بن المُسيب فقصّها عليه. فقال سعيد: تلَد غلاماً يملك عشرِين سنة. وكانت عائشةُ أم هشام حَمْقاء فطلقها عبدُ الملك لحُمْقها وولدتْ هشاماً وهي طالق ولم يكن في ولد عَبد الملك أكملُ من هشام. قال خالدُ بن صَفوان: دخلتُ على هشام بن عبد الملك بعد أن سَخط على خالد بن عبد الله القَسْريّ وسلّط عليه يوسفَ بن عمر عاملَه على العراق فلما دخلتُ عليه استدناني حتى كنتُ أقربَ الناس إليه فتنفّس الصُّعَداء ثم قال: يا خالد رُب خالد قعد مقعدك هذا أشهى إلىّ حديثاً منك. فعلمتُ أنه يريد خالدَ بن عبد الله القَسرىّ فقلت: يا أمير المؤمنين أفلا تُعيده قال: هيهات إن خالداً أدلّ فأملّ وأوجف فأعجف ولم يَدع لمُراجع مَرجعاً على أنه ما سألني حاجةً قط. فقلت: يا أمير المؤمنين فلو أدْنيتَه فتفَضّلت عليه قال: هيهات! وأنشد: إذا انصرفتْ نَفْسي عن الشيَّء لم تَكُن عليه بوَجهٍ آخرَ الدَهر تُقْبِلُ قال أصبغ بن الفَرج: لم يكن في بني مَرْوان من مُلوكها أعطرَ ولا ألبس من هشام خَرج حاجًّا فحَمل ثيابَ طُهره على ستمائة جَمل. ودَخل المدينةَ فقال لرجل: انظر مَن في المسجد. فقال: رجل طويل أدْلمِ. قال: هذا سالمُ بن عبد اللهّ ادعه. فأتاه فقال: أجِبْ أمير المؤمنين وإن شئت أرْسِل فتُؤْتى بثيابك. فقال: ويحك! أتيتُ الله زائراً في رِداء وقَميص ولا أدخل بهما على هشام! فدخل عليه فوصله بعشرة آلاف. ثم قَدِم مكة فقَضى حجه فلما رجع إلى المدينة قيل له: إن سالماً شديدُ الوَجع فدَخل عليه وسأله عن حاله. ومات سالمٌ فصلِّى عليه هشام وقال: ما أدْري بأي الأمرين أنا أسرّ: بحِجتي أم بصَلاتي على سالم. قال: ووقف هشامٌ يوماً قريباً من حائط فيه زَيتون له فسمع نَفْض الزيتون فقال لرجل: انطلق إليهم فقُل لهم: التقطوه ولا تَنفُضوه فتفقئوا عُيونه وتَكسروا غصونه. وخرج هشام هارباً من الطاعون فانتهى إلى دَير فيه راهب فأدخله الراهبُ بًستانَه فجعل يَنْتقي له أطايبَ الفاكهة والبالغَ منها. فقال هشام: يا راهب هَبْني بستانَك هذا. فلم يُجبه. فقال: مالك لا تتكلِّم فقال: وَدِدْتُ أن الناس كلَهم ماتوا غيرَك. قال: ولم قال: لعلّك أن تَشبع. فالتفت هشام إلى الأبرش فقال: أتسمع ما يقول قال الأبرش: بلى والله ما لقيك حر غيره. العُتبيّ قال: أنّي لقاعد عند قاضي هشام بن عبد الملك إذ أقبل إبراهيمُ ابن محمد بن طلحة وصاحب حَرَس هشام حتى قعدا بين يديه فقال الحَرَسي: إن أمير المؤمنين جَراني في خصومة بينه وبين إبراهيم. قال القاضي: شاهدَيك على الجراية. فقال: أتُراني قلتُ على أمير المؤمنين ما لم يقل وليس بيني وبينه إلا هذه الستارة قال: لا ولكنه لا يَثْبت الحقُّ لك ولا عليك إلا ببينة. قال: فقام فلم يَلْبث حتى قَعقعت الأبوابُ وخرج الحرسي فقال: هذا أمير المؤمنين. قال: فقام القاضي فأشار إليه فقَعد وبَسط له مُصلى فقعد عليه هو وإبراهيم وكُنّا حيث نَسمع بعضَ كلامهما ويحفى علينا البعضُ. قال: فتكلّما وأحضرت البيّنة فقضى القاضي على هشام. فتكلم إبراهيم بكلمة فيها بعض الخُرق فقال: الحمد لله الذي أبان للناس ظُلمك. فقال هشام: لقد هَممتُ أنْ أضربَك ضربةً يَنْتثر منها لحمًك عن عَظمك. قال: أما والله لئن فعلتَ لتفعلنه بشيخ كبير السن قريب القَرابة واجب الحقّ. قال له: استُرها عليّ يا إبراهيم. قلت: لا سَتر الله عليَّ ذنبي إذاً يومَ القيامة. قال: إنّي مُعطيك عليها مائة ألف. قال إبراهيم: فسترتُها عليه طولَ حياته ثمناً لما أخذتُ منه وأذعتُها عنه بعد موته تزييناً له. وذكروا عن الهَيثم ابن عَدي قال: كان سعيدُ بن هشام بن عبد الملك عاملًا لأبيه على حِمْص وكان يُرْمَى بالنساء والشراب فقَدِم حِمصيُّ لهشام فلقيه أبو جَعد الطائي في طريق فقال له: هل تَرى أنْ أعطيَك هذه الفرس فإني لا أعلم بمكانٍ مثلَها على أنْ تُبلِّغ هذا الكتابَ أميرَ المؤمنين ليس فيه حاجة بمسألة دينار ولا درهم فأخذها وأخذ الكتابَ. فلما قدم على هشام سأله: ما قِصة هذه الفرس فأخبره. فقال: هاتِ الكتاب فإذا فيه: أبْلِغ إليك أميرَ المُؤمِنين فقدْ أمدَدتَنا بأميرِ ليس عِنِّينَا عَوْراً يُخالف عمراَ في حَليلتِه وعند ساحته يُسْقَىَ الطِّلا دِينا قلما قرأ الكتاب بعث إلى سَعيد فأشخصه فلما قدمِ عليه عَلاه بالخَيْزرانة وقال: يا بن الخبيثة تَزني وأنت ابن أمير المؤمنين! ويلك! أعجزت أن تَفْجُر فجور قريش أوَ تدري ما فُجور قريش لا أم لك قتْلِ هذا وأخْذ مال هذا واللهّ لا تلي لِه عملاً حتى تموت. قال قال: فما وَلى له عملاَ حتى مات. أحمد بن عُبيد قال: أخبرني هشام الكلْبي عن أبي محمد بن سُفيان القُرشيّ عن أبيه قال: كُنَّا عند هشام بن عبد الملك وقد وَفد عليه وفدُ أهل الحجاز وكان شبابُ الكُتَّاب إذا قَدم الوفدُ حضروا لاستماع بلاغة خُطبائهم فحضرتُ كلامهم حتىِ قام محمد بن أبي الجهم بن حُذيفة العَدوىّ وكان أعظَم القوم قدراً وأكبَرهم سنّاَ فقال: أصلح الله أميرَ المؤمنين إنّ خُطباء قريش قد قالت فيك ما قالت وأكثرتْ وأطنبت والله ما بلغ قائلُهم قدرَك ولا أحصى خطيبُهم فضلَك وإن أذنْتَ في القول قلتُ قالت: قُل وأوجز. قال: تولاك الله يا أميرَ المؤمنين بالحُسنى وزينك بالتَقوى وجَمع لك خير الآخرة والأولى إن لي حوائج أفأذكرها قال: هاتها. قال: كَبُر سني ونال الدهرُ مني فإنْ رأى أميرُ المؤمنين أن يَجْبر كَسْري ويَنْفِيَ فَقري فَعل. قال: وما الذي يَنْفي فقرَكِ ويَجْبر كسرك قال: ألفُ دينار وألفُ دينار وألفً دينار. قال: فأطرق هشام طويلاً ثم قال: يا بن أبي الجهم بيتُ المال لا يَحتمل ما ذكرتَ ثم قال له: هيه. قال: ما هيه أما والله إن الأمر لواحد ولكن الله آثرك بمجلسك فإن تعطنا فحقّنا أديتَ وإن تمنعنا فنَسأل الله الذي بيده ما حَويتَ. يا أمير المؤمنين إنّ الله جعل العَطاء محبّة والمنع مَبْغضة. والله لأن احبك أحبُّ إليً من أن أبغضك. قال: فألفُ دينار لماذا قال: أقضي بها ديناً قد حان قضاؤُه وقد عَنَاني حملُه وأضرّ بي أهلُه. قال: فلا بأس نُنفِّس كرْبة ونؤدي أمانة. وألفُ دينار لماذا قال: أزوَج بها من بَلغ من وَلدي. قال: نِعم المَسلكُ سلكتَ أغضضتَ بصراً وأعففتَ ذكَراً وأمَّرت نسلاً. وألفُ دينار لماذا قال: أشتري بها أرضاً يعيش بها ولدي! وأستعين بفضلها على نوائب دَهري وتكون ذُخراً لمن بعدي. قال: فإنا قد أمرنا لك بما سألت. قال: فالمحمودُ الله على ذلك وخَرج. فأتبعه هشام بصرَه وقال: إذا كان القُرشي فليكن مثلَ هذا ما رأيتُ رجلاً أوجزَ في مقال ولا أبلغَ في بيان منه. ثمِ قال: أما والله إنّا لنعوف الحق إذا نزل ونَكْره الإسرافَ والبَخَلَ وما نُعطي تَبذيراً ولا نمنع تَقتيرا وما نحن إلا خُزَّانُ الله في بلاده وأمناؤه على عِباده فإذا أذن أعطينا وإذا مَنع أبينا ولو كان كل قائل يَصدُق وكل سائل يَستحق ما جَبَهْنا قائلًا ولا رَدَدنا سائلًا. ونَسأل الذي بيده ما استحفَظَنا أن يُجْرِيه على أيدينا. فإنه يَبْسط الرِّزق لمن يشاء ويَقدر إنه بعباده خَبير بصير. فقالوا: يا أمير المؤمنين لقد تكلّمت فأبلغتَ وما بلغ في كلامه ما قَصصت. قال: إنه مُبتدىء وذكروا أنّ العبّاس بن الوليدَ وجماعةً من بني مَرْوان اجتمعوا عند هشام فذكروا الوليد بن يزيدَ وعابوه وذمّوه وكان هشام يُبغضه ودخل الوليدُ فقال له العبّاس: يا وليد كيف حُبّك للروميًات فإن أباك كان مشغوفاً بهن قال: كيف لا يكون وهُن يَلدْن مثلَك قال: ألا تسكت يا بن البَظْراء قال: حَسْبك أيها المُفتخر علينا بخِتان أمه. وقال له هشام: ما شرابُك يا وليد قال: شرابُك يا أمير المؤمنين وقام فخرج. فقال هشام: هذا الذي زَعمتموه أحمق! وقَرَّب الوليدُ بن يزيد فرسَه جراميزَه ووَثب على سرجه ثم التفت إلى ولد هشام وقال له: هل يقدر أبوك أن يصنع مثل هذا قال: لأبي مائة عبد يَصنعون مثلَ هذا. فقال الناس: لم يُنصفه في الجواب. العُتبي عن أبيه قال: سمعتُ معاوية بن عَمرو بن عُتبة يحدَث قال: إني لقاعد بباب هشام بن عبد الملك وكان الناسُ يتقرّبون إليه بعَيب الوليد ابن يزيد قال: فسمعتُ قوماً يعيبونه فقلت: دَعُونا من عَيب مَن يلزمنا مَدْحُه ووَضْع مَن يجب علينا رَفعُه. وكانت للوليد بن يزيد عيونٌ لا يَبرحون بباب هشام فنقلوا إليه كلامي وكلامَ القوم فلم ألبث إلا يسيراً حتى راح إليّ مولُى للوليد قد التحف على ألف دينار فقال لي: يقوِل لك مولاي: أنفق هذه في يومك وغداً أمامَك. قالت: فمُلئت رُعباً من هشام وخشيت سطوتَه ورماه الله بالعلّة فدفنّاه لثمانيةَ عشرَ يوماً بعد ذلك اليوم. فلما قام الوليدُ بعده دخلت عليه فقال لي: يا بن عُتبة أتراني ناسياً قُعودَك بباب الأحول يَهْدَمني وتبنيني ويَضَعني وتَرْفعني فقلت: يا أمير المؤمنين شاركتَ قومَك في الإحسان وتفردّت دونهم بإحسانك إليّ فلستُ أحمد لك نفسي في اجتهاد ولا اعذُرها في تَقصير وتَشهد بذلك ألسنةُ الجائزين بنا ويُصَدِّق قولَهم الفِعالُ منا. قال كذلك أنتم لنا آلَ أبي سُفيان وقد أقطعتُك مالي بالبَثَنِيَّة وما أعلم لقُرشي مثلَه. وقال عبدُ الله بن عَبْد الحَكم فقيه مِصْر: سمعتُ الأشياخ يقولون: سنةَ خمس وعشرين ومائة أديل من الشرف وذَهبت المُروءة وذلك عند مَوْت هشام بن عبد الملك. قال أبو الحسن المدائنيّ: مات هشامُ بن عبد الملك بالذبْحة يوم الأربعاء بالرُّصافة في ربيع الآخر لستٍ خلَوْن منه سنة خمس وعشرين ومائة وصلّى عليه مَسْلمة بن هشام أو بعضُ ولده واشتُريَ له كفَن من السوق. خلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك بُويع للوليد بن يزيد بن عبد الملك يوم الأربعاء لثلاث خَلَوْن من ربيع الآخر سنة خَمس وعشرين ومائة. وأمه أم الحجاج بنت محمد بن يوسف أخي الحجاج بن يوسف. وقُتل بالبخراء من تَدْمر على ثلاثة أميال يومَ الخميس لليلتين بقيتا من جُمادى الآخرة سنة ستٍ وعشرين ومائة وهو ابنُ خس وثلاثين أو لسِتٍ وثلاثين. قال حاتم بن مُسلم: ابن خَمس وأربعين وأشهر. وكانت ولايتَه سنة وشَهرين واثنين وعشرين يوماً. فأولُ شيء نَظر فيه الوليدُ أن كَتب إلى العباس ابن الوليد بن عبد الملك أن يَأْتي الرصافة يُحْصي ما فيها من أموال هشام وولده ويأخذُ عُماله! وحَشمه إلا مَسلمة بن هشام فإنه كَتب إليه أن لا يَعْرض له ولا يدخل منزله. وكان مَسلمة كثيراً ما يكلم أباه في الرفق بالوليد. ففَعل العبًاس ما أمره به. وكَتب الوليدُ بن يزيد إلى يوسف بن عمر فقَدِم عليه من العراق فدَفع إليه خالدَ بن عبد الله القَسريّ ومحمداً وإبراهيم ابني هشام بن إسماعيل المَخزومي وأمره بقَتلهم. فحدث أبو بِشْر بن السرِيّ قال: رأيتُهم قدِم بهم يوسفُ بن عُمر الحِيرةَ وخالدٌ في عَباءة في شِقِّ مَحْمُل فعذبهم حتى قَتلهم. ثم عَكف الوليدُ على البَطَالة وحُب القِيان والمَلاهي والشراب ومُعاشقة النساء فتَعشَق سُعدى بنت سَعيد بن عمرو بن عثمان بن عفّان فتزوّجها! ثم تَعشَّق أختَها سَلْمى فطفَق أختَها سُعدى وتزوج سَلمى فرجعت سُعدى إلى المدينة فتزوّجت بِشْر بن الوليد بن عبد الملك. ثم نَدِم الوليدُ على فِراقها وكلِف بحُبِّها فدَخلِ عليه أشعبُ المُضحك فقال له الوليد: هل لك على أن تبلّغ سُعدى عني رسالةَ ولك عشرون ألفَ دِرْهم قال: هاتِها فدَفعها إليه. فقبَضها وقال: ما رسالتُك قال: إذا قدمتَ المدينة فاستأْذِنْ عليها وقل لها: يقول لك الوليد: أسُعْدى ما إليك لنا سَبيل ولا حَتَّى القيامة مِن تلاقِي بَلى ولعلّ دهراً أن يُؤَاتي بمَوْت مِن حلِيلكِ أو فِراق فأتاها أشعبُ فاستأذن عليها وكان نساءُ المدينة لا يَحْتجبن عنه فقالت له: ما بدا لك في زيارتنا يا أشعب قال: يا سيدتي أرسلني إليك الوليدُ برسالة. قالت: هاتِها. فأنشدها البيتين. فقالت لجواريها: خُذْن هذا الخبيث. وقالت: ما جَرأك على مثل هذه الرسالة قال: إنها بعشرين ألفاً معجّلة مَقْبوضة. قالت: والله لأجلدنك أوْ لَتبلَغنه ما أبلغتني عنه. قال: فاجعلي لي جُعلا. قالت: بِساطِي هذا. قال: فقُومي عنه. فقامت عنه وطَوى البِساط وضمه ثم قال: هاتِي رسالتَك. فقالت له: قل له: أتَبْكي على سُعْدى وأنت تَرَكْتها فقد ذَهبت سُعدى فما أنت صانعُ ولا بُدّ لك من إحداها: إما أن أقْتلك وإما أن أطْرحك للسِّباعِ فتأكلَك وإما أن ألقيك من هذا القَصر فقال أشعبُ: يا سيدي ما كُنتَ لتعذب عينين نَظرتا إلى سُعدى. فضَحِك وخَلَّى سبيله وأقامت عنده سَلْمى حتى قُتل عنها. وهو القائل في سَلْمى: شاع شِعْري في سُليمى وظَهرْ ورَواه كل بَدْو وحَضَرْ وتَهادَتْه الغَواني بينها وتَغَنَين به حتى انتشر لو رأينا من سُليمى أثراً لسَجدنا ألفَ ألفٍ للَّاثر واتخذناها إماماً مُرْتضى ولكانت حَجَّنا والمُعْتَمر إنما بِنْتُ سعيدٍ قمر هل حَرِجْنا إنْ سَجدنا للقمر وفيها يقول قبل تزوّجه لها: حدَّثوا أنَّ سليمى خَرجتْ يومَ المُصلّى فإذا طيرٌ مَليح فوق غُصْن يَتفلّى قلتُ: يا طيرُادْنُ مني فدَنا ثم تَدلّى قلتُ هل تَعْرف سَلْمى قال لا ثم تَوَلى لعلّ اللهّ يَجمعني بسَلمَى أليس الله يَفْعل ما يشاء وَيَأتي بي ويَطْرحَني عليها فيُوقِظَني وقد قُضي القَضَاء وُيرْسلَ ديمةً مِن بعد هذا فتغسلها وليس بنا عَناء وقال فيها بعد تزوّجه لها: أنا في يُمْنى يَدَيْها وهي في يُسرى يدَيَّه إنّ هذا لقَضاء غيرُ عَدْل يا أخيه ليتَ مَن لام مُحِبًّا في الهَوى لًاقَى منيّه فاستراح الناسُ منه مِيتةً غير سويّة قال: ولهج الوليدُ بالنساء والشرّاب والصَّيْد فأرسل إلى المدينة فحملوا له المُغَنِّين فلما قَربوا منه أمر أن يَدْخلوا العسكرَ ليلا وكَره أن يراهم الناس فأقاموا حتى أمسَوا غيِرَ محمد بن عائشة فإنه دخل نهاراً فأمر الوليدُ بحَبسه فلم يزل محبوساً حتى شرب الوليدُ يوماً فطَرِب فكلمه مَعبد فأمر الوليدُ بإخراجه ودعاه فغنَاه فقال: أنت ابنُ مسلنطح البِطاح ولم تَطْرُق عليك الحُنِيّ والوُلجُ فرضي عنه وكان سعيدٌ الأحوصُ ومَعبَد حين قدما على الوليد نزلا في الطريق على غَدير يا بيتَ عاتكة الذي أتعزّل حَذَرَ العدا وبه الفؤادُ مُوَكَّلُ فقال لها: يا جارية لمن أنت فقالت: كنت لآل الوليد بن عُقبة بالمدينة فاشتراني مولاي وهو من بنى عامر بن صعصعة أحد بني الوَحيد من بني كلاب وعنده بنتُ عمّ له فوهبنى لها فأمرتني أن أستقي لها. فقالا لها: فلمن الشعرُ قالت: سمعتُ بالمدينة أن الشعرَ للأحوص والغناء لمعبد فقال مَعبد للأحوص: قل شيئاً أغنِّى عليه. فقال: إنّ زَين الغدير مَن كسر الْج رِّ وغَنَى غِناء فَحْل مُجيدِ قلتُ: مَن أنتِ يا مَليحة قالت: كنتُ فيما مَضى آل الوليد ثم قد صِرْتُ بعد عِز َقريش في بنى عامرٍ آل الوَحيد وغِنائي لمعبدٍ ونشيدِي لفتَى الناس الأحوص الصِّنديد فتضاحكت ثم قلتً أنا الأحْوص والشيخُ مَعبدٌ فأعيدي فأعادتْ وأحسنت ثم ولّت تتهادَى فقلتُ أمّ سعيد يَقْصر المال عن شِراكِ ولكن أنت في ذِمه الإمام الوليد وأمّ سعيد كانت للأحوص بالمَدينة فغنّى مَعبد على الشِّعر. فقال: ما هذا فاخبراه فاشتراها الوليد. قال أبو الحسن: وقال ابنُ أبي الزِّناد: إنِّي كنتُ عند هشام وعنده الزّهري فذُكر الوليد فتنقّصاه وعاباه عيباً شديداً ولم أعْرض لشيء مما كانا فيه فاستأذن فأذن له فدَخل وأنا أعرفُ الغَضب لا وجهه فجَلس قليلاً ثم قام. فلما مات هشام: كَتب بي فحُملت إليه فرحّب بي وقال: كيف حالك يا بن ذكوان وألطفَ المسألة. ثم قال: أتذكر هشاماً الأحول وعنده الفاسقُ الزُّهري وهما يَعيباني فقلت: أذكر ذلك ولم أعْرض لشيء مما كانا فيه. قال: صدقتَ أرأيتَ الغُلام الذي كان على رأس هشام قائماً قلتُ: نعم. قال: فإنه نَمّ إلىّ بما قالاه. وايم الله لو بقى الفاسقُ الزهري لقتلتُه. قلت: قد عرفتُ الغضبَ في وجهك حين دخلتَ. قال: يا بن ذكوان ذَهب الأحولُ. قلت: يُطيل الله عُمرك وُيمتّع الأمة ببقائك. ودعا بالعشاء فتعشَّينا وجاءت المغرب فصلًينا وتحدّثنا حتى حانت العشاء الآخرة فصلّينا وجلس. فقال: اسقني فجاؤوا بإِناء مُغطَّى وجيء بثلاث جوار فصُفِفن بيني وبينه حتى شرب وذَهَبْن فتحدثّنا واستسقى فصنعوا مثلَ ذلك. فما زال كذلك يَستَسقى ويتحدّث ويَصنعون مثل ذلك حتى طلع الفجر فأحصيت له سبعين قدحاً. على بن عياش قال: إني عند الوليد بن يزيد في خلافته إذ أتي بشُراعة من الكوفة فوالله ما سأله عن نَفسه ولا عن مَسيره حتى قال له: يا شُراعة إني والله ما بعثتُ إِليك لأسألك عن كتاب الله وسُنِّة رسول ﷺ. قال: والله لو سألتَني عنهما لوجدتَني فيهما حماراً قال: إنما أرسلتُ إِليك لأسألك عن القهوة. قال: دِهْقانُها الخَبير ولُقمانها الحكيم وطبيبُها العليم. قالت: فأخبرني عن الشراب قال: يَسأل أميرُ المؤمنين عما بدا له. قال: ما تقول في الماء قال: لا بُد لي منه والحمارُ شريكي فيه. قالت: ما تقول في اللَّبن ما رأيتُه قط إِلا استحييتُ من أمي لطُول ما أرْضَعتني به. قال: ما تقول في السويق قال: شرابُ الحَزين والمُستعجل والمَريض. قال: فنبيذُ التمر قال: سريعُ المَلْء سريعُ الآنفشاش. قال: فنبيذ الزَبيب قال: تلهَّوْا به عن الشراب. قال: ما تقول في الخَمر قال: أوهِ! تلك صَديقة رُوحي. قال: وأنت والله صديقُ رُوحي. قال: فأيّ المجالس أحبُّ قال. ما شُرب الكأسُ قطُّ على وَجه أحسنَ من السماء. قال أبو الحسن: كان أبو كامل مُضحكا غَزِلا مُغنّيا! فغنّى الوليدَ يوماً فطَرِب فأعطاه قَلَنْسوة بَرُودا كانت عليه فكان أبو كامل لا يَلبسها إلا في عيد ويقول: كَسانيها أميرُ المؤمنين فأنا أصُونها وقد أمرتُ أهلي إذا مِتُّ أن تُوضع في أكفاني. وله يقول الوليد: مَن مُبْلِغ عني أبا كامل أنّي إذا ما غاب كالهابِل وزادني شوقاً إلى قُرْبه ما قد مَضىَ من دَهرنا الحائل إنّي إذا عاطيتُه مُزَّةً ظَلْت بيوم الفَرَح الجاذل قال: وجلس الوليدُ يوماً وجاريةٌ تُغَنيه فأنشدها الوليدُ: قالت الجارية المغنية: لو أتممتَ الشعر غنيتُ به. قال: لست أرويه وكتب إلى حماد الراوية فحُمل إليه: فلما دخل عليه قال له الوليد: قينة في يمينها إِبريق فأنشد حماد الراوية: ثم نادى ألا أصبحُوني فقامتْ قينةٌ في يمينها إِبريقُ فَذَمَته على عُقار كعَينْ الدِّيك صَفَّى لسُلافَه الرَّاووق مُزَةً قبل مَزْجها فإذا ما مُزِجت لذَ طَعْمُها مَن يذوق وكتب الوليدُ إلى المدينة فحمل إليه أشعب فألبسه سراويل جِلد قِرْد له ذَنب وقال له: ارقُص وغَنّ صوتاً يعجبني فإن فعلتَ أعطيتُك أسف درهم. فرَقص! وغَنى فأعجبه فأعطاه ألف درهم: وأنشد الوليدُ هذا الصوتَ: علِّلاني واسقيانِي مِن شَراب أصْفهاني من شَراب الشيخ كِسْرَى أو شرابً الهُرْمزَان إنَّ بالكأس لمِسْكاً أو بكَفَّيْ من سَقاني إنما الكأسُ ربيعٌ يُتعاطى بالبَنانْ وصَفْراء في الكأس كالزَعْفَران سَباها الدَهاقينُ من عَسْقلانِ لها حَبَبٌ كلما صفقت تراها كلَمعة بَرْق يَماني وقال أيضاً: ليت حَظي اليومَ من كل ل مَعاش لي وزَادِ قهوة أبذُل فيها طارفي بعد تِلادي فيظل القلبُ منها هاشماً في كل وادِي إنّ في ذاك فَلاحي وصَلاحي ورشادي وقال امدح الكأسَ ومَن أعملها واهجُ قوماً قتلونا بالعَطشْ إنما الكأس ربيعٌ باكر فإذا ما لم نَذُقها لم نعِشْ وبلغ الوليدَ أن الناس يَعيبونه ويتنقصونه بالشراب وطَلب اللّذات فقال في ذلك: ولقد قضيتُ ولم يُجَلِّل لمتي شَيب على رَغم العِدا لذَّاتي مِن كاعباتٍ كالدُّمَى ومَناصفٍ ومَراكب للصَّيد والنّشوات وقال معاويةُ بن عمرو بن عُتبة للوليد بن يزيد حين تغير له الناسُ وطَعنوا عليه: يا أمير المؤمنين إنه يُنطقني الأنْس بك وتُسْكتني الهيبةُ لك وأراك تأمن أشياء أخافُها عليك أفأسكت مُطيعاً أم أقول مُشفقاً قال: كل مَقْبول منك وللهّ فينا عِلمُ غيب نحن صائرون إليه. فقُتل بعد ذلك بأيام. وقال الوليد إذا أكثر الناسُ القولَ فيه: خُذوا مُلْكَكم لا ثَبت الله مُلْكَكم ثباتاً يُساوى ما حييتُ عِقالَا دَعُوا لي سُليْمى معْ طِلاء وقَيْنة وكأسٍ ألا حَسْبي بذلك مالا أبا لملكِ أرْجو أن أخلَد فيكم ألا رب مُلكٍ قد أزيل فَزالا ألا رُب دارٍ قد تحَمّل أهلُها فأضحتْ قِفاراً والقِفار حِلالا قال إسحاق بن محمد الأزرق: دخلتُ على مَنصور بن جُمْهور الكَلْبي بعد قَتْل الوليد بن يزيد وعنده جاريتان من جَواري الوليد فقال لي: اسمع مِن هاتين الجاريتين ما يقولان. قالتا: قد حدَثناك. قال: بل حَدَثاه كما حَدّثتُماني. قالت إحداهما: كُنّا أعزَّ جواريه عنده فنَكح هذه وجاء المُؤذّنون يؤذّنونه بالصلاة فأخرجها وهي سَكْرى جُنبة متلثّمة فصلّت بالناس. مقتل الوليد بن يزيد إسماعيل بن إبراهيم قال: حدثني عبدُ الله بن واقد الجَرْمي وكان شَهدَ مقتل الوليد قال: لما أجمعوا على قَتله فقدوا أمرَهم يزيدَ بن الوليد بن عبد الملك فخرج يزيدُ بن الوليد بنِ عبد الملك فأتى أخاه العباس ليلاً فشاوره في قَتل الوليد فنهاه عن ذلك فأقبل يزيد ليلاً حتى دخل دمشقَ في أربعين رجلاً فكسروا باب المَقصورة ودخلوا على واليها فأوثقوه وحَمل يزيدُ الأموال على العَجل إلى باب المِضمار وعَقد لعبد العزيز بن الحجَّاج بن عبد الملك ونادى مًناديه: من انتدب إلى الوليد فله ألفان فانتدب معه ألفا رجل وضَم مع عبد العزيز ابن الحجاج يعقوبَ بن عبد الرحمن ومنصور بن جُمْهور. وبلغ الوليدَ بن يزيد بن عبد الملك ذلك فتوجّه من البلقاء إلى حِمْص وكتب إلى العباس ابن الوليد أن يأتيه في جند من أهل حمص وهو منها قريب وخرج حتى انتهى إلى قمر في بَرية ورَمل من تَدْمر على أميال وصبحت الخيلُ الوليدَ بالبخراء. وقدم العباسُ بن الوليد بغير خَيل فحَبسه عبدُ العزيز ابن الحجّاج خلفه ونادى مُنادي عبد العزيز: مَن أتى العبّاسَ بن الوليد فهو آمن وهو بيننا وبينكم. وظَن الناس أن العبّاس مع عبد العزيز فتفرقوا عن الوليد وهجم عليه الناس. فكان أول من هجم عليه السريّ بن زياد بن أبي كَبشة السَّكْسكيّ وعبد السلام اللِّخمي فأهوى إليه السري بالسيف وضَربه عبد السلام على قَرنه فقُتل.